|
واقعية المتخييل السردي في التاريخ المؤول
أسامة غانم
ناقد
(Osama Ghanim)
الحوار المتمدن-العدد: 4366 - 2014 / 2 / 15 - 16:43
المحور:
الادب والفن
تثير رواية محمد الاحمد " مَتَاهَةُ أَخِيْرِهِمْ " أسئلة اشكالية فلسفية وكونية وأنسانية عديدة ترتبط : بالعلاقة بين الواقع والخيال والتاريخ ، وتفاعلات جمالية التلقي عند القاريء، حيث تعمل هذه الأسئلة على إثارة التساؤلات وتعميقها اكثر من اهتمامها بالبحث عن الإجابات ، وهما محكومان أي الأسئلة و الأجوبة بجدلية علانية تبادلية ، بينما لاتوجد تبادلية بين الروائي والقاريء بل جدلية مخفية عبر النصْ الذي يعتبر وسيطاً بين الروائي والقاريء ، ومنذ البداية نلمس مدى عمق التماهي المتواجد بين الواقع / الخيال / التاريخ ، هذا العمق الذي توشم به الرواية الى النهاية ، بحيث تختلط الأمور على القاريء ، فيصبح لا يستطيع أن يفرق مابين الواقع والخيال ، وعند ايهما هو متوقف ، لأن السرد فيهما مضفور متشابك ، ليس بالأستطاعة فصل الواحد عن الآخر مطلقاً ، وتتلاشى المسافات بينهما ، فالمخيال الروائي يتجول بكل حرية في متاهة الذاكرة المتشبثة بالواقع المنساب في تاريخانية لا تتوقف لأي كان و لأي سبب ، يجعل القاريء وبتخطيط من قبل الروائي يضيع في ممرات السرد المتشظي ، وليضعه في متاهة التساؤل ثم يلقيه للبحث عن شخصٍ مجهول الهوية ، الذي هو محور الرواية المركزي والرئيس ، وهو الذي تتناسل منه الاشخاص والأمكنة ، والذي يُعتْبر في النصْ : انه المتنافذ بين العالم والخيال ، وهذا ما سعى اليه محمد الاحمد عندما اعتقد بان الخيال " لم يخلق شيئاً لم يكن حقيقياً " 1 ، تحكي الرواية حكاية آخر عائلة يهودية ، وحكاية مدينة اسمها بعقوبة ، بالاضافة الى حكايات ثانوية عديدة آخرى ،تعمل على دعم واسناد ورفد الحكايتين ، وعدم وقوعهما في الرؤية المبتورة ، الناقصة ، بل لكي تعطي تناسق وانسجام فيهما ،هنا الروائي يكتب " التاريخ الذي لا يكتبه المؤرخ ، أي تاريخ المقموعين والمضطهدين والمهمٌشين ، ذلك التاريخ المأساوي ، الذي يسقط في النسيان وتتبقى منه آثار متفرقة ، يبحث عنها الروائي طويلاً ، ويضعها في كتب لا ترحب بها (( مكتبات الظلام )) " 2 ، لقد اشتغل محمد الاحمد على أسلوب حكايات " ألف ليلة وليلة " في روايته ، حيث جعل الحكايات تتناسل من بعضها البعض ، وتتداخل فيما بينها ، تستهل الرواية بمقطع ايحائي – تأويلي : " الرجلُ الوحيد الذي دخل الى ذلك المكان ، وبعد عشرات السنين ، هو الذي استطاع وصفه بكل تلك الدقة المتناهية .. بيت بطابقين فيه نافذة واحدة تشرف على الباب الرئيس ، ومنها يتفحصون الطارق . يعيش فيه ثلاثة أشقاء ، ( يهوده ، حسقيال ، وسناء ) . لايمنعون عن أي محتاج حاجة ، ولا يردون سائلاً .. خاصة في امور الطبَ ..