السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن-العدد: 4365 - 2014 / 2 / 14 - 19:33
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
"العالم الذي يعمل الناس فيه بـعقولهم لا بأيديهم. عالم تجعله تكنولوجيا الاتصالات مسرحا للمنافسة العالمية. عالم تتجاوز فيه اهمية الابتكارات أهمية الإنتاج بالجملة. عالم تتجه فيه الاستثمارات لشراء الأفكار الجديدة او وسائل تخليقها بدلا من شراء الآلات" (Healy, 2002). بهذه الكلمات يصف هيلي Kieran Healy، أستاذ علم الاجتماع بجامعة ديوك الامريكية، أحوال مجتمعات الدول المتقدمة في عالمنا المعاصر. هذه المجتمعات التي تعيش آخر مراحل تطور المجتمع البشري مرحلة "مجتمع حضارة ما بعد الصناعة". وهو المجتمع الذي تعتبر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (منظومات الحواسب والاتصالات) الأداة الرئيسية التي يستخدمها في تحويل "الموارد الذهنية لأفراده" الى "معرفة". وهي المعرفة التي يستغلها المجتمع في الارتقاء بكافة أوجه رفاه افراده.
ولقد مر المجتمع، في مسيرة تطوره التي امتدت لأكثر من 60,000 سنة، بثلاثة مراحل رئيسية هي:
"مجتمع حضارة ما قبل الزراعة" (من 60,000 الى 12,000 تقريبا) و"مجتمع حضارة الزراعة" (من 12,000 الى منتصف القرن الثامن عشر تقريبا) و"مجتمع حضارة الصناعة" (من منتصف القرن الثامن عشر الى منتصف القرن العشرين تقريبا). هذا الإضافة الى مرحلة "مجتمع حضارة الما بعد"، ما بعد الصناعة (منتصف القرن العشرين حتى الان). وتتميز كل مرحلة عن الاخريات بطبيعة كل من "الأداة الرئيسية" التي يستخدمها افراد المجتمع في تحويل "الموارد المتاحة" الى "منتج" رئيسي يشبع احتياجاتهم. فقوى الإنسان العضلية كانت الأداة الرئيسية للمرحلة الأولى، مرحلة "مجتمع حضارة ما قبل الزراعة" التي كان يستخدمها في جمع الثمار او في اصطياد الحيوانات. وفي ثاني مراحل تطور المجتمع البشري، "مجتمع حضارة ما قبل الزراعة"، حلت قوى الحيوان العضلية محل القوى العضلية للإنسان الذي استخدمها في فلاحة "الأرض (المورد الرئيسي)" وفي جني "المزروعات (المنتج الرئيسي)". وتأتي المرحلة الثالثة، "مجتمع حضارة الصناعة"، بالآلة لتصبح "الأداة الرئيسية" التي يستخدمها المجتمع "الموارد الطبيعية" الى سلع مصنعة.
وهكذا تتميز آخر مراحل تطور المجتمع البشري عن بقية المراحل بالطبيعة غير المادية للموارد التي يستخدمها المجتمع، "الموارد الذهنية للإنسان"، في انتاج القيمة ومن ثم زيادة الثروة.
