أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كاظم حبيب - الجمهورية الثانية بالعراق - الفصل الأول حزب البعث العربي الاشتراكي على رأس السلطة















المزيد.....



الجمهورية الثانية بالعراق - الفصل الأول حزب البعث العربي الاشتراكي على رأس السلطة


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 4353 - 2014 / 2 / 2 - 17:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


استهلال
في الثامن من شهر شباط/فبراير من العام 2014 تمر على العراق أبشع كارثة عاشها الشعب العراق، إذ كانت البداية لسلسلة من الكوارث والفواجع والانقلابات وسياسات الاستبداد والعنصرية والعسكرة والحروب والمجاعات وهدر الكرامات والموت بأعداد لا حصر لها من بنات وأبناء العراق، فاجعة انقلاب شباط الدموي 1963 الذي قاده البعثيون والقوميون اليمينيون الشوفينيون الذين سقطوا في مستنقع الخيانة الوطنية ومعاداة مصالح الشعب والحركة الوطنية والديمقراطية العراقية. مناسبة هذه الذكرى الحزينة والمأساوية التي تذكرنا بالطيبين والمناضلين من الناس من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية الديمقراطية ومن القوميات كافة الذين ننحني إجلالاً واحتراماً لهاماتهم الشريفة ومقاماتهم المرفوعة والشامخة دوماً في سماء العراق، أنشر هنا أجزاء من كتابي عن الجمهورية الثانية، جهورية البعث الدموية، جمهورية السلف المجرم للخلف الذي عاد ثانية إلى الحكم في انقلاب تموز 17-30 1968، وكان أكثر إجراماً وبشاعة واستبداداً. وإذا كان الانقلاب الأول مأساة، فأن الانقلاب الثاني كان مأساة ومهزلة في آن، والذي انتهى في العام 2003 بحرب الخليج الثالثة واحتلال العراق لتبدأ معها مأساة ومهزلة جديدة حيث سلّم الحكم إلى القوى الإسلامية السياسية الطائفية التي تتصارع وتتناطح في ما بينها على النفوذ والمال والجاه وبعيداً عن مصالح الشعب والوطن، فأدخلت العراق في نفق مظلم وظالم في آن واحد، في جحيم لا يطاق. سيزول هذا الجحيم قطعاً كما زالت النظم الجائرة التي سبقته، والسؤال هو متى وكيف؟
ك.ح.

المبحث الأول: القوى التي شاركت في انقلاب شباط/فبراير 1963

في الثامن من شباط/فبراير 1963 نجح الانقلابيون الجدد في الإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم الوطنية واختطفوا السلطة. واقترن هذا الانقلاب بسيل من دماء قادة ثورة 14 تموز 1958 ومن مناصري الجمهورية الأولى من قادة وأعضاء القوى الوطنية العراقية. ولم تكن حركة الانقلاب الناجحة مفاجئة لأغلب القوى السياسية العراقية, إذ كانت تتوقع ذلك في كل لحظة, حتى الفريق الركن عبد الكريم قاسم كان يعرف أن حركة انقلابية تتجمع خيوطها لتطيح بنظام حكمه, وكان يريد إلقاء القبض على المتآمرين حين بدء تنفيذ المؤامرة. ذكر الأستاذ الراحل محمد حديد أن حديثاً جرى بينه وبين الزعيم قاسم منبهاً إياه إلى وجود مؤامرات تحاك ضده, فكان جوابه أنه يعرف ذلك وينتظر بدء تحركهم. فقد جاء في كتاب مذكراتي لمحمد حديد ما يلي بهذا الصدد:
"كان هناك أعضاء من "الحزب الوطني التقدمي" يطالبون باتخاذ موقف أكثر صراحة للمطالبة بتغيير الأوضاع, بل إن بعضهم قدّم لي مذكرة مشتركة في هذا الشأن. وكان بعضهم ينقل إليّ تخوفه من وجود تآمر على النظام بسبب النشاط المتزايد لحزب البعث العربي الاشتراكي والحركات القومية, إضافة إلى التهجم المتواصل على النظام العراقي من جانب الصحف العربية المناوئة للنظام, وكذلك إذاعة "صوت العرب". وكنت أنقل هذه المشاعر إلى عبد الكريم قاسم الذي كان يرد على ذلك بالقول إنه مسيطر على الوضع, ولا يستطيع أحد تهديد النظام. وفي الرد على وجود اتخاذ إجراءات احتياطية, كان يشير إلى أنه يجب انتظار شروعهم في الحركة ليقبض عليهم متلبسين بالتآمر". كان هذا في النصف الثاني من العام 1962. ويعلق الأستاذ محمد حديد على هذا الموقف فيقول:
"وكان ذلك زيادة في الاعتداد بالنفس والقدرة على السيطرة على جميع الأوضاع, إذ ظهر في ما بعد أن كثيراً ممن كان عبد الكريم قاسم يظن أنه يعتمد على ولائهم, كانوا إما مشتركين في التآمر, وإما تخلوا عن ولائهم ولم يقوموا بعمل جدي للدفاع عن النظام" .
كان عبد الكريم قاسم يعتقد جازماً بأن الشعب كفيل بإسقاط المحاولة وإفشال الواقفين وراء العملية, إضافة إلى تصوره الخاطئ بولاء كل من كان قريباً منه وأبدى شكلياً جانب الولاء له, رغم تلقيه التهديد الواضح الذي جاء على لسان مندوب شركات النفط الأجنبية عضو الوفد المفاوض وممثل شركة ستاندارد أويل أو نيوجرسي حيث جرى الحديث التالي بين الأخير وعبد الكريم قاسم: (مقطع من نص الحديث المتبادل)
"الزعيم : هل تريدوننا أن نكون مثل الحكومات السابقة ننفذ ما تريدونه؟
فيشر : كلا, وإنما نريد أن تفحصوا وجهة نظرنا.
الزعيم : لقد فحصنا وجهة نظركم.
فيشر : ولكنكم لا تعترفون بأن ما نقوله صحيحاً.
الزعيم : أعتقد إننا جئنا معكم لدرجة كبيرة ومع ذلك فإننا لا نريد أن نؤثر على موقف الشركات, ولكننا يجب أن لا نخسر لأننا أصحاب الحق في هذا البلد. ليس لدينا شيء الآن ونعتبر المفاوضات منقطعة بسبب تعنت الشركات في وجهات نظرها وعدم موافقتها على إعطاء حق العراق ولا يمكن لنا أن نصبر على ضياع حق العراق مدة طويلة. أنكم تريدون كل الأمور في صالحكم, وعلى كل حال أتمنى لكم الخير.