خبرتهم متوارثة ، ص 11 الرواية " . نستشف من هذا الاستهلال نقطتين اثنين : الاولى أن هذه العائلة يشوبهة الخوف والحذر الشديدين من الخارج ، والثانية انهم يقدمون المساعدة للجميع ، وهذه العائلة اليهودية ارتبطت بعائلة مسلمة منذ أن قامت الصداقة بين الجدين : يعقوب وابو علوان دندي ، لتمتد مابين ناجي وعلوان فهما لم يفترقا لحين وفاتهما سويا في يوم واحد ، ثم يهوده الصديق الحميم لـ ابراهيم ، وهذه الصداقة لم تاتي من فراغ ، او عن طريق الصدفة ، انما اتى ذلك لأن عائلة دندي هي بالاصل عائلة تنحدر من اصل يهودي " ص 137 " قسم محمد الاحمد روايته الى اربعة اقسام مع تسمية كل قسم باسم وبفترة تاريخية : باب الدخول 1966- 1972م ، مَكابْيوسْ 1973 – 1978 م ، باب الخروج 1979 م ، السارد التالي ، فالفترة السردية عملياً تكون مابين 1966و 1979، بينما مجازياً امتدت لمائة عام ، وأن الرواية تبدأ من سنة 1966 ، السنة ( 3 ) التي تعتبر سنة الهجرة الثانية ليهود العراق ،والسنة التي بدأت فيها هجرة الكفاءات العراقية والتي تصاعدت اكثر بعد استلام حزب البعث للسلطة عام 1968 ، وطبقاً لبحث اعدته منظمة العمل العربية بلغ عدد المهاجرين العراقيين من اصحاب الكفاءات 4192 الى الولايات المتحدة و 204 الى كندا خلال الاعوام 66- 1969 م . إن المقطع الذي أستهل فيه محمد الاحمد روايته " متاهة اخيرهم " يذكرني بالمقطع الاستهلالي لرواية غارسيا ماركيز " مائة عام من العزلة " من حيث عودة الذاكرة الى الوراء الى سنوات بعيدة مضت ، والى اكتشاف الأشياء ، والغوص في المعرفة ، فالكتابة " بالتحديد تستحق ربط الماضي بالحاضر في تراث ما . ولا يعد النص محض قطعة من الماضي بل يتمتع بالمعنى كلما قرأه أحد " 4 : " بعد سنوات طويلة ، وامام فصيلة الاعدام ، سيتذكر الكولونيل أوريليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه للتعرف على الجليد ، ص 7 ، دار المدى 2005 " . شاع الرعب والخوف بينهم ، أي بين يهود بعقوبة ، وعليه " استجد القرار لديهم بالرحيل ، وليس لديهم اغلى من ارواحهم ، ص 25 الرواية " ، وبدأت الاخبار تتواصل ، خبر مقتل حبيبة الخياطة في دربونة التوراة، و مقتل جميع عائلة راحيل ، وقتل العم موشيه في غرفة عرض الافلام في السينما ، وتوالت الاخبار المرعبة لهم ، كل ذلك جعل معظم " البيوت القديمة قد هجرها اهلها خاصة بعد أن تعرض اصحابها الى اعتداءات مباشرة من قبل القرويين هجموا من القرى والضواحي المحيطة بمدينة " بعقوبة " ، فبات خيارهم الرحيل الى اجل مسمى ، بعضهم لم يرتض البيع بثمن بخس ، لايساوي ثمن عربة وحصانها ، ص 166 الرواية " . قبل أن استعرض السارد / الراوي الذي هو الشخصية الرئيسة ، اود ان ابين مأزق الكتابة الذي يقع فيه الروائي العربي عندما يتناول شخصية اليهودي الإشكالية ، وكيف تصوره الرواية العربية ؟ ، فهنالك " تعالق شائع شائك بين اليهودية والصهيونية ، عن اليهودي في الرواية العربية المرتبط في اذهان الناس بصهيونية كنا وما زلنا نعاني منها الآمرين . وأن ما يتجلى عن اليهودي من مكونات وطباع ، له حمولات حضارية واقتصادية واجتماعية ودينية ، بما يستدعي تفكيراً باهمية ابتعاد كلَ من منتج النصْ أو قارئه عن فعل التنميط " 5 ،هنا ياتي دور الناقد / القاريء ، واهمية ادواته واشتغاله عليها ، في الحفر والتنقيب بعيداً عن انطباعيات متسرعة غير مستوعبة للعمل الادبي وانعدام التراكمات الثقافية المختلفة لديه عند تعامله مع الخطاب الروائي الذي تتكرر فيه صورة اليهودي الشرير أو الصالح ، بما يُعد اختزالاً مخلاً