أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميح مسعود - مأساة الهنود الحمر















المزيد.....

مأساة الهنود الحمر


سميح مسعود

الحوار المتمدن-العدد: 4365 - 2014 / 2 / 14 - 10:30
المحور: الادب والفن
    


التقيت به مصادفة ، قدم نفسه باسم " مارفين جونر" من سكان كندا الأصليين ، وجدته عميق الشعور ، يمتلئ وجدانه بالحزن على أحوال شعبه ، خاصة أبناء قبائل كري ، أكبر مجموعات الهنود الحمرمن السكان الأصليين الذين يعيشون في محميات كثيرة موزعة على عدة مناطق في كندا ، منها محمية على مقربة من بحيرة مستيسيني ، في وسط مقاطعة كيبك … بيته يقع فيها على مرمى حجر من البحيرة .

حدثني باسهاب عن شعبه ، وعن أحداث أليمة مريرة حولته إلى بقايا شعب يعيش في محميات تحمل بصمات مئات السنين من الظلم والهزائم والإبادة الجماعية، لايشعر بالرضا عن أحوالهم ، يشعر أن غربتهم في بلدهم تشكل مصدر عذاب شخصي له ، لا يستطيع بأي حال من الأحوال تجنب هذا العذاب ... إنه مثل شعبه يشكو الغربة ، يمتد إحساسه بها إلى كل شيء حوله ، ويصعب عليه التواصل السليم مع المحيط المتواجد فيه .

أفهمني أنه يستيقظ كل يوم على إيقاع تاريخ شعبه القديم ، كان أجداده فيما مضى أسياد الأرض الواسعة التي تسمى اليوم كندا … تاريخ طويل بدأت بشائره الأولى قبل ما يزيد عن خمسة عشرالف سنة ، كان لشعبه على امتداد تلك السنين حضارته وقيمه ومأثوراته واحداثه وأخباره ومعتقداته الفلسفية والدينية ونظمه العشائرية والسياسية وسماته الثقافية التي تشبه ما لدى مجتمعات العالم القديم … ظلت راسخة في أذهان الناس جيلا ً بعد جيل ، جسدوها في مختلف جوانب حياتهم ، بملابسهم وأطعمتهم وفنونهم ولغاتهم وأعرافهم وطقوسهم وزخارفهم وحرابهم وسروجهم وقواربهم ومشغولاتهم على امتداد ألاف السنين.

بقيت أوضاع شعبه على هذا الحال حتى وصول المكتشف الأوروبي الأول من القارة القديمة ، بدأت مع وصوله مأساة شعبه ، نشبت الحروب وعم القتل ونشر الامراض ، وتلاشت مظاهر الحياة الطبيعية في قرى أجداده وأماكن تواجدهم ، تراجعت أعدادهم تدريجياً , وتم الإستيلاء على أراضيهم وإقامة مستوطنات أوروبية فوقها للغرباء ، وهكذا انقرض غالبية شعبه من السكان الأصليين ، وبقي قلة منهم يتمرغون الان في أوحال محميات أقيمت لهم خصيصاً لعزلهم فيها بعيداً عن مقومات الحياة الطبيعية ، أجبروا على العيش فيها في ظل ظروف صعبة غير انسانية .

بهذا الإحساس يواجه محدثي الحياة ويقبل عليها ، بسخط وإحساس دائم بأنها لا تطاق ، و هو ما زال في الرابعة والعشرين من عمره ... يُعبر عنها في مرارة وبحساسية مرهفة دقيقة ويعتبرها حياة تمزق وأسى ، لما يعانيه أبناء شعبه من تمزقات ذاتية داخلية وألام وأحزان عميقة غائرة وعميقة في نفوسهم ، إلى الحد الذي يشل قدرتهم على ممارسة أعباء الحياة الإنسانية السليمة ، ويشيع بينهم مظاهر أزمات نفسية مضطربة واضحة ومنظورة .

قلت له : " زرت عدة محميات قريبة من مدينة مونتريال تعرفت عليها عن بعد ، لم أتلمس مافيها من عذاب وضياع ، هل لك أن تحدثني عن ظروف الحياة الداخلية للمحميات ؟ "

نظر إلى ساعته ، واعتذر لقرب موعد بدء محاضرة في كلية لاسال التي يتابع الدراسة فيها .

