|
الثورة المصرية .. حدود وآفاق - من أرشيف مواقف اليسار الثوري
اليسار الثوري في مصر
الحوار المتمدن-العدد: 4355 - 2014 / 2 / 4 - 14:00
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
اليسار الثوري في 15 مارس 2011
مقدمة تمثل الثورات لحظات استثنائية في تاريخ الشعوب، حيث تكون التناقضات الطبقية قد تراكمت وأخذت تشكل أزمة مركبة، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وتدريجيا تنتشر مظاهر التمرد ورفض الواقع بين شرائح المجتمع المختلفة، وتتجه سهام النقد من مختلف الإتجاهات إلي نظام الحكم، الشرائح المحجوبة أو المزاحه عن مراكز اتخاذ القرار من صفوف الطبقه الحاكمة، الطبقات الدنيا من العمال والفلاحين، فقراء المدن، فئات من البرجوازية الصغيرة والمتوسطة عانت فقدان الأمل في الصعود الاجتماعي بسبب سياسات نظام الحكم وحيث لا ينجح القمع في منع الأصوات الرافضة أو تذمر الفئات والطبقات نكون علي أعتاب ثورة، فالطبقة المسيطرة تشهد انقسامات وصراعات، والسلطة تسيطر دون أن يكون لها هيمنة فعلية على الجماهير، والقمع يؤجل الأزمة ولا يحلها، ومن ثم يزيد عوامل التوتر القائم بدلا من كبحه، وكلما هدئت نسبياً قوى رافضه صعدت قوى أخري ترفع أعلام الرفض والعصيان. في المرحلة الأولي من الثورة تتجمع روافد الغضب لتلتقي عند هدف الإطاحة بالسلطة السياسية القديمة، وما أن تتم الإطاحة بالسلطة حتى يبدأ استقطاب جديد لقوي الثورة، حيث تندفع الطبقات، والتيارات الممثلة لها، لتحقيق أهدافها الخاصة، وقبل أن تنتهي الحلقة الأولي التي كان هدفها الإطاحة بالسلطة، تبدأ فورا عمليه فرز واستقطاب جديد، بين الذين يريدون أن يحلوا محل السلطة، المطاح بها، والذين يريدون التخلص من النظام القديم ككل، تأخذ الثورة في التحول من الأهداف السياسية العامة إلي الأهداف الطبقية الخاصة، رأسماليه برموز جديد أو التحرر من الرأسمالية ككل. لا تتبع الجماهير في حركتها خطة موضوعة سلفا، ولكن تحركها غريزتها الطبقية و مصالحها المباشرة، فتبدأ في الاندفاع في تحقيقها، ومن ثم يبدأ التباين والتناقض في الأهداف والمصالح، عندئذ يصرخ الديمقراطيون البرجوازيون محذرين الجماهير من الفوضى، وداعين إلي الاستقرار، اتركونا نبني الديمقراطية بمعرفتنا وعودوا إلي عبوديتكم القديمة، متجاهلين أنهم شاركوا من وقت قليل في زعزعة هذا (الاستقرار)، وان الجماهير التي يتهمونها الآن بالفوضى كانوا يناشدونها منذ قليل أن تواصل الثورة بكل قوتها. الديمقراطيون البرجوازيون يريدون ثورة علي مقاس مصالحهم الخاصة، ثورة تزيح السلطة ولا تمس أسس النظام، والجماهير تريد ثورة تخلصها نهائيا من البؤس والاستغلال، هكذا يكون استمرار الثورة حتى الخلاص، هدفا للجماهير، ورعبا للبرجوازيين الديمقراطيين. هذا القانون هو قانون الثورة المصرية ومنطق حركتها الجارية. يقدم اليسار الثوري في هذا الكراس محاولة لفهم اللوحة المركبة لثورة يناير المصرية وقواها وتحولاتها، على أمل أن تساعد في إضاءة الطريق أمام قوى الثورة وأمام الشبيبة الثورية. لقد فتحت الثورة أمامنا أملا في تحقيق ديمقراطية اجتماعية ذات مضمون أشتراكى، ديمقراطية لا تخدم المستغلين ولا تعرف الاستغلال الطبقي، أن بناء القيادة الثورية بين الجماهير هو المهمة الرئيسية الآن، وهي الوسيلة الوحيدة التي تمكن الثورة من الانتصار، أصبح من المحتم القطع مع الوسطيين ورفع رايات ثورية مستقلة وعدم تذيل مطالب التيارات البرجوازية الليبرالية، إن تطور الثورة وتجزر أهدافها كما هو مرهون بوجود قيادة ثورية، مرهون أيضا بوجود رايات ثورية مستقلة، إن انتصار الثورة، أو هزيمتها، لا يتوقف على الأمنيات أو المخاوف المجردة، ويبقي المستقبل مرهونا كليا على العمل الدءوب بين الجماهير، لتنظيمها، وتسلحيها بالمفاهيم والأساليب المناسبة، وبدون ذلك سنكون، ليس فقط قد خنا قوى الثورة وشهدائها، بل أيضا سلمناها مجدداً إلي ذات النظام، وسلمنا رقابنا إلي الجلادين . اليسار الثوري
الثورة المصرية
البداية
مثل يوم 25 يناير علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث، في هذا اليوم خرجت المظاهرات في عدة محافظات بما فيها القاهرة والإسكندرية، استجابة لدعوة صدرت من بعض المواقع الالكترونية بالخروج في هذا اليوم لإظهار احتجاجهم على الممارسات القمعية العنيفة للشرطة تجاه المواطنين، أحد هذه المواقع التي شاركت في الدعوة أنشئ باسم خالد سعيد، الشاب الذي قتله اثنان من المخبرين السريين التابعين لأحد أقسام الشرطة في مدينة الإسكندرية. أضيف إلى الدعوة بعض المطالب الأخرى لجذب مزيد من المشاركين مثل - البطالة، تزوير نتائج الانتخابات - ولكي يمكن جذب مشاركة النقابات أو العمال اقترح في الدعوة أن تضيف الفئات المهنية، كل فئة، مطالبها الفئوية الخاصة إلى القضايا الرئيسية محل الدعوة، وتم اختيار هذا اليوم بشكل خاص لأنه يوافق عيد الشرطة المصرية، للتشهير بجهاز الشرطة الذي كان من المفترض أن يكون محتفلاً في هذا اليوم، وللإشارة إلى أن هذا الجهاز ليس الجهاز الذي أخذ موقفاً وطنياً يوم 25 يناير 1952، ولكنه جهاز القمع الوحشي الذي يستخدمه النظام الحاكم في ترهيب الجماهير وقمعها ضمانا لاستمرار سيطرته عليها، وفي خلفية ذلك كان هناك عدة حوادث لقتل مواطنين بواسطة الشرطة داخل أقسام البوليس خارج القانون، ومنهم الشاب، خالد سعيد، الذي أثار قتله بوحشية أثناء الإمساك به من الشارع غضب وتعاطف واسع وعدة مظاهرات احتجاجية محدودة في مدينة الإسكندرية. كانت هذه حدود الدعوة، وشارك فيها بعض نواب الأخوان المسلمين وغيرهم بمطلب خاص هو الاحتجاج على التزوير الفاضح لانتخابات مجلس الشعب كان نتيجته خروجهم من البرلمان بعد أن كان لهم قرابة 90 نائب فيه. كانت التوقعات حول حجم المشاركة في (احتجاجات) هذا اليوم مربكة للغاية، فمن جهة كانت الدعوة تشبه أحد الدعوات المتكررة على مدار السنوات السابقة من مجموعات شبابية وقوى سياسية للخروج الواسع في مظاهرات ضد النظام، أعلاها الدعوة لعصيان مدني وأقلها إبداء بعض التضامن مع الاحتجاج مثل وضع أعلام معينة على النوافذ أو إطفاء الإضاءة لمدة ساعة، ولم تلقى هذه الدعوات المتكررة أي تجاوب جماهيري معها، واقتصرت على أعداد من النخب السياسية الصغيرة، وأحياناً متناهية الصغر - أقل من بضعة عشرات - وكان من السهل على قوات الشرطة محاصرتها والتعامل معها، سواء بالعنف أو بالقبض على بعضهم أو مجرد حصارها حتى تنتهي الهتافات وينصرف المشاركون. إلا انه من جهة أخرى كان المناخ العام يختلف في هذه المرة، حيث كان هناك أمل بعثته الثورة التونسية التي أطاحت بالدكتاتور بن علي في الجماهير، وألهم هذا الأمل عدة شعوب في المنطقة، الأردن والجزائر انتفضتا ضد الحكومات الديكتاتورية، وضاعف هذا الانتفاض الأمل لدى باقي شعوب المنطقة، افتتحت الثورة التونسية عهد الثورات الشعبية ضد الأنظمة الحاكمة، حيث الديكتاتورية والإفقار الدائم، والتواطؤ مع الاستعمار الصهيوني، وتقييد الشعوب بقوانين جائرة وقمع مستمر. كانت مصر، رغم شدة عنف النظام، مرشحة أيضاً للانتفاض، كانت روح الانتفاضة التونسية سرت في الجماهير وتنتظر أن تتجسد في انتفاضتها الخاصة، ومن ثم كان ضمن التوقعات أن تأخذ مظاهرات 25 يناير مساراً خاصاً حيث كان المناخ العام معبأ بروح الانتفاض التي بعثتها الثورة التونسية ويشبه برميل البارود الذي ينتظر أي شرارة عابرة لينفجر. لم يكن أحد من الذين دعوا إلى الاحتجاج يتوقع أو حتى يحلم أن تتحول مظاهرات الغضب الاحتجاجي إلى انتفاضة شعبية، لم تتجاوز توقعاتهم خروج بضعة ألاف محدودة للتظاهر الأحتجاجى . وعلى عكس الذين دعوا إلى التظاهر، أو شاركوا فيه، كانت أجهزة السلطة المرعوبة مما حدث في تونس تضع في اعتبارها (احتمال) تحول الاحتجاجات إلى انتفاضة، إلا أن ذلك كان مجرد احتمال، لذلك استخدم الأمن في هذا اليوم إستراتيجية مركبة، محاولة الاحتواء أولاً والمرونة في التعامل، حتى يظل التظاهر في حدود الاحتجاج إلى أن ينتهي اليوم وينصرف المتظاهرون كما يحدث عادة، وفي الأخير الاستعداد لاستخدام القمع إذا بدأت الأحداث في التحول إلى انتفاض.
التركيب الاجتماعي لمتظاهري 25 يناير
أدت سياسات النظام الرأسمالي في مصر إلى تخلي الدولة عن ضمان عمل للخريجين، وتوافقاً مع سياسات السوق انتهى عقد العمل الدائم وأصبح العاملون يعملون بعقود عمل مؤقتة في مشاريع قصيرة المدى ومهددين بالبطالة. وصدر تشريع عمل يزيد أوضاع العاملين تهديدا ويطلق يد أصحاب العمل في التحكم في مصائر العاملين، على أمل أن تجذب تلك السياسات مستثمرين عرب وأوروبيين، بجانب ذلك أدت سياسات الخصخصة والمعاش المبكر إلى تضييق سوق العمل وزيادة هائلة في عدد العاطلين من حملة الشهادات المتوسطة والعليا وغيرهم. كل ذلك في بلد يرتع فيه الفساد وتقل فيه التنمية، مما أدى إلى خلق كتلة كبيرة من السكان حوالي 12 مليون شخص بلا عمل وبلا أمل سواء داخل شرائح البرجوازية الصغيرة أو المتوسطة بجانب تردي شديد في المستوى المعيشي لدى الطبقة العاملة وأغلب سكان الريف والأحياء الشعبية، فمنذ شهور قليلة سابقة على يناير الثورة كان الجمهور يتقاتل أمام المخابز في مشهد لا سابق له من أجل الحصول على الخبز. الفساد السياسي الذي مارسه الحزب الحاكم أدى، ليس فقط إلى إهدار مليارات الجنيهات وتربح كبار رجال الدولة من المال العام وفي مقدمتهم رأس النظام ورجال الحكم، لكنه أدى أيضاً إلى الأقدام دون خشية على تزوير فاضح لإرادة أمة بأكملها في انتخابات المجالس التمثيلية برمتها - المحليات، الشعب، الشورى - أمام أنظار الشعب في انتخابات تناقل العالم برمته مشاهد مصورة لعمليات التزوير فيها وذلك ضمانا لاستمرار نواب حكومة رجال الأعمال وتابعيهم وحرمان المعارضة، وبوجه خاص الأخوان المسلمين، من إزعاجهم داخل البرلمان. الضحية الأساسية لهذا التزوير هو التنظيم الأكبر من حيث العضوية، الإخوان المسلمين، الذي يضم في عضويته عشرات الآلاف من شرائح البرجوازية الصغيرة والمتوسطة المضارين من البطالة وسياسات النظام. العنف الذي اعتاد النظام استخدامه ضد المواطنين كان له أثر خاص في مشاركة كتلة كبيرة من الشباب المنظم داخل (روابط مشجعي كرة القدم )، لقد أعلن (التراس) الأهلي الذي تعرض بعض أعضائه لمحاكمة عسكرية بسبب تشجيع الكرة انضمامه ليوم الغضب 25 يناير ضد النظام، وحذا حذوه مشجعي الزمالك (هكذا الناديين الأكبر)، هؤلاء المشجعين منتظمين في روابط خاصة، وأغلبهم من الشرائح البرجوازية الصغيرة والدنيا وأبناء العمال في الأحياء الشعبية، واعتادوا المواجهات مع قوات الأمن، ويمتلئون كرها للشرطة وبطشها، وينتشرون في اغلب المحافظات، ويقدر عددهم بعشرات الآلاف، هؤلاء قرروا نبذ خلافاتهم مؤقتا والخروج معا للمشاركة في الاحتجاجات، تلك الشريحة من أبناء البرجوازية الصغيرة والأحياء الشعبية لم يكونوا مجرد مشجعي كرة قدم، كانوا أيضا شبابا يعانون نفس معاناة أبناء هذا الجيل اقتصاديا واجتماعيا وكانوا غاضبين بحق، وفرت مشاركتهم يوم 25 زيادة عددية ملحوظة لمظاهرات الغضب، وقوة دفاع مدربه علي مواجهات مع الأمن، وكان ذلك شديد الأهمية حين بدأ القمع. طلاب المعاهد والجامعات كانوا يعيشون تحت تهديد البطالة، ويعانون من تردي أحوال أسرهم، وفى أوقات قريبة حدثت عدة حوادث انتحار بين صفوف الشباب العاطلين عن العمل وتزايد معدل الجريمة بينهم. يوم الغضب الذي تضمن الاحتجاج على البطالة خاطب هؤلاء الذين يجلس الكثير منهم على شاشات الكمبيوتر بعقد عمل مؤقت، أو بدون فرصة عمل. تفسر تلك اللوحة اندفاع أعداد ضخمة من الشباب للمشاركة في مظاهرات 25 يناير، كان المشاركون بأعداد أكبر مما توقعه الداعون، وخارجون كلياً عن السيطرة، ولا يتبعون أي اتجاه فكري أو سياسي، كانت تحكهم غريزة اجتماعية وشعور عام بالمعاناة، كانوا غاضبين ومحتجين على تلك الأوضاع بكليتها، ويصرخون بملء عقيرتهم خلف أي شخص يقوم بالهتاف. لم تبدي النقابات أو المصانع تجاوباً مع الدعوة للخروج، كانت الإضرابات المطلبية والمعارك النقابية الخاصة عبر السنوات السابقة قد أنهكت العمال والمهنيين إلي حد كبير، إلا أن معاركهم ساهمت أيضا في تهيئة الأجواء وإجهاد السلطة في معارك عديدة متلاحقة، وباستثناء أعداد محدودة في نقابة المحامين ذوي اتجاهات سياسية أو نشطاء من قبل، لم تكن هناك نقابات أو كتل نقابية مشاركة، وظلت المرافق والشركات والمصانع خارج المشهد الاحتجاجي في هذا اليوم، كان هناك انفصال في الحركة والأهداف قائم بين النخب السياسية والمصانع والمرافق، إذ تتمركز أغلب النخب السياسية في عملها داخل قاعات محدودة في منتصف المدينة، وتتجمع باستنفار ذاتي لأعضاء ومناصرين محدودي العدد، وتتبني برنامج طبقي واجتماعي لا يدخل فيه مطالب وحاجات العمال أو النقابات ضمن أولوياتهم، لذلك كان الجمهور الطبقي المنظم بكتله ونقاباته، سلبيا تجاه الدعوة الاحتجاجية، كان لهم نضالا تهم النقابية والمطلبية الخاصة التي عبئت الأجواء الاجتماعية لسنوات، وحققوا فيها انتصارات لم تكن آخرها المحلة أو العاملين في الضرائب العقارية. إلا أنه سيكون تعسفا، وإغفالا للحقيقة، اعتبار يوم 25 مبادرة شباب خالصة , تعبير "ثورة الشباب" لا يخلو من هدف أيدلوجي وقصد طبقي، وهو تفريغ الانتفاضة من أي مضمون طبقي واعتبارها نوعا من الغضب لا أكثر من شباب الطبقة الوسطى منبت الصلة بأي سياق طبقي أو سياسي، إن إلقاء نظرة سريعة على الأيام السابقة مباشرة على يوم الغضب تبين دورا هاما للنضالات الطبقية العمالية في تمهيد الأرض ليوم 25، وبغض النظر عن إن مجموعة 6 ابريل نفسها ولدت على هامش نضالات عمال المحلة، فإن شهر يناير قد شهد حوالي 19 إضراب ووقفات احتجاجية لعمال في عدد من المحافظات، القاهرة، الجيزة، بورسعيد، السويس، والسويس على وجه الخصوص كان بها إضرابات عمالية يوم 13 يناير، ومظاهرة نظمها ائتلاف أحزاب المعارضة يوم 23 تضامنا مع الثورة التونسية، وطافت تلك المظاهرة بأنحاء المدينة، وبوجه خاص حي الأربعين الأكثر كثافة في سكانه والذي يمثل السويس الشعبية، وأخرى احتجاجا على سياسات النظام يوم 24 نظمها المحامون والائتلاف، كما أن المشكلة الرئيسية التي تعانيها مدينة السويس هي البطالة، فالمنطقة الصناعية بالسويس يفضل الملاك فيها الاستعانة بعمالة من خارج مدينة السويس ليسهل السيطرة عليهم، ومعلوم أن السويس، حي الأربعين، هي التي شهدت اعنف مواجهات مع الأمن، ونالت الجانب الأكبر من عنف البوليس في مواجهتها، وسقط منها ثلاثة شهداء في اليوم الأول، واستطاع الأهالي تحرير الأسرى من أقسام البوليس، كما أسروا فرقة مكونة من 120 فرد أمن مركزي في المواجهات. نظام الحكم المرعوب من شبح الثورة التونسية وعدواها، قام بحشد أعداد هائلة من قوات الأمن المركزي وأمن الدولة والمباحث العامة في هذا اليوم تحسباً لأن يفلت منه الزمام في حصار المتظاهرين، أعلنت حالة الاستنفار القصوى لتلك القوات، وسلحها بجميع أنواع السلاح المعد للقمع، من قنابل الغاز إلى عربات المياه شديدة الاندفاع، ومن الرصاص المطاطي إلى الرصاص الحي، أعد كل ذخيرته بما فيها قنابل غاز انتهت صلاحيتها منذ سنوات موجودة بالمخازن من عام 2005 على الأقل.