ضمن رؤية احادية غير متعددة هامشية تبالغ في المدح أو الذم لتجعل الصورة التخييلية لليهودي مبتورة في كلتا الحالتين ، بل ومشوهة ضمن سياقات لا تتوافق مع سياقات النصْ في الحد الادنى ، ولدينا أمثلة على ذلك : رواية ( النبطي ) لـ يوسف زيدان – رواية ( عائد الى حيفا ) لـ غسان كنفاني – رواية ( شرق النخيل ) لـ بهاء طاهر . وهنا يتجلى دور الناقد / القاريء في تحليل العلاقة التبادلية بين الفهم الأدبي والفهم التاريخي تأويلياً ايضاً، من اجل الكشف عن العلاقة الأساسية المتواجدة بين الفهم والتأويل ودور النقد عليهما ، وكيفية ارتباطه بهما ، لأن النقد لا يكون ممكناً إلا اذا كان فهم النصْ تأويلياً ، "ويستلزم فهم النص فهماً لمادة الموضوع التي يتحدث عنها النص ، ويختلف النص الأدبي عن الوثيقة التاريخية – وعن الوثيقة التاريخية التي يقوم تاريخ الوظائف عند بارت بتحويل النص الأدبي اليها – وذلك لأن القاريء هو المخاطب المباشر في ذلك النص " 6 . يبدأ " محمد ابراهيم " السارد الضمني في الرواية بالبحث عن الحلقة المفقودة التي اسمائها " ابن يهوده " ، وأن فكرة البحث تاتيه بعد مجىء عمه " حسقيال " لبيتهم، واستخراجه من الفتحة السرية في غرفة المكتبة الموجودة بين رفوف الكتب ، الشوفار( قرن كبش مبروم على شكل بوق )، ومجموعة من الاختام معها مفتاح باب نحاسي ، ويتجذر الاسم عنده بعد قول " حسقيال " له : أن " يهودا ابن متاثياس " لقبه " مكابيوس " ثم صار هذا الاسم لجميع الأسرة ص 106 . هنا " محمد " لم يستطيع استلام الشفرات المرسلة من قبل عمه ولا تفكيك السطور، فقط اصبح يرغب بشدة في أن يعرف من هو " مكابيوس " ؟ بعد أن بات يمثل له – أي اصبح يمثل محمد ضد ذاته أو مكابيوس ضد مكابيوس - تحدياً وعناداً ، ونزوة تؤرقه ، رغم أن الإجابة كانت تحت يده ونظره ، فقط لو مد يده في الفتحة السرية الى العمق / التيه لكان عثر على مايبحث عنه وعرف من هو " مكابيوس " ، ولكن , بقى الأسم في الوثائق الدينية اليهودية " مكابيوس " ، وفي الوثائق المدنية الرسمية " محمد " ، وهذا اللغز / التيه منذ السطور الاولى للرواية كان امامه بشكل تورية ، وقد كشف (= أي اللغز ) نفسه بنفسه ، ولكن لم ينتبه له ولم يستوعبه : -" انك تشبهين الملكات في افلام السينما ياخالة " -" أنا عمتك .. ولست خالتك" !! ص 15 الرواية . وبكل سهولة باستطاعة القاريء الامساك ومعرفة شخصية " محمد " من خلال حواراته الذاتية مع النفس، وتمرده ، وامتلاكه لوعي ترسخ وتعمق من خلال عشقه لعالم الكتب " ستقرأ كل هذه الكتب عندما تكبر" ، والافلام السينمائية "لو كان ارسطو في زمننا لأحب السينما / جيرار جينيت " ، والموسيقى " اديث بياف " : " اريد مشاركة حقيقية بأن اصنَعها، اجبلها بالحبر ، والورق . أشارك فيها كأي بطلٍ حقيقي يصنع قدره بيديه ، ليس بالخيال ، لا أن يُكمَل على الحوادث التي سمعها من هنا وهناك .. اريد أن اكون خالقا مبتكراًللشخصيات والأحداث ص 46- 52 الرواية ." هذا الصوت الذي نسمعه ليس صوت السارد فقط بل يشترك معه صوتاً آخراً هو صوت الروائي الضمني الذي بمساعدته يعثر " محمد إبراهيم " على مايبحث عنه وذلك في نهاية الرواية ، ويتيه