نعرف من تاريخ الآداب والفنون أنه شهد مدرستين متتاليتين تاريخيا: ظهرت الأولى مع القرن التاسع عشر، والثانية مع القرن العشرين، وتقوم الأولى بالتمرد على القواعد التقليدية للفنون والآداب، إذ تتطرف فى النزوع للخيال، والانتصار للعواطف والمشاعر على ما يسميه البعض العقل، والآخرون بالقيم والعادات والتقاليد المحافظة.. إنها باختصار مدرسة التمرد على الواقع، والهروب منه لعالم من الأحلام والأخيلة والمثل، والفرار من حالة الحضارة إلى الطبيعة البكر، والرغبة فى التوحد معها بكل ما تحمله من براءة وطفولة، بعيدا عن صخب الحياة المعاصرة، وهو الأمر الذى يتم بالانغماس فى الذاتية الشديدة، وبالتالى إعلاء مشاعر الذات الفردية - أو الجماعية - عن كل ما سواها فى التعبير الفنى و الأدبي. أما الثانية فهى أيضا شكل من أشكال التمرد، وإن كان فى الاتجاه المضاد، حيث الميل إلى تصوير الواقع كما هو وبكل ما فيهمن تفاصيل، وقد يكون هذا التصوير بهدف التسجيل الفوتوغرافى المحض، أو بهدف الحفز لتغيير هذا الواقع، واستدعى هذا تغيرات فى موضوعات الأدب والفن، وأشكال التعبير المختلفة.. وهكذا عدنا مرة أخرى للتوحد مع الموضوع، مع الحياة الحقيقية، والبشر الأحياء بكل ما فيهم، وكل ما بينهم من علاقات واقعية. وكلتا المدرستين (الرومانسية والواقعية) ليستا مطلقتين فى حدود الزمان والمكان، وإنما ظاهرتان حديثتان تتعلقان بالمجتمع البرجوازى الحديث : فمن التمرد على الصناعة وعلاقات الإنتاج الرأسمالية التى تحول كل الأشياء بما فيها البشر إلى سلع، والنهم المجنون للاستهلاك والربح، وتحطيم الروابط القديمة العائلية والمهنية والحرفية والإقليمية والقومية والطائفية، لتسود رابطة واحدة تربط الجميع، هى السوق الرأسمالى،وهدف واحد هو الربح المادى ، الذى لا يعرف إلا لغة المال ولا يستجيب للعواطف والمشاعر والقيم والمثل العليا، هو ما دفع بالحركة الرومانسية لساحة الأدب والفن، كما أن نقد هذا المجتمع من زاوية أخرى هو ما أتى بالحركة الواقعية إلى نفس الساحة.
وعلى العموم فالرومانسية تعبير عن احتياج إنسانى واجتماعى مشروع.
وهى ضرورة اجتماعية شأنها شأن الواقعية من أجل الإشباع العاطفى عند الناس، وإشعال حماسهم للحياة والعمل إلا أن خطورتها تنبع من تجاوزها هذا الحد لتصبح طريقة تفكير وأساس وحيد للسلوك واتخاذ القرار.مثلما تصبح الغرائز محور السلوك والتفكير على أهمية إشباعها.وإذا كان الوعى البشرى يستهجن حصر الواقع الإنسانى فى إشباع الغرائز، فأنه عليه ليقفز لمرحلة أكثر تقدما أن يستهجن حصر الواقع الإنسانى فى إشباع العواطف والانقياد لها. ولما كانت الرومانسية خيال نابع من تقديس المشاعر الفردية بوصفها كذلك، ومن حيث هى كذلك، باعتبارها حقيقة ومعنى وقيمة، فان الرؤى الرومانسية للعالم تجد لها وجودا ملموسا فى الحركات السياسية والاجتماعية والثقافية.. الخ، بما فيها حركات الإسلام السياسى والحركات الاشتراكية والحركات القومية.
الرومانسية وإضفاء الخرافة على الذات :
الخرافة هى فكرة مشوهه عن الواقع، وهى محاولة لتفسير هذا الواقع بشكل ما فى غياب العلم . فنحن نلجأ للخرافة عندما نعجز عن فهم الواقع، أو التكيف معه، أو تغييره.
