|
العاشق
ضيا اسكندر
الحوار المتمدن-العدد: 4364 - 2014 / 2 / 13 - 21:27
المحور:
كتابات ساخرة
بعد إلحاحٍ مني وافق على الجلوس. بادرته معاتباً: هل يعقل يا ابن أخي، شهرٌ كاملٌ يمرّ ولا أصادف خلقتك؟ ماذا يلهيك ويشغلك عن زيارتي؟ بالرغم من أنك تعرف مدى حبّي لك.. أنت بمثابة ولدي. صحيح أنني حُرِمتُ من التنعّم بمشاعر الأبوّة بسبب عزوفي عن الزواج. ولكن الله عوّضني بك.. وككلِّ العشاق الذين لا يطيب لهم الحديث إلا عن الحب والغرام ويأنف من أيّ حديثٍ آخر، اندفع لاحتضاني ودموع التأثر تغيم في عينيه وقال لي: ((تخيّل عمّو، لا تسمح لي حتى بلمس يدها! يا إلهي والله رح جنّ..)) مسحتُ شعره بلمسة من يدي مخففاً عنه، وأدركت مراده من الزيارة فقلت له: عليك بالتروّي يا ابن أخي.. الموضوع يحتاج إلى تدرّج وصبر وأناة.. مثلاً، في لقائكما القادم، ضع حفنة من أزهار الياسمين في جيبك، ولدى جلوسكما معاً في حديقة أو كافتيريا.. توقّف عن الثرثرة فجأةً وأنت تنظر إلى شعرها باستغرابٍ وفرحٍ وتعجّب.. وتقول لها: "يا إلهي! ما هذا الذي يتساقط من شعرك؟!" وبحركة رشيقة تسحب يدك الملأى بالياسمين وتنثرها من أعلى رأسها إلى كتفيها.. فتنهمر الغبطة في قلبيكما.. وتبدأ بمساعدتها بانتشال ما علق عليها من ياسمين.. لربما هذه التجربة تُعدّ بداية طيبة للمسها.. توامضت عيناه ببريق فرحة مفاجئة، وانطلق كالسهم من دون حتى كلمة وداع..
* * * كان الباب مفتوحاً، ولهذا السبب لم يرنّ الجرس، دخل دون أن يلقي تحية المساء. وجلس قبالتي مكوّراً قبضة يده اليمنى وبدأ يلكم راحة يده اليسرى بعصبية. حملقتُ فيه مستطلعاً سرّ انفعاله، لم يترك لي فسحة من الوقت لاستنباط دواخله فسارع إلى القول بغضب: ((إذا رأيتموني يوماً ما أسرح في الشوارع وشعري منكوش وأتحدث مع نفسي مشوّحاً بيدي في كل الاتجاهات.. فلا يلومنّي أحد. تصوّر يا عمّي! لم أترك وسيلة متعارف عليها في عالم الغرام للتقرّب من حبيبتي بغية اقتطاف قبلة منها.. إلاّ وجرّبتها.. ومع ذلك لم أفلح!)) سحبتُ نفساً عميقاً من سيجارتي وزفرتها بهدوء، محاولاً نبش ما اكتنزته ترسانتي العاطفية من تجارب وقلت له: على رسلك يا ابن أخي.. هل جرّبتَ مثلاً الهمس بأذنها بسرٍّ ما؟ فالنساء يمُتْنَ بالأسرار.. قل لها مثلاً: " لديّ سرٌّ لا أستطيع كتمانه عليكِ، وبودّي إطلاعك عليه، بشرط أن يبقى هذا السرّ بيننا ولا يسمع به كائن بشري". فتنتفخ أوداج فضولها ويلجُّ بها شوقٌ للسماع. فتقترب من أذنها وتهمس بكلمات غير مفهومة.. فتلامس أنفاسك الدافئة أذنها ومساحات من خدّها.. فتحرّك مشاعرها. وطبعاً ستقول لك لم أفهم شيئاً مما قلت! فتعيد الكرّة.. ولكن هذه المرة تقترب أكثر وتلامس شفتاك أذنها وشعرها وبعضاً من خدّها.. ربما هذه البداية تقودك إلى ما تبتغيه يا ابن أخي.. كان يستمع إليّ مشغوفاً مأخوذ اللب، نهض بسرعة وقبّلني من صلعتي وخرج مسرعاً..