المواطن الثروة
دفع الدور المتزايد والحيوي الذي تلعبه الموارد غير المادية في تقدم ورفاه المجتمعات دفع هذا كله علماء الاقتصاد، وغيرهم من المهتمين بقضايا تطوير المجتمعات، الي إطلاق اسم "رأس المال الفكري القومي" National Intellectual Capital على هذه الموارد. ويعرف "رأس المال الفكري القومي" بأنه "مجموع الموارد غير المادية التي يمتلكها أفراد ومؤسسات مجتمع ما وتسهم إسهاما إيجابيا في تقدمه على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي". أو بعبارة أخرى يعبر رأس المال الفكري القومي عن "الموارد الذهنية والثقافية" للمجتمع كما تتمثل في مجمل "الإنتاج الفكري والثقافي" للمجتمع سواء أكان هذا الإنتاج في مجالات العلوم والتكنولوجيا أو في مجالات الفنون والآداب، وفى "أدوات" هذا الإنتاج، سواء تمثلت في أفراد مبدعين أو فى مؤسسات الإبداع بشتى أنواعها من جامعات ومراكز بحوث ومؤسسات فنية وأدبية، وفى "التقنيات والآليات" الداعمة لهذا الإنتاج مثل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
وقد اتفق العديد من علماء الإدارة والاقتصاد على أن رأس المال الفكري لمجتمع ما يتكون على الاقل من ثلاثة مكونات هي: "رأس المال البشرى" Human Capital، " رأس المال الاجتماعي" Social Capital و"رأس المال البنيوي" Structural Capital.
ويعتبر "رأس المال البشرى" من أهم مكونات "رأس المال الفكري القومي". ويقوم هذا المكون على مفهوم "المواطن الثروة" ليحل بذلك محل مفهوم "المواطن العبء". ويعرف الباحثون رأس المال البشرى لمجتمع ما بأنه "مجموع ما يمتلكه أفراد هذا المجتمع من معارف ومهارات. هذا بالإضافة إلى منظومة القيم التي تحكم أسلوب قيامهم بالأعمال". فعلى سبيل المثال تحتل قيم من قبيل "احترام العمل أيا كان نوعه"، "تقدير القدرة على الإنجاز"، و"احترام الوقت" مكان الصدارة في منظومات قيم المجتمعات الأكثر تقدما. وثاني مكونات رأس المال الفكري القومي هو "رأس المال الاجتماعي" الذي يعرف بأنه "القيمة التي تنشأ نتيجة لعلاقات الثقة المتبادلة بين الافراد والمجموعات والتي ترفع من قدرتهم على التعاون سويا لإنجاز المهام". أما المكون الثالث، "رأس المال البنيوي"، فيشمل "كافة البنى التحتية، مثل وثائق الرؤى والاهداف والسياسات، منظومات الاتصالات، أدلة العمل، مواد التدريب، براءات الاختراع، قواعد بيانات "أفضل الممارسات"، التي تمكن الكيان، شركة او مجتمع، من تحقيق أهدافه".
استصلاح البشر
كان هذا في إيجاز ما توصل إليه علماء الإدارة، في بلدان العالم المتقدم، عبر سعيهم المتواصل للكشف عن أسرار تقدم الأمم في عصر "حضارة ما بعد الصناعة". وكان هذا هو اكتشافهم الذي عبروا عنه في عبارة جامعة شاملة هي "رأس المال الفكري" أو "الموارد الذهنية والثقافية". والآن يحين وقت التساؤل عن حال الموارد الذهنية والثقافية للأمة المصرية. ولا تتأتى إجابة هذا التساؤل إلا بالنظر في أحوال المكون الرئيسي لهذه الموارد وهو البشر فبدون مشاركتهم لا سبيل لتنمية وتفعيل باقي المكونات من رأس مال اجتماعي وبنيوي. إن البشر في مصر هم في نهاية المطاف موردها الرئيسي الذي لا يكف عن التنامي والذي تعتبر مهمة "استصلاحه" قضية أمن قومي يتعلق بمكان ومكانة الأمة في العصر الجديد. وهو استصلاح لا يتأتى إلا بالعمل على ثلاثة محاور. وأول تلك المحاور هو "تنقية الكتلة البشرية المصرية من المناطق البور" فليس مقبولا أن تبلغ نسبة الأمية الأبجدية بين البالغين 31%، طبقا لتقرير التنمية البشرية في مصر الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) لسنة 2004.