ولما كانت الرومانسية هى إعلاء مشاعر الذات على حقائق الواقع، وذلك فى أحد جوانبها، فإن الطريقة الرومانسية تضفى الخرافة على الذات ومشاعرها، ولذلك نفهم لماذا جن قيس فى حب ليلى، فلو أن ليلى كانت فى عقل قيس مجرد فتاة مثل غيرها من فتيات القبيلة، قد تفوقهن جمالا، أو تتميز عليهن بشئ ما، لما جن من أجلها، ولكن جنونه أتى من إضفاء صورة خرافية عليها، فتحولت لذات فريدة لا مثيل لها فى الواقع، فليلى فى عيون الآخرين مجرد واقع بكل ما فيه، فتاة لها ملامحها الجسدية والعقلية والنفسية المحددة، بكل ما فيها من مزايا وعيوب، أما ليلى فى عيون قيس، فشئ خرافى أو خيالى مفارق للواقع،. ولما كانت ذات قيس قد توحدت مع خرافة ليلى، فإن حرمانه منها هو حرمانه من ذاته، من وجوده كإنسان متميز.
وإذا انطلقنا من الرومانسية الفردية هذه إلى الرومانسية الجماعية، فلن تختلف الصورة كثيرا.. يكتب د. محمد مورو "لاشك أن العالم الإسلامى يستعد الآن، بفعل ما يكمن داخله من حيوية خاصة، وبفعل سقوط الحضارة الأوروبية، الذى بات وشيكا، بشقيها الرأسمالى والشيوعى، وبفعل تلك النهضة الإسلامية خصوصا فى صفوف الشباب، وبفعل ذلك التململ الواسع فى صفوف الجماهير باتجاه الإسلام. وهو يعنى أن المريض أوشك على الشفاء، وأن عالمية الإسلام قريبة" (1). وهذه الفقرة أشبه بقطعة من الأدب الرومانسى، وأن كان المعشوق هنا ليس فتاة يرسل لها العاشق أمانيه الطيبة، وإنما هى ذات جماعية ؛ ولذلك تغير قاموس الكلمات، وإن ظل نفس الأسلوب المغرق فى الخيال، والطنطنة الخطابية الملتهبة بالحماس والمشاعر، والمضمون العاطفى وليس الواقعى.
فأى متابع لحركة التقدم والتخلف على كافة المستويات المادية والفكرية لن يجد لمثل هذا الحديث أى أساس من الصحة : فنسبة الإنتاج المادى فى العالم العربى الذى يبلغ عدد سكانه 3,3% من سكان العالم، و20% من المسلمين، يبلغ 0.6% من إجمالى الإنتاج العالمى بما فى ذلك البترول، فى حين تنتج الحضارة الأوروبية بما فيها اليابان والولايات المتحدة 90% من الإنتاج العالمى، فى حين يبلغ عدد سكان تلك البلاد 20% من تعداد سكان العالم، ومازال هذا الجزء من العالم هو المصدر الأساسى للإنتاج العلمى والفكرى والفنى والأدبى، ومازال يشكل مركز الإشعاع الحضارى حتى الآن فى العالم... فكيف سقطت حضارتهم إذن ؟ ومتى ؟ أم هى مجرد أمنية!.
إن مظاهر الانهيار لا تخص هذا الجزء من العالم دون سواه ؛ فأسلوب الإنتاج الرأسمالى فى العالم بأسره قد دخل فى أزمة عارمة منذ السبعينيات وحتى الآن، وهو ما ينعكس على مظاهر التدهور السياسى والاجتماعى والثقافى، ليس فى الشمال فحسب، بل وبدرجة أبشع فى الجنوب بحكم تخلفه، وما مظاهر الانهيار إلا مظاهر انهيار أسلوب الإنتاج الرأسمالى بصوره المختلفة (الليبرالى فى غرب أوروبا، والبيروقراطى كما كان فى شرقها) لا الحضارة التى أشرنا أنها صارت عالمية منذ فترة طويلة والتى قد تتحول إلى حضارة عالمية من نوع آخر أكثر رقيا أو يؤدى التدهور فى الرأسمالية إلى فترة انحطاط حضارية تشمل العالم بأسره، مع ملاحظة أن الجزء الناهض من العالم المتخلف يوجد فى شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، وليس على امتداد العالم الإسلامى.. ولنعرف مدى ما يساهم به هذا الجزء من العالم فى الحضارة العالمية فى مجال العلوم الطبيعية من خلال عدد الباحثين فى العلوم الطبيعية "فلنقارن الأرقام الخاصة بإسرائيل البالغ عدد الباحثين فيها 34800 باحث، بعدد الباحثين فى العلوم الطبيعية فى جميع البلدان الإسلامية، والبالغ 45000 باحث، علما بأن نسبة السكان بين المسلمين وإسرائيل تبلغ "200 : 1"(2)
ويعتبر د. محمد مورو ازدياد معدلات التدين، وصعود الأصولية الإسلامية دليلا على اقتراب ما يتمناه، إلا أنه يتناسى أن كافة أشكال الأصوليات الدينية والقومية والعرقية والحضارية تتصاعد فى العالم بأسره منذ الثمانينات، وهذا فى جزء منه تعبير عن أزمة الرأسمالية العالمية.
