|
خطاب مابعد الكولونيالية ، المصطلح والمفهوم
رامي أبو شهاب
الحوار المتمدن-العدد: 4370 - 2014 / 2 / 19 - 19:10
المحور:
الادب والفن
تمتلك مفردة الاستعمار تاريخية متحولة، إذ باتت تشير إلى مدلول سياسي للعملية التي ارتبطت بالتحرك "الجيوسياسي" لبعض القوى للسّيطرة، والهيمنة على مناطق آهلة، فالجغرافيا هنا مركزية في تملك هذه الكلمة لمفهومها، فالمكان هو الحيز الذي تقع عليه السيطرة والتملك والمصادرة، وهي هيمنة على المكان في المقام الأول، وكل ما هو فوقه بما يحتويه من مَصادر ووجود إنساني. جاء في معجم لسان العرب فيما يختص بكلمة استعمار وقوعها في سياق الجغرافيا التي يُفترض أنها تحتاج إلى من يعمرها ويسكنها، حيث جاء تحت مادة (عمر): يقال: عَمَر اللهُ بك منزِلَك يَعْمُره عِمارة وأَعْمَره جعلَه آهِلاً. ومكان عامِرٌ: ذو عِمَارةٍ. ومكان عَمِيرٌ: عامِرٌ. أَعْمَره المكانَ واسْتَعْمَره فيه: جعله يَعْمُره. وفي التنزيل العزيز: هو أَنشأَكم من الأَرض واسْتَعْمَرَكم فيها (لسان العرب: 278). فالاستعمار ينطلق من مكان غير آهل يحتاج للوجود، ليكون مكاناً قابلاً للحياة، كونه منتقصاً للعنصر الإنساني، والمفردة في أحد جوانبها تمتلك الصبغة الدينية التي تتمثل بإعطاء الإذن أو( السلطة) للعمل على إعمار المكان غير الآهل، وهذا بالتحديد ما يجعل مفهوم الاستعمار من منطلق لغوي متطابقاً مع المفهوم الاصطلاحي، ولهذا، يجدر بنا طرح عدد من التساؤلات، تنبثق حول ماهية هذه الكلمة التي اتخذت مفهومها حديثاً، وتحديدا عند بدء آلة الاستعمار الأوروبي التي أحالت "الجغرافيا" التي تبتعد عن أراضيها آلاف الأميال إلى مشاريع للسيطرة، والتملك بهدف تحقيق فوائد اقتصادية، ومصحوبة بمبررات تنطلق من مبدأ تحسين، وتأهيل المكان غير الآهل بهدف تطويره حضارياً. تعمد آنيا لومبا إلى قراءة الممارسة الكولونيالية ضمن سياق تاريخي تحليلي متسائل، فهل كان الاستعمار موجوداً وقديما في التاريخ الإنساني؟ أم هو عبارة عن ممارسة مستحدثة ترتبط بأوروبا فقط! إن الفعل الكولونيالي سمة منتشرة، ومتكررة في التاريخ الإنساني كما لدى الإمبراطورية الرومانية، والمغول، وحضارة الأزتك، والفتح الإسلامي، والإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية الصينية، ومع ذلك، فإن كل ما سبق لم يشهد ممارسات استعمارية كالتي قادها الأوروبي، وعملت على تغيير سطح الكرة الأرضية (لومبا: ص19). فميزة الاستعمار الأوروبي أنه عمل على إعادة بناء اقتصاديات تلك البلدان، وأدخلها في علاقات معقدة مع اقتصاده لتحقيق مصالحه الخاصة (لومبا: ص 19)، وليشمل ذلك تقريبا 85% من سطح الكرة الأرضية (لومبا: 19)، ومن هنا يعرف الاستعمار التقليدي بأنه: احتلال أرض أجنبية بعيدة مترافق باستقرار لمستوطنين. ويتم هذا الاستقرار لغالبية القوى الاستعمارية فيما وراء البحار. (مارك فرو: 25) يتحدد الاستعمار بأشكال منها الخارجي (ما وراء البحار)، والاستعمار القائم على التوسع الإقليمي بالتجاور(فرو:24)، ونموذجه الاستعمار الإسباني للريف المغربي، وروسيا لسيبيريا (فرو: 25)، إلا أن استعمار أراض تبتعد آلاف الأميال يستدعي وسائل ومبررات، لذلك يعرف قاموس أكسفورد كلمة (Colonialism) بأنها: ممارسة يتم من خلالها اكتساب السيطرة على بلد