فيشر : شكراً وأرجو كل الخير لسيادتكم وللشعب العراقي.
الزعيم : هذه آباركم باستطاعتكم استغلالها كما تريدون وأني آسف لأن أقول لكم بأننا سنأخذ بقية الأراضي بموجب تشريعاتنا الجاهزة حتى لا يكون ذلك بمباغتة لكم وأشكركم على حضوركم.
فيشر : نشكركم على إخباركم بذلك وسننتظر ماذا ستكون النتائج.
الزعيم : أية نتائج؟
فيشر : أقصد أن علينا أن نتخذ الخطوات اللازمة لحماية مصالحنا.
الزعيم : نحمي مصالحنا ومصالحكم كذلك" .
التقط عبد الكريم قاسم التهديد بوضوح حين استفسر منه: أية نتائج؟, ولكن فيشر استدرك ليدفع بالموضوع إلى وجهة أخرى, ولكن بقى التهديد واضحاً وصريحاً. إذ كانت النتائج التي يقصدها فيشر واضحة وهي تشديد التآمر ضد حكم عبد الكريم قاسم. وكان عبد الكريم قاسم مخطئاً باعتماده المطلق على أجهزته الأمنية وعلى قدرة الشعب في التصدي للمؤامرة وهو الذي انتزع من الجماهير كل أسلحتها النضالية والوقوف إلى جانبه, كما عمل كل شيء من أجل إثارة كل المناهضين له للتوحد والعمل المشترك ضد وجوده في السلطة وضد الجمهورية الأولى, والتي حاولنا الإشارة إليها في الكتاب الخامس من أجزاء هذا الكتاب العشرة.
يتحمل عبد الكريم قاسم الجزء الأساسي من مسؤولية تدهور الوضع السياسي في العراق وانعدام الحياة البرلمانية الديمقراطية القائمة على أساس دستور ديمقراطي ومدني حديث. كتب الأستاذ الراحل إبراهيم كبة بشأن دور حكومة قاسم في سقوط الجمهورية الأولى مؤكداً أن حكم قاسم مَّر بمرحلتين, المرحلة التي تميزت في السنة الأولى من الثورة, ثم الفترة الثانية التي شهدت الآنتكاسة حيث كان الفكر الرجعي يحاول طمسها, فهو يؤكد ما يلي:
"..., تبذل كل المحاولات لطمس الجوهر الحقيقي للانحراف القاسمي في سنواته الأخيرة المتمثل في الدكتاتورية الفردية ومعاداة الديمقراطية وتمزيق الوحدة الوطنية وإطلاق العنان لليمين البرجوازي والقوى الوسطية والبيروقراطية المتفسخة, والمساومة المكشوفة مع الطبقات الرجعية وأصحاب المصالح المركزة والفئات الآنتهازية, وهو الأمر الذي لم يؤد فقط إلى تجميد الثورة بل تمكين قوى الردة تنفيذ مخططها لإسقاط الحكم القاسمي لا لتطوير جوانبه الإيجابية والعودة لمنطلقات ثورة تموز الأصلية, بل للإجهاز على الجوانب المذكورة في عملية واضحة لتصفية جميع إنجازات الثورة والعودة بالعراق لعهد ما قبل تموز. إن انقلابي شباط وتشرين, كما أثبتت الأحداث, كانا (تتويجاً) للانحراف القاسمي في جوهره الدكتاتوري الفردي المعادي للديمقراطية, مع تطوير هذا الآنحراف خطوات واسعة للأمام, وتحويله إلى السياسة الرسمية للدولة" .
لا شك في أن القوى والأحزاب السياسية الوطنية كافة تتحمل مسؤولية ما آل إليه الوضع في العراق حينذاك ابتداءً من شد الصراع غير العقلاني على السلطة ومروراً بالموقع المتميز فيها والعداء المستحكم الذي نما وتطور بين القوى السياسية المختلفة, وانتهاءً بعجزها عن فهم طبيعة القضية الكُردية ومهماتها وضرورات التجاوب مع مصالح القوميات المختلفة في العراق. كما أنها عجزت عن فهم حقيقة النشاط الكبير الذي كانت تمارسه القوى الخارجية المناهضة لحكم عبد الكريم قاسم بسبب سياسته الوطنية إزاء شركات النفط الأجنبية, وكذلك الموقف غير السليم الذي أعلنه قاسم من الكويت, إضافة إلى موقف دول حلف بغداد التي وجدت في النظام سبباً لاهتزاز نظامها الأمني والعسكري في المنطقة. وقد حصدت جميع القوى السياسية الوطنية الثمار المرة للسياسات التي مورست من قبلها في أعقاب الثورة مباشرة. إلا أن القوى السياسية المباشرة, التي بدأت ببث الفرقة ورفع الشعارات المفرقة للصف الوطني والمحفزة على الصراع والعدوانية السياسية والروح الانقلابية منذ الأيام الأولى للثورة وعمدت إلى وضع العصي في عجلة التطور السياسي بهدف توفير مستلزمات الاستيلاء المنفرد على السلطة, كانت بالأساس قوى البعث وبعض الحركات القومية العربية.
لقد كان الانقلاب الذي هيأت له ونفذته دمويا بكل معنى الكلمة, إذ مارس الانقلابيون مختلف الأساليب الفاشية لتصفية أقطاب الحكم الوطني والخصوم السياسيين, وخاصة قتل الشيوعيين والديمقراطيين التقدميين وجمهرة من أنصار قاسم. وإذا كانت المواقف السياسية للقوى القومية قد بدأت منذ فترة مبكرة للإطاحة بقاسم, فأن تحالفها الفعلي نشأ منذ العام 1961 حيث تشكلت الجبهة القومية من ثلاثة أحزاب قومية هي حزب البعث العربي الاشتراكي وحزب الاستقلال وحركة القوميين العرب. ولم يسجل التحالف القومي من حيث المبدأ سوى هدف رئيسي وأساسي واحد هو الإطاحة بنظام الحكم وانتزاع السلطة من عبد الكريم قاسم.