ولمن يتحير فى تفسير ما يسمى بالصحوة الإسلامية - بل والدينية والطائفية والعنصرية عموما فى العالم بأسره - عليه أن يقرأ تاريخ أوروبا من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر جيدا ليرى نظاما اقتصاديا اجتماعيا يولد على أنقاض نظام قديم.. وأستتبع هذا أزمة اجتماعية أدت لظهور جماعات مسيحية لا تختلف فى تطرفها وتزمتها وتمسكها الحرفى الأصولى بالمسيحية، أو بالعكس الخروج عن المفاهيم الأصيلة للمسيحية بالانحراف عنها لتتوائم مع النظام الجديد ؛ فكل ذلك كان رد فعل طبيعى لتحول أوروبا من الإقطاع إلى الرأسمالية، والذى استمر عبر هذه الفترة الزمنية المذكورة سلفا.. فقد واكب الصعود الرأسمالى تفكك الروابط الاجتماعية الإقطاعية القديمة، ومن هنا انتشرت الفردية والأنانية، وعبادة الاستهلاك، والسعى المحموم نحو تملك الثروة والسلع، وهذا ما تشجعه الرأسمالية ؛ فهو الهواء لرئتيها وبدونه لن تعيش، وتحول المال وجمعه لهدف فى حد ذاته، يعبده الفرد المسيحى فى المجتمع الرأسمالى طيلة أيام الأسبوع عدا الآحاد حيث يتذكر الله فى الكنيسة، وحيث يردد القس كلمات الإنجيل التى تحض على احتقار المال والثروة.. وحيث إن كل هذا يخالف القيم الأساسية فى المسيحية التى تحض على الزهد والتقشف، لذلك كان لابد أن تتم محاولات تمرد تتمسك بالدين الصحيح، ضد القيم الجديدة، وتعيد الانتماء الجماعى للأفراد المبعثرين فى المجتمع الرأسمالى ، وقد انتهت هذه الحركات للهجرة إلى العالم الجديد، وبناء مستعمرات منعزلة، سرعان ما جرفتها سيادة الرأسمالية فى هذا العالم أيضا.. كذلك تمت محاولات للانحراف بالمسيحية لكى تلائم الرأسمالية وقيمها الجديدة، ووجدت ضالتها فى العهد القديم الذى لا يتنافى وهذه القيم، وهو ما عبر عنه ماركس بتهويد المسيحية.وما رصده ماكس فيبر فى كتابه" الأخلاق البروتستانتية والرأسمالية".
ومن يريد أن يعرف مصير الجماعات الإسلامية الحديثة عليه أن ينظر إلى مصير تلك الجماعات والكنائس المسيحية المنشقة والمتمردة، ليرى أنهم قد أنتهى بهم الحال إما إلى الحياة على هامش المجتمع الرأسمالى فى عزلة تامة، أو التلاؤم التام مع الرأسمالية وقيمها الليبرالية.
وعندما يتم لهؤلاء قراءة التاريخ صحيحا شاملا، سيعرفون جيدا أن مرحلة الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، وفى فترات أزمتها العامة، لابد أن تولد مثل هذه الظواهر الاجتماعية، تمردا على الانحلال والتفسخ الخلقى، والذى تولدهما الرأسمالية كجزء من طبيعة المجتمعات التى تسودها، لابد أن ينشأ التزمت الدينى والانحراف الدينى، وتنشأ تيارات هامشية فى اتجاه التصوف والفلسفات الروحانية.. وهكذا، إنها فترة ميلاد بكل ما يحمله الميلاد من مشاق ومتاعب.. إلا أنه ينتهى إلى ميلاد طفل جديد يختلف عن أبويه، وإن كان جزءا منهما.