آخر باحتلالها عبر المستعمرين أو المستوطنين واستغلالها اقتصاديا (Oxford). بينما يعرف كلمة (Colonization)بأنها عملية تأسيس مستعمرة من خلال الاستيلاء على أراضي الآخر. وكما يبدو لنا من التعريفات السابقة تواصلها مع المعطيات القائمة على عنصري المكان، والفعل الاقتصادي المتعاضد مع المُمارس(الفاعل) أي الإنسان. ويضاف كذلك إلى المسوغ الاقتصادي مسوغ آخر يتمثل بأقدمية الاستقرار، ومدته في مكان ما، وهذا مما يعد معياراً لشرعية الاستعمار ونموذجه جزر المارتينيك، والمكسيك، والشيشان، وفلسطين (طبعا الأقدمية هنا قائمة من منظور الكيان الصهيوني، وبعض الأنظمة الغربية، وهي أقدمية باطلة كما أثبتتها الدراسات) مما لا شك فيه أن فرنسا وبريطانيا تمتلكان مسوغات متباينة الاختلاف، لعل الاقتصادي أكثرها بروزاً، إلا أن هاتين الدولتين قد أوجدتا مسوغات أخرى، يتوارى خلفها المسوغ الاقتصادي، منها ادعاء تصدير مفهوم الحضارة الغربية أو منجزها الإنساني(فرو:29) ونتيجة لذلك، فإن المقاومة التي يمارسها المستعمَر من وجهة نظر الغرب دليل على التوحش كما عبر مارك فرو (ص29). ومن المسوغات التي اتخذها الاستعمار استرداد الديون، وتجارة العبيد، ونفي غير المرغوب فيهم (فرو :30-32)، هذه المسوغات بلا شك تقوم على نزعة عنصرية ذات طابع حضاري، أو طبيعي " وراثي"( فرو:35). للاستعمار ثلاثة أشكال، منها الاستيطاني كما في أستراليا وكندا، والاستعمار غير الاستيطاني، ومنه الهند ونيجيريا وسيرلانكا وغيرها، وهنالك المستعمرات التي تم استيطانها بواسطة المهاجرين الأوربيين، وكانت مأهولة بالسكان، ومنها جنوب إفريقيا وزيمبابوي (Bahri) ، غير أن هذه التقسيمات تبدو منطقية وتنطوي على مغالطات تقع في أتون الممارسة الكولونيالية حين تم افتراض أن مناطق جغرافية تخلو من السكان كالأميركيتين وأستراليا، وهي تختلف عن إفريقيا التي تعتبر مأهولة قبل قدوم الاستعمار، وهنا نلحظ تجاهلا كما يبدو للسكان الأصلانيين في الأميركيتين وأستراليا، ولاسيما الهنود الحمر الذين تم إسقاطهم في سياق التعريف السابق، ولعل الاستعمار الاستيطاني يتجلى حاليا في أبشع أشكاله كما في فلسطين، فضلا عن ظهور نمط آخر يتمثل بالإمبريالية الجديدة المتعددة الدول والجنسيات أو الشركات، كما في زمننا المعاصر، ، وهو ما يصطلح عليه بالاستعمار الجديد(Neo-Colonialism) (فرو:45) ، والذي يعد شديد الارتباط بالرأسمالية. إشكالية المصطلح يعرف قاموس أكسفورد للعلوم الاجتماعية خطاب ما بعد الكولونيالية قائلا: نشأ خطاب ما بعد الكولونيالية في أعمال جماعة دراسات التابع القائمة على التاريخ الهندي، متأثرين بأعمال التقاليد الماركسية الإنجليزية، لتدوين التاريخ، وكانوا مهتمين للتعبير عن المستعمرين (الذين وقع عليهم الاستعمار) أكثر من تبني وجهة نظر المستعمر (الذي قام بالاستعمار) وسلطتهم (Oxford). الهدف من الخطاب كما يشير القاموس إيصال صوت المضطهدين في خطاب هيمن عليه المستعمِر، بالإضافة إلى التنويه بدور كل من فرانز فانون، وإدوارد سعيد، وأفكار القومية السوداء في الولايات المتحدة الأميركية، ولاسيما في عملية في التأسيس (المصدر السابق). في حين يشير قاموس روتلدج إلى ظهور الخطاب في الدراسات الأدبية أواخر عام 1970 باحثا في الجوانب الثقافية