|
البصرة بعيني الشاعر عبد الكريم كاصد
مقداد مسعود
الحوار المتمدن-العدد: 4368 - 2014 / 2 / 17 - 08:28
المحور:
الادب والفن
2-3 أتوقف في هذا المفصل عند الشاعرين نفسهما كريم ومهدي ..غادرا الوطن دفاعا ً عن النفس وعن يوتوبيا التي يحملونها أو تحملهما كدم يجري في عروقهما وتكبدا الكثير من الوجع الانساني وحين عادا بعد ثلث قرن من الزمن كانت الخيبة تنافس الفرح فيهما في هذا المفصل سنكون مع الشاعر عبد الكريم كاصد ... الشاعر عبد الكريم كاصد،أعلن عن ذلك في(البصرة مدينة لامرئية) وكذلك في جوابه على سؤال وجهه له المحاور عبد القادر الجموسي (عدتُ إليها غير إنني لم أتعرف عليها إلا كما يتعرف الشاعر الجاهلي على طلله ،ولكنني مع ذلك أحسني مشدودا الى هذا الطلل بأكثر من سبب..ما زال ثمة آثار..مازال ثمة ماض لم يندثر بعد،مطل في قسمات أناس أحبهم وحيطان أحبها،/ص46)...لكن الشاعر سرعان ما يصطدم وهو يدخل البصرة بعد قرابة ثلث قرن من مغادرتها سرا ..(أين أختفت المدينة التي رأيتها وهي تمتدّ الآن بيوتا واطئة أخفض من قامتي وأنا أسير وسطها كأنني غيلفر في بلاد الاقزامص7/ باتجاه الجنوب شمالا )نلاحظ هنا مؤثرية الوضع السياسي على الحالة العمرانية للمدينة يلي مانجم بعد ربيع 2003 من حوسمة الأرض،التي ازدحمت بالبناء العشوائي للبيوت والمحلات ..مما انتج خريطة عشوائية لخطط البصرة..(لم أتعرف في الحقيقة إلاّ على معالم قليلة /8/ المصدر السابق).. ورغم الاحتفاء الشعري في المربد والاصدقاء الذين غمروه بحبهم الحقيقي وجمهور المربد وهو يقرأ لهم قصيدة (أسد بابل) وقد (أستقبلوا قصيدة النثر القصيرة هذه بحماس منقطع النظير وبتصفيق حاد زادوا عليه بصيحاتهم /9) وهكذا صارت هذي القصيدة (بوابتي المشرعة على جمهور مجهول) حسب قول الشاعر ..ومن خلال القراءات الشعرية للشاعر واللقاءات سيتخلص الشاعر من أعباء عاطفته المحتشدة ليعود بعد ذلك( وكأنني لم أسافر ولم أغترب ) على حد قوله.. كل هذه الاشراقات البصرية ،لم تمحُ أحساس الشاعر كاصد..(أحزنني ان المدينة لم تعد في مكانها)..ثم يتساءل..(هل غادرت معي الى المنفى؟ ولن تعود أبدا؟..مدينتي الغائبة..أليس من أثر؟ ولولا الناس لما تعرفت عليها..الناس هم شهودي الوحيدون ..الناس الأحياء الطيبون..أكّل هذه الأهوال وتبقى طيبتهم مرتسمة على الوجوه؟ /ص10)..نلاحظ المدينة غيرّت السلطات سحنتها معالمها مبانيها..لكن الذات البصرية هي هي ثابتة في طيبتها.. وللمدينة وجها آخر يرصده الشاعر عبد الكريم كاصد..(حيث الشاحنات على مرأى من السلطات،وهي تحمل الوقود الى السفن وحيث الخزانات تملأ شواطىء المهربين) لايكتفي الشاعر بما سجله (سهوا) بل يلتقط مشهدا وفق الآية الكريمة (شهد شاهدٌ من أهلها)..في تلك الدورة من مهرجان المربد الشعري التي كانت دورة الشاعر عبد الكريم كاصد ..(إبن قريب لي فاجأني بزيارته لي وهو محاط بثلاثة من حراسه الشخصيين ،سألني وبالأحرى أجابني،فهؤلاء لايستفسرون من الآخرين : - سمعنا (دك وركص ) في فندق المربد قلت له : تمنيت ،ولكن ذلك لم يحدث قال : أردنا ان نرسل مفرزة لهم (يقصد الشعراء) لم أتوقف ..تجاوزتها بسؤالي : ألا تحرصون على كسب المثقفين ؟ أجابني : لسنا بحاجة إليهم ،لدينا ناسنا / ص11) لكن الشاعر لايكتفي بذلك فهو يلتقط من الشخص ذاته الوجه الآخر (كان هذا الشاب قريبي،من جماعة أسلامية متطرفة ،وحين جمعتني به مناسبة أخرى فاجأني بشخصه الآخر السمح، البعيد عن رقابة حراسه، ورغباته الدنيوية التي تتجاوز (الدك والركص) هكذا هم : مهذبون،وقحون ،دنيويون ، سماويون ، أرضيون، مهربو وقود وشاحنات ،سريون ،علنيون ..)..وهو يتجول في مدينته بصرة المعتزلة والزنج وخلان الوفا..بصرة الرياضي حامل الاثقال عبدالله رشيد وقسيمه في المشنقة كريم حسين..بصرة البطل الدولي عبد الواحد عزيز،يتخلى الشاعر المكابد عبد الكريم كاصد يتخلى عن اي طموح ولايتذكر من السلطة إلاّ عدم تهذيبها في معاملته في تلك السنوات التي ثبتت جرحا نرجسيا حديدي الذاكرة في روحه ودمه ،لذا يكتفي بأسئلة الحريص على بصريته وبصرته يوجهها الى السيدة السلطة الحالية (لماذا هذه الانهار العفنة التي تخترق المناطق المحتشدة بأهلكم والتي لايستطيع حتى العابر تحمل رائحتها العفنة؟ لماذا كل هذه التلال من الاوساخ؟ / ص13)..ولايكتفي الشاعر بذلك بل يلتقط وعي الناس الجمعي في هذه الراهنية المدببة ،مقارنة بما كان عليه الحال ..(ومايجري ،رغم كل غرائبيته ،لايزال الناس يعتبرونه أفضل مما مرّ بكوابيسه ومقابره الجماعية، وخطابه البشع الذي لايستقر على حالة أبد/ ص14)..ثم يدخل الشاعر مدينته من أجمل أبوابها بل هو باب الابواب كلها أعني شارع الوطني..مزرعة الاناقة بمحلاته المتفردة أحذية زبلوق/ نات للساعات / سينما الوطن الشتوي/ قبالتها قطعة خشبية بيضاء مكتوب عليها : راتب وتعني الخياط راتب وجواره مكتبة المثنى الكبيرة المتميزة بطولها وقبل راتب والمكتبة، الشركة العامة للحوم..ورأس ركن الشارع محل سيروان..وحين نتجاوز المكتبة بقليل سندخل محل الخياط الهندي غلام رباني ولصقه عوينات سامي المعيدي وقبالته على الشاطىء الثاني من الشارع مكتبة فرجو ومحلات أزياء رجالية ويلي عوينات المعيدي شارع فرعي فيه محلات زكي زيتو ،نجتاز الشارع الفرعي نمر بجوار خياطة نوري عيّاش ثم مطعم ومشرب علي بابا...ونتوغل لنصل الى مكتب الخطوط الجوية العراقية يقابله على الشاطىء الثاني من الشارع مطعم( وندي همبركر) وعلى مقربة منه مكتبة( دار الكتاب) التي تفردت بأصدارات دار التقدم موسكو،إضافة الى دور النشر العربية..وبعد خطوات ندخل مطعم الكرامة وجواره مطعم ومشرب الركن الهادىء ويستمر هذا الشارع الاجمل على متواليات الانيقة: مطاعم، مقاه، مكتبات، سينمات، ملهى، بارات، وصولا الى كازينو سمر قبالة سينما السندباد الصيفي التي تبعد خطوات عن سينما الوطن الصيفي التي تقع جوار بار الاهرام وقبالته على الشاطىء الآخر بار الشعب بأضويته الناعسه واشجاره الغافية ،حيث يستقبلك (البوي) اي النادل بتهذيب حقيقي وترحاب لاينسى..وحيث الكل يحترم الكل وكأن السكر يزيده يقظة ذات سلوك حضاري..لنستمع للشاعر عبد الكريم كاصد (لم يحزنني منظرٌ في البصرة مثلما أحزنني شارع الوطني..بباراته ومقاهيه ومكتباته وسينماته التي رأيتُ فيها أجمل الأفلام .ص15) اللقطة المثبتة في ذاكرة الشاعر،هي لقطة تنتمي الى ماقبل 1978 سنة (الرحيل عبر بادية السماوة)..أما اللقطة الثانية فهي لقطة مابعد ربيع 2003..