التوجه إلى ميدان التحرير
يمثل ميدان التحرير نقطة مركزية في منتصف مدينة القاهرة، وينتشر حوله أهم مؤسسات الدولة، فعلى أطرافه وعلى بعد أمتار مقر البرلمان ومجلس الشورى، ومقر رئاسة الوزراء والسفارة الأمريكية، ويحيط به على مسافات مقاربة العديد من المعاهد والجامعات وأبعد قليلاً المقر التقليدي لرئاسة الجمهورية، قصر عابدين، الموروث من العهد الملكي. في مستهل السبعينات توافد على الميدان آلافا من الطلاب احتجاجاً على تهاون السادات في اتخاذ قرار الحرب ضد إسرائيل، ومن وقتها مثل الميدان رمزا ومصباً للمتظاهرين، كانت قوات الأمن قد اعتادت على مظاهرات التحرير، فالمتظاهرون يتوافدون إلى نقطة محددة في الميدان يتركها الأمن مفتوحة أمامها، ثم يحيط الجنود بالمتظاهرين وتنطلق الهتافات داخل الدائرة المحدودة المحاصرة، مجموعات كل منها يمثل اتجاه تطلق هتافات مختلفة، إلى أن يشعروا بالإرهاق، فيبدءون في الخروج فرادي من الدائرة ويسمح لهم الأمن بذلك. كان هذا هو الحال حتى غزو العراق في 2003، حيث توافد جمهور كبير مدفوع بالغضب من الغزو، ونجحت فتاة متحمسة في التحرك خارج الدائرة وهتفت فالتف حولها عشرات متفرقون وتحركوا بدون حصار، فحذا حذوها الآخرين كاسرين دوائر الأمن التي تحاصرهم وانطلقت المظاهرات في الشوارع المحيطة بالميدان. إلا إن ذلك لم يتكرر من 2003، لا من حيث العدد، ولا كسر دوائر الحصار. كان يمكن لبضعة عشرات صغيرة التوافد والتظاهر داخل دائرة حصار، والانصراف عند الشعور بالإرهاق، وكان من السهل على قوات الأمن منع أي دخول أو تجمع لمتظاهرين، أو السماح بها فيدخلون طواعية في دائرة أمنية يهتفون داخلها بعيداً عن مشاركة، أو حتى استماع، أي جمهور لهتافهم. في 25 يناير لم يكن التوجه إلى ميدان التحرير في خطة، أو أذهان، المجموعات التي أطلقت الدعوة، النقطة المركزية للتظاهر في منتصف مدينة القاهرة كانت درجات سلم محكمة القضاء الأعلى التي أصبحت أحد منصات التظاهر لدى النخب السياسية، وهي نقطة ثابتة يتم محاصرتها ويقف في الأسفل بضع عشرات، أو مئات، ويخطب أو يهتف آخرون أعلى الدرج. هذه المرة وقف حوالي 300 متظاهر يهتفون داخل دائرة جنود، وبالأعلى عناصر معارضة من النواب السابقين وغيرهم، كان بينهم بعض نواب جماعة الإخوان، يحتجون على تزوير الانتخابات الذي أطاح بهم، كان الهتاف موجه إلى من داخل الدائرة، إلى أن حركت عناصر يسارية الهتاف في اتجاه الجمهور الذي احتشد للمشاهدة، توزع قوات الأمن في هذا اليوم على عدة ميادين ومحافظات مما جعل أعداد الجنود المحيطين بالمتظاهرين في كل نقطة تجمع بعينها محدوداً، شجع ذلك الموجودين داخل الدائرة (أسفل السلم) على الاندفاع لفك الدائرة الأمنية المحيطة بهم فتمكنوا من ذلك بسهولة، كان ذلك أول انطلاق لمظاهرة متحركة بالقرب من التحرير، اتجه المتظاهرون إلى التحرير حيث قابلهم 3 حواجز متفرقة من الجنود، كلها محدودة العدد فتمكنوا من اجتيازها بتدافع بسيط فك يد الجنود المتشابكة، هكذا بدأت أحداث ميدان التحرير في 25 يناير، وتتابع قدوم المتظاهرين إلى الميدان من ظهر 25 يناير بأعداد متزايدة وصلت إلى عدة آلاف، فقد كانت هناك مظاهرات تتوافد تلقائيا من أماكن متعددة نحو الميدان، دخول أول مظاهرة سهل مهمة التوافد على الميدان أمام الآخرين . في الساعات الأولى من اليوم كان الأمن شديد المرونة مع جموع المتظاهرين، حاولوا حصار المتظاهرين ومنع تحركهم فقط، وفي بعض الأحوال استخدموا عنف محدود ضدهم، الخطة الرئيسية كانت محاولة الاحتواء والحصار دون عنف حتى يمر اليوم بسلام، وحتى الساعة الرابعة عصراً لم يكن هناك عنف حقيق ضد المتظاهرين، ولم تكن لدى المتظاهرين نية اعتصام، في الجهة من الميدان المؤدية إلى السفارة الأمريكية ومجلس الشعب كانت الحراسة مشددة، وأعداد قوات الأمن كبيرة نسبياً، ولم يكن مسموحا الاقتراب منهما، ومن ثم شهدت تلك الجهة اشتباكات محدودة أثناء اليوم، تزايد الأعداد، وذعر النظام، أدى إلى إعطاء أوامر للجنود في جميع أماكن التظاهر ومن بينها التحرير باللجوء إلى العنف لفض الميدان وتشتيت المظاهرات وتفريقها، بدأ أطلاق القنابل وتتابع بسرعة استخدام العنف، كان الأمر مركزيا في جميع مواقع الاحتجاج في مختلف المحافظات، وفي رد فعل غاضب داخل الميدان، أمام كثافة وشدة العنف، أطلق أحد المتظاهرين شعار (الشعب يريد إسقاط النظام ) مستخدماً الشعار التونسي مع تعديل مصري، فقد استبدل - إسقاط الحكومة - الذي كان شعار التوانسه، بإسقاط النظام، هكذا عثر المتظاهرين على شعارهم الرئيسي، وهكذا ولد هدف أعلى لقوى الغضب، إسقاط النظام، الذي لم يكن وارداً على جدول أعمال (يوم الغضب) ومع تصاعد العنف زاد الغضب وتجسد برمته في شعار، تحول إلى هدف .. إسقاط النظام. لم تكن هذه أول مرة يرفع متظاهرون شعار إسقاط نظام حكم مبارك، لقد كان جزء من الفلكلور السياسي للمظاهرات شعار - يسقط حسني مبارك - ورجال حاشيته، ولم يكن يعني شيء بالنسبة للجماهير، ولم يمثل عنصر جذب لها في أي مرة، حضور شعار الإسقاط هذه المرة كان بمثابة ولادة هدف وليس تكرارا لشعار، السياق الزمني كان يدخل في مجرى افتتحته تونس واشتركت فيه الأردن والجزائر، استهلال عهد ثوري في عموم المنطقة كانت مصر مرشحة بقوة للدخول فيه، وما أن خطت عتبته حتى أخرجت مخزون الغضب والخوف، رفضت استمرار المهانة والفقر في آيات شجاعة نادرة لا تظهر حتى في الحروب النظامية، ولا نراها إلا في الثورات. الشعب يريد أن يسقط النظام، لم يكن شعار مظاهرة، فقد تحول إلى هدف حركة قررت أن لا تحيد عنه، ولم يكن هناك أكثر من القتل يمكن أن يلجأ إليه النظام، لم يفلح القمع في ردع الحركة بل زادها اشتعالاً وتصميماً. دفع التحرير حصته من الدم فتدفقت إليه الجماهير بعشرات الآلاف، مشاركة ومتضامنة، فتحول إلى مركز ورمز عام، سقوط شهيد كان يعوض عنه بآلاف جديدة تتوافد إلى ساحات المواجهة . في الأطراف كانت مدينة السويس تخوض معركة باسلة ضد قوات الأمن، هذه المدينة التي كان لها نصيب ضخم من المقاومة الشعبية ضد الاستعمار كانت أيضا تشهد إضرابات عمالية تزيد أجوائها غضبا واشتعالا، في السويس والإسكندرية كانت المعارك لا تقل ضراوة عن مدينة القاهرة، والأمن لا يقل توحشا، والشهداء يتساقطون. في اليوم الأول من الأحداث كانت مجموعات النخب السياسية تلعب دوراً ملحوظاً في قيادة مظاهرات الاحتجاج، وما أن انتصف النهار وبدأ القمع، تضاءل بشدة دور النخب في التوجيه، وحين تدافعت أعداد كبيرة من الجماهير إلى الانضمام ومواجهة الأمن، تلاشى تماماً أثر النخب السياسية وأصبحت أشبه بأسماك صغيرة في محيط الجماهير الواسع. استمرت الساعات المتبقية من يوم 25 في كر وفر بين قوات الأمن والجماهير، فحين تنطلق قنابل الغاز بكثافة ينسحب المتظاهرون إلى الشوارع الجانبية المحيطة بالميدان، وما أن يتوقف الضرب أو تقل حدته يعودون إلى الميدان، أقسام من المحتجين تحركوا في مظاهرات طافت بأحياء شعبية مجاورة ضاعفت عددها واستمرت حتى الساعات الأولى من فجر 26 يناير، كان ثبات المتظاهرون في هذا اليوم، والانتشار في الشوارع الجانبية والأحياء القريبة توسيع ذكى لساحة المعركة أمام الأمن الذي تمركزت اغلب قواته في تلك المنطقة حول أطراف الميدان، حاسماً في تحول المظاهرات إلى انتفاض مفتوح صمم على الإطاحة بسلطة مبارك، كانت روح التصميم في مواجهة القمع تعم جميع المحافظات التي انتفضت في هذا اليوم، ومن ثم كان الطابع العام للتحول إلى انتفاضة يحيط بالنظام ويهدد وجوده في اغلب المدن والمحافظات.