القاريء بينهما ، ايهما يسرد ، يحكي ، يقص ، أهو محمد الاحمد الروائي – الراوي ام محمد / مكابيوس السارد – الراوي ، الاثنان هما في نقطة الروي ، وينطلقا منها ، ليضعا تفسيرات – تأويلية محكمة لفهم النصْ ، ويكتشف بانه كان يبحث عن نفسه في كل الاوراق التي كتبها على الآلة الكاتبة وهي بلا حبر ، ولكن رغم ذلك يبقى السر الذي قد اطلع عليه غير مسموح له ( أي مكابيوس / محمد ) من قبل ذاته باطلاع الآخرين عليه ، حتى مع الذين يعرفونه وهم : عائلة يهوده ( وهي قد غادرت مدينة بعقوبة ، يهوده وسناء الى اسرائيل وحسقيال استقر في بغداد لاستلامه منصبا ً دينياً فيها ) وابراهيم وطليلة ، الوحيد الذي عرف السر وهو من خارج العائلتين هو عباس زرزور/ عزرا ، ولكن بعد فوات الأوان ، هذه المعرفة جاءت متزامنة مع واقعة المكتبة ، فلقد دخل الى غرفة المكتبة بعد خروجهم ليعثر على كومة الأوراق المرقونة على الآلة الكاتبة والتي فيها سر مكابيوس ، عندئذ تتضح الصورة لدي عزرا / عباس زرزور ، وتتشكل الرؤية ، لا لكي تبدد متاهته بل لكي تعززها وترسخها وتوسعها : " أعرف بانك ستسألني من يكون صاحب السر ؟ كان قريباً جداً مني ، وأحد سماري ، بات أقرب أصدقائي ، ولن ابوح بسره ، مهما سيحصل لي ، ص 256 الرواية " . وهنا يسقط " محمد / مكابيوس " مرة آخرى في التيه ، والدهشة ، واللامتوقع ، مباغتاً بالمفاجأة التي تقتحمه بأن " عزرا / عباس زرزور" يعرف سر " مكابيوس/ محمد" وهو الباحث عنه منذ سنوات طويلة لم يستطيع التوصل اليه رغم كل الشفرات المبثوثة امامه والعلامات الدالة ، انه محكوم عليه بالتيه في متاهته حتى بعد عثوره على الأوراق التي بحوزة عزرا لانه كلما يصل الى " نقطة أجدني قد ضللت الطريق ، ص 302 الرواية " . لكل واحد منهم متاهة تختلف عن الآخر، في الاوصاف وفي السمات ، وفي الاهداف ، وفي نوعية المتاهة التي هو فيها ، فمثلاً متاهة عزرا / عباس زرزور كانت ذات حدين ، الفضح والتكتم ، فهو اتى من قادش لغرض العثور على " مكابيوس " اصلاً بتكليف من قبل أبو مسعودة ــ فـ " مسعودة " زوج " يهوده " هي الأم الحقيقية لــ " محمد/ مكابيوس" وليس " طُليلة " التي عهدوا إليها رعايته ولتكون " الأم التي لم تخرجه من أحشائها..ص 296 الرواية " ــ ورغم البحث الذي استغرق منه خمسة عشر عاماً ، فعندما يعثر عليه يصبح من اشد الذين يصرون على كتمان سره ، والحفاظ عليه مهما كلف الامر ، حفاظاً على الطائفة اليهودية اولاً وحفاظاً على " مكابيوس / محمد " ثانياً ، فهو عاش يهودياً تحت تقية الاسلام وتحت اسماً مستعاراً، ولكنه مات مسلماً حقيقياً ، ليغسل ويدفن في طقوس وشعائر دينية اسلامية بحتة بل ومتزمتة ( ص 271 الرواية ) في مقبرة " أبو إدريس " ، بعدما مشى وراء جنازته القاصي والداني من اهل دربونة المحطة ، بينما " محمد إبراهيم " كانت متاهته التكتم والفضح ، وهو الذي عاش ونشأ في ظل تعاليم اسلامية وتربية سمحة ، ولكنه خرج من العراق تحت اسماً يهودياً هو " مكابيوس " ، ليلتحق بابيه " يهوده " في اسرائيل ، مع علامة تعريفية هي المفتاح النحاسي ، فشتان بين الاثنين ، وشتان في المفارقة المجازية . وكان " عزرا " يمتلك قدرة عميقة في