لقد نشا التحالف المناهض لحكومة عبد الكريم قاسم على قاعدتين, قاعدة طبقية اجتماعية وأخرى فكرية وسياسية تستند إلى إيديولوجية قومية شوفينية وخلفية دينية متزمتة. ولم ينفرد حزب البعث العربي الاشتراكي بالتحضير لانقلاب شباط وتنفيذه, بل شاركت معه مجموعة من القوى الاجتماعية والأحزاب السياسية الآتية التي كان يهمها الخلاص العاجل من حكومة عبد الكريم قاسم, رغم وجود فوارق واضحة في الجهد الذي بذل من جانب مختلف القوى لتنفيذ المخطط الانقلابي. ويمكن بلورة القوى التي شاركت في هذا التحالف من الناحية الطبقية الاجتماعية فيما يلي:
* فئات البرجوازية التجارية الكبيرة والبرجوازية العقارية وأوساط غير قليلة من البرجوازية البيروقراطية التي كانت ثورة تموز 1958 قد وجهت ضربات سياسية واقتصادية واجتماعية قاسية إلى مواقعها ومصالحها في البلاد وأجهزت على نظام حكمها الملكي الإقطاعي.
* فئات الإقطاعيين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية التي أصابت الثورة مصالحها الاقتصادية في الصميم فصادرت مساحات واسعة جداً من تلك الأراضي التي كانت في حوزتها وأضعفت نفوذها وتأثيرها السياسي والاجتماعي, علماً بأن هذه الفئات قد استطاعت منذ عام 1961 استرداد الكثير من مصالحها المفقودة بإجراءات وقرارات صدرت عن حكومة قاسم نفسه.
* بعض أوساط البرجوازية المتوسطة, وخاصة التجارية منها, التي أرعبتها حركة الجماهير وتصاعد نضال العمال والفلاحين وتنامي نفوذ الشيوعيين في أوساط الشعب وتأثيره على الشارع والمبالغة بقوته. وعلى المتتبع أن لا ينسى بأن بعض فئات البرجوازية العراقية كانت على صلة متينة بالريف والأرض, وكانت تمتلك مساحات غير قليلة وتحصل على جزء غير قليل من الريع المتحقق في الزراعة, وبالتالي لم تكن منسجمة مع قانون الإصلاح الزراعي, رغم أن القانون كان إصلاحياً برجوازياً يخدم مصالح البرجوازية المتوسطة والصناعية وتنشيط عملية تراكم رأس المال والتنمية الزراعية الحديثة.
* أوساط قليلة من البرجوازية الصغيرة العاملة في القوات المسلحة ودوائر الدولة ومن حملة الفكر القومي. وجدير بالإشارة إلى أن جمهرة غير قليلة من الضباط القوميين العرب قد وجدت نفسها بعيدة عن مواقع المسؤولية في الثورة, وأن الثورة قد سارت, حسب رأيهم في طريق مناهض للوحدة العربية, وبالتالي بدأوا يمارسون مختلف النشاطات لمناهضة حكومة قاسم وإسقاطها سواء بصورة علنية أم سرية وبالتعاون مع بقية القوى المناهضة لحكومة قاسم. لقد أصيبت هذه القوى بخيبة أمل كما يشير إلى ذلك بصواب الأستاذ الراحل حنا بطاطو.
* القوى القومية الكُردية التي اصطدمت بسياسات قاسم إزاء المسألة الكُردية ولم يستجب لمطالبها العادلة في الاعتراف بوجود شعب كُردي له حقوق وواجبات, كما له الحق في تقرير مصيره بنفسه, وبالتالي اصطفت مع القوى المعادية لحكومة قاسم والراغبة في إسقاطه والخلاص من نظامه السياسي.

وخلال الفترة التي سبقت الثورة وما بعدها لم تتوفر مستلزمات نشوء أحزاب سياسية يمكنها أن تعبر بشكل واضح عن مصالح جميع تلك الطبقات والفئات الاجتماعية بسبب غياب الحياة الحزبية السليمة والحرية الضرورية, لهذا تجمع أكثر المعادين لحكومة قاسم في أحزاب سياسية قومية أو دينية أو تجمهرت حولها وأيدت مشروعها السياسي.
وعلى صعيد القوى السياسية فقد كان التحالف المباشر وغير المباشر بين القوى المناهضة لحكومة قاسم قد ضم إليه القوى والأحزاب التالية:

1. الجماعات القومية:
+ حزب البعث العربي الاشتراكي.
+ الحزب القومي الناصري.
+ حركة القوميين العرب التي كانت قد انسحبت من الجبهة القومية, إلا إنها حافظت على علاقاتها ونشاطها السياسي المناهض لحكم عبد الكريم قاسم.
+ الرابطة القومية.
+ الحزب العربي الاشتراكي.
+ التجمع القومي العراقي في القاهرة.

2. جماعات الإسلام السياسي المناهضة لعبد الكريم قاسم:
+ جماعة الأخوان المسلمين (الحزب الإسلامي).
+ حزب التحرير الإسلامي.
+ حزب الدعوة الإسلامية الشيعي.
3. الحزب الديمقراطي الكُردستاني.

ولم تقدم هذه الأحزاب في فترة حكم قاسم على طلب إجازة أحزابها بل مارست العمل على أساس الدمج بين السرية والعلنية ( في ما عدا الحزب الديمقراطي الكُردستاني الذي حورب ابتداءً من أوائل عام 1961). وقد وجدت بعض الأوساط العشائرية والقوى التي كانت تعمل مع حزب الإتحاد الدستوري وحزب الأمة الاشتراكي في فترة الحكم الملكي مجالا رحبا للتعاون مع تلك الأحزاب ومدها بالدعم المادي.
وعلى الصعيد الخارجي يمكن القول بأن تحالفاً واسعاً قد نشأ يمكن بلورة أهم مكوناته على النحو التالي:
+ تحالف سياسي عربي قائم على أساس العداء الشديد لحكم عبد الكريم قاسم وسياساته في المنطقة, ضم إليه عملياً وعبر الجامعة العربية الدول العربية التي كانت تقودها قوى قومية, وتلك التي كانت لا تخفي تحالفها المباشر مع الدول الاستعمارية وسياساتها في المنطقة.
وتجدر الإشارة إلى أن القوى القومية والبعثية وبعض القوى الدينية في الأقطار العربية والقوى اليمينية المناهضة لحكومة عبد الكريم قاسم وللإجراءات التي اتخذتها في السياسة الاقتصادية والاجتماعية قد ساهمت في دعم قوى الانقلاب.