والسياسية والاقتصادية لتركة ما بعد الاستعمار منوها بأثر نشر إدوارد سعيد، وكتابه الاستشراق 1978 (Rutledge:184) بينما يشير " دراسات ما بعد الكولونيالية - المفاهيم الرئيسية " إلى آثار الاستعمار على الثقافة والمجتمعات لافتا الانتباه إلى المفهوم الزمني، ويعني الفترة التي أعقبت الاستعمار أي مرحلة الاستقلال، وفي عام 1970 بدأ ينظر له على أنه المصطلح الذي يستخدمه نقاد الأدب لدراسة آثار الاستعمار المتنوعة على الثقافة بالإشارة إلى كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" ودوره الريادي( Ashcroft :186)في حين تعرفه "موسوعة ما بعد الكولونيالية " بأنه الخطاب الذي تم التأريخ له منذ نشر إدوارد سعيد لكتابه الاستشراق سنة 1978 ، في حين كانت سنة 1980 الفترة التي تم فيها التأسيس والبحث موسعاً في هذا المفهوم، بينما كانت سنة 1990 الفترة التي نشطت مؤسسة البحث العلمي للسعي لمقاربته أكاديمياً (Hawely: 159). لابد من الإشارة إلى أن الموسوعة تذكر ثلاثة أعمال أساسية عملت على تأصيل الخطاب أكاديمياً، وهي "نظرية الاستعمار" لآنيا لومبا 1998، و"نظرية ما بعد الكولونيالية " لليلى غاندي 1998، وأخيرا كتاب نظرية ما بعد الكولونيالية لبارت مور جيلبرت (السياقات – الممارسات – السياسات) 1997) (Hawely: 360. وقد أشارت الموسوعة إلى عدد من التحديات التي تواجه نظرية ما بعد الكولونيالية وخطابها، ولاسيما تعالقها مع الماركسية، والعولمة، وتمثيلها للشتات والمهاجرين وأدبهم، والعنصرية، هذا التعالق يقع في مناطق مختلفة ومتباينة، فالماركسية ارتبطت بالعالم الثالث، ودعمت حركات تحرره، ونتيجة لذلك فهي تتقاطع مع خطاب الاستعمار الذي نزع عنها سمة المقاومة والمناهضة، وهشم موقعها المتميز حيث عدها منتجاً غربياً قائماً على المركزية ( إعجاز أحمد: 15)، فالخطاب أصبح أكثر اقترابا من التعبير عن حركة التحرير وقراءة آثار الاستعمار، ولاسيما أن الأسماء الفاعلة فيه ينتمي معظمها إلى دول العالم الثالث، بينما دخلت العولمة في مواجهة مع هذا الخطاب، فالغرب أقر بتاريخية الاختلاف التي صنعها المستعمِر لتبرير سيطرته، والآن يلغي الحدود لتسهيل الممارسة عينها، ولكن بشكل آخر أكثر نعومة ومراوغة، و لعل إفراز الاستعمار الأكثر إشكالية، يتمثل في الشّتات والمهاجرين من الدول المستعمرة سابقاً إلى الدول التي استعمرتهم، وهي مشكلة باتت تؤرّق العديد من الدول، خاصة عند مناقشة قضايا الاندماج والثقافة المحمولة، وهذا بدوره أفرز عدداً من القضايا في أعمال وكتاب مهاجرين تستدعي توجهات نقدية جديدة، ولا بدّ أن العولمة في إحدى جوانبها تحمل فكرة انفتاح الأنا على الآخر، ودعوتها لانصهار كامل، وهكذا فإن من كانوا مكممي الأفواه بات بمقدورهم أن يتكلموا. وضمن الحالة التأسيسية للخطاب تذهب ليلى غاندي في مقدمة كتابها " نظرية ما بعد الكولونيالية “(Post-Colonial Theory) منوهة بجهود عدد من الدارسين عام 1980، ونعني جماعة دراسات التابع Subaltern Studies وأبرزهم جاياتري سبيفاك ودراستها المهمة " هل يستطيع التابع أن يتكلم؟" وفيها تبحث في خصائص الخضوع والتابعية التي ميزت سكان منطقة جنوب آسيا (Gandhi :1)، وذلك بالاتكاء على أفكار غرامشي الماركسي. إذن يمكن أن نطمئن إلى أن خطاب ما بعد