تحليل الاحداث والاخبار ، وانه صاحب رؤية سديدة ، واطلاع واسع في الثقافة وفي الحياة ، ونلمس ذلك في حديثه عن الهجرة : ــ " اختصرها ذات مرة " حسقيل قوجمان " بجملة واحدة " ان هجرة اليهود من العراق كانت مؤامرة مدبرة ومحبوكة ، أسهمت فيها قوى هائلة أجنبية وصهيونية وعراقية ، ص 274 الرواية " . " مَتَاهَةُ أخِيْرِهِمْ " ، عنوان الرواية ، العنوان الذي سيضيء زوايا الرواية اذا قمنا بتفكيك شفراته ، وسيكون العتبة الاولى والاخيرة في قراءة النصْ السردي ، والمفتاح التؤام للمفتاح النحاسي العلامة ، فقط اذا عرفنا اين نضعه ، وفي أي فتحة ، وذلك لا يتم الا بالتأويل المستند على الفهم والتحليل المجازي واختراق فضاء اللغة ، ولكن من الصعب الإحاطة بمفهوم التيه والمتاهة في التماثلات الأدبية . أيجب الارتكاز على مفاهيم لغوية و دينية و سوسيولوجية وفلسفية ، عند دراسة هذه التماثلات ؟ كل هذا يقتضي مسبقاً تحديد مفاهيم المتاهة والتائه والتيه ؟. فالمتاهة : مكان يضيع فيه الإنسان ويتحير ، المتاهة : صحراء ، موضع التَيه . اما التائه : شخص يجد نفسه في لحظة معينة . وحيداً . بدون أي ارتباط خاص ، متنقلاً من مكان لآخر ، " غريباً في كل البلدان " . التائه : هو الفضاء الوسيط . اما التيه : هو هجرة أو سفر ليس له وجهة محدَدة . إنه رحيل عن المجتمع بأعتباره حشداً من الأفراد الذين تجمعهم أواصر اللغة والدم . نلاحظ أن محمد الاحمد يحاول أن يبقي القاريء المحتمل المشترك معه منذ بداية الرواية ، في المتاهة التي هو فيها فإن " إدخال القاريء المحتمل ( إدخلاً تخييلياً حتماً ) من خارج عالم السرد إلى عالم السرد التخييلي هو حالة أخرى من الصور ، أقصد ، التخييل " 7 ، من خلال نثره لشذرات من السرد الغرائبي بين سطور النصْ ، ومحاولة طمسه اعمق فيها : " عينُ تصرَ على أن هذا الواقع خيالُ استند على واقعٍ قد حدث ، وهذا الواقع المدون كان نسجاً من الخيال ، وليس اكثر ، ص 105 الرواية " . فالكتابة الإبداعية بحد ذاتها عموماً تعتبر ممارسة متاخمة للتيه بهذا الحجم أو ذاك ، لكونها تتيح للكاتب وضع مسافة بينه وبين الضوابط السوسيولوجية والسياسية والجنسية ، والبحث عن آفاق يمارس فيها حريته كبديل يعوض بها عن متراكمات اختلافاته وتناقضاته مع مجتمعه ، لقد انتهى المطاف بمبدعين كبار مثل رامبو وارتو وفيرلين الى تيه حقيقي ، فــ رامبو انقطاع عن الكتابة وسنه لم يتجاوز العشرينات وشد عصا الترحال خارج اوربا . تبدأ الرواية في وصف البيت ، بيت عائلة يهوده ، بروائحه الطيبة ، ونظامه الصارم ، وانسياب الموسيقى الساحرة في ارجاءه ، بالاضافة الى حدائقه الخلابة ، بورودها المتنوعة العبقة، مع ارض مفروشة واضواء مريحة ، ونفوس مرهفة ، حيث يقوم الراوي من شدة الاعجاب والاندهاش بتشبه ذلك بافلام السينما ، ثم لتنتهي بصورة ماسأوية غير متوقعة نهائياً ، في نهاية البيت ـــ الملاذ ، الجنينة ، الجنة ، تحت مجرفة البلدوزر المسننة : ــ " جاءت البلدوزر بصوت مزمجر ، وراحت تجرف البيت ببطء وحذرٍ شديدٍ . ص 311 الرواية " إن هيرودوتس المؤرخ اليوناني ( القرن الخامس قبل الميلاد) تناول الإنسان الذي اعتبره ذكرى منبثقة ومتجانسة