كان لابد أن يظهر ضد رسملة المجتمع المصرى وتحديثه، وضد تحلل القيم القديمة نتيجة لذلك، إما التزمت الدينى، أو محاولة تجميل الوضع القائم، الأول يتمثل فى أفكار الجهاد والتكفير، والثانى فى الإخوان المسلمين وشركات توظيف الأموال، حيث يستهدفون الإبقاء على الوضع القائم : أو الجوهر الرأسمالى من حيث حرية ملاك رأس المال فى استغلال العمل المأجور، رافضين بعض الأمور الثانوية كالربا، فارضين شكلا دينيا هو الزكاة على المدخرات، ويظل السعى للربح، والاستهلاك المحموم، هو هدف أفراد المجتمع، وعنوان نجاحهم، ومؤشر سعاداتهم.وليصبح التدين الشكلى أفضل وسيلة لإخفاء الانحطاط الأخلاقى والفكرى .
وهنا يجب ان أشير إلى أن النقد الإسلامى للحضارة الرأسمالية عموما يستند إلى نقد شكلى وسطحى للقيم الرأسمالية، فهو يتعلق ببعض المظاهر (العادات والتقاليد والسلوكيات) إلا أنه لا يمس الجوهر العفن للرأسمالية نفسها الذى تنقده، وتحاول تغييره الحركات المعادية لهذا الجوهر المتمثل فى القهر والاستغلال،وخصوصا العلاقات السلعية التى تحول الإنسان نفسه إلى سلعة،وان تصبح قواعد السوق هى الحاكمة فى كل العلاقات الإنسانية. وفى الحقيقة نحن نظلم الرأسمالية الليبرالية كثيرا حين نؤكد أن الإسلاميين يحاذوها فكريا بشكل كامل .فالإسلام السياسى وإن حافظ على جوهر علاقة الإنتاج الرأسمالى إلا أن النقد الشكلى للرأسمالية الذى يدعيه يحمل من المبادئ والقيم ما هو أكثر تخلفا من القيم الرأسمالية كحضارة أشمل من علاقة الإنتاج.وعلى سبيل المثال الموقف من المرأة وغير المسلمين والحريات الديمقراطية عموما. فبعضهم يدافع عن الرق على أساس أن النص الدينى لم يحرم الرق ،إلا أن هذا لا ينطبق على المعتدلين منهم على أى حال.
وحيث إن الرأسمالية المصرية لم تولد قوية، فلم تتبن المفاهيم الليبرالية السياسية، إلا بشكل وسطى و توفيقى، ولذلك فإنها ترفع الشعارات الإسلامية أو القومية، لعجزها على البقاء فى ظل ديمقراطية برجوازية حقيقة، فهى تريد أن تستغل وتحكم فى ظل نظام مغلف برداء براق هو الدين أو القومية، حتى لا يستطيع من تحكمهم أن يرفعوا أصواتهم ضدها.
واستمرارا لهذه النظرة الرومانسية، يكتب د. عبد الهادى النجار "فإن الأمة الإسلامية تملك من القدرات البشرية والروحية والمادية ما يؤهلها لقيادة الإنسانية، وإنقاذها مما يمكن ان تتردى فيه" (3). ومن هنا تتحول الأمنيات الطيبة إلى واقع فى ذهن الكاتب، فى حين أنه لا يلوح فى الأفق ما يشير إلى ذلك ،فضلا عن إنقاذ نفسه مما يعاينه من تخلف،ولا ما يشير أن هذا الجزء المتخلف من العالم يحمل أى قدرات خاصة، تسمح له بقيادة العالم حضاريا من تدهور حاد على كافة الأصعدة المادية والفكرية، فى معظم بلدانه.
إن الرؤية الرومانسية المبشرة بإمكانية انتصار المسلمين على الغرب استنادا إلى ما تحمله الذات الإسلامية من قوة كامنة يفتقر لكل سند موضوعى أو مبرر واضح أو تصور علمى، حيث تستبعد المناقشة العلمية لأسباب التخلف ومن ثم التبعية، ومن ثم ترفض أن ترى فى التراث أو الذات أى عوامل للتخلف، الذى لا تراه إلا فى التآمر الخارجى والتبعية العقلية. وفى الحقيقة أن هناك رؤيتين لأسباب التخلف فى منطقتنا، لا يقلان خطئا وسذاجة : فالإسلاميون يبنون دعايتهم على أساس أن سبب تخلفنا هو البعد عن الإسلام، وبعض العلمانيين يقولون أنه بسبب التمسك بالإسلام، وفى الحقيقة أن الإسلام كدين خارج الموضوع أصلا.. فإسناد ما يحدث فى الواقع لأفكار مجردة إسناد غير علمى، وقد أشرت للظروف المادية التى توافرت لغرب أوروبا، وأدت للحضارة الحديثة، وما أدت إليه ظروف مادية مختلفة لتخلف منطقتنا، فالمسألة إذن لا ترجع إلى أى خصائص عرقية أو حضارية أو ثقافية أو قومية.. الخ.