الكولونيالية بدأ بالتشكل في مطلع الثمانينيات، في حين تذهب معظم الدراسات إلى أن إدوار سعيد يعدّ المرجع الأساس لهذا الخطاب عبر كتابه " الاستشراق Orientalism كما أشار قاموس "روتلدج" ولاسيما أثر إدوارد سعيد وفكرته القائمة على التضافر بين عنصري السلطة والمعرفة (Rutledge :184). في كتاب "دراسات ما بعد الاستعمار- المفاهيم الرئيسية" تمييز بين الخطاب الكولونيالي((Colonial Discourse وبين خطاب ما بعد الكولونيالية ، إذ يحيل الأول إلى جهود إدوارد سعيد ووصفه النظام و الوسائل التي أدت إلى أن يكون الخطاب أداة للقوة والهيمنة مشكلا نظرية الخطاب الكولونيالي، ومركزه آلية التمثيل (Ashcroft:41) وهنا نواجه مفهومين ومصطلحين مختلفين، فهناك نوع من الاختلاف للتحديد الزمني والمفهومي، فالخطاب الكولونيالي القائم على جهود إدوارد سعيد، والمعني بالخطاب الغربي كأداة للهيمنة والسيطرة جاء مقابلا لخطاب ما بعد الكولونيالية الذي يعمد للتركيز على تداعيات الاستعمار على الثقافة والمجتمع بعد الاستقلال، وعلى الرغم من ذلك فهنالك رابط مشترك يتمثل بأن كلا المصطلحين يرتبطان بإدوارد سعيد ويحيلان إليه، ولهذا فإن الاختلاف يأتي من عاملين، أولا الزمني، أي مرحلة الخطاب الكولونيالي، وما تلاه أي التداعيات والآثار والمعارضة والمقاومة، فضلا عن أن الاستعمار ما زال واقعا عبر عدة وسائل وأشكال، وهذا مما يعني استمرارية الخطاب الكولونيالي، طالما أن الاستعمار موجود، بالإضافة إلى أن تداعيات ما بعد الاستعمار غير منتهية أو منجزة، بينما العامل الثاني يتأتى من الاستراتيجية الخطابية، ففي الخطاب الكولونيالي يتم التركيز على نظام الخطاب، وممارسته لتسهيل الهيمنة عبر تمثيلات الآخر ( المستعمَر) في لغة المستعمِر، في حين أن خطاب ما بعد الكولونيالية ، يدرس تبعات الاستعمار، وآثاره على المجتمع والثقافة واللغة، فضلا عن مظاهر المقاومة، فهنالك فعل خطابي، وخطابي مضاد، ومع ذلك انتشر مصطلح خطاب ما بعد الكولونيالية في معظم الدراسات النقدية كونه المعبر عن كلا المفهومين، وكونه يحمل دلالة ما قبل، وما بعد، كما يؤكد ذلك عدد من الدارسين كما سنرى. في كتاب ليلى غاندي " نظرية ما بعد الكولونيالية " نقع على عدد من الإشكاليات التي ميزت الخطاب منها الصعوبة، ومؤد ذلك افتقاره إلى لحظة النشوء والتكون والتماسك. وقد ربطت وقارنت الباحثة بينه وبين عدد من التيارات منها: ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، و الماركسية، والتي تعد تيارات منجزة ومستقرة، في حين أن خطاب ما بعد الكولونيالية، ما زال قابلا لتعدد المقولات والطرح(Gandhi) ومن هنا فقد انشغلت معظم الدراسات في مناقشة العلاقة بين المصطلح والدلالة الزمنية التي تنطوي عليها ( ما) السابقة لكلمة (الكولونيالية )، فأغلب الدراسات تسهب في فصم العلاقة بين مدلول (ما) التي يتبادر إلى الذهن مباشرة، ومبدئيا أنها معنية بالفترة التي تلت الاستعمار، في حين أن الكثيرين يرون أن (ما) هي دالة استمرارية تظلل ما قبل الاستعمار إلى ما تلاه. مصطلح ما بعد الكولونيالية بدا أكثر حضورا وقبولا في الأوساط الأكاديمية، مما أدى إلى تراجع مصطلحات أخرى منها، أدب دول الكومنولث، وأدب دول العالم الثالث (Bahri)، هذا ما أثبته مؤلفو كتاب " الإمبراطورية ترد بالكتابة " مضيفين مصطلحات أخرى منها؛ الآداب الحديثة بالإنجليزية، أو الأدب الكولونيالي، ولكن معظم تلك المصطلحات غير معبرة عن الحالة الكلية، فالأخير غير مناسب للدول التي حصلت على استقلالها، مما يجعل مصطلح ما بعد الكولونيالية أكثر قبولا (أشكروفت: 49)، كونه يحيل إلى الماضي، ويحقق امتدادا لما ما بعد الاستعمار، من تبعات، أو آثار أو حتى استمرار الاستعمار، بينما مصطلح الآداب الحديثة بالإنجليزية، يستثني الكتابات التي تحققت في اللغات الأخرى، ومنها الفرنسيةـ وبناء على ذلك، يعنى " هومي بابا" أحد أقطاب ثالوث خطاب ما بعد الكولونيالية بدلالة (ما)، إذ يقول: سؤال الثقافة في عالم ما بعد، دال "ما بعد" ليس أفقا جديدا ولا مغادرة للماضي ومشكلة الهوية والحاضر والماضي، إن في الـ ( ما بعد ) ضربا من الإحساس بفقدان الاتجاه أو اضطراب الوجهة: حركة استكشاف قلقة (هومي بابا:37-38) إن (ما) كما يشير هومي بابا، تحيل إلى أفق مفتوح من الممارسات والتحولات، فالاستعمار الذي شكل واقع الشعوب، قد وضع في التربة المستعمرة عدداً من البذور التي يمكن أن تُنبت توجهات وأساليب ومواقف متعددة، فمقاومة الاستعمار، ومحاولة ملاحقة كشف آثاره السلبية، والتخلص منها ما زالت مستمرة إلى الآن، فالاستعمار عمل على ربط الدول المستعمرة بمركزه من خلال حركة ديناميكية، تقوم على التبعية الفكرية والثقافية والاقتصادية، والتي أوجدت تشوهات ثقافية طالت الأنا والذات والثقافة واللغة، فعلى سبيل المثال، نرى أن نظام التعليم في عدد من الدول العربية يتبنى لغة المستعمر كلغة ثانية، فضلا عن التقسيم الجيوسياسي لمناطق كانت في السابق عبارة عن تكتل جغرافي، وثقافي واجتماعي واحد، فالفصم لم يطل فقط الواقع السياسي، إنما شمل كامل البنى، فاللغة والثقافة للدول المستعمرة قد دخلت في مرحلة لا يمكن التنبؤ بها، ولعل هذا ما قصده " هومي بابا" في بيان أثر الـ (ما) في مصطلح خطاب ما بعد الكولونيالية . المصطلح من حيث الدلالة الزمنية، يتخذ مساحة كبيرة لدى الدارسين، فلا غرو أن يتعمق البحث فيه، فالاستعمار تشكل مستمر، وغير منجز، فإذا كان هومي بابا قد وضع (ما) في سياق الإحالة المستمرة لشيء مضى، فإن مؤلفي "مقدمة نظرية ما بعد الكولونيالية " يحاذيان هذه المنطقة من خلال طرح بضع أسئلة منها: متى يبدأ ( بعد الاستعمار) ؟ ولهذا، فإنهما يحددان المفهوم الزمني المتسع لما بعد الكولونيالية، حيث يؤكدان أن (ما) لا تحيل إلى مرحلة تالية للاستعمار، كون الاستعمار مستمراً ومتجدداً وقديماً، وباختصار، فإن تساؤل المؤلفين حول بداية التحديد الزمني للاستعمار يقصد به الاستعمار الحديث الذي بدأ في القرن التاسع عشر واستمر إلى القرن العشرين، ولكن ماذا عن القرن الثامن عشر والحملات البرتغالية والإسبانية على أمريكا اللاتينية والإمبراطورية العثمانية؟ ويمكن أن نبتعد أكثر للتساؤل عن فترات استعمارية أخرى، إن ما يهمنا هنا الاستعمار الأوربي الحديث، أي في القرنين التاسع عشر والعشرين من حيث الأثر والكم، عوضاً عن استمرارية تواجده إلى الآن في بعض المناطق. يشير الكاتبان إلى وجود اتساع في الفترة الزمنية للاستعمار التي ما تزال مستمرة، عبر أمثلة، ربما لا تمتثل للمفهوم الكولونيالي الأوروبي، ومنها مثلا إسرائيل، وتيمور الشرقية، عوضا عن بروز دول أخرى، ومنها الولايات المتحدة التي تقود الآن النظام الكولونيالي في العالم (Williams:1-11) وبناء على هذا، فإن الاستعمار من حيث التحديد الزمني شيء غير قابل للإنجاز، فالاستعمار كما اتضح لنا هو عملية مستمرة، طالما أن هنالك قوى أخرى، تسعى إلى الهيمنة. ومع ذلك فالاستعمار القديم ما زال قائما كما في أفغانستان والعراق، وغيرهما كما يشير إلى ذلك إدواردز في كتابه" أدب ما بعد الكولونيالية "(Edwreds:1) كما تبين لنا، فإن خطاب ما بعد الكولونيالية يمتد على أكثر من مستوى، فهو ينطلق من مفهومين متضادين، هما: منطلق الفاعلية( الخطاب الناطق باسم المهمين) و المفعولية( الخطاب الخاص بالمهيمن عليه)، وتبعاً لذلك، فإن سلمنا بالنتيجة التي توصلنا لها حول التأسيس، ودور إدوارد سعيد و كتابه الاستشراق القائم أساسا على مفهوم التمثيل، وخلق الآخر في النصوص الكولونيالية، وما تبع ذلك من دراسات جماعة التابع المعنية بالتركيز على جنوب آسيا، وهي جهود مؤسسة ومبدئية لتحديد مفهوم الخطاب إلا أن جهودا أخرى بدأت بالتبلور، إذ بدأنا نلاحظ قراءات ثقافية متنوعة تنطلق من مبادئ خطاب الكولونيالية النظري في دراسات تتناول الرواية والشعر والقصة، فضلاً عن السينما والمسرح والموسيقى من منطلقات لا تقتصر فقط على تمثيلات الغرب للشرق كما لدى إدوارد سعيد، أو الهيمنة لدى سبيفاك في دراسات التابع، بل ظهرت دراسات تدرس الحالة الكولونيالية لإفريقيا، والشعوب الأصلية في أستراليا، و الأمريكيتين، والكثير من المناطق. إذا كان خطاب ما بعد الكولونيالية قد تأسس أكاديمياً على جهود إدوارد سعيد، ومن جاء بعده، إلا أنه قد وجد في أعمال أدباء ومفكرين سابقين إلهاماً لكثير من موضوعاته، ومن أبرزهم فرانز فانون (Williams :39)، بالإضافة إلى جهود الشاعرين إيميه سيزار وسنغور، وإسهامهما في قراءة واقع استعماري من منطلق عرقي، أو ما يعرف بالزنوجة Negritude. وهكذا نخلص إلى أن خطاب ما بعد الكولونيالية، قد تشكل من ثلاثة اتجاهات ساهم فيها كل من إدوارد سعيد، أو الاستشراق، ودراسات التابع، وأخيراً جماعة الزنوجة، والثقافة الإفريقية. يقوم النص الأدبي في خطاب ما بعد الكولونيالية بدور رئيس، فهو الذي يسمح بالعثور على النظام والممارسة الخطابية، وكما بيّن فوكو فإن دراسة الخطاب لا تقوم على ما قيل، إنما على ما لم يقل، ولماذا؟ وهكذا نعثر على نسقين من الكتابة، كتابة المستعمِر التي تهدف إلى تصوير وتمثيل الآخر، ضمن استراتيجيات خطابية محددة، مقابل نسق آخر مناظر يقوم على فعل عكسي يكشف ويقاوم النسق السابق، فإذا كان الغربي يختزل الشعوب الأخرى ضمن تحديدات وفئات وأحكام محددة، تقوم على التفسير العرقي والجنسي والثقافي، فإن ذلك دفع المهيمن عليه إلى أن ينشئ خطابا مضاداً، يعمل على مستويين؛ الأول نقض ما قاله الآخر، والثاني الرد بالمقاومة، وضمن هذين المستويين يتحرك خطاب ما بعد الكولونيالية الأدبي. ومن النماذج على ما قدمنا له، قراءات متبصرة لإدوارد سعيد لأعمال نصية غربية، روايات، وكتب رحالة، ودراسات، وخطابات، ونصوص أرشيفية، شكلت مفهوم الإمبراطورية واختلقتها، ومنها على سبيل المثال روضة مانسفيلد لجين أوستن، والغريب لألبير كامي، وقلب الظلام لجوزيف