من تاريخانية اللحظة ، عليه سعى لمعرفة أسباب وآثار هذه اللحظة ، الدائمة التغيير ، و متحوَلة ، وبهذا يكون التاريخ " علماً بالمتحوَل الإنساني " ، ولهذا يصبح الوعي التاريخي وعياً بالحاضر المغادر للماضي ، وان " فهم التاريخ يعني محاولة فهم الحاضر ( المتجلي في حقيقةان النص (( ادبي )) ) . وإسهامه الذي يقدمه هو شخصياً للتراث " 8 . إن صورة هدم بيت العائلة وقلعه من جذوره ، فيها من الدلالات- التأويلية والمعاني – الايحائية الكثير ، وهذه الرؤية تشمل كل معالم مدينة بعقوبيا التي تعتبر حضارية ومدنية مثل السينما التي انشئت عام 1946 ، والمكتبة العامة ، والمحطة ، ونهر خريسان ، قبل ان تغزوها البنايات الكونكريتية والعمارات السمنتية ، وقبل العبث بالنهر الاخْرس من حيث الاتجاه والعمق والمسار ، ادى ذلك الى تشويه المدينة التي كانت تحتضنه وتلتف حوله ومسح الحدائق المنتشرة على منكبيه.. باختصار تغير كل شيء . أما بخصوص عالم السرد التأريخي ، فإن السيرة الشخصية المزدوجة ، والاوراق التي كتبت بلا حبر ، والهواجس ، والتوقعات ، والمتغيرات ، تشكل إذا بالفعل ، شكلاً من اشكال الــ ميتا – سرد. رواية " مَتَاهَةُ أخِيْرِهِمْ " ملحمة الإنسان الذي يرفض العنصرية بكل اشكالها ومسمياتها ، لأنه يؤمن بان الناس جميعهم متساوون في الحقوق والواجبات . فالروائي محمد الاحمد يشتغل في روايته على الإنسان المتحد والمتشكل والمنسجم مع الآخر مهما كان دينه أو مذهبه أو طائفته أو جنسيته أو لغته .
الهوامش والاحالات 1 – غاستون باشلار – جماليات المكان – ترجمة غالب هلسا ، كتاب الاقلام ، دار الجاحظ للنشر ، بغداد 1980 ، ص 181 . 2 – د. فيصل درَاج – الرواية وتأويل التاريخ- المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء- المغرب ، بيروت – لبنان ، 2004 ، ص 369 . 3 – كانت الهجرة الاولى عام 1950 – 1951 م ، والثانية عام 1966 م ، وكان من احد اسباب الضغط على الطائفة اليهودية في هذه السنة هو هروب الطيار العراقي المسيحي منير روفا " 1934 – 2000 " بطائرة ميغ 21 تابعة للقوات الجوية العراقية الى مطار اسرائيلي في عملية معدة ومنظمة من قبل الموساد الاسرائيلي . وبعد اربعة عشر عام تبدأ هجرة ثالثة أي في نيسان عام 1980 حيث يتم تهجير الكرد الفيلية الى ايران . 4– ديفيد كوزنز هوي – الحلقة النقدية : الأدب والتاريخ والهرمنيوطيقا الفلسفية – ترجمة : خالدة حامد ، منشورات الجمل ، كولونيا – بغداد 2007 ، ص 143 . 5 – د. رزان إبراهيم – مأزق الكتابة عن الشخصية اليهودية في الرواية العربية – الجسرة الالكترونية الثقافية http:// leromandz.com /?p=4604 . 6 – الحلقة النقدية – ص 212 . 7 – جيرار جينيت – الانتقال المجازي من الصورة الى التخييل ، ترجمة : د. زبيدة بشار القاضي ، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب ، دمشق ، 2009 ، ص 83 . 8 ـ الحلقة النقدية – ص 237
#أسامة_غانم (هاشتاغ)
Osama_Ghanim#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحولات حداثية السرد في المتخييل التراثي
-
قراءة في -جمهورية البرتقال-
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|