+ الدول غير العربية في المنطقة وبشكل خاص إيران وتركيا وباكستان باعتبارها كانت أعضاء في حلف بغداد (السنتو), إضافة إلى إسرائيل التي كانت ترى في سياسة قاسم تحدياً لها وإسناداً متنوعاً للقوى الفلسطينية.
+ الدول التي تضررت مصالحها النفطية وشركاتها في العراق, وبشكل خاص كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وكانت الاحتكارات النفطية من بين أكثر القوى الدولية شراسة في عدائها لحكومة قاسم ورغبتها في التخلص من هذا الحكم الوطني.

تجمعت جميع هذه القوى والأحزاب والدول تحت شعار واحد أساسي:
" يا أعداء عبد الكريم قاسم, ويا أعداء الشيوعية اتحدوا".
إلا أن ترجمة هذا الشعار كانت تعني بلا شك الإطاحة بالحكم الوطني وإقامة البديل القومي الشوفيني, أي إنها كانت تخوض صراعا حول السلطة. ومن الجدير بالإشارة إلى أن قوتين أساسيتين من بين القوى القومية هما اللتان لعبتا دورا حاسما في الإطاحة بحكم قاسم, وأعني بهما حزب البعث العربي الاشتراكي بجناحيه المدني والعسكري, والقوى القومية العربية الناصرية بجناحيها العسكري والمدني.
لقد وفر هذا التحالف السياسي الواسع عدة فوائد للانقلابيين, وهي:
** ضمان قاعدة واسعة نسبياً من المناهضين المستعدين للمشاركة في عملية الآنقضاض على النظام.
** ضمان انسياب المعلومات الاستخباراتية الضرورية حول تحركات النظام واختيار اللحظة المناسبة لتوجيه الضربة.
** ضمان دعم سياسي وإعلامي دوليين واسعين يساعدان على تعبئة تأييد سريع وفعال ضد حكومة قاسم والقوى المساندة لها من جهة, ودعم أهداف الانقلابيين والدعاية الخارجية لهم من جهة أخرى.
** تأمين الموارد المالية لتعبئة القوى الضرورية لتأييد الحركة الانقلابية.
عند العودة إلى تلك الفترة سيجد الباحث نفسه مجبراً على تسجيل جملة من الحقائق المهمة التي سبقت الانقلاب وكانت ضمن عمليات التهيئة له, والتي يمكن بلورتها في النقاط التالية:
1. القيام بسلسلة واسعة من عمليات الاغتيال الفردي لعدد كبير من الشيوعيين والديمقراطيين في مناطق مختلفة من العراق بهدف إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار وزعزعة الثقة بقدرة النظام على حفظ الأمن وسلامة المواطنات والمواطنين.
2. شن حملة دعائية هادفة ومركزة ضد الشيوعيين بدعوى تمزيقهم القرآن أو الإساءة للإسلاميين والدين أو بتهمة الإلحاد والخروج عن الآداب العامة للإسلام...الخ!
وبعد نجاح الانقلاب أقتسم البعثيون والقوميون السلطة بصورة غير متكافئة إذ هيمن البعثيون على المراكز الأساسية في الدولة وفي توجيه دفة الحكم, في حين كان نصيب القوميين محدوداً وغير مؤثر في الأحداث السياسية اليومية. وكان هذا الواقع أحد أوجه الخلاف الذي نشب هادئا بين القوتين وغطى عليه الصراع الداخلي الذي تفجر بين أجنحة البعث الحاكم, الذي لم يكن في كل الأحوال صراعا حول المبادئ بل حول السلطة ومراكز القوة فيها. وقد أضعف هذا الصراع قوى البعثيين ومهد السبيل أمام القوى القومية للتعاون في ما بينها والتخلص من حليف الأمس, من البعثيين في تشرين الثاني من نفس العام (1963). وأعلن عبد السلام محمد عارف نفسه رئيسا للجمهورية.
كما أن هذه القوى قد أبعدت عملياً بقية القوى التي ساندت البعث والقوى القومية عن مراكز السلطة, وبالتالي أسست لصراع جديد معها.
وعلى صعيد آخر فقد تخلت القوى التي قادت الانقلاب عن الإيفاء بوعودها إلى الحركة الكُردية المسلحة التي كان يقودها ملا مصطفى البارزاني في كُردستان العراق, وبالتالي تفجرت الحرب من جديد, وكانت أحد العوامل الأكثر قوة في إضعاف هذا النظام أيضاً فقاد مع بقية العوامل إلى دفع النظام إلى حتفه بسرعة.
وعند البحث في الفترة الواقعة بين 1963-1968 يصعب التفريق بين الفترة الأولى الواقعة بين شباط/فبراير 1963 -18 تشرين الثاني/نوفمبر 1963 التي انتهت بسقوط البعث وتولي القوميين السلطة في الفترة بين 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1964 وسقوطهم في 17 تموز/يوليو 1968, وتولي البعث السلطة مرة أخرى للسلطة, من حيث جوهر السياسة الاقتصادية والاجتماعية أو الموقف من الحياة الديمقراطية أو من العلاقات العربية, في ما عدا ميل البعثيين إلى الحكم البعثي في سوريا, الذي كان قد أعلن قبل ذاك الآنفصال عن الوحدة مع مصر, وبين ميل القوميين العرب إلى سياسة جمال عبد الناصر في مصر. وفي العام 1964 عمدت الحكومة الجديدة إلى عقد سلسلة من الاتفاقيات الاقتصادية والتبادل التجاري والتعاون الفني مع العديد من الأقطار العربية وفي مقدمتها الجمهورية العربية المتحدة والكويت, إضافة إلى بعض الاتفاقيات مع بعض الدول الاشتراكية وغيرها.
وتمثل في قيادة الحكم الجديد اتجاهان بارزان في الحركة القومية العربية اتجاه ناصري يسعى إلى تحقيق المزيد من التقارب والتماثل بين اتجاهات التطور في البلدين واتجاه يميل إلى إبعاد العراق عن الوحدة مع مصر وتطوير علاقات التعاون معها وفسح المجال أمام البرجوازية التجارية والعقارية للعمل على نطاق واسع.