28 يناير - القمع أيقظ الشعب
لم تكن مظاهرات 25 يناير - رغم اتساع خريطتها - اكتسبت عمقاً شعبياً بعد، عدد الذين خرجوا للتظاهر الاحتجاجي في القاهرة وعدد من المحافظات يقدر عددهم بين 200000 و 500000 متظاهر، القمع والتصميم دفعا بأعداد أكبر يوم 26 يناير إلى الشوارع في بعض المحافظات، صعدت قوات الأمن قمعها، كان السلاح المستخدم في يوم 25 اغلبه القنابل الغازية الفاسدة، والرصاص المطاطي والقنابل الصوتية وعربات المياه . يوم 26 أعطيت الأوامر مركزيا للقوات في جميع نقاط المواجهة باستخدام الرصاص المطاطي مباشرة بجانب الأسلحة التقليدية، وأضيف إلى ذلك الرصاص الحي بجانب استخدام أدوات قتل غير تقليدية في يوم 28، تم دهس المتظاهرين بالعربات والمدرعات الخفيفة التي تستخدمها الشرطة، واستخدم في ذلك أنواع عديدة من العربات لتمويه هجومها على المتظاهرين، من عربات الإسعاف إلى عربات هيئات دبلوماسية، فتوالى سقوط قتلى وجرحى بأعداد كبيرة، كان النصيب الأكبر فيها في مدن السويس والقاهرة والإسكندرية، كان يوم 28 يوم عنف دموي من جانب الشرطة، قتل بدم بارد ووحشية مقززة، لم تتمكن القوات بهذا الأسلوب الوحشي من ردع وتفتيت الحركة في أي محافظة، نامت المدن في حداد على قتلاها، ولدت تلك الوحشية أثراً لم يتوقعه النظام في هذا اليوم، الشعب بفئاته وطبقاته الشعبية الفقيرة بيت النية على الانتقام من أجهزة القمع، ورداً على الوحشية وإراقة دماء المتظاهرين العزل بلا رحمة، خرجت أعداد تصل إلى ما يقارب 9 مليون يوم 28 في القاهرة ومختلف المحافظات،الغالبية العظمى من هؤلاء خرج من الأحياء الشعبية الفقيرة التي كانت عرضة دائمة لتعسف وعنف رجال البوليس، الجزء الأكبر من هؤلاء لم يكن هدفه إسقاط، بل تأديب النظام والثأر من أجهزة القمع، استهدف الجمهور الغاضب مراكز البوليس ومقرات أمن الدولة ومقرات الحزب الحاكم. خرج هذا الجيش محدداً هدفه في كسر قوات الأمن والثأر منها، هاجم الأقسام والمقرات باندفاع وقوة لا يمكن ردعها، استخدم الجمهور الحجارة وزجاجات المولوتوف، لم تتمكن القوات رغم استخدام الرصاص الحي من صد هجوم الشعب فتوالى سقوط أقسام البوليس وحرق مقراتها وهروب رجال الشرطة أمام المتظاهرين، مجرد ارتداء زى الشرطة كان يجعل صاحبه هدفاً لانتقام المتظاهرين، لذلك اضطر العديد من الضباط والجنود إلى خلع الزى الرسمي حتى يتمكن من الإفلات من الجماهير الغاضبة. المقر الوحيد الذي نجا من الغضب الشعبي هو مقر وزارة الداخلية نفسها، وهو مبنى أشبه بقلعة عسكرية مسلحة، اعتلا القناصة ظهر المبنى وأطلقوا الذخيرة الحية في وجه المتظاهرين بكثافة شديدة مما أدى إلى سقوط قتلى، لم يكن سهلاً اقتحام قلعة صممت بشكل خاص، أسوار عالية الارتفاع، أبواب ضخمة من الحديد المصفح، أبراج وأسوار وكاميرات مراقبة، قوات خاصة مسلحة ومدربة لحمايتها. محصلة هذا اليوم الجارف كان تحطيم قوات الشرطة تماماً، وإضعاف الأمن المركزي إلى أقصى درجة بحيث لم يكن قادرا على المواجهة، حرق العديد من المركبات والعربات التي استخدمت في قمع المتظاهرين، عجزت أجهزة الأمن عن قمع المتظاهرين وتشتيتهم يومي 26 و 27، وانهزمت هزيمة ساحقة أمام زحف الغضب الشعبي يوم 28، سقط من صفوف الجمهور الزاحف مئات الشهداء في تلك المعارك ولم يتراجع احد، لجأت السلطة أمام هذا الطوفان الشعبي إلى دعوة الجيش فوراً إلى النزول لحمايتها بجانب قوات الشرطة التي تم هزيمتها، كان ميدان التحرير قد أصبح تحت السيطرة التامة للمتظاهرين، وفي كل الأحياء الشعبية كان هناك جمهورا يستكمل ثأره من أجهزة القمع، سواء بتدمير مقرات الشرطة، أو المواجهات الشجاعة مع قوات الأمن المركزي التي لازالت فلولها تحاول التصدي للمتظاهرين. تحريك الآليات العسكرية للجيش لم يكن سريعاً بما يكفي، فتلك الآليات ثقيلة الحركة واستلزمت بعض الوقت لتحريكها، نزلت الدبابات والمدرعات إلى ميدان التحرير، احتلت المداخل دون تعرض للمعتصمين داخله، وبدأت في الانتشار البطيء في مختلف المحافظات دون احتكاكات. بنزول الجيش، وبعد تحطيم قوات النظام ومقراتها في أغلب المدن، وحرق المقر الرئيسي للحزب الحاكم في مدينة القاهرة، وعدد آخر من مقراته التي كانت في طريق الجمهور الغاضب في مختلف المحافظات. حققت الجماهير الشعبية هدفها المباشر، كان يوم 28 هو اليوم الذي يستحق أن يطلق عليه بحق (يوم الغضب)، لم يكن لتلك الجماهير الواسعة أهداف سياسية أو مطلبيه في تلك اللحظة، لم ينشغلوا بإسقاط النظام أو تعديل الدستور، كان هدفهم واضحاً (الثأر) من أجهزة القمع والشرطة التي طالما امتهنت كرامتهم، وكان دافعهم أكثر وضوحاً (الغضب) وكان ذلك عملاً شعبياً يصل إلى درجة (الانتفاض) بامتياز. أنجزوه وعادوا إلى بيوتهم، تخلصوا من سطوة جهاز القمع، نفذوا ثأرهم وثأر الشهداء من قاتليهم، واعتبروا ذلك يكفي، رجعوا إلى أجهزة التلفاز يتابعون ما يحدث، مكتفين بإظهار قدر من التعاطف مع المرابطين في الميادين، يراقبون الأفعال وينتظرون مشاهدة النتائج، ذلك الفعل الشعبي العام - الغاضب - هو ما مكن المعتصمين من الرجوع الآمن إلى مواقع الاعتصام في القاهرة وغيرها من المحافظات، وسمح للانتفاضة أن تطور عملها بقدر من الأمان، لقد حمى الشعب الانتفاضة، وكسر أهم عائق أمامها، أدى ذلك الظرف إلى أن يجلس المعتصمون في الميادين، في أمان ودون خوف، يتزايدون ويفكرون في أهدافهم التي لم تكن واضحة لهم بقدر كافي حتى هذه اللحظة، بدأت مطالب الانتفاضة في التبلور، كان الأمر يتقرر بين جمهورا اغلبه كان يشارك في مظاهرات للمرة الأولى في حياته.
الترويع، التجويع، تواطؤ الجيش
رجال الحزب الحاكم، الذي أصبح مصباً لغضب الجماهير، بقيادة الديكتاتور مبارك، ومعاونة أجهزة الأمن، والتنسيق مع رجال الجيش، كان لديهم إستراتيجية مضادة لحصار الانتفاضة والقضاء عليها، اعتمدت هذه الإستراتيجية على ثلاثة عناصر، كان أولها نشر عمليات ترويع وإثارة الفزع في جميع المحافظات والأحياء في وقت واحد. اختفت قوات الشرطة تماماً يوم 29 يناير، وكأنها تبخرت دفعة واحدة، فبعد نزول الجيش، تخفى رجال الشرطة في زى مدني بأسلحة نارية خفيفة، وتم تحريك أعداد كبيرة من المجرمين والبلطجية في جميع الأماكن لتنفيذ هذا الجزء من الإستراتيجية، وبواسطة شبكة مدربة على إطلاق الشائعات منتشرة في ربوع الجمهورية وفي جميع الأحياء الشعبية في المدن، أطلقت إشاعة منظمة أن عصابات مسلحة تهاجم السكان وتقتلهم وتسرق ممتلكاتهم، كانت الإشاعة قوية ومصحوبة بوقائع مختلفة عن حوادث ارتكبتها تلك العصابات في بعض الأماكن، قام الإعلام الرسمي فوراً بنشر تلك الإشاعة وإطلاق تحذيرات للسكان، وخلال ساعتين على أقصى تقدير من مساء 29 يناير كانت الأحياء والمدن تعيش رعب شديد من تلك العصابات المسلحة التي ستهاجمهم. انطلقت مجموعات اللصوص والبلطجية وأفراد الأمن المتخفين في عربات ودراجات بخارية تطلق الرصاص على أفراد دون تمييز وتكسر أبواب المحلات دون أن تهتم بسرقتها، كان الهدف نشر حالة ذعر عام وإغراق الشعب فيها، كان الهدف أن ينصرف الجمهور إلى حماية الأحياء والمحلات من تلك العصابات المجهولة، وأن يشعر الشعب برمته بعدم وجود أي أمان في غياب الشرطة، فلا تعود مطالب المتظاهرين محل اهتمام ويصبح عودة مجرد الأمان هو هدف الشعب، كذلك أن تنصرف أعداد كبيرة من المعتصمين إلى منازلهم لحماية أهلهم من العصابات تاركين أماكن الاعتصام ، وأن تشعر الجماهير أن استمرار الانتفاضة يعرض حياتهم للخطر، فرض النظام حرب دفاعية على الشعب ضد عدو غير مرئي قد يهاجم أي شخص في أي لحظة، شكلت الأحياء مجموعات دفاع ذاتي مسلحة بالعصي والسكاكين تسهر طوال الليل على نواصي شوارعها مسكونة بالخوف، فالعصابات تحمل أسلحة نارية لا يصمد أمامها الشوم والسكاكين، وتتحرك بعربات على نحو مفاجئ وبسرعة، وكأن جيشاً من الأشباح يعبث بعنف في المدن والأحياء. تشكك المواطنون في أي شخص لا يعرفونه حتى لو كان من سكان الشارع المجاور لهم، وفي أي سيارة أو دراجة بخارية تأتي من بعيد. ولتعميق الشعور بالرعب قامت الشبكة المجهزة لإطلاق الشائعات بتغذية الإشاعة الرئيسية بإشاعات إضافية تضخم وتضاعف الشعور بالرعب، مثل أن تلك العصابات استولت على سيارات شرطة تستخدمها في الهجوم، وبعد ذلك أنهم يستخدمون عربات إسعاف، وحتى أنهم يستخدمون بعض عربات القوات المسلحة بعد أن قتلوا أفرادها، ثم إشاعة التطعيم الملوث والماء المسمم. وتعميقاً لتلك الخطة القذرة قامت تلك العصابات، بالتواطؤ مع ضباط من حرس السجون بفتح أبواب وعنابر السجون والزنارين وإطلاق سراح المجرمين والقتلة لإشاعة المزيد من الخوف والرعب والفوضى في صفوف الجماهير، هددوا المساجين بالقتل إن لم يفروا من سجونهم، قتلوا من تباطأ من المساجين في الفرار فعلا، على أمل أن يختفي منظمو تلك المؤامرة خلف قناع المساجين الهاربين وأن ينسب إلي المساجين الفارين القيام بتلك الجرائم مع تعميق الشعور بالرعب. تزامنت تلك الخطة مع إغلاق البنوك والشركات، والإغلاق المبكر للمحلات، وندرة في السلع أدى إلى ارتفاع أسعارها، وشعر المواطنون بأزمة اقتصادية وأن شبح مجاعة على الأبواب، وبطبيعة الحال حملت الانتفاضة أسباب هذه الأزمة وانتظر الجماهير بصبر نافذ أن تنتهي الانتفاضة حتى تنفك تلك الأوضاع الخانقة. الجماهير التي خرجت يوم 28 لمساندة المتظاهرين، وصنعت انتفاضة حقيقة، كسرت قوة جهاز القمع الذي كان يواجه المتظاهرين، أصبحت تشعر بالتململ والضيق من استمرار الاعتصامات والمظاهرات وتتمنى انتهائها، لكن ذلك لم يدفعها إلى معاداة المعتصمين، كان هناك تعاطف ممزوج برغبة في انتهاء تلك الأجواء برمتها فوراً.