الرومانسية ومن ثم الحركات السياسية الرومانسية لا تقدر قيمة الواقع الموضوعى، وهى تنطلق من المشاعر الذاتية اللاعقلانية باعتبارها نقطة الارتكاز فى تحركها وأفكارها وخطابها واتخاذها لمواقف دون أخرى،. يكتب ميشيل عفلق " الحب .أيها الشباب .قبل كل شيء.الحب أولا والتعريف يأتى بعده.إذا كان الحب هو التربة التى تتغذى قوميتكم منها فلا يبقى مجال للاختلاف على تعريفها وتحديدها .فتكون روحية سمحة بمعنى أنها تفتح صدرها وتظلل بجناحيها كل الذين شاركوا العرب فى تاريخهم وعاشوا فى جو لغتهم وثقافاتهم أجيالا فأصبحوا عربا فى الفكرة والعاطفة"(4).
وهو هنا يضع الحب وهو شعور ذاتى كشرط أولى وحاكم لتعريف واقع موضوعى هو القومية، لتبقى ببقاء هذا الشعور وتختفى باختفائه،وهو يعتبر هذا الشعور كافيا لمنع الاختلاف حول تعريف القومية التى هى واقع اجتماعى من المفترض أن ينفصل عن شعور الناس ذاتيا به، و إلا اضطررنا للاعتراف بالقومية الإسرائيلية التى نرفضها نحن ذاتيا، لمجرد أن الصهاينة يدعون بوجود مشاعر عاطفية بين اليهود مما يجعلهم يشكلون قومية فيقبلوها هم ذاتيا. أى أنها غير موجودة بالنسبة لنا فى حين أنها موجودة بالنسبة لهم. وهو ما لا يقبله العلم الذى لا يعترف إلا بالواقع الموضوعى المنفصل عن أى مشاعر ذاتية.
الرومانسية والتعبيرات الانشائية :
قالت العرب "أن أجمل الشعر أكذبه" فالمتنبى بلغ منزلته فى الشعر بمثل هذا البيت:-
كفى بجسمى نحولا أننى رجل لولا مخاطبتى أياك لم ترن لكى يعبر عن شدة معانته من الحب الذى أصابه بالنحول حتى سار كالخيال. ذلك لأن للشعر والخطابة وما شابهما من فنون الأدب وظيفة اجتماعية هى التحريض على الفعل والاعتقاد.وهو يؤدى هذه الوظيفة من خلال تعبيرات إنشائية، تكمن قوة تأثيرها فى جمال التعبير الذى يطرب له الوجدان، وترتعش له الأبدان، وتخفق له القلوب، فيندفع المتلقى فى الاتجاه الذى أوحى به الشاعر أو الخطيب ،و الذى تقاس مهارته بمدى قدرته على التأثير فى المتلقيين.التى تأتى غالبا من المبالغة والصور الخيالية التى ورغم جمالها، وعبقرية مبدعها ،فما هى إلا تشويه للواقع أى كذب على نحو ما ، فكلما جنح بك الخيال، وبالغت فى التعبير عن المشاعر، استطعت أن تولد المشاعر التى تعبر عنها ذاتها فى المتلقى شرط قابليته للإيحاء، ومن هنا تتشابه آليات الغزل مع آليات الدعاية السياسية،و تمتلئ الخطابات السياسية بالتعبيرات الإنشائية التى لديها نفس قدرة الخمر فى تغييب الوعى,وإيقاظ المشاعر العاطفية والحماس لفعل ما لا يمكن فعله عند الإفاقة . فترى الجماهير المتلقية سكارى وما هم بسكارى.