ومن الأسئلة التي تستوجب الإجابة في هذا الكتاب نذكر ما يلي:
لِمَ هذا الانقلاب, أي ما هي أهدافه؟ وهل تحققت فعلاً في ضوء ما كان يجري الإعلان عنه؟ ولِمَ هذا العنف والقسوة اللذان مورسا بشراسة منقطعة النظير ضد المعارضين؟ سنحاول هنا أن نشير إلى الأهداف التي أعلن عنها والتي حمل البعثيون والقوميون وغيرهم شعاراتها أولاً, ثم نحاول الإجابة في نهاية الكتاب وعبر صفحات الكتاب ذاته عن مدى تطابق تلك الأهداف مع النتائج التي توصل إليها الانقلابيون.
تحدث البعثيون والقوميون في صحافتهم وأدبياتهم ودعاياتهم في الداخل والخارج بأنهم يلاحظون انحراف النظام القاسمي عن الأهداف التي يسعون إليها, والتي يمكن تلخيصها, بناءً على أدبيات هذه القوى فيما يلي:
1 . أن النظام القاسمي نظام غير قومي عربي, بل مناهض للقومية العربية. وهو مناهض للوحدة العربية, ومنها الوحدة مع سوريا ومصر.
2 . وبهذا المعنى, فهو نظام شعوبي يخدم مصالح غير عربية ويرفض التعاون مع جمال عبد الناصر أو السير تحت قيادته.
3 . وأن النظام القاسمي خاضع للحزب الشيوعي العراقي وتابع لسياساته, وبالتالي فهو يسير في ركاب المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي.
4 . وأن عبد الكريم قاسم مستبد بأمره لا يحترم الحرية والديمقراطية.
5 . ولهذا فهو يكافح التيارات البعثية والقومية والإسلامية في العراق ويمارس اضطهاد هذه القوى.
واستناداً إلى كل ذلك رفعت شعارات تدعو إلى الوحدة العربية وإلى الالتزام بالقومية العربية وضد الشيوعية وضد الاستبداد والدكتاتورية, كما دعت إلى "الحياد الإيجابي" بعيداً عن مفهومه الناقص وبعيداً عن الاتحاد السوفييتي, حين رفعت شعار لا غربية ولا شرقية. كتب أحد قياديي حركة القوميين العرب الراحل الدكتور باسل الكبيسي بهذا الصدد يقول:
"وخلاصة القول أن "حركة القوميين العرب" انتهجت, خلال هذه المرحلة, البرنامج الذي وضعته لجنتها التنفيذية في عام 1959. ويتضمن هذا البرنامج ما يلي: التركيز على قضية الوحدة العربية, الصراع ضد الشيوعيين المحليين والقوى الرجعية في الوطن العربي, التأكيد على سياسة الحياد الإيجابي. دعم الثورة الجزائرية, وأخيراً وليس آخراً دعم الجمهورية العربية المتحدة على الصعيدين الداخلي والخارجي" .
أما القوى الإسلامية السياسية فكان همها يتركز في ثلاث نقاط, هي:
1 . أن النظام القاسمي غير إسلامي.
2 . وهو نظام شيوعي ملحد يتعاون مع الشيوعية المحلية والدولية.
3 . وأن النظام يرفض الالتزام بالشريعة, بل أصدر قوانين ضد الشريعة الإسلامية, ومنها قانون الأحوال الشخصية وحقوق المرأة.
واتفقت على هذه الوجهة في محاربة نظام الحكم الجمهوري الأول القوى والأحزاب الإسلامية السنية والشيعية, رغم التباين والصراع في ما بينها على امتداد فترات طويلة. والآن أصبح النظام القاسمي عدوهما المشترك.
أما فئة كبار الملاكين وجمهرة صغيرة من الإقطاعيين فكانت تتفق مع الأفكار والسياسات المعادية لقاسم التي تطرحها هذه القوى, كما تضيف إليها بأن النظام القاسمي قد سلبها أرضها حين طبق قانون الإصلاح الزراعي وسلبها سلطتها حين أسقط الملكية, وسلبها نفوذها الاجتماعي والسياسي وحرمها من امتيازاتها الكبيرة التي تجسدت في قانون العشائر الذي كان ساري المفعول في ظل النظام الملكي وألغي من قبل حكومة قاسم بسبب انطلاق الفلاحين الفقراء والمعدمين يناضلون في سبيل تطبيق قانون الإصلاح الزراعي.
أما القوى القومية الكُردية فقد كان النظام القاسمي قد رفض تحقيق جملة من المطالب التي طرحتها وأصرت عليها ورفض عبد الكريم قاسم الاستجابة لها, رغم عدالتها, بغض النظر عن الطريقة أو الأسلوب أو الوقت الذي طُرحت فيه تلك المطالب. وكانت أبرز تلك المطالب تتلخص في ثلاثة, وهي:
1 . اعتبار القسم العربي من العراق جزءاً من الأمة العربية, وليس كل العراق وأن العراق يعيش فيه شعبان رئيسيان هما الشعب العربي والشعب الكُردي, إضافة إلى وجود أقليات قومية.
2 . منح الشعب الكُردي الحكم الذاتي في إطار الدولة العراقية.
3 . تحقيق جملة من المطالب الأخرى الخاصة بحقوق الشعب الكُردي كاللغة الكُردية وإزالة آثار التمييز ضد الكُرد ...الخ.
أما بصدد الدول العربية والدول المجاورة فقد كانت الإشكالية تتلخص في النقاط التالية:
1 . رفض أسلوب الثورة الذي مارسه الضباط الأحرار والذي يمكن أن ينتقل إلى البلدان الأخرى. ولم تلتق مع هذا الموقف كل من سوريا ومصر.
2 . أن نظام عبد الكريم قاسم يوفر أرضية صالحة لنمو الشيوعية الإلحادية التي يمكن أن تنتشر وتصل إلى مناطق أخرى, وهي بالضد من مبادئ الإسلام وسياسات الدول الجارية حينذاك.
3 . كما أنه يمارس سياسة إصدار القوانين المخلة باتجاهات تلك الدول الفكرية والسياسية والموقف من بعض الإجراءات مثل قانون الإصلاح الزراعي أو قانون الأحوال الشخصية أو قانون العمل والعمال ...الخ.
4 . أنه يشكل موقعاً مناهضاً للتحالف مع الدول الغربية وتعزيز علاقاتها المتبادلة, ويقيم أفضل العلاقات المشبوهة مع البلدان الاشتراكية, وخاصة مع الاتحاد السوفييتي. وأكبر دليل على ذلك هو خروج العراق من حلف بغداد ومن منطقة الإسترليني وعقده اتفاقيات اقتصادية وثقافية مع الاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا وغيرها.