* * *
فور وصوله وضع على الطاولة كيساً فيه زجاجة خمر وحفنة من الموالح الرخيصة. ودخل إلى المطبخ وأحضر كأسين دون أن ينبس بكلمة واحدة. وبعد أن صبّ الخمر، قال لي وقد اكفهرّ وجهه واكتسى مسحة حزنٍ لم أشهدها من قبل: - بسبب وصاياك ونصائحك يا عمّي زعلت مني حبيبتي ولم تعد تردّ على هواتفي.. ولما لم يبدُ أنني أعرتُ الأمر انتباهاً أضاف بنبرة يائسة: - بشرفي رح طقّ! التزمت الصمت مفكراً، مستفتياً العقل والذاكرة لإيجاد خطة ما تُصلح ما بين الحبيبين، فأشرق خاطرٌ في ذهني، جعل نفسي تجيش بسعادة غامرة. رفعت كأسي وقرعتها بكأسه وأجبت: - بسيطة حبيبي.. كل العلاقات العاطفية يتخلّلها بين الحين والآخر بعض ألوان الفتور والزعل.. على كل حال، عليك باعتماد الصدمة العاطفية الإيجابية؛ وأقترح عليك لعودة جذوة الاتّقاد العاطفي إلى عهدها اتّباع ما يلي: اذهب إلى الغابة القريبة من حيّنا واقطف كميات كبيرة من ورق الريحان، وعند منبلج الفجر، اذهب إلى الساحة المجاورة لبيتها, وارسم بورق الريحان من خلال نثره على شكل قلب وإلى جانبه اسمها.. وعندما تستيقظ الحبيبة وتخرج من بيتها وتجد (هديتك).. أنا واثق من النتيجة. هيّا إلى الغابة يا ابن أخي.. أجاب متلعثماً: على مهلك، دعني أُكمل كأسي!! صحت به: بسرعة، هيّا.. يالله 1-2-3 .. كرع كأسه دفعةً وانطلق كالفهد.
* * *
جاءني شريد الذهن مكدّر البال مهيض الخاطر.. وفور جلوسه انبرى قائلاً: "والله يا عمّي يبدو أن جيلكم غير جيلنا.. للأسف، لم أستفد شيئاً من وصفتك. فقد راقبتها لدى خروجها من بيتها لأرصد ردّة فعلها على تشكيل (ورق الريحان)، فما كان منها إلا وبدأت بمحوها بواسطة قدميها، وذرتها بعصبية وهي تتمتم، وأعتقد أنها كانت تسبّ عليّ.." تشبّثت غصّة بحلقي وكأني خسرت الرهان بمقامرة كان الفوز فيها محققاً. وسرت في جسدي رعدة قوية. وقفتُ وبدأت أزرع أرض الغرفة جيئاً وذهابا أقضم أظافري، وتداعت إلى ذهني ذكريات خلت. وفجأةً ومضت في ذهني فكرة فقلت له: - خبّرني عن أحوالك المالية.. كيف هي؟ ردّ باقتضاب: عادية.. لمَ هذا السؤال؟! - أعني هل لديك مثلاً(3000) ليرة؟ ابتسم ابتسامة فاترة مريرة، وكأنه استحيا أن يعترف بأنه فقير وأجاب مرتبكاً: - لماذا يا عمّي؟! - إن لم يكن معك سوف أديّنك.. اذهب مباشرةً إلى الخطاط في الحيّ واطلب منه كتابة عبارة "بحبّـك إلى أبد الآبدين" على يافطة قماشية بطول عشرة أمتار وعرض ثلاثة أمتار. وعلّقها بين عمودَي الكهرباء قبالة بيتها. وكونك تسكن في حيّ (موالي) سيعتقد سكان الحيّ بأن المقصود من هذه العبارة هو رئيس البلاد. وبالتالي لن يقدم على أذيّتها أحد. وستبقى فترة طويلة تقرأها حبيبتك عالطالعة والنازلة.. وقد تتغير مشاعرها نحوك.. هيّا يا ابن أخي إلى الخطاط حالاً.. هيّا.. ولك شو ناطر! يالله طيران.. عالسريع..