ودعني ، بعد أن اتفقنا على اللقاء ثانية في اليوم التالي ، للإجابة على سؤالي في دقة وتفصيل حول حياة شعبه وظروفهم وأحوالهم المعيشية في المحميات .

التقيت به في الموعد المحدد في نادي فاتس ، على مقربة من تقاطع شارعي جاي وسانت كاترين في وسط المدينة ، كان برفقته ابنة عم له اسمها هيلاري ، وصديقة لها اسمها جاكلين دكسون … قدمني للفتاتين بلغة كري لغته الأم … ذكرته بسؤالي السابق الذي طرحته عليه حول ظروف الحياة الداخلية للمحميات .

اجابت ابنة عمه هيلاري : " تغرقهم الديون ، وتطاردهم لقمة العيش ، يعيشون في ازمة دائمة … تخيم عليهم تداعيات أزماتهم النفسية المختلفة ، ويواصلون الحياة في محمياتهم في ظل أوضاع تخيم عليها العزلة والوحدة والجهل وعدم التعليم وعدم العمل في جهد ودأب ، فرُضت عليهم المحميات فرضاً والتحمت بهم وأثرت فيهم تأثيرا ًعميقا ، وجعلتهم يواجهون عقبات كثيرة في المجتمع والحياة ."

توقفت هيلاري عن مواصلة الحديث ، وسرعان ما التقط مارفين خيط الحديث بقوله : " مؤثرات تاريخية كثيرة ساهمت في تشكيل مجمعاتنا في المحميات المخصصة لنا بحكم القانون ، لعبت دورا ً كبيرا ً في ظهور عقد نفسية تطورت وتفاقمت إلى حالات مرضية ، وبالتالي ساهمت في ظهور انحرافات اجتماعية كثيرة مخالفة للانماط السلوكية السوية ، ولا تتماشى مع تقاليد وقيم أجدادنا التقليدية ، مثل القتل والنهب والضرب والإعتداء على الأخرين وإتلاف الممتلكات ، إضافة إلى ظهور انحراف سلوكي بين الطلاب ، يتمثل بالهروب من المدارس والتسرب الدراسي "

بعد ذلك اشترك الثلاثة بالحديث عن مشاكل عملية ملموسة في محمياتهم … لفت نظري في حديثهم ، عدم تفاعل شعبهم مع بقية السكان المحليين ، و انعدام توفر حوافز التغيير لديهم نحو الأفضل ، وانعدام الرغبة في التعلم من الأخرين لاكتساب معارف جديدة هامة وضرورية لحل مشاكلهم وتحسين أوضاعهم وجعل حياتهم محتملة ومقبولة .

لاحظت من حديثهم أن بني جلدتهم من سكان المحميات يتفننون في الوصول الى الوسائل التي تزيد من شعورهم باليأس و الضياع … يقضون أوقاتهم في حانات رخيصة ، يقرعون فيها الكؤوس المترعة بالمشروبات المسكرة طيلة أيامهم ولياليهم للفرار من واقعهم المرير ، وحتى إذا استردوا توازنهم وأفاقوا إلى أنفسهم ، يبدأون بتناول المخدرات , ويزيدون بهذا من مفعول مشاكلهم التي تلاحقهم وتكدرصفوهم .

يعيشون حياة روتينية مملة ، تفقدهم نظرة التمتع العميق الصامت للطبيعة الجميلة الممتدة حول محمياتهم ، تضعهم دوما ً تحت تأثير نفسي مريع ، وشعور مخجل من الهزائم ، ومن إنقراض الملايين من جدودهم وأسلافهم أصحاب البلاد الأصليين .

توصلت من مضمون حديثهم إلى قناعة بأن ما أسمعه عن حياة شعبهم في المحميات يشكل تكوينات حقيقية لتراجيديا من نوع تراجيديات المسرح القديم ، التي لازمت المسرح الإليزابيثي فترة طويلة من الزمن ، واهتمت بابرازمضامين درامية متصلة الحلقات لماّسي إنسانية كثيرة .

وهذا ما قلته بصوت عالٍ : " إن ما أسمعه عن الحياة في محمياتكم تعبر عن تراجيديا واقعية ليست من نسج الخيال ، تراجيديا خاصة بكم بالوجوه البرونزية فقط دونما غيرها ، تبرز فيها حقيقة ماّساة إنسانية فريدة في التاريخ ، تتكرر فصولها على المسرح العالمي منذ مئات السنين ، في رحاب دول تتباهى بالحرية والديموقراطية والقيم الإنسانية ."