حيث يشهد الشاعر (لقد رأيتُ هذا الشارع الجميل شارعي وهو مهجور تعلوه المزابل وتطل عليه أبواب فاغرة كأفواه الكهوف،يلوح عبرها أثاث قديم مهترىء،وحطام مهجور ص15).. بالنسبة لنا نحن الذين بقينا سهوا في البصرة ،نحن الذين لم نغادرها أو نغدر بها أو نوقع على قرار 200 السيء الصيت..ونحن نتنقل بين البيوت بأجازات عسكرية مزورة، معتصمين بالبريد السياسي كنا نرى ان ما حدث جرى بالتدريج ،حتى الثلث الاول من 1990 كانت هناك بارات وملاه وقاعات ديسكو..لكن النظام الشمولي بدأ يغازل التشدد السلفي ليستقوي به،فسعى لأغلاق البارات والنوادي..فأزدادت ارباح تجار الخمور وانتشر تعاطيها في الشقق ومكاتب المقاولين والسماسرة والعقارات..ألخ..أما صالات السينما فبدأت تكسد منذ 1979مع حملات الامن في تصفية حزب الدعوة والحزب الشيوعي العراقي .. (*) في مقالته (البصرة مدينة لامرئية).يحيلني العنوان الى أجمل الاعمال السردية في عبقرية كالفينو..وهو يعيد انتاج رحلات ماركو بولو في كتابه السردي الرائع (مدن لامرئية)..الذي أثرى السرد العربي بنصوص غزيرة . (*) الشاعر مباغت بما جرى لمدينته !! سبب المباغتة المسافة الزمكانية بينهما الذات الشاعرة بكل رهفها لدى كاصد والمدينة البصرة بكل عوامل التعرية والتآكل التي تفننت الشمولية.. المسافة بين قوسي (عشرين عاما في المنفى /ص 159).. والمباغت ربما يكون سببها التضاد بين الذاكرة التذكارية للشاعر عن مدينته ومؤثريات الاستبداد الشمولي لمدة ثلث قرن ،هذه المؤثريات التي من المؤكد ان الشاعر سمع بها كثيرا، لكن ذاكرته التذكارية، مازلت متحصنة بذلك الزمن النفسي السعيد.. وبعد هذه الزيارة التي بدأت من شمال العراق ، سيدخل البصرة مزهوا بطيبة البصرة ولندع الشاعر يخبرنا..(للمرة الثانية أزور البصرة ، وفي المرتين أزورها في الربيع،غير ان الربيع هذه المرة كان متوارياً،خائفا مترددا. لم ألحظ هناك زهرة لأستدل عليه. مع ذلك فإنني ، دعوته لندخل المدينة معا ،وقد نصبت سرادقها للأحتفاء بي شاعر المربد هذا العام ص53).. ---------------------------------------------------------- *عبد الكريم كاصد / بأتجاه الجنوب شمالا/ مؤسسة أروقة/ القاهرة / ط1/ 2011 *عبد القادر الجموسي / الشاعر خارج النص / حوار الفكر والشعر والحياة/ المطبعة السريعة – المغرب – القنيطرة/ ط1/ 2007
#مقداد_مسعود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كماتيل
-
القارىء المصغي
-
زهرون
-
شخصية اللغة
-
مروءات حسين مروّة
-
محمد دكروب
-
نواقيس البصرة
-
سيمياء الاحتفاء/ تشكيل الفهم
-
فؤاد سالم
-
المكتبة الأهلية وجاسم المطير..
-
معرفة لاتفنى / المناضل والناقد - محمد دكروب (2013-1929)
-
مدائح جمر الغضى/ في شمعته الثانية: الشاعر مهدي محمد علي
-
كل ليلة
-
زورقك الصخري
-
طواف آخر/ محمود عبد الوهاب
-
حوار مع القاص والروائي محمود عبد الوهاب
-
في شمعته الثانية/ حوار مع الشاعر العراقي الراحل مهدي محمد عل
...
-
الأسود والأبيض
-
المفكر الدكتور حسام محي الدين الآلوسي.................سلاماً
-
استعادة المفتقد/ حوارية الشعر....- الشاعرة رسمية محيس في(ثرث
...
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|