* * *
وصل ملتاعاً يزجر دمعة تهمّ أن تسيل حتى أنه لم يلقِ التحية، وبصوتٍ يعتصره الندم والأسى قال: ((عمّي! إذا اعتقلوني ستكون أنت السبب..)) أطفأتُ سيجارتي وهببتُ واقفاً وقد تداعت إلى مخيلتي ظروف اعتقالي الرهيبة، وسألته بعبارات سريعة متلاحقة: ما دهاك يا ابن أخي؟ أقلقتني! قل ما بك، ماذا حصل؟ أغمض عينيه وأخذ نفساً عميقاً وأردف بلهجة أقلّ حدّةً بعد أن استردّ قليلاً من روحه: ((لقد مضى على تعليقي اليافطة القماشية التي كتبتُ عليها (بحبّك إلى أبد الآبدين) أمام بيتها عشرة أيام، ولم تعطِ مفعولها المرتجى، وما زالت حبيبتي بحالة زعل.. لقد نفد صبري يا عمّي، وكاد الغضب يجندلني، فما كان مني إلا وتسلّقت العمودين ومزّقتُ اليافطة ألف قطعة وقطعة.. فهرع بعض المارّة وقاموا بتوبيخي على فعلتي، ظنّاً منهم أنني بتصرّفي ذاك أمسُّ مقام الرئاسة يا عمّي.. الله يستر!)) ندمت على استعجالي إطفاء سيجارتي وسارعتُ بإشعال واحدة غيرها، وطفقتُ أدندن مغنياً مقطعاً لمحمد عبد الوهاب: "أفكّر بللّي ناسيني.. وبنسى اللّي فاكرني". فما كان منه إلاّ وزمجر غاضباً: أنا أكتوي بنار التجاهل من حبيبتي، وبخوفي من الأجهزة الأمنية.. وأنت تغنّي! أرجوك يا عمّي احترم مشاعري! نهضتُ لإحضار العود وقلت له: عليك بالغناء يا ابن أخي، وقد تصدم لدى سماعك رأيي؛ لقد قمتَ بكل ما يمليه عليك واجب الوفاء للحبيبة. الحب يا بنيّ كالقارب يحتاج إلى مجدافين لكي يتقدّم إلى الأمام. والتجديف بواحد فقط يجعل القارب يدور حول نفسه دون أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام. أقول كفى.. اهملها وابعد عن طريقها ولا تعرْها أيّ اهتمام.. اشطبها من ذاكرتك تماماً. طبّقْ ما قلته لك ولا ترني وجهك قبل أسبوعين. أمسكت بالعود لأتابع الغناء مع العزف، وأنا أخالسه بنظرات مراقبة لمعرفة وقع كلامي عليه، ألفيته وقد اصطبغ وجهه بصرامة لم أعهدها به من قبل، وكأنه وُهِبَ قوى سحرية. وأضفت بعد صمت قصير: هيّا اغرب عن وجهي يا ابن أخي.. هيّا..