ولو كنت شاهدت هتلر وهو يخطب وكيف كان بطريقته الهستيرية قادر على التأثير الساحر على الشعب الألمانى ،برغم ما كان يردده من هلاوس وخرافات على شعب عرف بمدى عمق ثقافته ووعيه السياسى ،وكيف انه استطاع أن يجره والعالم إلى كارثة الحرب العالمية الثانية. لأدركت ما يمكن أن تفعله الكلمات وطريقة أدائها فى الجماهير برغم خلوها أحيانا من المعنى ،ولأن المشاعر اللاعقلانية أقوى فى التأثير من الواقع الموضوعى لدى غالبية البشر. فأن نيتشة الذاتى كان له النصر على هيجل الموضوعى،والثقافة الفاشية الوحشية والبدائية كان لها السبق على الثقافة الديمقراطية الإنسانية والراقية.ومن ثم فقد كان الجهل النازى بكل ما يحمله من خرافات هو الأقوى تأثيرا فى الشعب الألمانى من العلم منهجا وحقائق. وما زالت أغانى الستينات الوطنية، تثير من الأحاسيس الجياشة فى نفسى ما تثير، رغم نقدى الواضح للناصرية وأفكارها وتجربتها، مما يشير إلى الانفصال النسبى بين الواقع الموضوعى الذى يسلم به العلم، والمشاعر الذاتية التى لا تحترم الواقع . ولذلك فعلى المرء أن يبذل جهدا لمقاومة هذا التأثير حتى لا ينساق وراء المشاعر العاطفية، مثلما يبذل من جهد لتلجيم غرائزه والتحكم فيها .
وسنطلع الآن على عدد من النماذج الإنشائية فى الخطابات السياسية الشائعة فى منطقتنا على النحو الآتى:-
قال جمال عبد الناصر"إن الإنسان العربى قد استعاد حقه فى صنع حياته بالثورة .إن الإنسان العربى سوف يقرر بنفسه مصير أمته على الحقول الخصبة .وفى المصانع الضخمة ومن فوق السدود العالية وبالطاقات الهائلة المتفجرة بالقوى المحركة"(5)
والإنسان العربى وفق هذه العبارة المؤثرة لا يصنع حياته
ولا يقرر مصيره عبر صناديق الانتخاب، أو المشاركة فى اتخاذ القرارات المتعلقة بحياته أو مصيره، وإنما عبر العمل فى الحقول والمصانع والسدود وهو وضع مشابه لأوضاع العبيد والأقنان والعمال الذين وعبر التاريخ البشرى ، ينتجون الثروة المادية ولا يملكون الحق فى تقرير المصير، ولا صنع حياتهم
.وفى ظل النظام الناصرى لم يفقد المواطن المصرى حقوقه الديمقراطية فى التعبير واختيار من يحكموه فحسب، بل أفتقد حقه فى اختيار ما يود تعلمه، والعمل الذى يرغب فى ممارسته مرغما فى ذلك للإذعان لبيروقراطية غبية تحدد له ما يتعلمه والعمل الذى يمارسه.
كتب ميشيل عفلق"فأنهم يستطيعون اليوم تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين وضمان الحرية بين العرب جميعا نتيجة الإيمان القومى وحده"(6)
وهكذا يعتبر أن مجرد الإيمان القومى هو سبب للعدالة الاجتماعية والمساواة وضمان الحرية للعرب،ولا ندرى ما العلاقة بين كل هذا والإيمان القومى فهل تحقق لأى شعب فى العالم نتيجة إيمانه القومى مثل هذه الأشياء أم فقدها غالبا بسبب هذا الإيمان نفسه. والأمثلة أكثر مما يمكن حصره الآن، ويكفى أن نذكر سوريا والعراق فى ظل البعث،ومصر فى ظل الناصرية، واليابان فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وفرنسا النابليونية، و ألمانيا النازية وايطاليا الفاشية .فباسم الإيمان القومى تم تجاوز الحرية والعدالة والمساواة .