كونراد، وفي المقابل هنالك خطاب مضاد قام على أعمال كتاب آسيويين، وعرب، وأفارقة: منها رواية "أطفال منتصف الليل لسلمان رشدي، و"الأشياء تداعى" لأتشينو أتشيبي و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح. وهكذا تبدو الكتابة ضد الكتابة، وبين هذين المستويين من الكتابة المتبادلة نشأ خطاب ما بعد الكولونيالية النقدي واضعا آليات واستراتيجيات، تتيح له قراءة النص بكل ما يحمله من مضامين، وما يعكسه من أيديولوجيات، بالإضافة إلى تشكيلاته النصية القائمة على اللغة، وبناء على هذا تعددت المداخل النقدية كما بينها هومي بابا، ووضحها كتاب "الإمبراطورية ترد بالكتابة". مقترحات ومداخل نقدية يقترح هومي بابا مداخل نقدية تمثل مقترحات مثالية شاعت سابقا لدى دراسي النقد، ومنها المدخل القومي أو الإقليمي، وفيه يدعو إلى التركيز على سمات محددة لثقافة قومية أو إقليمية معينة( بابا:41) ، وهكذا ينطلق هومي بابا من الإطار الجغرافي لدراسة النص، حيث تدرس النصوص ضمن إطارها القومي، وثقافتها المميزة، ولهذا يمكن أن تعقد دراسات حول آداب الشعوب الأصلية على سبيل المثال في أستراليا، وتجميع الخصائص المميزة للنص الأدبي، انطلاقا من خصوصية المكان، ولذا نجد نقاشا حول آداب الولايات المتحدة وأستراليا وكندا حين كانت مستعمرات ، ومن ثم تحولاتها لتصبح ضمن المنظومة المركزية للهيمنة، فمعظم هذه الدول أسست نظامها ضمن الإطار الغربي، ونتيجة لذلك فقد عكس أدبها تحولات وضعين متناقضين. أما المدخل الثاني فيتمثل بالعرقية من خلال البحث عن سمات معينة، تشترك فيها آداب قومية متنوعة، منها الكتابة السوداء، فكتابات كل من سوينكا وأشيبي، وواثينغو نغوجي، وسنغور، وسيزار ذات سمات محددة. ومن المداخل التي اقترحها بابا أيضا المدخل المقارن، وفيه بحث عن الخصائص اللغوية والتاريخية والثقافية التي يشترك فيها أدبان أو أكثر من آداب ما بعد الاستعمار (بابا:41)، ومن هذا المنطلق يمكن أن نعثر على هذه السمات مثلا في أدب الجزائر وفيتنام، كونهما عانتا من تجربة استعمارية كانت فرنسا قاسما مشتركا فيهما، ويمكن أن نقيم نموذجا آخر يطال أثر اللغة الفرنسية ثقافيا على آداب دول مثل الجزائر، والمغرب، ودول إفريقية أخرى. ويأتي المدخل الرابع ضمن هذا السياق، ولكن ضمن منحى شمولي، وفيه يدعو إلى البحث عن خصائص أو ظواهر معينة، منها على سبيل المثال" الهجنة" أو التهجينHybridity حيث يتم التركيز على هذه الثيمة في الآداب الكولونيالية. وهكذا نرى أن مداخل الدراسة النقدية لآداب ما بعد الكولونيالية من منظور بابا موفقة، ولكنها تحتاج إلى قليل من التعديل، تبعا لأثر إدوارد سعيد المؤسس لفلسفة الخطاب، فمداخل هومي بابا تلجأ إلى نسق تقليدي، كونها لا تبحث تفرد خطاب ما بعد الكولونيالية في الرؤية والنهج، فآليات خطاب ما بعد الكولونيالية تقوم على أكثر مما تسمح به تلك المداخل، فعلى سبيل المثال نظرية (التمثيل) التي تتخلل خطاب ما بعد الكولونيالية برمته، وربما هذا ما دفع هومي بابا إلى أن يشير إلى هذا القلق حين يذكر في كتابه أن هذه المداخل ما هي إلا فرضيات نقدية أكثر مما هي مدراس فكرية معينة ومتفردة( بابا:41) . هذا الوضع يدفعنا للبحث عن منظورات ومداخل أخرى لبحث خطاب ما بعد الكولونيالية من منظور لا يقتصر