* * *
دقّات غريبة منتظمة على باب شقّتي. دقّات أشبه بنقرات عازف إيقاع ماهر في أوج انتشائه وهو يتغزّل بمحبوبته مبتهجاً!! ترى، من يكون هذا الطارق؟ نهضتُ من سريري واتجهتُ نحو الباب، وقبل أن أمدّ يدي لفتحه، سمعتُ غناءً طروباً يؤدّيه صوتٌ مألوفٌ لديّ. كان يغنّي مقطعاً لمحمد عبد المطلب وهو يتابع الدقّ: "حبّيتك وبحبّك وححبّك على طول.." فتحتُ الباب وإذ بالعاشق الولهان ابن أخي. سارع بمعانقتي وهو يكمل الأغنية وبدأ يدور بي بالصالون لدرجة أوشكتُ على السقوط. - مهلاً.. مهلاً يا ابن أخي أكاد أقع، وصلت رسالتك هيّا إهدأ واجلس وأخبرني.. أُفلتُّ منه بصعوبة وجلستُ لاهثاً واستمر بالرقص والدوران لوحده ووجهه يشعّ بابتسامة لم أرَ مثلها في حياتي. لدرجة وصل طرفا فمه حتى أذنيه، ثم ألقى بجسده دفعةً واحدة على الأريكة كاد أن يكسر قاعدتها وصاح بصوتٍ يبرق فرحاً: لقد نجحتَ يا عمّي.. أشكرك.. أنا مدين لك بحياتي.. طبّقتُ حرفياً وصاياك وأهملت الحبيبة عشرة أيام متواصلة، كنت خلالها على وشك الإقدام على الانتحار من شدّة قهري. تصوّر يا عمّي! اتصلت بي ولم أردّ عليها.. طبعاً لم أنم تلك الليلة. في اليوم التالي أرسلتْ لي رسالة جاء فيها: "وينك، اشتقتلّك..". ولك أيضاً لم أردّ عليها.. وأيضاً السهد جعلني راغباً عن النوم. في اليوم الثالث، بعثت لي رسالة هدّدتني فيها بأنه إذا لم أردّ عليها سوف يحصل لها شيء سيجعلني أندم طوال العمر.. بصراحة يا عمّي خفت. رددتُ على رسالتها باقتضاب بارد: "خير، شو بدّك؟" سارعت بالردّ والقول: "بدّي شوفك اليوم بالحديقة الساعة خمسة، وممنوع تعتذر، في كلام هامّ لازم سمّعك ياه". باختصار التقينا. كان معها وردة حمراء قدّمتها لي وقد اعتلى وجنتاها الخجل وقالت: لقد نجحتَ بالاختبار أيها الشقي.. ابتعادي عنك في الفترة الماضية كان بمثابة التأكد من عواطفك تجاهي.. إن شابّاً صادقاً خلوقاً مثلك، لا يمكن أن أفرّط به أبداً. وبادرت بإمساك يدي.. فضممتها والله يا عمّي وقبّلتها على مرأى كل من كان في الحديقة.. ولك عيني الله عيني.. ياي.. أنا أسعد إنسان بالكون.. أنا أسعد إنسان بالكون.. ونهض من جديد وهو يدور راقصاً بأرجاء الصالون مردّداً: لا أحسد رؤساء وملوك العالم.. أنا أسعد منهم جميعاً.. أنا أسعد منهم جميعاً..
#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دقائق بلا حياء.. ولا خوف
-
القطط الضامرة
-
مشوار
-
روسيا تزداد تعملقاً
-
أوباما.. يا بالع الموس عالحدّين!
-
عالمكشوووف
-
S.M.S إلى الرفيق قدري جميل
-
خريف العمر
-
من تحت الدلف إلى تحت المزراب
-
البصلات المحروقة
-
غاز.. غاز!
-
حَدَثَ في -بوركينا فاسو-
-
اللاءات الخمس و(النعمات) العشر
-
الفاكهة المحرّمة
-
الطبيب الذي لا يخاف
-
قراءة في أعمال المجلس المركزي لهيئة التنسيق الوطنية
-
رخصة بيع فلافل
-
حكايات شخصية
-
الثعلب
-
حمامة وكوسا وأشياء أخرى...
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|