وكتب أيضا"يسألوننا أيها الأخوان ماذا تقصدون بالرسالة .الرسالة العربية الخالدة؟الرسالة العربية ليست ألفاظا نتغنى بها .ليست مبادئ توضع فى البرامج ،ليست مواد للتشريع .كل هذه أشياء ميتة زائفة .لأن بيننا وبين الوقت الذى نستطيع فيه أن نشرع من وحى روحنا ورسالتنا مسافة طويلة وفاصلا كبيرا ما هى أذن الرسالة الآن ؟
هى حياتنا نفسها.هى أن نقبل بتجربة هذه الحياة .بتجربة عميقة صادقة ضخمة جسيمة متكافئة مع عظمة الأمة العربية"(7)
وهكذا يعتبر أن البرامج والمبادئ التى تحدد ملامح شخصية أى حركة سياسية مجرد أشياء ميتة زائفة ،أما الرسالة الخالدة فهى الحياة ذاتها، فمجرد أن نحيا تلك هى رسالتنا.والقبول بتجربتها على نحو عميق وصادق وضخم وجسيم ومتكافئ مع عظمة الأمة العربية وهو هنا يستغرق فى عموميات إنشائية لا تميزه كمفكر سياسى، و أن كانت تخفيه فى سحابة من التعبيرات الإنشائية العامة التى لا تغنى من جوع.ولا تعبر إلا عن هاجس يشترك فيه مع الكثيرين ألا أنه لم يوضح كيف يمكن لهذا الهاجس أن يتحقق عمليا على أرض الواقع.
"وأن أحد الكتاب فى الوفد المصرى كتب فى عيد ميلاد النحاس باشا الخامس والستين يقول أن النحاس أعظم زعيم و مصلح فى وقتنا هذا أنه أعظم حتى من كمال أتاتورك، أن موسولينى وهتلر ونابليون وبسمارك لم يؤدوا لأوطانهم مثل ما قام به النحاس باشا لمصر"(8)
وفى الحقيقة أنه ذم النحاس من حيث أراد له المدح حيث قارنه بمجموعة من الطغاة المتوحشين ،وان بعضهم مثل هتلر وموسولينى كانا نقمتين على أمتيهما، ولم يؤديا لهما إلا الخراب هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فأنه ظلم النحاس ظلما بينا فالرجل لم يأخذ فرصته فى حكم البلاد سوى بضع سنوات قليلة رغم أنه كان زعيم الأغلبية حتى يؤدى ما أداه بسمارك أو أتاتورك أونابليون ،فضلا عن أنه لم يحقق حتى الاستقلال الوطنى على نحو كامل ،وهى المهمة الأساسية التى قام على أساسها حزب الوفد، وقامت على أساسها زعامته.فما هو أذن ما قام به النحاس لمصر وفاق ما أداه هؤلاء.
الرومانسية والعودة للتراث:
التمسك الرومانسى بالماضى هو إنتاج الذات الرومانسية القومية، وليس عشقا للماضى فى حد ذاته، فهو يهدف إلى صياغة حلم للتقدم الحضارى المستقل؛ ولذلك تنغمس الحركات السياسية فى منطقتنا من اليمين إلى اليسار الوطنى والقومى فى حركة الهروب إلى الماضى، وبذلك رأينا فى لبنان عملية الإحياء الفينيقى، وفى مصر الإحياء القبطى أو الفرعونى، التى تمثل حنينا لماض غابر لم يكن فيه الإسلام ثقافته وعقيدته وشريعته يهدد بقوة ما تبقى من هذا التراث، ومن هنا تم استدعاء تلك القيم والرموز فى مواجهة الأصولية اٌلإسلامية، أما على الجانب الإسلامى فتجد الحنين الجارف لاسترجاع الصورة المثالية التى يتصورها الإسلاميون للدولة الإسلامية إبان الخلافة الراشدة، على اعتبار تجسيدها للوحى.. ومن هنا فالإسلام السياسى يعتبر أن إلغاء نظام الخلافة الشكلى كان بمثابة القضاء على الدولة الإسلامية، وذلك بالرغم من أن منصب الخلافة منذ العصر العباسى الثانى كان مجرد منصب شرفى دينى، حيث كان الحكم على طول البلاد وعرضها للعسكر المماليك الأتراك والشراكسة، ذوى الأصول البدوية، وذلك بصرف النظر عما شاب تاريخ الخلافة كله من مساوئ لا حصر لها.
أعتقد أن قضية العودة للتراث وحلم النهضة القومية والحضارية من خلال إحياءه هى قضية نخبوية أساسا، فرجل الشارع العادى لا تعنيه مثل هذه القضايا، حيث يمارس حياته وفق ما يستطيع أن يستوعبه من أحدث منتجات الحضارة، ولا يعنيه فى كثير أو قليل مصدر هذه المنتجات.