الجيش درع الدفاع الوطني..والتواطؤ السياسي
تتمتع القوات المسلحة المصرية بتقدير خاص بين المصريين، فنادراً ما يتورط الجيش في الصدام مع المواطنين، وعلى مدار التاريخ المصري الحديث لم يحدث ذلك سوى مرة واحدة حين استعان أنور السادات بالجيش لقمع انتفاضة يناير 1977، عدا ذلك يتمتع الجيش بذكريات ايجابية في التاريخ المصري، الضابط أحمد عرابي واجه خديو مصر مطلقاً عبارته الشهيرة (لقد خلقنا الله أحراراً، ولن نورث بعد اليوم) ودخل التاريخ كبطل عسكري. والجيش هو الذي خاض حرب 1973 لتحرير سيناء المصرية من الاحتلال الإسرائيلي، كما أن نظام ناصر الذي يتمتع بحب قطاع كبير من الجماهير جاء بانقلاب عسكري نفذه ضباط مصريون ذوي ميول وطنية - بينهم إخوان وشيوعيين - ونفذ عدد من الإصلاحات الاقتصادية والضمانات الاجتماعية والمرافق الخدمية، وأخذ موقفاً معادياً للامبريالية والصهيونية، وقدم دعماً لحركات التحرير في إفريقيا والمنطقة العربية. هذه هي صورة الجيش المصري في ذاكرة الجماهير، البطل، الحامي، درع الوطن. من جهة أخرى يتمتع الجيش بنظام هرمي صارم، الخدمة العسكرية إجبارية وليست تطوعية، القاعدة الأكبر للجيش هي من أبناء العمال والفلاحين وشرائح البرجوازية الصغيرة، طاعة الأمر هي القانون، لا يعرف الجيش روابط جنود أو ضباط أو انتخاب قيادات، يعاني الجنود من قسوة النظام وضعف الرواتب وانعدام الامتيازات، تتدرج الامتيازات صعوداً كلما علت الرتب والنياشين. رواتب الضباط الصغار محدودة، والكادر العسكري الوسيط والعالي يتمتع بامتيازات ضخمة كنوع من الرشوة لضمان ولائهم للنظام، رتبة اللواء تتقاضى رواتب باهظة وتتوفر لها وظائف مدنية بعد الخدمة برواتب عالية لضمان تسيير الأمور وتوسع هيمنة العسكريين، حاليين، وسابقين. منذ انقلاب يوليو 1952 يتولى رئاسة الدولة عسكريون كان آخرهم الديكتاتور المخلوع، ولرئيس الجمهورية سلطة القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولكونه كان منحدراً من انقلاب عسكري فقد كان حريصاً على شراء ولاء الجنرالات من خلال رشوتهم بامتيازات عديدة، ويرفض الجيش تجنيد أفراد عرف عنهم اى نشاط معارض، وتتولى أجهزة أمنية ومخابراتية عديدة التجسس على الضباط والجنود خشية تشكل خلايا معارضة داخل الجيش. ومنذ مشاركة النظام المصري في الحرب المسماة (تحرير الكويت) والجيش المصري مفتوح على الإدارة الأمريكية حيث قاما معاً بعدة مناورات عسكرية تدريبية، وقدمت الإدارة الأمريكية تدريبات لجنرالات وقادة أجهزة أمن وأجهزة أمن دولة وغيرهم، ويأخذ الجيش جزء كبير من المعونة الأمريكية على شكل رواتب وامتيازات، وحصل الكثير من كبار الضباط على أراضي دولة بأسعار رمزية فضلا عن المساحات الشاسعة من الأرض التي يضع الجيش يده عليه، كما أن الجيش يملك إنشاءات مدنية وشركات هندسية ومشاريع تجارية ضخمة يذهب أغلب عوائدها لكبار الضباط ويعمل فيها الجنود برواتب عسكرية بخسة، ودون إعلان تلعب أجهزة المخابرات العسكرية دوراً هاماً في إدارة الدولة وتحديد الضوابط ولها هيمنة غير ظاهرة في أمور الدولة الإستراتيجية، وتهتم اهتماماً خاصاً بأن لا تخرج مقاليد السلطة من يد العسكريين، وفى هذا السياق كان توريث الحكم، لابن الديكتاتور الذي كان يجهز له على قدم وساق، يمثل مشكلة معقدة أمام العسكريين تسبب لهم ارتباكا وقلقا ويرتبون لمحاولة إحباطها. الجيش المصري هو حزمة التناقضات هذه، لكنه من جهة أخرى أكثر مؤسسات الدولة تماسكاً بسبب مركزيته الصارمة وضخامة عدد قواته وتسليحه، وامتيازاته الضخمة وبعده عن الإنهاك الذي يسببه العمل السياسي، لذلك هو الجهاز المرشح بامتياز للتدخل عندما تنهك أطراف الصراع الاجتماعي وتصل إلى درجة حرجة، حيث يعجز النظام عن السيطرة، وتعجز الجماهير عن الإطاحة به وتنصيب سلطتها البديلة. أزمة الجيش هي تركيبه المتناقض، ووجود احتمال قوى لتفككه وتمرد وحداته إذا اصطدم بالجماهير، خاصة لو كانت انتفاضة الجماهير تبدو قوية ومصممة على تحقيق أهدافها، فهذا الوضع سيؤدي إلى تمرد وحدات وانضمامها إلى الجماهير الثائرة، مادام احتمال انتصارها قائماً، ذلك ماحدث في أغلب الثورات الحديثة، هذا الاحتمال هو الذي أدى إلى ارتباك قادة الجيش ومنعهم من القمع السافر للجماهير، خاصة مع الأتساع الهائل للجماهير الغاضبة الذي حدث يوم 28 وأدى إلى كسر أجهزة القمع الداخلي، لذلك سعى القادة العسكريين إلى طمأنة المنتفضين أنه لا يفكر في توجيه سلاحه إليهم، وإنه يعترف بمشروعية ثورتهم وأهدافها، وأن دوره ينحصر فقط في حماية المنشآت، وأثناء ذلك ترك للنظام - الذي اعترف بمشروعية الثورة ضده - فرصة واسعة للمناورة. لم يكن الجيش (محايداً) بين النظام والشعب كما حاول أن يقدم نفسه، أمن الجيش حماية مواقع هامة للنظام حتى لا يقترب منها المنتفضين، مثل مبنى الإذاعة والتلفزيون، مقرات الرئاسة بجانب قوات الحرس الجمهوري (سلاح خاص يخضع مباشرة لرئيس الجمهورية)، والميادين العامة والمرافق الحيوية، بجانب مركبات جوالة، اختبر الجيش استعداد الجمهور للأصطدام معه يوم 28 قبل انسحاب البوليس، أمن دخول أسلحة لقوات البوليس التي كانت قد نفذت ذخيرتها في ميدان التحرير، مستخدما عربات خاصة للتمويه، وما أن اكتشف المتظاهرون ذلك حتى تم إحراق مصفحتين عسكريتين والسيطرة على 3 دبابات في أقل من نصف ساعة، كان خيار القمع بمثابة مجازفة هائلة من جانب الجنرالات لم يكونوا مستعدين لتحمل نتيجتها، ومن ثم توقفوا عن إمداد البوليس بالذخيرة واعتذروا للمتظاهرين وبدأت بيانات الجيش فورا لطمأنة المتظاهرين والجماهير الثائرة بأن الجيش لن يوجه سلاحه ضد الشعب ولن يتعرض للمتظاهرين، ومحل المواجهة الصعبة مع الجماهير بدأت خطوات أخرى للتآمر على الانتفاضة. قام الجيش بتنفيذ خطة جرى التدريب عليها من قبل للتعامل مع حالات التذمر الجماهيري تسمى بخطة (الإرادة)، أولاً القيام بإحكام السيطرة الإستراتيجية، ثم حصار وعزل المتمردين وبعد ذلك قطع الإمدادات عنهم، طعام ودواء وخلافه. في الدائرة الخاصة بأماكن المتظاهرين تم قطع الاتصال عنهم، بتعاون غير معلن بين أجهزة الأمن والمجرمين والبلطجية وفرقة المدرعات التي نزلت القاهرة والشرطة العسكرية تم قطع إمدادات الطعام والدواء عنهم واعتقال من يحاول تقديم أي مساعدات إنسانية للمعتصمين. طارد البلطجية أي شخص يحمل كميات طعام أو دواء وسلموه لفرقة المدرعات والشرطة العسكرية، تكفل انتشار البلطجية على مداخل الطرقات بإكمال دائرة الحصار والعزل حول المعتصمين، لم تحرك القوات المسلحة ساكناً أمام إطلاق رصاص على المعتصمين العزل في ميدان التحرير، رغم إعلانها ضمان حماية حقهم في التعبير، ورغم أنها تتولى فعلياً زمام السلطة وتأمين المرافق والطرقات. فتحت القوات العسكرية الطريق أمام جحافل البلطجية فيما عرف بمعركة الجمال في وضح النهار، رغم انتشار قواته وتوليه تأمين الطرق وتأمين الميدان، زحف البلطجية من أحياء عديدة يبتعد بعضها عدة كيلو مترات عن ميدان التحرير بأسلحتهم وخيولهم دون أن تعترضهم كمائن الجيش المنتشرة على امتداد الطريق، لم يقدم الجيش أفراد الأمن الذين أو البلطجية الذين مارسوا العنف والبلطجة وضرب المعتصمين بالرصاص إلى المحاكمة، على العكس كان يقوم بإطلاق سراحهم بعد أن يمسك بهم المتظاهرون ويسلموهم لأفراد الجيش. وتبين أن المتحف المصري الشهير في ميدان التحرير استخدم في اعتقال وتعذيب مواطنين من المتظاهرين كان يتم القبض عليهم في خفية عن المعتصمين، تواطؤ قطاعات من القوات المسلحة كان سياسياً وأمنياً ضد الانتفاضة، نمو وتوسع الانتفاضة هو ما مكنها من الاستمرار ومنع قوات الجيش من أخذ قرار قمعها، قيام عدد من الضباط بخلع بزتهم العسكرية والانضمام للمعتصمين في ميدان التحرير كان مؤشراً على حالة الضباط، وبالأحرى الجنود، هؤلاء لم يكونوا مستعدين لإطلاق الرصاص على أشقائهم وأبنائهم، تيقن الجنرالات من صعوبة إقناع الأفراد والضباط بالضرب وبقائهم تحت السيطرة اضطرهم إلى استخدام المناورات والتخطيط المضاد، مع الحفاظ على مظهر الحياد أمام الأمة، السواد الأعظم من قوات الجيش كانت تحركه مشاعر مختلفة عن الجنرالات تجاه الجمهور، وكذلك الضباط أصحاب الرتب الصغيرة الذين يقودون أغلب القوات الميدانية، حتى الجنرالات الكبار لم يكونوا موحدين على موقف معين، فعلى أقل تقدير لم يرغب عدد منهم في أن يتورط الجيش في شن حرب على الملايين من أبناء الشعب، ومن ثم كان أمل الجنرالات الموالية للنظام أن تتمكن المؤامرات والعزل وجيوش البلطجية في اجهاض الانتفاضة دون تورط واضح من قوات الجيش، لذلك فتح أمامهم الطريق للهجوم على المعتصمين ولم يحرك ساكناً أمام وضع اقترب من حد المذبحة على مرأى ومسمع من فرقة المدرعات وجنرالات القوات المسلحة. كانت الانتفاضة تحقق مصلحة جزئية لجنرالات الجيش الذي كانوا قلقون من احتمال تقلص هيمنتهم السابقة ومشاركتهم في الحكم، فالسلطة منذ انقلاب 52 لم تخرج من يد العسكريين، وتجهيز ابن الرئيس لاستلام السلطة كان يعنى - بالنسبة لهم - تولى شخص من خارج الجيش زمام الحكم مما يؤدى إلي تقلص نفوذ العسكريين وامتيازاتهم الضخمة، نجاح الانتفاضة كان حلا لمخاوفهم وتدميرا لخطة توريث الحكم التي كانوا مرتبكين في مواجهتها فبل اندلاع الأحداث، ومن ثم كان للجنرالات مصلحة في أن تحقق الانتفاضة نجاحا في حدود معينة، ولكن في حدود معينة فحسب، لذلك بعد أن أعلن مبارك عدم وجود نية لديه في الترشح والسقوط التام لأمل وريثه المرتقب، بدأ جنرالات الجيش في التخطيط للتخلص من الانتفاضة نفسها.
المؤامرة والمناورة
بعد تحطيم قوات الأمن بواسطة الانتفاضة في 28 يناير خرج الديكتاتور من عزلته وصمته ليتحدث إلى الجماهير من غرفة مغلقة عبر قنوات التليفزيون الرسمية التي بثت الخطاب، كانت الأسرة الحاكمة تعيش في رعب، ترددت أنباء عن هروب الزوجة والأبناء إلى انجلترا، وتولى الحرس الجمهوري تأمين وجود الرئيس، والجيش السيطرة الميدانية. كانت مناورة الرئيس تكمن في الاعتراف بوجود أخطاء وبمشروعية المطالبة بإحداث إصلاحات والتخلص من الوزارة القائمة ككبش فداء لامتصاص الغضب، أقر مبارك في خطابه بإعادة النظر في بعض مواد الدستور التي كانت محل رفض المعارضة والمتعلقة بشروط الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية، وإنه طلب من الحكومة تقديم استقالتها، وتجاهل كلياً الطلب الأساسي وهو تنحيه شخصياً عن الحكم هو وباقي رجال نظامه. هذه المناورة كانت ذات أثر محدود على الجماهير العادية، بينما أثارت غضب المعتصمين في الميادين واعتبروها التفاف على مطالبهم، فدعوا إلى خروج في مظاهرات مليونية في القاهرة والإسكندرية وباقي المحافظات يوم الثلاثاء 1 فبراير، في هذا اليوم خرجت أعداد تقارب 6 مليون متظاهر في القاهرة وباقي المحافظات، كانت أعداد المنضمين إلى الانتفاضة والاعتصام تتزايد، والجماهير تتوق إلى إنجاح الانتفاضة والإطاحة بالرئيس، احتشد في ميدان التحرير وحده أكثر من مليون ونصف شخص. في مواجهة هذا الاتساع والحشود الغاضبة خرج مبارك مساء هذا اليوم معلناً تكليف أحمد شفيق - أحد رجاله - بتشكيل وزارة جديدة، وتعيين مدير المخابرات المعروف بتعاونه مع النظام الصهيوني عمر سليمان نائباً له , واستخدم عبارة مطاطة أنه (لم يكن ينوي الترشح لانتخابات الرئاسة القادمة)، الجديد في هذا الخطاب أنه كان مشحونا بعبارات عاطفية غازل فيها الجماهير العادية وأنه يتحدث إليها مباشرة وأنه حريص على الاستقرار وعدم حدوث فوضى وأن ما تبقى له لتحقيق الاستقرار شهور قليلة يترك بعدها الحكم، وأنه كمصري يرغب في أن يموت على أرض مصر، ارتدى الطاغية المتغطرس زى البطل الجريح الموشك على الموت، ويطلب فقط مجرد الرحمة، وأن يموت بكرامة. هذا الخطاب العاطفي كان له وقع السحر على الجماهير العادية الجالسة أمام شاشات التليفزيون، وكان له أثر الصدمة على المعتصمين، تحول المزاج الجماهيري إلى قبول أقوال مبارك والاستياء الشديد من تعنت المعتصمين، خاصة وأنه بدا أن جميع مطالبهم قد أجيبت ولا ضرر في انتظار إنهاء ولاية الرئيس في موعدها بعد شهور. كانت الضغوط الاقتصادية تتزايد على الجماهير التي لم تقبض رواتبها، والقلق الحادث من أعمال الترويع والعصابات يحاصرها في الشوارع والأحياء ومن ثم كان قبول خطاب مبارك حلاً ذهبياً للأزمة بالنسبة لهم، فهم ليسوا المعتصمين، وهم من يدفع ثمن استمرار الاعتصام، ويرغبون في عودة الحياة إلى طبيعتها، بأسرع وقت، فضلاً عن تأثرهم الشديد بالجانب العاطفي من الخطاب. كان النظام قد أعد العدة سلفاً للتحرك بعد الخطاب، في الأحياء كانت عصابات منظمة من البلطجية، يعاونهم أعضاء مجالس محلية وأعضاء مجلس شعب وأفراد على علاقة بأجهزة الأمن جاهزة ومسلحة، وتحركت تلك العناصر لتحشد جموع جماهيرية تحت تأثير الخطاب ليظهر أمام الرأي العام أن قسم كبير من الجماهير لازال مؤيداً لمبارك، أو على الأقل مؤيد لاستمراره في الحكم الشهور الباقية من فترة ولايته، أعلن عن أماكن تتحرك إليها الحشود (المؤيدة) لم يكن من بينها أماكن الاعتصام المعارض لاستمرار الرئيس في الحكم، الخطة