عمر حمَّش
الحوار المتمدن-العدد: 4358 - 2014 / 2 / 7 - 22:06
المحور:
الادب والفن
الأعرابيُّ الجميل!
عمر حمَّش
في صيف 1974 ... وقد كنا في مسلخ سجن غزة مُعلّقًين كذبائح بهوٍّ فيه يختالُ شيطان الصمت .. السقفُ قريب .. لا تلمسه يدان .. وبلاطُ الأرض تفصله عن أطراف القدمين بضع بوصات ..
ما جرى ... لم يزل يسكنني .. حين جاءت الأقدام .. وأنزلوا زويّد .. نزعوا كيس وجهه .. ليرى وجه أبي حديدٍ .. وما تسنى لحظاتها من الدنيّا ..
اسمك .. عمرك .. إقامتك ..
اشرح علاقتك بالمخابرات المصريّة!
سكت زويّد .. فصفعه أبو حديد .. سمعتُ الصفعة .. ثمَّ صوت زويّد .. خلته يشير ... وهو بالبدويّةِ الثابتة يقول:
- أنتْ تضربني!
سمعت قهقهة أبي حديد .. :
- أها .. أنا أضربك ..
لن أنسى ما حييت ما رأيتُه من قدرة ذاك الإنسان - وقد نوى - على الصمود أمام الطغاة .. ولا درس ذاك البدويٍّ الأميٍّ لنا .. في فن التحدي .. بدويٍّ عايش الصحراء .. لا يجيد الكتابة .. ولا الخطابة .. !
كلّنا سمعناه وهو يقول:
- اسمع .. أنتْ مِخبر .. وأناااا مِخبر .. لكن إن كنت رجلا مضيني على الورق!
اعترف زويّد .. لكنه كان اعتراف التحدي .. جنّ جنون أبي حديد ... صار ذئبا مصابًا بالسعار ... يعوي على ظهرِ جمل.!
كان زويّد طويلا .. عريضا .. له صدر حصان .. وذراعا آلة ..
استقبل الضربات .. وهو يردّد:
- إن كنت رجلا مَضيني على الورق!
خيم صمت طويلُ .. ثم انفجر البهوّ .. كان أبو حديد قد استقدمهم جميعا .. وكانوا أحد عشر ضابطا .. يرأسهم من أسمى نفسه أبو عادل .. صار البهو ساحة وغى .. جميعهم هاجموه .. وصدّهم جميعا .. كانوا يدكونه بالعصيّ .. وبالقبضات .. تدخل الحراسُ أيضا بأعقاب البنادق .. وكان هو يدكّهم بذات الكلمات .. صاروا في لحظةٍ صغارا .. وصرنا بقلوبِنا ندمعُ .. وبعيوننا من داخل الأكياسِ تهتف .. أنا خشيتُ أن يموت زويّد .. أو أن ينهار ... من بعد كلّ ذاك الصمود الفاتن!
انتهى التحقيق معنا جميعا .. انتقلنا إلى غرف العنابر .. مضت الأيام .. وصارت تأتينا إلى الغرفِ أفواجُ جديدة .. وكان سؤالي الأول دومًا:
هل يوجد هناك شخصٌ اسمه زويد؟
ودوما كانت الإجابة تأتيني:
ياااااااااه يا لذاك الرجل!
أعود أستفسرُ مستعجلًا .. ويعودون لوصف المعارك التي في بهوّ المسلخ لم تزل!
بعد ستة أشهر كاملات .. خرج زويّد من الزنازين .. على ساقيه مشى مع آخرين إلى ساحة السجن .. مشى ولمّا يأتينا .. صعد حافلة الصليب الأحمر .. غادر زنازين بلادنا إلى شمسِ بلادِه ... مصر .. من غير أن يوّقع على أيّ ورق!
أين أنت الآن يا رجل .. وما الذي فعلته الدنيّا بك ... زويّد ... أيُّذاك الأعرابيّ الجميل ...!
#عمر_حمَّش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