وما هو التراث الذين يريدون العودة إليه ؟! هل يمكن لنا أن نستبدل ابن سينا وابن الهيثم والخوارزمى بدلا من اينشتين وبلانك ودارون فى العلوم الطبيعية، وابن الرشد والكندى والفارابى بدلا من كانت وهيوم وسبنسر فى الفلسفة ؟! وهل نمتنع عن الاستفادة من الهارمونى فى الموسيقى لنظل أسرى البشارف ؟ وهل يمكن ان نظل نستهل قصائدنا بالبكاء على الأطلال ؟! وهل يوافق أحد على ارتداء الجلباب، وامتطاء الدواب، والأكل بالأيدى، والنوم فى الخيام، وان يمتنع عن منتجات الحضارة المادية من سيارات ووسائل اتصال وإعلام ؟!
وماذا يبقى لنا من التراث لنعود إليه ؟ وآي تراث هو الذى يجب أن نعود إليه : الفرعونى أم القبطى أم الإسلامى ؟.. ولماذا العودة أصلا إذا كان فى إمكاننا التقدم للأمام باستيعاب الحضارة الحديثة وتجاوزها إن أمكن وبالمشاركة فى تقدمها.
ألا تشير هذه الظاهرة المنتشرة فى أوساط النخب المثقفة من اليسار إلى اليمين إلى رجعية الغالبية الساحقة منهم مهما أدعو من تقدمية ويسارية؟
هل يوجد من تفسير لهذا إلا الحس الرومانسى الذى يقدس الماضى، يكتب د. محمد عمارة "إن البعث الحضارى والإحياء القومى والتجديد الدينى إنما يبدأ من هذه الأصول، مع الانفتاح من موقع صاحب القدم الثابتة والذاتية المتميزة على مختلف الحضارات"(9)فهل نعود للخلف لنعيد قصة التقدم الأوروبى، وإنتاجها الحضارى قائم بالفعل، بل يتم تجاوزه الآن فعليا يوما بيوم فى شتى المظاهر من التكنولوجيا إلى الفكر ومن السياسة إلى الفن ؟! ولماذا يكون "التجديد هو إعادة تفسير التراثطبقا لحاجات العصر" (10) ؟ ولماذا لا نفسر العصر ذاته بأنفسنا، ونبدع نحن ما يلائمه، خير لنا من أن نعتمد على نقل ما لن يفيدنا فى قليل أو كثير أم أننا أعجز من أن تبدع فإما ننقل من التراث أو ننقل عن الغرب.
ويكتب عادل حسين واصفا العودة للتراث بانها "استجابة لروح الأمة وطبيعتها الخالدة" (11).. أى روح خالدة تلك التى يزعمونها لتلك الأمة ؟ وما هو المشترك فعلا بيننا وبين أسلافنا ؟ ما هو أكثر مما هو مشترك فعلا بيننا وبين باقى البشر فى أى زمان ومكان ؟ وهل نشعر فعلا فى حياتنا اليومية بهذا التراث، أكثر مما نعيش العصر الحالى بكل ما فيه ؟
هل يمكن أن نزعم أن هذا التراث أفضل من تراث غيرنا ؟ وماذا ولو تحققنا إنبعض عناصره أسوأ ؟! أنتمسك بها رغم ذلك أم ندعها لما هو أفضل؟أم أنه التمسك الرومانسى بذكريات وتراث الماضى.
المصادر
(1) د. محمد مورو: "طارق البشرى شاهدا على سقوط العلمانية" صـ29.
(2) د. محمد عبد السلام - ترجمة د. ممدوح الموصلى، المسلمون والعلم، كتاب الغد، عدد 3، دار الغد 1986 صـ52.
2. د. عبد الهادى النجار: "الإسلام والاقتصاد"مصدر سابق صـ5.
(4) ميشيل عفلق-فى سبيل البعث ،مصدر سابق-ص112.
(5) جمال عبد الناصر –شروق مبدأ الناصرية- مصدر سابق-ص94-.95.
(6) ميشيل عفلق-فى سبيل البعث-مصدر سابق-ص185.
(7) المصدر نفسه-ص208.
(8) محمد السعيد إدريس_الوفد والطبقة العاملة-مصدر سابق-ص43
(9) د. محمد عمارة: "تجديد الفكر الإسلامى" كتاب دار الهلال، ديسمبر 1981، العدد 360، صـ15:16.
(10) التراث والتجديد، المركز العربى للبحث والنشر بالقاهرة - 1981 - صـ14.
(11) عادل حسين "الإسلام دين وحضارة"-مصدر سابق- صـ40