كانت أن يتحرك عناصر النظام بجانب البلطجية وقوات أمن في زى مدني حتى تبدو كحشود جماهيرية مؤيدة، أثر الخطاب عبأ جماهير حقيقة ترغب في حل الأزمة على النحو الوارد في خطاب مبارك وتميل إلى إنهاء الاعتصام. هذا الخليط من الجماهير والأمن والبلطجية استخدمته عناصر النظام في تحريكه نحو مواقع المعتصمين والاشتباك معهم بأمل فضهم بالقوة والعنف، لم يكن استخدام العنف ضد المعتصمين وارداً في حسابات الجماهير العادية التي شاركت في التظاهر المؤيد، وبدأت في الانسحاب عندما اكتشفت أنها استخدمت كغطاء لاستعمال القوة ضد المعتصمين. استخدم في الهجوم على المعتصمين خيول وجمال وسيوف وشوم ورصاص حي وأحجار وزجاجات مولوتوف، سقط عدد كبير من القتلى في صفوف المعتصمين العزل، وجرح المئات منهم، لم تكن القاهرة وحدها هي التي نفذ فيها هذا المخطط القذر وإن كان جرحى وقتلى ميدان التحرير في هذا اليوم أكثر عدداً، استبسل المعتصمون في مواجهة البلطجية واستطاعوا صد الهجوم الذي استمر حتى الساعات الأولى من اليوم التالي. أفسح الجيش المداخل المؤدية إلي الميدان أمام قوات البلطجية ودخلوا حتى بدايات الميدان الذي يحتشد فيه المعتصمون، تركز قناصة من الشرطة فوق أسطح عالية وقتلوا ببنادقهم عددا من المعتصمين، كان يوماً دامياً بكل المقاييس، المعتصمون في ميدان التحرير كانوا محاصرين من عدة جهات، المأجورين من البلطجية ورجال الأمن منعوا وصول إمدادات طعام أو دواء لهم، كان الكثير من الجرحى ينزفون دون علاج، حملات الهجوم كانت تشن من أكثر من جهة، وقوات الجيش لا تحرك ساكناً في مواجهة الرصاص المنهمر على المعتصمين رغم سقوط عشرات القتلى. أقام المعتصمون المتاريس أمام مداخل الميدان، خاضوا حرب دفاع باسلة أسفرت عن فشل محاولة طردهم من الميدان أو إجهاض اعتصامهم، لعب شباب الإخوان و(كتلتي الألتراس) دوراً هاماً في صد الهجوم، كان الإخوان قد قرروا المشاركة تنظيميا في الأحداث في يوم 28، بعد أن ظهرت تصريحات رسمية تحملهم المسئولية عنها، واجبروا تحت ضغط قواعدهم على المشاركة، ولم يكن هناك من هو أقل شجاعة منهم بين المعتصمين المحاصرين. هذا الهجوم المنظم من قبل ضباط الأمن وعصابات البلطجية كان خطوة شديدة الغباء من قبل النظام، لم يحقق فيها لا انتصار عسكري ولا سياسي ضد الانتفاضة، الأثر الذي أحدثه الخطاب تلاشى مفعوله مع هجوم العصابات المضادة وسقوط مزيد من القتلى، بدا المعتصمون أبطالا والنظام وحشيا ومفلسا ويجب فعلاً الإطاحة به، تصاعدت وتيرة التظاهر وأعلن المتظاهرون عن مسيرات مليونية في الجمعة التالية، أسموها جمعة الشهداء ، حوالي أكثر من 7 مليون متظاهر في أنحاء مصر جعلوا ترنح النظام أسرع وأشد، فلجأ إلى مناورته الأخيرة في خطاب تشكيل وزارة جديدة ووعد بإجراء تعديلات، اخفق النظام في استغلال فرص المناورة التي أتاحها له الجيش، ومع سقوط قتلى يوم الأربعاء الدامي لم تعد الوعود والمناورات مجدية، محاولة الالتفاف على الانتفاضة بإقامة حوار مع تيارات المعارضة التقليدية لم يكن لها أي أثر على المنتفضين الذين قرروا , أن أي حوار مع السلطة قبل رحيل مبارك ورجاله غير مقبول من الأساس، شعرت قوات الجيش أن بقاء مبارك أصبح أمراً غير واردا ، وأن أي مناورة جديدة هي إهدار للوقت، وخشية أن يفلت الزمام من السيطرة الميدانية للجيش بدأ ممارسة الضغوط على مبارك حتى يتنحى قبل انفجار الأوضاع التي لم تتجاوز حتى هذا الوقت حدود التظاهر والاعتصامات السلمية، كان قطار الديكتاتور يقترب بسرعة من محطته الأخيرة، وزادت هذه السرعة تحت ضغط فشل المؤامرات والمناورات والقمع، والمؤشر الأهم هو اتساع الأعداد الرافضة لبقائه وتزايد انتشارها في شتى المحافظات، مظاهرات الجمعة الأخيرة للنظام وصل عددها في أقل تقدير إلى 12 مليون متظاهر يطوفون في محافظات مصر وعواصمها هاتفين .. الشعب يريد إسقاط النظام. قادة الجيش الذين تصدوا لمهمة السيطرة الناعمة على الأوضاع دون صدام مع الجماهير الغاضبة كانوا بدورهم واقعين تحت الضغط الشعبي المطالب بالتنحي واحتمالات أن يفلت زمام السيطرة من الجنرالات وتأتي بمجهول لم يحسب أحد حسابه، مخاوف دولية وإقليمية من إن تنفلت الأوضاع من سيطرة العسكريين كان عامل ضغط إضافي علي قاده الجيش، لم يكن القادة العسكريون مستعدون لتحمل كل تلك الضغوط من اجل حاكم فقد كل قدرة علي المناورة على الجماهير وصار هدفا لا رجوع فيه لغضبها، أزمة العسكريين وعوائق سيطرتهم كانت تتمثل في استمرار سلطة مبارك وليس في استمرار الإعتصامات والمظاهرات، ومن ثم كان الضغط علي مبارك حتى يتنحى هو الخيار الوحيد أمام العسكريين لتهدئة الجماهير واستعادة الأمن والنظام، هذا الاتجاه لدي العسكريين كان قد تحدد بحسم علي اثر مظاهرات 11 فبراير التي أظهرت تضاعف أعداد الغاضبين بدلا من انكماشها، وظهور توحد عام من كل القوي المعارضة التقليدية والجديدة، وحتى أجزاء من الطبقة الحاكمة كانت تمنح تأييدها سابقا لمبارك، كلهم وبتزايد التفوا حول شعار الإطاحة بمبارك ،الإعلام الرسمي الذي يسيطر عليه النظام كان قد غير اتجاهه (بتوجيه من القيادة العسكرية) إلى التجاوب مع مطالب الانتفاضة، في مؤشر ملحوظ على أن استمرار مبارك في الحكم لم يعد خيارا لدى النظام نفسه، الذي باتت مصالحه جميعها تحت التهديد بسبب وجوده، الأسبوع التالي لمظاهرات 2 فبراير، التي حركها رجال النظام، كان آخر أسبوع قضاه مبارك حاملا لقب رئيس جمهورية، شهد تطورات عديدة حسمت نهائيا اتجاه العسكريين وإجبارهم مبارك علي التخلي عن السلطة، شهد هذا الأسبوع آخر مناورات مبارك، وآخر خطاب ألقاه، وآخر قرار يصدره كرئيس، وأخر لحظة وجود له في الحياة السياسية برمتها. وزارات انتهت قبل بدأ عملها، وأسماء سقطت قبل أن تختبر، كل ما كان يتم انجازه اليوم كان يبدو رجعيا وغير مقبول في اليوم التالي، كل تنازل تقدمه السلطة كان يعقبه المطالبة بتنازلات أوسع من قبل قوى الانتفاضة، كان مد الجماهير جارفا، وموجها بإصرار نحو هدفه الأساسي، فلم يكن هناك سبيل أمام العسكريين سوي هذا الاختيار- مقارنة بالصدام مع الجماهير - وهو خيار رحيل الدكتاتور بلا رجعة. هكذا تغير ميزان القوي:- إن الاحتجاجات، والمظاهرات السلمية، مهما تزايدت وطالت مدتها، غير قادرة (بمفردها) علي إسقاط نظام، أو إجبار سلطة مستبدة علي ترك الحكم، خاصة لو كانت سلطة قمعية تشكل حولها شبكات ضخمه من إدارات فاسدة ومستثمرون وظفوا أجهزة السلطة لصالحهم وأجهزة قمع قوية ومسلحه نجحت في هزيمة الإسلاميين المسلحين والسيطرة عليهم أكثر من 3 عقود . تركيبة جمهور يوم 25 وأعداده كانت أضعف بكثير من هذا التحدي حول إسقاط النظام، كتل الغالبية العظمي منها من شرائح البرجوازية الصغيرة الموزعة بين طلاب مفككين ومثقفين وخريجين بلا عمل ثابت وعاطلين ومعارضين لا يملكون عمقا جماهيريا، في هذا اليوم لم تكن هناك مشاركة ذات شان من تنظيم الأخوان الذي يضم عضوية كبيرة وإمكانات مادية هائلة ويمثل تحديا محدودا للنظام، مشاركتهم في يوم 25 كانت اقل من رمزية وتمثلت في مجموعة البرلمانين وبعض الكوادر المحدودة . القمع الوحشي هو الذي قدح النيران في مخزون الغضب الجاهز للانفجار، ورغم القمع والردود الغاضبة يومي 26، 27 كانت الحياة تسير سيرها العادي، المؤسسات والبنوك والمرافق والمصانع تعمل بلا توقف، وأجهزة الأمن لازالت مسيطرة رغم المناوشات والقمع، يوم 28 الذي خرجت فيه الجماهير كان عاملا غير بقوة مؤشر موازين القوي، وجه لطمه قوية إلي أجهزة الدولة البوليسية، هذا بمفرده وإن كان اضعف النظام بشدة، إلا انه لم يكن كافيا لإسقاطه، تلك الجماهير التي حطمت جهاز القمع لم تكن مهتمة بإسقاط النظام، ومن ثم لم تخرج يوم 29 لاستكمال مسيرة الإطاحة، كان الجيش قد تحرك لإنقاذ النظام واستعادة السيطرة، وبدأت الخطة المعدة لإجهاض الانتفاضة تنفذ علي الأرض، فشلت الخطة واستعادت الانتفاضة عافيتها بسرعة خلال أسبوع من العنف وعصابات النظام ومؤامرات الأمن وتواطؤ الجيش ومناورات السلطة، شهد الميدان تغييرات متلاحقة في وجوه المعتصمين وأعمارهم وأجناسهم وأصولهم الطبقية والفكرية، كانت جماهير جديدة من أصول فلاحيه وشعبية تحتل مكانها فوق البطاطين المعدة لمبيت المعتصمين، دخل الأخوان بكامل قوة تنظيمهم ساحة المعركة، ودخل فريق أخر من الإسلاميين الذين اشتهروا من قبل بعدم وجود عداء بينهم وبين النظام بل والتعاون معه في مرات كثيرة (السلفيين) كما دخلت أيضا تنظيمات اليسار بأوراقها الدعائية ومحرضيها، ودخل أيضا القوميين والناصريين والعديد من المهنيين والنقابيين، كان التركيب الاجتماعي لقوي الميدان يتغير ويتعمق طبقيا وسياسيا، وكان الميدان مؤشرا علي حدوث التغيير ذاته في تركيب القوي الغاضبة في باقي المحافظات. جزأ من (شباب) يوم 25 من عناصر البرجوازية الصغيرة كان قد استجاب لمناورات النظام ورأي إن الاستمرار في الاعتصام لا مبرر له ويؤدي إلي حدوث تخريب وفوضى، تحول بعضهم إلي الدعاية المضادة لاستمرار الانتفاضة من خلال وسائل الإعلام وعلي المواقع الالكترونية، وكانت عملية إعادة فرز لقوي الانتفاضة تتم مع كل يوم من أيام المواجهة ، الأيام الثلاثة السابقة علي تنحي الدكتاتور غيرت بقوة مؤشر الموازين بين الجماهير والنظام، والجماهير والجيش، والجيش والنظام، لصالح الانتفاضة. ثلاث عوامل متشابكة هي التي حسمت تماما الأمر ودفعت بالجيش للتضحية بالرئيس : 1. اللجؤ إلي السلاح في مواجهة الشرطة في العريش وجنوب سيناء الموجودة في منطقة حدودية علي حدود فلسطين المحتلة، ويتوافر لدي سكانها أسلحة خفيفة ومتوسطة، فقد استخدم العرايشه مدافع الأر بي جي في هجوم علي قسم الشرطة وهجوم اخر علي معسكر للأمن المركزي. كان لأهالي العريش، المدينة الفقيرة في مواردها، ثأر مع قوات الأمن وضباط جهاز أمن الدولة، حيث يتعرضون لحملات بوليسية دورية، وقبض عشوائي واعتقالات بالجملة من وقت لأخر، كما أن محافظات الجنوب ( الصعيد ) التي تأخر دخولها، في مسرح أحداث الانتفاضة، خرجت أكبر مدنها حاملة السلاح مستعدة للاشتباك المسلح مع العسكريين إذا اعترضوها، فقد خرج أهالي (سوهاج) وأهالي (أسيوط) حاملين البنادق الألية في مظاهرات ضخمة مسلحة منضمة إلي الانتفاضة والي مطالبها، بذلك بدأ ظهور مؤشر لإمكانية تسلح الانتفاضة واحتمال المواجهة مع شعب يحمل السلاح، وهو ما يهدد سيطرة الجيش ويطرح احتمال تفككه وينذر بإمكانية حدوث إطاحة مسلحة بالنظام ككل. تم حرق مقرات لأمن الدولة والاستيلاء علي محتوياتها في عدة أماكن، وبات الوضع شديد الخطورة. 2. دخول قوى اجتماعية جديدة أكثر تنظيما واشد تأثيرا، الطبقه العاملة وموظفي الهيئات والمرافق العامة ودور النشر ألكبري وحني موظفي البنوك، دخول الطبقة العاملة إلي مسرح الأحداث كان ينذر بتوقف تام عن الإنتاج وانهيار اقتصادي شامل للطبقة الحاكمة ككل، وجدير بالذكر إن ألطبقه العاملة كانت قد شاركت منذ بداية الانتفاضة مشاركه جزئية، الإضراب في مدينة السويس، وإضراب عمال النقل العام والقطارات منذ الأيام الأولي للانتفاضة، إلا أن الأيام الثلاثة الأخيرة السابقة على رحيل الديكتاتور شهدت دخولا واسعا لعمال المصانع الكبرى في الإضراب، وفي المظاهرات، اضرب عمال وموظفي الكهرباء، الاتصالات، الغزل والنسيج، القطارات، النقل العام، حرير حلوان، المطابع الأميرية، الحديد والصلب، الأسمنت، الإنتاج الحربي، موانئ السويس، التأمين الصحى، وزارات الثقافة والمالية، البنوك، العاملون بالجامعات، رقابة الأدوية، ورش صيانة مترو الأنفاق، الطب البيطري، طلاب كليات الطب والتمريض، مستشفيات، مطابع ودور نشر، 11 شركة بترول في عدة محافظات، مرفق الصرف الصحي، حتى عمال النظافة، كان المشهد يتحرك بسرعة نحو الإضراب العام. 3. الاحتشاد الغير مسبوق في مظاهرات 11فبراير ،خرج أكثر من 12 مليون شخص في مظاهرات علي امتداد البلاد المصرية، مدن ومحافظات امتدت من أسوان جنوبا إلى الإسكندرية شمالا، أكثر من 22 مدينة ومحافظة خرجوا ردا علي خطاب مبارك الأخير مصممين علي رحيله، في القاهرة تحرك عشرات الآلاف ليحاصروا مقر الرئاسة وآخرون حاصروا مبنى الإذاعة والتليفزيون، وقبلها بيومين كانوا قد حاصروا مبنى البرلمان ومبنى ومجلس الوزراء، ومنعوا الدخول إليه، كانت احتمالات اقتحام المتظاهرين تلك المواقع واردة في أي لحظه، مساء يوم 11 فبراير خرج نائب الرئيس يعلن تنحي الرئيس عن منصبه، وانه فوض مجلسا من كبار العسكريين في إدارة شئون البلاد. ابتهجت الجماهير برحيل الدكتاتور، كان ذلك التنحي انتصارا لأرادتها، وتحقيقا لأول وأهم مطالبها، عمت البهجة والاحتفالات ربوع البلاد، خرجت مظاهرات احتفاليه ضخمه في كل مكان، غيرت أجهزة الإعلام الرسمية نبرتها المعادية محتفلة بانتصار الانتفاضة ورحيل الدكتاتور، تخلص العسكريون من عبء حماية سلطة مبارك، ومن مبارك نفسه، وفي غمرة الاحتفال بدأ القبض علي ابرز رموز نظامه والتحقيق معهم سواء وزراء سابقين أو رجال أعمال أو قيادات حزبه ورجال إعلامه. توج سقوط الدكتاتور حلقة من الصراع، وترك الباب مفتوحا أمام الحلقة التالية من الثورة المصرية.