أما ثاني هذه المحاور فهو "القضاء على تصحر الفكر وتجريف العقل" الذي بات يهدد "خصب" الذهنية المصرية. وهو التصحر والتجريف الذي تتعدد مظاهره وتتنوع وسائط تصديره ما بين فضائيات وصحافة وحتى هواتف محمولة. وهي المظاهر التي يمكن إيجازها فيما نراه من مد متواصل للتفكير اللاعقلاني/الخرافي على حساب التفكير العقلاني. وخطورة هذا الأمر تكمن من هذا المد قد امتد إلى من نطلق عليهم مجازا صفوة الأمة من متعلميها ومفكريها ... ! وليس فقط عوامها. ولا سبيل لمواجهة هذا المد الا بتهيئة المجتمع لتقبل منظومة العلم الحديث كعنصر أساسي من عناصر ثقافتها وذلك بوجهيها: كـ "معرفة عمومية" ينتجها القادرون ويستفيد منها فقط الواعون بقيمتها والمهيؤون للاستفادة منها، وكـ "منظومة تعلم" تتبناها كافة كيانات المجتمع بمختلف مستوياتها. وهنا تبرز أهمية الثقافة العلمية بأبعادها الثلاث: "التعريف بالمنتجات"، "التعريف بالأدوات" و"التعريف بالتداعيات" (السيد, 2013).
وثالث هذه المحاور "الإعلاء من شأن قيمة الإبداع" ففي كل بدعة إنارة، والإبداع هو شرط التطور ومحرك التجديد، ومجرد البقاء جامدين في واقع تتغير أحواله بإيقاعات متسارعة وغير مسبوقة هو التخلف بعينه. فبقدر تعدد الأفكار التي ينتجها الإنسان وبقدر تنوع إبداعاته في شتى المجالات، وبقدر أصالتها وجدتها، تكون قدرته على السيطرة على مقدرات واقعه وعلى تطوير هذا الواقع لصالحه. فهل يتأتى لنا هذا إلا بتحرير فكر الإنسان من الخوف، أي خوف، وبتخليص ضميره من القهر، أي قهر، وتحت أي مسمى كان.
وفى النهاية فإن الحديث عن الموارد الذهنية والثقافية للأمة المصرية، أو قوتها الناعمة، وفى خضم ما قد يراه بعضنا أولى بالمناقشة، ليس خيار مترفين ولا ترف مكتفين بل هو بالأحرى حتم مهمومين بقضية تهيئة وطنهم لمواكبة حضارة الألف الثالثة. انه حتم تفرضه طبيعة وظيفتها التي تجعلها في نهاية المطاف تتجسد في صورة ممارسات، يومية أو أمور حياتية. وهي أيضا حتم يفرضه زماننا الآني والآتي الذي حلت فيه تلك الموارد، محل الموارد الطبيعية في تقرير مصادر الأمم وفى تحديد مكانها ومكانتها في عالم اليوم.
المراجع
Healy, K. 2002. What’s new for Culture in the New Economy? Journal of Arts Management, Law and Society, 32(2): 86-103.
السيد, ا. ن. ا. 2013. الثقافة العلمية وابعادها الغائبة. الاهرام اليومي, 46411(31 ديسمبر): http://www.ahram.org.eg/News/1050/1059/250677/%D250679%250681%D250679%250683%D250678%B250671/%D250678%A250677%D250679%250684%D250678%AB%D250679%250682%D250678%A250677%D250679%250681%D250678%A250679-%D250678%A250677%D250679%250684%D250678%B250679%D250679%250684%D250679%250685%D250679%250678A%D250678%A250679%E250672%250680%250678F%E250672%250680%250678F-%D250679%250688%D250678%A250673%D250678%A250678%D250678%B250679%D250678%A250677%D250678%AF%D250679%250687%D250678%A250677-%D250678%A250677%D250679%250684%D250678%BA%D250678%A250677%D250678%A250676%D250678%A250678%D250678%A250679.aspx.
#السيد_نصر_الدين_السيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