أجاب مارفين : " نعم إنها تراجيديا من نوع خاص ، من منابع حياة حقيقية ، لا تُعرض في مسارح مغلقة ، بل في رحاب دول كثيرة ، بدون مؤثرات صوتية وضوئية للإثارة ، لأن ما فيها يعبر عن علامات فارقة وبارزة على صعيد الإثارة ، بأبعاد درامية بانورامية غير متداولة تعكس في ثناياها مدى وحشية وبشاعة الاحتلال الاستيطاني البغيض "

علقت جاكلين بكلمات متقطعة ، بينت فيها أن أهم فصل من فصول تراجيديا شعبها ، ذلك الفصل الذي يتحدث عن أسلافهم الأولين ، منه يسترجعون ذكرى الماضي ، ومنه تنبعث أحلامهم بغدٍ افضل ، ومنه يتعرفون على تراثهم ولغتهم وثقافتهم وأساطيرهم ومعتقداتهم وتفاصيل تاريخهم .

أكدت هيلاري بأن ماضي تاريخهم ليس مجرد ذكرى فحسب ، بل إنه يمثل صك ملكيتهم لمساحات شاسعة من الأراضي العائدة لجدودهم ، بكل ما فيها من أنهار وبحيرات وجبال وهضاب ووهاد ، كما يكشف أيضاً عن كثير من المعاني الحضارية المتصلة بأسلافهم ، خاصة ما يتصل بالديموقراطية النيابية التي ابتدعها زعيمهم ديكاناويدا في القرن الخامس عشر ، الذي يعتبر أول من أسس حكومة ديمقراطية نيابية "تمثيلية"، لممارسة السلطة في رابطة أمم آيروكواس التي توحدت في إطارها خمس قبائل هندية في منطقة البحيرات العظمى ، وتعتبرتجربة هذه الرابطة واحدة من أقوى التأثيرات على الديمقراطية الحديثة ، وعلى فكرة المساواة بين المرأة والرجل في المجتمع الحديث .

وقبل ان تنهي هيلاري حديثها سارع مارفين إلى القول بعاطفة زائدة : " أكد بنجامين فرانكلين على أن الديمقراطية التي تمتع بها شعب رابطة الإيروكواس لم تكن معروفة وقتذاك في أوروبا ، كما عبر عن هذا الرأي مجموعة من كبار المؤرخين والكتاب في الغرب ، وأفاضوا في التأكيد على أنها تشكل ممارسة حقيقية للديمقراطية من خلال قرارات الشعب ."

إلتزمت الصمت ، كان حديثهم كافيا ً لي للتعرف على صور كثيرة عن تراجيديا شعبهم ، عبر عنها بمشاعرإنسانية صافية المؤرخ الامريكي الكبير هاورد زين (نصيرالمستضعفين من السود والهنود الحمر) بقوله : " سرق المستعمر الأوروبي من الهنود الحمرالأصليين أرضهم وحضارتهم وقيمهم ، ونجح في إبادتهم والقضاء عليهم ، وهَجرقسراً من تبقى منهم إلى محميات خاصة بهم بعيدة عن باقي السكان . "

هكذا طحنتهم الأيام وأصبحوا غرباء في أرضهم !!.



#سميح_مسعود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصيدة للرصافي في افتتاح الجامعة العبرية
- قصيدة غير وطنية للشاعر معروف الرصافي
- كتاب : رؤية معاصرة لحياة وأعمال المطران غريغوريوس حجّار
- أيام في جبال الأوراس
- من حيفا أستمد حروفي
- سيدة القصة القصيرة
- القاصة الكندية أليس مونرو
- الموسيقى حلالٌ حلالْ
- حيفا يا عشقي الأزلي
- أيامٌ في حيفا
- لماذا فشل حكم الإخوان في مصر ؟
- في ذكرى رحيل الشاعر محمود درويش
- مريضة الغرفة 72
- رواية دروز بلغراد ... حكاية حنا يعقوب
- على ضفاف البحر الميت
- الإسلام السياسي
- إميل حبيبي باقٍ في حيفا
- شيليا
- جوني منصور مؤرخ حيفا
- عن أقباط مصر


المزيد.....




- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
- معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا ...
- نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميح مسعود - مأساة الهنود الحمر