طبيعة الثورة المصرية وديناميتها
منذ أكثر من 150 عام نجح المصريون في عزل والي عثماني - خورشيد باشا - وفرضوا علي الدولة العثمانية حاكما من اختيارهم هو، محمد علي الضابط الألباني الجنسية، قادة الأزهر والوجهاء المصريين لم يختاروا أحدا منهم للحكم، اختاروا ضابط - أجنبي - يحكمهم، أفتتح حكم محمد علي سيطرة الملكية علي مصر لعقود طويلة عرفت باسم (الإقطاع الشرقي). ومنذ هذا التاريخ لم يستطيع المصريين - رغم استمرار مقاومتهم - فرض حاكم أو عزل حاكم، في العقود الأخيرة من العصر الملكي دخلت مصر بقوة في علاقات تبادل تجارى مع السوق الرأسمالي العالمي، استقبلت مستثمرين وعمال أجانب، وصدرت سلعا أبرزها القطن إلي دول أوربا، وأنشأت مؤسسات دولة برجوازية حديثة - برلمان، مجلس شوري، وزارات لها سيادة، أحزاب، نقابات مستقلة، جيش قوي حديث - كل ذلك علي أرضية تطور رأسمالي ضعيف النمو وفي منظومة علاقات دولية حددت وحدت من قدرات نمو الرأسمالية في مصر. لم تشهد مصر ثورة ضد الشكل قبل الرأسمالي وعلاقاته، لكنها دخلت عصر العلاقات الرأسمالية بواسطة عاملين، تحول داخلي من أعلي حرر بدرجة كبيرة ملكية الأراضي - خاصة في عهد الخديوي سعيد - وقبل ذلك كان امتلاكها وقفا على الدولة ومن يهبه الحاكم حق الانتفاع من كبار الضباط والباشاوات، تم خلق ملاك زراعيين رأسماليين بجانب بدايات وجود عمل مأجور وحرفيين أحرار، والثاني هو مفاعيل التعامل مع السوق العالمي وقدوم مستعمرين ومستثمرين أجانب وتبادل مع السوق العالمي، إن ولادة الرأسمالية لم تأخذ شكلا واحدا في جميع البلدان، لم تكن الثورة هي رحم ولادة النظام الرأسمالي في اغلب الدول (العالم الثالث)، وإنما ولدت ناقصة ومبتسرة ومشوهة في مصر والكثير من الدول العربية والإفريقية والأسيوية واللاتينية، فالشكل الأوربي لولادة الرأسمالية "بثورة على الإقطاع" اقتصر علي دول أوربا، وتوسعت أوروبا الرأسمالية استعماريا، بحثا عن أسواق لمنتجاتها وموارد رخيصة لمصانعها، خارج حدودها، فأجهضت وشوهت فرص النمو الرأسمالي في باقي القارات، رغم الولادة المبتسرة المشوهة عاشت الرأسمالية المصرية، وشاخت، داخل شروط هيمنة عالمية تحددها وتحد من نموها . رحبت مصر في مطلع الخمسينات بحكم ضباط صعدوا إلي الحكم بانقلاب ضد آخر ملوك أسرة محمد علي فعزلوه وأعلنوا الجمهورية، سلمت مصر عنوة نظامها الديمقراطي إلى الضباط فألغوه وأقاموا بدلا عنه نظام عسكري إصلاحي وسلطة عسكرية استبدادية بعيدا عن المؤسسات التقليدية للبرجوازية المصرية، كانت الإدارة العسكرية للنظام الناصري (البونابرتي ) ضرورة لإنقاذ الرأسمالية المصرية نفسها، فقد كانت مهددة بثورة اجتماعية بدت نزرها عام 1949 إلي 1951 حيث دب فيها التفكك والفساد والعجز عن الهيمنة، فأنقذها الانقلاب العسكري من سقوط وشيك واجري إصلاحات في البنية الاقتصادية الضعيفة، وفرض علي الرأسمالية السكون فترة إدارته، وداعب الجماهير بالإصلاحات التي قدمها. انتهت مهمة الإنقاذ العاجل للرأسمالية بواسطة النظام الناصري، خلعت الرأسمالية المصرية أوشحة وأعلام الحقبة الناصرية المفروضة عليها، أكمل جزأ من الضباط (الأحرار) أنفسهم مهمة تصفية معالم الناصرية، واستعادة الرأسمالية بمؤسساتها وقوانينها وأحزابها أيضا دون ثورة، وبمجموعه بسيطة من الإجراءات من أعلي، عادت الرأسمالية المصرية لاستلام زمام السيطرة السياسية والاجتماعية خلال عهد السادات. توالي نمو الرأسمالية المصرية المشوه في طبيعته، وتوسع خلال عهد مبارك الذي ترك هامشا واسعا للرأسمالية في الإدارة والحركة والمشاركة في السلطة السياسية، خاصة في المرحلة الأخيرة من حكمه حيث امسك بشئون الدولة حكومة مشكلة في أغلبها من رجال الأعمال التي رأسها نظيف، تاركا هامشا محدودا للمعارضة بكافة ألوانها، مع وجود خيار القمع دائما عند الحاجة إليه. عادت مصر للمرة الثانية في تاريخها الحديث إلي إرادة الإطاحة بنظام حكم فاسد مستبد، تحولت احتجاجات يناير 25 إلي انتفاضه ضد نظام حكم مبارك وحزبه، سلم الديكتاتور قبل رحيله مقاليد السلطة إلي مجلس عسكري، ورغم الحذر الواسع من عودة الحكم العسكري إلا إن الجماهير المنتفضة هتفت بابتهاج (الجيش والشعب إيد واحده) بهذا استلم العسكريون السلطة كامتداد لحكم الديكتاتور وبتفويض منه، لكنهم كانوا مضطرين، لتهدئة الجماهير الثائرة، إلي اتخاذ إجراءات ضد رموز عهد مبارك دون مساس بمبارك نفسه، والظهور بمظهر الراعي الرسمي للثورة المصرية والاستجابة لعديد من المطالب الجماهيرية سياسيا واقتصاديا للحفاظ علي هذا المظهر وفي الكواليس كانوا يخططون ويعملون علي إنهاء حالة الانتفاضة واستعادة النظام وإعادة الجماهير الغاضبة إلي بيوتها، ليستقر حكم سادة جدد، إما عسكريين أو - على الأقل - مرضيا عنهم من العسكريون، جزئيا قبلت الجماهير الثائرة حكم السلطة العسكرية واخذوا يفاوضونها ويناشدونها بخصوص تنفيذ مطالب الثورة، في هذه الحدود كان هناك اعتراف من المنتفضين بالسلطة العسكرية وقبول حكمها، ولو مؤقتا، الحذر من قدوم ديكتاتورية عسكرية جديدة، وكذلك التخوف تجاه مناورات القادة العسكريين، الذين تركوا سلطة الوزارة في يد شفيق الذي عينه مبارك، وبارك العسكريون استمرار وزارته، رغم أن شفيق أعلن انه رئيس وزراء حكومة تمثل حزب النظام، الذي انتفضت ضده الجماهير، كان ذلك حافزا لبعض القوي التي شاركت في الانتفاضة، في الاستمرار بالاعتصام، كانت مطالب هؤلاء حل وزارة شفيق، وجهاز الأمن السياسي (أمن الدولة) وتقليص دور العسكريين علي المشاركة بممثل واحد للجيش في مجلس حكم انتقالي مكون من 4 مدنيين وعسكري، وبدا المشهد وكأن نظام مبارك يعلن بوضوح استمراره عبر وزارة شفيق، وعبر نوابه في الحكم (المجلس العسكري) المفوض، وفي تحدي مستفز ظل مبارك دون مساس في احد المحافظات الساحلية، ودون أن يعلم أحد أي دور يقوم به الزعيم المخلوع، وتدريجيا بدأ الأعلام (الموجه من قبل العسكريين) يركز علي فساد الرموز السابقة ويتجاهل فساد الرئيس والحديث عن ثرواته الطائلة، وكلما تصاعدت التوترات عاد الهجوم الأعلامى عليه كإعلان متكرر من العسكريين الانفصال عن النظام السابق، والتبرؤ منه. دور القادة العسكريين لم يخلو من الغموض والالتباس، فعبر الدعاية الإعلامية المضادة، والحصار والقمع المحدود، حاولوا تصفية قطاع من قوى الانتفاضة ظل مصمما علي استكمال تصفية رموز النظام ومطالبا بمحاكمة كل المتورطين في جرائم ضد المنتفضين العزل واستعادة الثروات التي نهبها رجال الحكم والتسريع في الإصلاحات السياسية . الاستجابة الجزئية والبطيئة للمطالب الجماهيرية كان مستفزا، إلا أن قوي الانتفاضة كانت في تلك المرحلة منقسمة، بعضها ومنهم التنظيم الأكبر عددا - الأخوان - ذهبوا إلي اجتماعات التفاوض مع الجيش التي لا تنتهي، ولا تسفر عن رفض أو قبول صريح وفوري للمطالب، ساحبين أنصارهم من الميادين، تاركين المعتصمين المصممين علي مواصلة الضغوط بسبل الانتفاضة - التظاهر والاعتصام - وحيدين في مواجهة قوة الجيش واستفزازات البلطجية. أتيح للمفاوضين الظهور كممثلين للانتفاضة في وسائل الإعلام فأسكرتهم الكاميرات والأضواء. تحفظوا علي ما أسمي (الاحتجاجات الفئوية) للعمال والموظفين والمهنيين (أي المطالب الحقيقة للشعب) مطالبين الجماهير المضربه بإنهاء الإضرابات و"الصبر" حتى تنتهي الإصلاحات السياسية، بل أن بعضهم لم يتردد في اتهام الجماهير بالانتهازية، لأنها تحاول في هذا الوقت فرض مطالبها علي النظام، أدارت قوي الليبرالية والديمقراطيون البرجوازيون ظهورهم لمطالب الجماهير معبرين عن أنانية وضيق أفق وخيانة للجماهير التي حطمت أجهزة القمع ورجحت قوة الانتفاضة ومكنتها من الانتصار، فحتى الإصلاحات السياسية كانت قد دخلت دهاليز المناورات تحت إدارة كاملة من القيادة العسكرية، والنظام القديم كان لازال يحكم، عبر رئيس الوزراء والقيادة العسكرية المفوضة، بذلك أعلن هؤلاء الديمقراطيون، والأخوان، تخليهم عن القطاع الأكثر تصميما من قوى الانتفاضة، وعن فرض الإصلاحات السياسية تحت ضغط قوة الانتفاضة، منتظرين ما يسمح به أو يوافق عليه القادة العسكريون. فالجميع، الأخوان والديمقراطيون والليبراليون والقيادة العسكرية للجنرالات، كان يخشى من تحولات كانت تحدث علي الأرض في مجري الانتفاضة وجيشها، فمنذ 12 فبراير 2011 كان مركز ثقل الانتفاضة ينتقل بوضوح إلي جيش العمل، المصانع والمرافق وحني الوزارات يرفعون مطالب مادية وإصلاحات إدارية، دون معارضة للمطالب السياسية. هذه القوي الجديدة لم تكن معتصمه في ميدان التحرير ولم تشارك في الاعتصام والتظاهر سوي رمزيا، لكنها بالمقابل، فضلا عن دورها الحاسم في انتصار الانتفاضة، كانت قادرة علي شل كل جهاز الإنتاج والمرافق وسحب البساط من تحت أقدام الجميع، لذلك بدأ تحالف غير معلن ضدهم من الأطراف الحاكمة، المجلي العسكري والسلطة السياسية، شارك فيه الديمقراطيون والإخوان، وشنت حرب دعائية ضارية ضد مطالبهم باعتبارها فئوية، انتهازية، فبينما حول الديمقراطيون البرجوازيون والأخوان الانتفاضة إلي، احتفالات كرنفالية، بالانتصار المحدود، مالئين وقت فراغهم بتحالفات ومفاوضات واستعدادات للانتخابات المقبلة، كانت الطبقة العاملة والمهنيين وقطاع من الموظفين وقطاع راديكالي من البرجوازية الصغيرة يتسلمون راية المعركة ويعلنون - بجانب المطالب التي لم تتحقق - مطالب جديدة، مستخدمين قوة الإضراب، بجانب قوة الاعتصام، لمواصلة الثورة. هكذا كانت تتهيأ الأرض لمرحلة جديدة في الثورة المصرية لو انتظمت قوها ووجدت قيادة ثورية مناسبة للمهمة التاريخية التي تلوح مقدماتها في الأفق، ستؤدي بلا ريب للإطاحة الجذرية، ليس فقط بالاستبداد ونظامه السياسي، ولكن أيضا، بالاستغلال وتنظيمه الاجتماعي /الطبقي، وهذا ما كان يرعب كل قوي النظام والديمقراطيون الصغار.