5 . وأنه يشكل نموذجاً خطراً في التعامل مع شركات النفط الاحتكارية التي يمكن أن تؤثر سلباً على العلاقات الودية بين حكام تلك البلدان وشركات النفط الأجنبية.
6 . وأنه يسقط الاحتكار الذي فرضته الدول الرأسمالية المتقدمة على أسواق الدول العربية ودول المنطقة عموماً وعلى تجارتها الخارجية واستثمار مواردها الأولية. ومثل هذا النهج الذي يتبعه قاسم ويرسي دعائم سياسة خارجية جديدة متحررة ومستقلة لا يرضي حكام الدول العربية ويضعف تحالفها التبعي ويقلص من حماية الدول الرأسمالية وشركاتها الاحتكارية لتلك النظم العربية من شعوبها الغاضبة.
من هنا يتبين للمتتبع وجود نقاط التقاء كثيرة بين جميع هذه القوى, مع وجود بعض الاختلافات في ما بين البعض الآخر. إذ يمكن الإشارة إلى بعض نقاط الخلاف مع القوى الكُردية أو مع مصر وسوريا, ولكنها فقدت قيمتها العملية المؤثرة بسبب العداء المشترك الذي استحكم ضد حكومة قاسم وضرورة إزاحته من السلطة.

الثاني
العوامل الكامنة وراء نجاح انقلاب شباط/فبراير 1963

شكل حزب البعث العربي الاشتراكي الهيكل الرئيسي والعقل المدبر والمنفذ الفعلي لانقلاب الثامن من شباط/فبراير 1963, في حين لعبت القوى القومية الأخرى, وخاصة في الجيش, الدور المساند والداعم له مثل عبد السلام محمد عارف وعبد الكريم فرحان وصبحي عبد الحميد وعارف عبد الرزاق وعبد الهادي الراوي, إضافة إلى مشاركة بعض المؤمنين المتدينين من الضباط المسلمين المتشددين من أمثال عبد الغني الراوي وغيره, في عملية التنفيذ وليس في التحضير للانقلاب , وكانت المجموعة الأخيرة ترتبط بالجناح القومي الناصري من الحركة السياسية العراقية, في حين كان العقيد الركن عبد الغني الراوي يرتبط بشكل أقوى وأوضح بالتيار السياسي والديني للملكة العربية السعودية, وإن كان يعمل تحت خيمة التيار القومي الناصري بجناحه اليميني. لقد بني هذا التعاون السياسي في فترة الانقلاب في ضوء التحالف القديم الذي نشأ في العام 1959 بين القوى القومية بمختلف أجنحتها والقوى البعثية والذي أطلق عليه في حينها بـ "التجمع القومي" رغم انفضاض عقده بعد سقوط الوحدة المصرية السورية وانسحاب سوريا من تلك الوحدة الشكلية في أعقاب انقلاب 1962, وكذلك التحالف السياسي المباشر المناهض لحكم عبد الكريم قاسم بين قوى البعث والقوى الكُردية. أما التحالف بين القوى القومية والقوى الإسلامية السياسية, شيعية كانت أم سنية, فقد كان تحالفاً عملياً تحقق على الأرض وفي الموقف العام من حكم قاسم وفي الشارع, رغم الفجوة التي كانت قائمة بين فكر وممارسات حزب البعث وبين قوى الإسلام السياسي الشيعية. وإذا كانت قوى الإسلام السياسي الشيعية قلقة من موقفها المناهض لقاسم بسبب أن غالبية أتباع المذهب الشيعي كان تميل إلى جانب عبد الكريم قاسم, في حين أن نسبة غير قليلة من أتباع المذهب السني ضد قاسم.
كانت القيادة الفعلية للانقلاب محصورة بيد النواة الصلبة المكونة لقيادة حزب البعث والتي تمثلت قبل انقلاب شباط بالثلاثي على صالح السعدي, أمين سر القيادة القطرية حينذاك, وحازم جواد وطالب شبيب, وكلاهما كان عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث, وكلهم من الشباب الذين لا تزيد أعمارهم حينذاك عن الثلاثين عاماً, إضافة إلى كل من أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وعبد الستار عبد اللطيف ومنذر الوندواي, وهم من أعضاء المكتب العسكري لحزب البعث, وكذلك قيادة فرع بغداد, التي كان حازم جواد مسؤولاً عنها. وكانت هذه المجموعة الصغيرة تدير نشاط القيادة القطرية والمكتب العسكري لحزب البعث في آن واحد وتخطط للانقلاب. وكان المكتب العسكري لحزب البعث مسؤولاً عن تنظيم وتأمين العلاقة مع الضباط المرتبطين بحزب البعث أو المساندين لحركة الانقلاب ضد حكومة عبد الكريم قاسم وتوزيع المهمات على المشاركين في الانقلاب. لم يكن للانقلابيين عدداً كبيراً من الضباط المساندين لحركتهم بقدر ما كان للشيوعيين والقاسميين والديمقراطيين من الضباط. ومع ذلك نجح الانقلاب البعثي وأطيح بحكم قاسم واستولى البعثيون على السلطة السياسية. والسؤال المشروع الذي يفرض نفسه في هذا المجال هو: لِمَ انتصر الانقلابيون وفشل قاسم في الاحتفاظ بالحكم؟ لا شك في أن الكتاب السادس من هذه المجلدات العشرة قد حاول الإجابة عن هذا السؤال بصورة جزئية, في حين يمكن في هذا الكتاب البحث بشكل أوسع في الموضوع. ويبدو لي مفيداً بلورة الإجابة عن هذا السؤال بنقاط محددة لإدراك عمق المشكلات التي اقترنت بعملية الإطاحة بحكم الفريق الركن عبد الكريم قاسم.