على الأسلوب الوصفي، أو التصنيفي، أو التقني للممارسة النقدية، إنما إلى وضع تصور تنظيري وتطبيقي شمولي، يسعى إلى تبني المفاهيم التي يمكن أن تكون مفيدة عند دراسة النقد العربي المعاصر، ففي تتبعنا لخطاب ما بعد الكولونيالية نواجه عددا من القضايا التي تعتبر مراكز هذا الخطاب، ولاسيما من منظور اجتماعي أو سياسي أو فكري أو أدبي ، فالكثير من الدراسات تدرس ما بعد الكولونيالية على اعتبار أنها حقل دراسي يهتم بالموضوع الكولونيالي من شتى الجوانب، لذلك نراه ينشغل بقضايا العولمة، والمضطهدين، والتابعين، والعرق، والهوية، والجنس، والعنصرية، والأنثوية، والمثلية الجنسيةـ والهجنة، والمكان، والتمثيل، واللغة، والمركزية، والزنوجة، والتبعيّة الاقتصادية، والمقاومة والنوع، وتشكل الإمبراطوريات، والمرويات الكبرى والإمبريالية ، عوضا طبعا عن انفتاح هذا الخطاب، كما ذكرنا سابقا على ما بعد البنيوية، وما بعد الحداثة، وغيرها من الاتجاهات والتيارات الفكريّة والنقدية المختلفة. تقول لومبا بهذا الشأن: إن الاتصال الاستعماري لا ينعكس فقط في اللغة أو الصور البيانية للنصوص الأدبية، فهو ليس ستارة خلفية فحسب أو سياقا تمثل أمامه المسرحيات الإنسانية، بل شكلا مركزيا لما يجب أن تقوله هذه النصوص عن الهوية والعلاقات الثقافية(لومبا:81) لعل أطروحة سعيد في كتابه "الاستشراق" قائمة في مجملها وضمن بنيتها الأساسية على المبدأ النصي، وأداته الأساسية نظرية التمثيل، إذ قدم سعيد تحليلاً لافتاً للممارسة الاستشراقية وخطابها، الذي ابتعد عن الغاية المعرفية والعلمية، وكان أقرب إلى نسق استخباراتي مؤسس لخدمة مآرب الآلة الكولونيالية، التي أفادت من معطيات دارسي الشرق وتمثيلاتهم له، مما سهّل معرفة هذا الشرق، وصياغته ضمن مواقع تتيح السيطرة عليه، وقد تنوعت تحليلات سعيد ابتداء من خطابات الساسة، إلى أخبار الرحالة الغربيين، ومرورا بالأعمال الأدبية، ودراسات العلماء، ضمن منظومة التمثيل ( (Representation وقوامها خلق تصورات ومعارف تصور الآخر من منظور القوى المركزية المهيمنة، بالاتكاء على تضافر عاملي المعرفة والسلطة ضمن الخطاب، وتوسعت هذه الاستراتيجية ليتلقفها عدد من الدارسين أضافوا مفاهيم وطرق وأساليب أثرت هذه الخطاب، ووضعته في مسارات جديدة.
#رامي_أبو_شهاب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خطاب ما بعد الكولونيالية
-
- مكتبة بابل” لبورخيس محاولة للخروج من المتاهة
-
ساق البامبو ، الهوية ومستويات الخطاب
-
خارج عن القانون لرشيد بوشارب أيديولوجيا الشكل، وشكل الأيديول
...
-
فَنَاء
-
جوزيه ساراماغو، برحيلك فقدنا الكثير من الشجاعة
-
ملائكة هنا تموت
-
أحلام بلون الرماد
-
فيلم صراع الجبابرة محاولات غير مكتملة
-
فيلم الأوسكار ، متى تقفل خزانة الألم ؟
-
الشاعر الصيني بي داو
-
فيلم أفاتار إبهار بصري كولونيالي
-
مسرحية البطة البرية لأبسن : دعوة إلى كذبة الحياة -
-
سيدة من مطر
-
ناظم حكمت أيقونة الشعر الكوني
-
صباح الخير غزة
-
ما أضيق الحياة- في غزة - لولا فسحة الموت
-
زيوس يحرس فتنته الأخيرة
-
الموت حين يقود إلى الجدل
-
الانتهاكُ في بناء الجملة الشعرية.. قراءة في مجموعة - ينهض في
...
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|