حدود الثورة المصرية وأفاقها:-
تحولات دولية تمتد لأكثر من عقدين كانت تجهز المسرح الدولي لعصر جديد من الثورات، بعد انهيار ما كان يعرف باسم المعسكر الاشتراكي - الاتحاد السوفيتي وارويا الشرقية - أطلقت الرأسمالية العالمية لنفسها العنان، بدأت الشركات الاحتكارية الدولية تعيد رسم خريطة العالم وسياساته، مفتتحين عصر ما سمي بالليبرالية الجديدة - أو المتوحشة - بالعمل ضد دور الدولة المتدخل في قدر من التوجيه للحياة الاقتصادية، كان هذا التدخل ضروريا للدولة في ظروف وأزمات مرحلة ما بعد الحرب العلمية الثانية، فبذلك كانت الدولة تحد بدرجة من فوضى الإنتاج الرأسمالي وتعمل على إحداث قدرا من التوازن لمنع حدوث انفجارات جماهيرية أو ثورات، ومع تغير الشروط الدولية بدأت سياسات تحرير الاقتصاد من القيود التي كانت تضعها الدولة وكان ذلك يعني فتح الأسواق بلا ضوابط لحركة التجارة الدولية، إنهاء ضمانات العمل وبرامج الضمان الاجتماعي التي كانت تلبي حاجات الفئات الأقل ثراء أو العمال والفقراء، عدم الالتزام بتقديم دعم للفقراء أو فرص عمل للعاطلين والخريجين، ومحل اقتصاد الدولة الخاضع لبعض الضوابط انطلقت سياسة الخصخصة تزيح الدولة وتحل محلها في الحياة الاقتصادية، فأصبح السوق والمستهلكين تحت رحمة المستثمرين والملاك وتقلبات سعر العملة وارتفاع الأسعار التي يفرضها المحتكرون، وتوالي حرمان الفقراء من العلاج والتعليم والسكن الرخيص، فرضت تلك السياسات الليبرالية علي الدول التي تدور في فلك الرأسمالية العالمية في عملية سميت بالعولمة فزادت أزماتها واتسع عدد العاطلين والمشردين فيها، انتشرت الأمراض وارتفع سعر الدواء وتبددت فرص العمل، صدرت العولمة كل أزمات الرأسمالية التقليدية للدول الضعيفة النمو، ودفع الفقراء ضريبة باهظة لتطبيق الليبرالية الجديدة وعولمتها. جاء الرد علي تلك السياسات في شكل حركات احتجاج دولية منظمة شارك فيها ألوان طيف قوي المعارضة من دول عديدة تحت اسم حركة مناهضة العولمة رافعين شعار عالم أفضل ممكن، وبعد عدة احتجاجات ضخمة تحولت تلك الحركة إلى الاحتجاج علي الحرب التي شنتها أمريكا علي العراق، ثم انطفأت تماما. أثار الأزمة في المنطقة ولد حروب جديدة، وتدخل استعماري أمريكي، وتحالف وثيق بين الأنظمة الحاكمة والإمبريالية الأمريكية، انطلقت محاولات ضعيفة ومحدودة وذات طابع فوقى نخبوي في مصر للاحتجاج ضد سياسات العولمة، لم يكن لتلك المحاولات عمقا جماهيريا أو تأثيرا في الحياة السياسية. كانت شديدة الضعف ومعزولة جماهيريا، في الربع الأول من العقد الواحد والعشرين انطلقت حركات جديدة ألهمها ظهور الضغوط الدولية والأمريكية على نظم العالم الثالث للقيام بإصلاحات سياسية وتوفير قدرا من الحريات لشعوبها، كانت ولادة تلك الحركات من صفوف النخب السياسية، ورغم نخبويتها بدأت في تحدي النظام مطالبة بأحداث إصلاحات. كفاية والحركة الشعبية للتغير، أطلقوا موجة احتجاجات ضد النظام مباشرة وجذبوا قاطرة الاحتجاج في اتجاه هدف الإطاحة بالرئيس مبارك مباشرة أو، علي الأقل، منع توريث السلطة لإبنه، رغم الصوت العالي لتلك الحركات ورغم نزولها الشارع في احتجاجات محدودة، إلا أنها كانت تفتقر إلي وجود عمق جماهيري يحملها ويساندها ومن ثم كانت تحت السيطرة وغير مقلقة للنظام، يمنعها متي شاء، ويسمح لها متي شاء. انطفأت موجة كفايه ومجموعات (التغيير) المحدودة والضعيفة، أولا بفعل عزلتها جماهيريا، وثانيا بفعل صراع الشلل داخلها. خلقت حركة كفايه عند انطلاقها شعور لدي أجيال جديدة من الشباب بعدم جدوى العمل الحزبي وعقم الأحزاب التقليدية، وأيضا شعورا بعدم أهمية التسيس والأيدلوجيات أو النظريات السياسية، نتيجة لتلك الولادة جاءت المجموعات الشبابية إلى مسرح الوجود تفتقر بدرجة كبيرة إلى المعرفة السياسية وإلي الخبرات العملية التي يتيحها العمل المنظم وتعتمد على تجريبية بلا سند مرجعي وهذا ما أدى إلى وجود انزلاقات وأمراض سياسية وتنظيمية لديها لا تقل ضررا عن أمراض النخب السياسية المصرية بل تزيد، وإن كانت تختلف في نوعها عن مشكلات الجماعات المنظمة ذات الأيدلوجيات المحددة، ولأنه لا يخلو فكر من أيدلوجيا فقد تشكلت أفكار تلك المجموعات الحديثة كيفما اتفق من خليط من الأيدلوجيات الاجتماعية الموجودة بالفعل. من رحم هذا الواقع النخبوي اللاحزبي ومع وجود طرق جديده للتواصل والاتصال اتاحها الإنترنت ولدت مجموعة دعائية سمت نفسها 6 ابريل، ودعت للتضامن العام مع إضراب عمال المحله الذين كانوا يعدون له يوم 6 ابريل 2008. فشل الإضراب وتعرضت المحله لقمع بوليسي دموي ولم تنجح محاوله خلق تضامن جماهيري معه في اي مكان خارج المحله ومع ذلك استمرت تلك المجموعه التي سمت نفسها 6 ابريل تمارس المراهقة السياسية والتجريب في إطلاق الدعوات لتحركات جماهيرية واسعة، وفي كل المرات كانت تفشل تماما، واللافت للنظر هو تضخم صورة تلك المجموعة إعلاميا، رغم فشلها الزريع، وهو ما لفت أنظار عديدين إليها في الداخل والخارج، وضخم صورة تلك المجموعه في ذهن اعضائها. كان الأثر الاخير لتلك المجموعة هو انه انبثق عنها مجموعة اخري نددت بمقتل شاب سكندري علي يد البوليس، ونظمت عدة مظاهرات محدوده احتجاجا علي قتله كما طالبت بمحاكمة قاتليه، هذا هو أعلي افق وصلت اليه مجموعات الفيس بوك المصرية بجانب تدوين فقرات التنديد وتحميل ملفات فيديو تنطوي على التشهير بأمور مثل التعذيب وما شابه. المنطقة العربية ببلدانها كانت قد راكمت فيها مفاعيل أزمات العولمة بجانب استبداد النظم الحاكمة واستغلالها البشع، غضبا مكتوما واستعدادا للانفجار، استهل الانفجار موجات اضراب وانتفاضات محدوده في عدد من الدول، تجمعت كل روافد الغضب علي مدار عقدين وامتلأ البرميل بالبارود الجاف في انتظار أي حادث ناسب يشعل نيرانها، أطلق حادث عارض في تونس، التي كانت تعاني وتناضل ضد حاكمها المستبد، كل البارود المخزون دفعة واحدة، شاب يسمي (بوعزيزي) أشعل النار في جسده بسبب الفقر والبطاله، كان بوعزيزي الكبس الذي اطلق الشرارة للانتفاضه التونسيه التي أطاحت بابن علي، وكانت تونس اشارة البدء لموجة ثورية جديدة، أخرست، عن طريق البرهان العملي، كل الذين ادعوا تشييع جثمان عهد الثورات إلي مثواه الأخير، فهاهي الثورة الجماهيرية ترقص رقصتها الصاخبة علي الأرض، وتنتصر، وتحفز باقي الشعوب علي الرقص. في مستهل يناير جرت عدة محاولات ساذجة في مصر لتقليد النموذج التونسي عن طريق الانتحار حرقا، إلا أن الثورات لا تنسخ بالكربون من بلد لأخر، أخذت الثورة المصرية طريقا متعرجا ففاجأت الجميع، حني صانعيها. لم يكن أحدا يهيئ لثورة أو انتفاضة في مصر يوم 25، شاركت كل ألوان الطيف السياسية في هذا اليوم، يساريون، ليبراليون، إسلاميون وقوميون، وأعداد من الشباب والجماهير التي ألهب خيالها انتصار الثورة التونسية. كان اليوم لدي صانعوه والداعون إليه لا يتخطى هدف تعبئة للاحتجاج علي سياسات النظام. خوف النظام من تحول الاحتجاجات الي انتفاضه دفعه الي قمعها، فتحولت، بفضل القمع، إلي انتفاضة حقيقية. لم تكن الانتفاضه حدثا شبابيا مجردا بل كانت فعل عام شاركت فيه كل التيارات السياسيه، وبهدف تجريد الانتفاضه من مضمونها الجماهيري، الذي كان يتعمق ويتضح طابعه يوما بعد يوم، سعي ايدلوجيو الطبقه الحاكمة إلي تسميتها - ثورة شباب - وبلع الكثيرون الطعم، فذلك الوصف كان يداعب مخيلة قطاع كبير من الشباب الذين شاركوا في الانتفاضه ويشعرهم بنشوة البطوله المنفرده، وفي نفس الوقت كان يضيق أفق الانتفاضة ويحصرها ويحد من اهدافها ويعزل عنها الغير شباب وخاصة القوي السياسيه. إن الانتفاضة في 25 يناير ليست سوي حلقة أولي من ثورة لم تنتهي فصولها بعد، في مجتمع برجوازي يعاني وجود سلطة استبداديه وقمعية، لا يمكن اعتبار الانتفاض ضد هذه السلطة ثورة في ذاته، فلم تكن مقاومة الفاشية الاوربية ثورة، بل نوعا من المقاومة التي كانت تسعى للإطاحة بالاستبداد الفاشي وقمعه، إلا أن مقاومة الفاشية كان يمكن ان تفتتح عهد ثوري في فرنسا واسبانيا والمانيا وانجلترا وايطاليا، لولا التحالف المشين لستالين وتجريد المقاومة من السلاح واعادة النظام (الديمقراطي) إلي مقاعد الإدارة الحكومية. شهدت إيران ايضا ثورة ضد استبداد الشاه لكنها لم تكتمل، قطع رجال الدين الشيعة طريقها، وأغرقوها في لجة استبداد جديد، هللت الجماهير لسقوط الشاه وفي نشوة النصر سلمت السلطة للشاه الجديد في زيه الديني وعمامته الضخمة. الثورة المصرية تأتي في سياق موجة ثورية أشد عمقا بكثير من الثورة الايرانية، تونس ومصر حلقتان في منظومة الدول التي تدور في فلك الرأسمالية العالمية، وقد إهتزتا بشدة، فهزوا معهما حلقات أخري في تلك السلسة، الأن المنطقة العربية التي تعرضت لنهب مواردها وثرواتها والاستغلال الشديد لطبقاتها العامله وفلاحيها والتي التهبت بنيران تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة، كل ذلك بتعاون مشين من سلطات مستبدة ولصة وفاسدة، تشهد الان موجة ثورية تمتد يوما بعد يوم من بلد إلي أخر، سقوط بن علي ومبارك في أقل من شهرين أعطي الأمل بقوة لباقي شعوب المنطقة، الأردن واليمن والجزائر والبحرين وليبيا يعيشون حالة انتفاض وشروط ثورة، قد يسقط نظام القذافي قبل طباعة هذا الكراس، ولا تستطيع جامعة الدول العربية عقد أي اجتماع في هذه الظروف الحرجة لأنها ببساطة لن تجد حكومات عربية شرعية مستقرة تشارك في هذا الاجتماع، الموجة الثورية العربية تتحرك بسرعة وبقوه كالطوفان ورغم ان هذه الانتفاضات تفتقر إلي قيادة سياسية ثورية توجه سيرها وتدفع بتا إلي انتصار حاسم، وهو الجانب السلبي في مشهد هذه الانتفاضات، إلا أنها بعفويتها الراهنة لا تزال علي قدر من القوة والحيوية يمكنها من اقتلاع الحكام المستبدين وفرض إصلاحات سياسية علي أقل تقدير، ما حدث في تونس ومصر حتى الآن يشير إلي أن الشعوب المنتفضة لا ترغب في التوقف عند محطة الإصلاحات السياسية، فكلما قدمت السلطات تنازلاً أغري ذلك الجماهير بالمطالبة بتنازلا اكبر وتقديم مطالب جديدة واستخدام قوة الانتفاض لفرضها، في هذا المجري تختبر الجماهير الوسطيين لتزيحهم وتتخطاهم، وتقدم إثناء تقدمها رموزا جديدة أكثر راديكالية، النظام أو العسكريون يتعرضون لخيبة أمل تلو أخري فكلما وجدوا وسطيين يتفاوضون معهم أدارت الجماهير ظهرها لهؤلاء الوسطيين لتعريهم وتفقدهم شرعية تمثيل القوي المنتفضة. لا جدال في أن الهيمنة في بدأ الانتفاضة حتى سقوط الرئيس كانت لشعارات ومزاج البرجوازية الصغيرة، ولا جدال أيضا في أن قطاع الشباب في الانتفاضه بحماسه واندفاعه البطولي وإصراره لعب دورا هاما في النجاح الذي تحقق، إلا أن تطور الانتفاضة واتساعها يبدأ في تخليصها من طابعها العام ويعيد فرز القوي وتحذير بعضها وإسقاط آخرين، الثورة المصرية في رأينا هي ثورة اجتماعية بكل انعطافتها، قد تقف عند حدود انتفاضة إصلاحية وقد تتطور لتحقيق نفسها كثورة اجتماعية كاملة تطيح بالمستغلين أيضا.