ويفترض أن نتابع حركة القوى المتصارعة حينذاك, أي كيف كانت تعمل القوى التي تساند وتقف بمستويات مختلفة إلى جانب قاسم, وكيف كانت تعمل القوى المضادة لحكم عبد الكريم قاسم؟ وبصدد الجزء الأول من هذا السؤال يمكن بلورة الجواب بالنقاط التالية:
* هيمنت فردية قاسم على علاقته مع القوى الأخرى وسيطرة القناعة لديه بأنه الحاكم المعبود من الشعب والقادر على قهر كل المتآمرين, وهي صيحة اقرب ما تكون إلى "دار السيد مأمونة" التي أطلقها نوري السعيد حينذاك وقبل إسقاط نظامه. لم تساعد السمة الفردية والغرور على الاستعانة بالآخرين لمساعدته في التعرف على الواقع السياسي في البلاد. ورغم معرفته باحتمال حصول انقلاب واعتقال بعض البعثيين, إلا أنه لم يستطع إدراك عمق الأزمة التي كان يعيشها نظامه والعراق كله في آن وسخر بالقوى المناهضة له وبإمكانياته, ولهذا لم يتخذ وينفذ مجموعة كبيرة من الإجراءات التي كانت ضرورية والتي كان في مقدورها وضع حد أو إعاقة وقوع الانقلاب أو إفشاله عند وقوعه. والجدير بالإشارة أن عبد الكريم قاسم لم يأمر أو يمارس التعذيب ضد المعتقلين من البعثيين قبل الانقلاب بأيام, للحصول على أسرار الانقلاب, وهو أمر يحسب لصالح قائد ثورة تموز. لقد كان قاسم فرداً مستبداً برأيه في تعامله مع الأحداث والواقع العراقي ومع آراء الآخرين الذين نصحوه وحذروه من النشاط التآمري ضده, ولكنه لم يقم نظاماً دكتاتورياً مطلقاً في البلاد.
* الحرب المجنونة التي مارسها عبد الكريم قاسم ضد الشعب الكُردي والتي استنزفت الكثير من قواه الداخلية والعسكرية وتسببت في زيادة معارضة بنسبة عالية من السكان في الموقف من الحرب, إضافة إلى مطالبة القوى السياسية العراقية من قاسم في إيقاف القتل وحل المسألة الكُردية بالطرق السلمية وعبر التفاوض المباشر.
* كما أن سياسته غير العقلانية إزاء الكويت ودعوته إلى إلحاقها بالعراق وادعاء عائديتها للعراق وسعيه الفعلي لاستعادتها بالطرق العسكرية.
* وفي ما عدا عن ذلك فأن الثقة العالية التي كانت لدى قاسم بنفسه أولاً, وبأن الشعب سيدافع عنه في اللحظة المناسبة ثانياً, ورغبته في تجنب أي حرب أهليه ثالثاً, ساهمت كلها في نجاح الانقلابيين في إسقاط حكم عبد الكريم قاسم. إذ أنه حتى اللحظة الأخيرة رفض إعطاء السلاح للمدافعين عنه خشية وقوع حرب أهلية, خاصة وأنه كان يعتقد جازماً بأن المجتمع منقسم على نفسه بين مؤيد للشيوعيين ومعارض للبعث أو العكس وبالتالي فأن الحرب ستكون شرسة والضحايا كبيرة.
* ارتفاع مستوى الشك في الحزب الشيوعي العراقي, الذي كان يدعم عبد الكريم قاسم أكثر من أي قوة سياسية أخرى في البلاد, رغم اختلاف الحزب معه في جانبين, في سياسته الفردية ونزوعه إلى الهيمنة وابتعاده الفعلي عن الممارسات الديمقراطية من جهة, وحربه ضد الشعب الكُردي التي كانت تستنزف قوى البلاد من جهة أخرى. ونشأ هذا الشك عن أسباب عدة, وهي:
- المعلومات التي بلغت قاسم عن نية بعض الضباط الشيوعيين بتنظيم انقلاب ضده, رغم أنه كان يعرف بأن قيادة الحزب الشيوعي رفضت هذا المقترح, وأنها تسانده ولكن تريد تغيير سياسته. ومع ذلك بقى الشك لديه بالحزب الشيوعي كبيراً.
- تكرار قيام قيادة الحزب الشيوعي العراقي إبلاغ عبد الكريم قاسم عن مواعيد كانت قد وصلتها وتشير إلى احتمال تنفيذ عملية انقلاب ضده من جانب البعثيين والقوميين, كما أصدر الحزب الشيوعي العديد من البيانات والتحذيرات من احتمال وقوع انقلاب وشيك, وكان آخرها في 25/1/1963 , أي قبل 13 يوماً من وقوع الانقلاب الناجح. ويبدو أن تلك المواعيد التي لم تكن كاذبة, كانت تلغى من قبل المخططين لها وتؤجل لموعد أخر. فارتفع الشك لدى قاسم بأن الشيوعيين يريدون التشويش على علاقته بالبعث والقوى القومية وأنهم يريدون أثارته ضدهم, حتى بلغ به الأمر دعوة القوميين إلى ترشيح ثلاث شخصيات جديدة لتدخل الوزارة ممثلة عنهم, وتم ذلك عبر محمد صديق شنشل, رغم أن البعثيين رفضوا ذلك. ومع أن قاسم قد اعتقل بعض قادة البعثيين, إلا أنه لم يمس القيادة الفعلية بشكل كامل ليستطيع بذلك شل الحركة ومنع تنفيذ المخطط المرسوم.
- وقوف الحزب الشيوعي إلى جانب شعار "الديمقراطية للعراق والسلم لكُردستان" التي أغاظت عبد الكريم قاسم ودفعته إلى ممارسة إجراءات جديدة ضد الحزب الشيوعي وزج المزيد من كوادر وأعضاء الحزب بالسجن وإصدار بعض الأحكام ضدهم.
* أدى هذا الشك بالحزب الشيوعي إلى اتخاذ قاسم مجموعة من الإجراءات ضد الشيوعيين, وأهمها:
فصل الكثير من الضباط الشيوعيين من القوات العسكرية أو إحالتهم على التقاعد أو نقلهم إلى مراكز بعيدة أو غير فعالة.
- الكف عن التحاور معهم أو استشارتهم أو استشارة المقربين منهم إليه.
- شن حملة واسعة ضد الشيوعيين من قبل أجهزة الأمن والاستخبارات قادت إلى ارتفاع مستوى المناهضة الفعلية لعبد الكريم قاسم في القاعدة الحزبية للشيوعيين ولدى الكادر الوسط.
* غياب أي شكل من أشكال التعاون الفعلي المنشود بين القوى السياسية العراقية من جهة, وحكومة عبد الكريم قاسم من جهة أخرى, لمواجهة أي محاولة انقلابية محتملة, وغياب الاستعداد الفعلي لمواجهة أي انقلاب محتمل. وكل المؤشرات تؤكد وجود صراعات وخلافات في المعسكر المساند لقاسم بسبب الاختلاف بالمواقف حول سياساته ومواقفه إزاء الديمقراطية والحياة الدستورية والحرب في كُردستان والموقف من الكويت ... الخ.