مؤامرات الثورة المضادة
منذ الأيام الأولى للانتفاضة، وبوجه خاص منذ 28 يناير الذي حطمت فيه الجماهير مؤسسات قمع النظام و هناك حركة منظمة لإجهاض الثورة أو الحد من اندفاعها والالتفاف عليها، تشكلت تلك الحركة من ائتلاف عريض من مثقفين وإعلاميين ومستثمرين ومسئولين سابقين وأعضاء برلمان وأجهزة أمنية وقادة عسكريين وعصابات بلطجية يقوم على وضع وتنفيذ خطط إجهاض الثورة. استمرار وزارة شفيق في اللحظات الحرجة كان جزء من التخطيط المضاد، استخدام البلطجية والبوليس المتخفي في أزياء مدنية ورجال الشرطة العسكرية وضباط الفرقة 4 مدرعات في القمع والإعتقال والتعذيب والحصار حتى بعد رحيل الديكتاتور، محاولات تفتيت وشق قوى التفاوض وشاشات الإعلام بعيداً عن المظاهرات والاعتصام وتوجهيهم إلى شن دعاية خبيثة - لتهدئة الأوضاع وفك الاعتصام - هو أيضاً جزء من مخططات الثورة المضادة، استخدام المخابرات لشبكة دعاية مضادة منتشرة جغرافياً، ويكمل عملها الإعلام والمثقفون المتواطئون، بهدف عزل قوى الانتفاضة التي لا تزال تعمل في الشارع، محاولة ظهور رجال النظام بمظهر جزء من قوى الثورة استعداداً لاستعادة النظام باسم الثورة نفسها. تنظيف آثار مؤسسات القمع السياسي، جهاز أمن الدولة، والسماح لضباطه بتهريب وحرق الملفات مع السماح للجماهير عقب ذلك باقتحام تلك المقرات، استعداداً لحل الجهاز اسميا وعودته تحت أسم آخر. استخدام وزارة جديدة بعد إقالة وزارة شفيق لتهدئة الانتفاضة وتعميق انشقاقاتها. خلق شعور بأن انتخابات وشيكة على الأبواب حتى تنصرف القوى السياسية للإعداد للانتخابات، ويبقى احتمال لا يمكن إغفاله، أن يكون في خلفية هذا المشهد المحتدم بونابرت يجهزه الجيش للاستيلاء على السلطة، فالقوى المتصارعة تنهك بعضها البعض دون حسم، وهذا الإنهاك يضعفها جميعاً ويترك المستقبل القريب مرهقاً للجماهير ومحفوفاً بالمخاطر والخوف من الفوضى. ورقة التعديلات الدستورية المثيرة لجدل ضخم وانشقاقات في معسكر المعارضين، فالمطروح للتصويت عليه لا ينتقص من سلطات رئيس الجمهورية، ويظل قادرا على حل البرلمان متى شاء، وله سلطة تطبيق حالة الطوارئ متى شاء، ولا يوجد ضمان جدي حول خلق دستور جديد للبلاد، ومشكلات أخرى عديدة تزيد من الارتباك والخوف من حدوث فوضى، تقديم مدنين معارضين لأحكام عسكرية وبداية فرض حالة ترهيب إعلان قرارات تقترب من الأحكام العرفية، إطلاق سراح قادة الإسلام الجهادي مع تسليط الضوء عليهم كرموز جديدة للساحة السياسية وترك المجال مفتوحا أمامهم للتحرك، الأمر الذي سيصعب أكثر فأكثر من تركيب لوحة الصراع وزيادة تعقيده، فضلا عن استخدام الجيش لعنف محسوب ضد قوى الثورة لا يصل إلي درجة الصدام المكشوف معها، حتى يظل الجيش محتفظا أمام الجماهير بمظهر راعي الثورة والمنحاز لها. كل تلك الأساليب والقوى هي اللوحة التي تتشكل منها حتى إستراتيجية إرهاق وتصفية قوى الثورة وفتح الباب أمام صعود مخلص (بونابرت). هذا المناخ هو البوابة الذهبية لصعود بونابرت على مسرح الأحداث يستولى على السلطة ويوجه ضرباته يميناً ويساراً ليفرض الهدوء والنظام على الجميع وينقذ الأمة من فوضى وشيكة، الجيش هو المؤسسة الوحيدة المرشحة لتقديم البونابرت، والشعب سيستقبل البونابرت كمنقذ للأمة من الفوضى والإنهاك. إن طريق البونابرت يهيئ الآن، والقوى المدفوعة بفعل منطق الأحداث ذاته تساعد على تمهيد الطريق لصعوده. لكنه حتى الآن مجرد احتمال ضمن احتمالات عديدة يطرحها سير الأحداث، انتصار الثورة أيضاٌ وقطع الطريق على الوسطيين ورجال النظام وصعود بونابرت، هو أيضاً أحد الاحتمالات التي يطرحها سير الأحداث، هذه اللوحة المركبة تفرض على الثوريين وعلى قوى الثورة حذراً خاصاً ووضع التكتيكات المناسبة بما فيها القطع مع الوسطيين وعزلهم، تركيز الجهود على الدعاية والتعبئة في صفوف الجماهير والعمال في مواقعهم والعمل على تنظيمهم وتحذير مطالبهم، شن دعاية استباقية تحذر من صعود العسكريين وخططهم، محاولة تحقيق مكاسب على الأرض تحفز من جديد الجماهير وتعيد تعبئتهم. كشف مؤامرات وخطط الثورة المضادة وعناصرها أمام الجماهير، اللحظة الراهنة من عمر الثورة هي لحظة دعاية كثيفة وتعبئة وتنظيم في صفوف الجماهير، استعداداً لحلقة تالية وشيكة تقطع طريق الثورة المضادة (والتي يعد البونابرت أحد وسائلها) وتضع مجالس الجماهير في سدة الحكم. عوامل تقدم وتطور الثورة المصرية تتوقف علي عدة شروط:- 1. ان ينجح العمال في تنظيم وتوحيد صفوفهم في توقيت مناسب قبل ان تستعيد البرجوازية المذعورة هيمنتها. 2. ان تتطور مطالب العمال لتزاحم البرجوازيون والمؤسسة العسكرية علي مواقع الهيمنة وأن تمتلك الشجاعة اللازمه لتوجيه ضربات للملكية الخاصة بالاستيلاء علي المصانع في عدد من المواقع وإعلان تأميم العمال لها وتشكيل إدارة عماليه ويمكن بدا هذا الهجوم في المصانع التي باعها النظام السابق واعادة تأميمها باسم الثورة. 3. أن يبدأ العمال في تشكيل مجالس أو لجان ثوره في المصانع وتشكيل قيادة لهذه المجالس تشرع من الان في فرض رقابتها علي المصانع والإنتاج والتسويق والأجور وتفرض معاييرها الخاصة في توزيع العوائد. 4. جذب سكان الأحياء الفقيرة والمدن إلي المنطق ذاته في مواقعهم ومزاحمة المحليات والاجهزة الحكومية في الإدارة مع تنفيذ إشراف فعلي علي المرافق العامة والمؤسسات أن بناء لجان ثوريه في الأحياء يمثل سندا هاما لتجذر الثوره ودعامة تمكنها من الانتصار. 5. إعادة الاستيلاء علي الأراضي المنتزعة من الفلاحين والصيادين وإنشاء مجلس تعاوني لإدارتها إدارة جماعية. 6. وضع مطلب انتقالي عام يمكن ان يكون في المرحلة القادمة (كل السلطة للجان الشعب والعمال) وشرط قدرة الشعار الانتقالي ان يكون مجسدا لأغلب حاجات العمال والفلاحين ومحدودي الدخل والأحياء الفقيرة قد يكون شعار الإشراف الشعبي الكامل علي المؤسسات والمرافق ومواقع الإنتاج ملائما لكنه ليس سوي اقتراح يمكن تخطيه. كل نجاح أو توسع لانتفاضات شعبية راهنه سيعزز ويدفع الثورة المصرية إلي الأمام، لذلك يجب ان تعلن قوي الثورة المصرية دعمها وتؤيدها التام للانتفاضات والثورات المجاورة التي تشهدها المنطقة. لقد انطلقت عدة مبادرات لتأسيس حزب للعمال، هذه المبادرات ليس كلها ثوريا، النقابي الأصفر عبد الرحمن خير احد رجال النظام يقود احد هذه المبادرات ويجب التشهير به وعزله جماهيريا وكشف تاريخه أمام جمهور العمال بوجه خاص، علي أصحاب هذه المبادرات التعاون والتنسيق وتشكيل قيادة موحدة حني لا يصبح الأمر سببا في انقسامات داخل الطبقه العامله، والأهم من ذلك هو ضرورة ان يكون لتلك المبادرات قواعد عماليه حقيق وواسعة داخل مواقع العمل يبنى على قاعدتها حزبا حقيقا للعمال، وحني يمكن توحيد طليعة عماليه حقيقية تستطيع قيادة العملية الثورية الجارية، ان تخلف هذا الشرط سنكون أمام مبادرة فوقيه لا معنى لها وسيكتب لها انهيار سريع مثل جميع المبادرات الفوقية السابقة، يجب ان تكون مهمة بناء الحزب العمالي مرتكزة على قواعد عمالية حقيقة قبل ان يتم إعلانها، قد تكون الدعوة بين العمال إلى بناء حزبهم الآن والتعبئة بين صفوفهم لانجاز تلك المهمة هو خطوة تجهيز وتهيئة أولية لازمة وأهم بكثير من إعلان سريع لأشكال وهميه لا ترتكز فعلا على قاعدة حقيق بين الطبقة العاملة، كما ان أي تحزب أوعصبويه من المثقفين اليساريين في تلك المبادرات سيكون جريمة لن يغفرها لهم التاريخ . ليست أوروبا العولمة أو حتى الولايات المتحدة الأمريكية في منجي من هذا الطوفان الثوري، قد تقلب ثورات المنطقة وجه تاريخ العالم وليس فقط تاريخها الخاص، التعبئة الجماهيرية الواسعة والمصممة في مصر، بجانب التضحيات الضخمة والانتصارات في ليبيا رغم دموية القزافي أصبحا محط أنظار الشعوب الأوربية ومصدر إلهام لهم، إن أزمات الغرب الرأسمالي تتعمق بسبب هذا الاهتزاز الثوري في المنطقة العربية ولم يعد مستبعدا أن تبدأ شعوب أوربية ثورتها الخاصة داخل السياق الجاري. كل دعائم الامبريالية الأمريكية في المنطقة صارت مستهدفة من طوفان الثورة، والسياسات التي انفقوا أكثر من ثلاثة عقود لفرضها علي المنطقة العربية أصبحت الآن في مهب الرياح، سيحدد وجه الحقبة التاريخية القادمة الثورة التي تنجح في الإطاحة الجذرية بنظامها أولاً وتفرض بديلا ثوريا عنه، وكلما كان لتلك الدولة وزن اقتصادي أو سياسي أو جغرافي هام كلما كان تأثير الانتصار الثوري فيها علي العالم اقوي، من هذا المنظور فإن نجاح الثورة في مصر سيكون له الأولوية في التأثير علي خريطة (العالم غدا) بلا جدال، ولذلك يحمل الثوريون المصريون عبء مهمة ثورية تتجاوز أثارها حدود مصر بكثير، ان أوربا تبدو الان منكمشة ومذعورة، والسياسات الأمريكية تتسم الان بالتخبط والارتباك، فشبح الثورة يقلق نومهم جميعا، فلم يعد أحدا من أنظمة العالم القديم القبيحة في مأمن من الطوفان الذي صنعته ثورة الجماهير، وستمتد أثاره بلا شك إلي أوربا ان عاجلا أو أجلا. قد تمر العملية الثورية بلحظات صعود وهبوط في مجراها، حدث ذلك في اليمن وتونس والجزائر ويحدث في مصر، فبعد مغادرة اغلب المشاركين في ميدان التحرير وتنظيفه من آثار الاعتصام وشعارات الحوائط واللافتات، عادت إلي الميدان جماهير جديدة وبعض الأكثر راديكالية من المعتصمين ولم تفلح محاولات فضهم بالقوة من قبل الشرطه العسكرية بموافقة الجيش ومشاركته، نصبت خيام الاعتصام مجددا، ورفعت لافتات المطالبة وارتفع سقفها، وانتصب التحرير مصبا للغاضبين وساحة للاعتصام، مطالبين بما هو اعلي مطلبيا مما سبق، تخوف الجنرالات من أن يؤدى ذلك إلي تصاعد جديد لموجة ثورية أدى إلى اتخاذ قرار فضها بالقوة، واعتقال العشرات من المعتصمين وتعذيبهم وتقديمهم متهمين أمام القضاء العسكري، تم الهجوم بمعاونة أعضاء في حزب النظام وعصابات بلطجية لخلق غطاء جماهيري يختبئ قمع العسكريين خلفه، ويستخدم كمبرر أمام الرأي العام حيث تم تصوير المشهد كمشاجرة بين مؤيدين ومعارضين لفكرة الاعتصام تدخل الجيش على أثرها لحفظ النظام وإخلاء الاعتصام نفسه، الحركة الإضرابيه التي لبي الجيش بعض مطالبها عادت إلي الصعود والاتساع مجددا وإن بمطالب محدودة حتي الآن، الوعود الخاصة بالتوظيف وتوفير مساكن داعبت أمال ملايين من العاطلين ومحرومى المأوى فتقدموا بطلبات لنيلها، هذه الوعود التي أطلقت لتخدير الجماهير تتحول إلى بارود ساخن وقنبلة غضب قابلة للانفجار السريع لدى جمهور اعتاد بالأمس فقط المواجهة والمطالبة والإصرار حتى الموت على أهدافه، بدأت بالفعل تجمعات واعتصامات جماهيرية احتجاجا على عدم تلبية المطالب أمام الجهات الحكومية المعنية، هاهي ملايين جديدة يتم تسخين بارودها بفعل المناورات. ديناميكيه هذا المجري للثورة تظل مفتوحة حني يتمكن أيا من طرفي الصراع من أحداث نصر حاسم علي الأخر، الجماهير أو النظام، ولازال توسع قوي الثورة وتجذير مطالبها مع تنظيم قوتها شرطا حاسما للانتصار، اللجوء لمناطق العمق الجماهيري، الأحياء الشعبية والمصانع والمحافظات وتنظيمها في لجان ثوريه هدفا لا يمكن اجتنابه إن أردنا النصر، فلا يمكن تحقيق انتصار حاسم بدونه، إن الاقتصار علي اعتصام الميادين أو مظاهرات الشوارع سيكون خطأ كبيرا لقوي الثورة وسببا لإنهاكها وعزلتها، تحالف اليسار الراديكالي، والتنسيق مع قوميين راديكاليين أو ديموقراطين مناصرين للمطالب الاجتماعية أصبح ضرورة حيوية لخلق تكتيك موحد، وللتعويض عن عدم وجود حزب ثوري قوي ومتجذر بين الجماهير. إن لم ترتقي مجموعات اليسار إلي مستوي اللحظه وتتخلي عن عصبويتها ستفقد قوي الثورة أملاً في التنظيم السياسي الثوري المناسب للحظة. بدون تنظيم الجماهير وتعميق أهدافها وخلق الإدارة السياسية الثورية المناسبة سيكون المستقبل مجهولا وفرصة إجهاض الثورة، أو الالتفاف عليها، كبيراً. كل أجزاء مسرح الصراع وقواه لا تزال في حالة سيولة سياسية واجتماعية، فلا النظام قادر - حتى الان - علي استعادة السيطرة ولا الجماهير انتصرت نصرا حاسما أو قبلت بما تم وعادت إلي السكون والمجري العادي لحياتها اليومية، ولا أيا من القوي السياسية المتصارعة أحدث هيمنة علي مجري الإحداث وجذب خلفه ذهنية الجماهير، ويتوقف المستقبل علي من يستطيع اخذ المبادرة وتنفيذ تكتيكات مناسبة يدفع بها الأحداث في اتجاهه، وفي هذا السياق تظل الفرصة أمام الراديكاليين متاحة بقوة لو جمعوا قواهم ونفذوا تكتيكات ملائمة لتنظيم قوي الجماهير ومنحها سلاح التنظيم الشعبي والسياسي الذي يمكنها من الانتصار. ان الأحداث تتلاحق بسرعة شديدة، ولا يمكن إعطاء صورة دقيقة عن ما يمكن ان يحدث في الغد، زمن الثورات يختلف كليا عن أزمنة الحياة اليومية العادية، ولا يملك المناضلين فيه رفاهية الجلوس والتأمل، فكل لحظة في أوقات الثورات قد يتوقف علي ما يتم فيها مصير أمة، ومن ثم ليس لدينا سوى العمل بدأب ودون توقف حتى يمكن تحريك المؤشر إيجابا في اتجاه قوة الجماهير وتطوير عملها، لتتمكن من حسم الصراع لصالحها هي.
كل التحية لشعب تونس العظيم الذي أطلقت ثورته هذا الطوفان الشعبي الجماهيري الهادر. كل المجد لشهدائنا وشهداء ليبيا والبحرين والجزائر وغيرهم علي طريق النصر، ولمن سيلحق بهم من ركب الشهداء في معركة تعيد صنع مستقبل الشعوب. كل الاحترام والتقدير للفتاة والمرأة العربية اللواتي نزلن إلي الميادين مناضلات ومقاتلات لم يكن أقل بطولة من باقي رفاقهم، فقد اثبتوا تهافت كل دعاوي الرجعيين عن دور المرأة، وقدموا للانتفاضات العربية مقاتلات وقادة وشهداء وشهيدات. اليسار الثوري
#اليسار_الثوري_في_مصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في معايير الحكم على الأوهام الدستورية … قراءة ماركسية في مسأ
...
-
علامات على طريق الثورة المصرية في ذكرى شهداء يناير
-
-دستورهم- بين أهداف الثورة ومناورات الثورة المضادة
المزيد.....
-
النهج الديمقراطي العمالي يدين الهجوم على النضالات العمالية و
...
-
الشبكة الديمقراطية المغربية للتضامن مع الشعوب تدين التصعيد ا
...
-
-الحلم الجورجي-: حوالي 30% من المتظاهرين جنسياتهم أجنبية
-
تايمز: رقم قياسي للمهاجرين إلى بريطانيا منذ تولي حزب العمال
...
-
المغرب يحذر من تكرار حوادث التسمم والوفاة من تعاطي -كحول الف
...
-
أردوغان: سنتخذ خطوات لمنع حزب العمال من استغلال تطورات سوريا
...
-
لم تستثن -سمك الفقراء-.. موجة غلاء غير مسبوقة لأسعار الأسماك
...
-
بيرني ساندرز: إسرائيل -ترتكب جرائم حرب وتطهير عرقي في غزة-
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال ... دفاعا عن الجدل --(ملحق) دف
...
-
اليمين المتطرف يثبت وجوده في الانتخابات الرومانية
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|