* عدم وجود أسرار في معسكر عبد الكريم قاسم يمكن أن تبقى خافية على الانقلابيين بسبب وجودهم المنتشر في أجهزة الأمن والاستخبارات وفي وزارة الدفاع أيضاً.
* وجدير بالإشارة إلى أن عبد الكريم قاسم لم يكن يعتبر القوى البعثية أو القوى القومية من الناصريين وغيرهم عدوة له, بل كان يعتبرها اتجاهاً فكرياً وسياسياً يختلف معه, ولكن يحق له الحياة والعمل في العراق. ولهذا سكت عن النشاطات التي كان يقوم بها حزب البعث وبقية القوى القومية, رغم إدراكه بأنها موجهة ضده.
وفي مقابل هذا تمتعت القوى المناهضة لحكم عبد الكريم قاسم بعدة امتيازات ساعدتها على إسقاط حكم قاسم, نشير إلى أهمها فيما يلي:
- الموقف السياسي المشترك لدى القوى البعثية والقومية الناصرية المعارضة لحكم قاسم المصممة على إسقاط النظام, في مقابل التفكك في مواقف القوى المساندة لقاسم.
- حرية الحركة الواسعة التي تمتعت بها القوى البعثية والقومية وكل القوى المناهضة لحكم عبد الكريم قاسم, فهو رغم سياسته الفردية والاستبدادية, تساهل مع القوى المناهضة له التي كانت تريد الآنقضاض عليه وعلى نظامه على أساس مبدأ "عفا الله عما سلف".
- حرية العمل في القوات المسلحة لأغلب البعثيين والقوميين الذين استطاعوا بفعل وجود قوى لهم في مواقع المسؤولية تركيز وجودهم العسكري في مناطق حساسة وقريبة من بغداد ومعسكر الرشيد وقادرة على استخدامها لتوجيه الضربة.
- القدرة في الوصول إلى أدق المعلومات عن تحركات عبد الكريم قاسم ومجموعة الضباط المؤيدين له والقوى المعارضة للانقلابيين من خلال جهاز الأمن وجهاز المخابرات ووزارة الدفاع.
- إشاعة الرعب في صفوف الناس من خلال عمليات الاغتيال ضد الوطنيين أو إشاعة الفوضى بتنظيم الإضرابات الطلابية التي بدأت في 24/12/1962 , أو حول أسعار البنزين قبل ذاك بكثير وما إلى ذلك.
- التذمر الشعبي من بعض سياسات قاسم التي أبعدت جمهرة من الناس عن الالتفاف حول نظامه.
- التحالف الواسع الداخلي والعربي والإقليمي والدولي الذي تحقق في مناهضة حكم قاسم والسعي لإسقاطه.
لقد كانت الأرضية صالحة جداً لتنفيذ الانقلاب, وكانت القدرة على إيقافه وصدّه محدودة جداً, بسبب عدم تعاون قاسم مع القوى المساندة له وغياب الموقف المشترك.
تميز الانقلاب الذي وقع في الثامن من شباط/فبراير 1963 بالعنف والدموية وروح الآنتقام والثأر من قادة وقوى ومساندي الحكم الجمهوري الأول. وإذ عجز عبد الكريم قاسم عن الدفاع عن نفسه واحتمى بوزارة الدفاع التي اعتبرها "عريناً" له, فأن القوى السياسية الأخرى, ومنها قوى الحزب الشيوعي العراقي بشكل خاص, رفضت الاعتراف بهذا الانقلاب والاستسلام للانقلابيين وقررت بناء على قرار قيادة الحزب وسكرتيرها الأول, سلام عادل, مقاومة الانقلاب والسعي لإفشاله, رغم إدراك سلام عادل بأن إمكانية النجاح في المقاومة ضعيفة جداً بعد أن أدرك ومن خلال اتصاله المباشر بقاسم, بأن الأخير غير مستعد لتسليح الجماهير المدافعة عنه وعن الجمهورية الأولى.
وقفت إلى جانب الحزب الشيوعي في مقاومة الانقلاب قوى شعبية واسعة في العديد من أحياء بغداد وفي أنحاء أخرى من العراق, كما في البصرة التي تصدت بإخلاص وقوة للانقلابيين, ولكن دون أن تمتلك السلاح والقدرة الفعلية على المقاومة, في ما عدا البعض الذي كان قد اختزن سلاحه الشخصي أو استطاع الحصول عليه من بعض مراكز الشرطة في الكاظمية مثلاً. ليست تفاصيل المقاومة التي نهضت في أنحاء من العراق وفي أحياء كثيرة من بغداد, مثل الكاظمية وحي الأكراد الفيلية أو الكرادة أو المواقع والشوارع القريبة من وزارة الدفاع وباب المعظم وغيرها هي التي تهم الباحث والبحث, إذ كتب عن هذا الموضوع كثيراً, بقدر ما يهم البحث مدى صواب أو خطأ تلك المقاومة, ومدى التحضير لها والتنسيق مع القوى السياسية الأخرى ومع الحكم في ضوء الاختلال في ميزان القوى الذي تحقق بفعل موقف عبد الكريم قاسم الفعلي من موضوع المقاومة وخشيته من اشتعال حرب أهلية.
كل الدلائل تشير إلى ثلاث وقائع مهمة, وهي:
1. لم يكن هناك أي تنسيق عملي بين القوى التي كانت تساند عبد الكريم قاسم وبين قاسم نفسه, رغم معرفة الجميع بأن الانقلاب قاب قوسين أو أدنى, وأن قاسم قد نبه إلى ذلك واتخذ بعض الإجراءات, سواء أكان باعتقال بعض البعثيين القياديين, أم بنقل بعض الضباط البعثيين والقوميين ومصادرة بعض الأسلحة التي كانت في مخازن خاصة وضعت لصالح الانقلاب من قبل ضباط بعثيين, كما حصل مع الضابط البعثي خالد مكي الهاشمي.
2. لم تكن خطة الطوارئ التي وضعت من قبل الحزب الشيوعي لمواجهة الانقلاب كفيلة بضمان مقاومة ناجحة للانقلاب, خاصة وأن الحزب كله لم يكن على وفاق في سياسته مع حكومة قاسم. ولهذا تعثر تنفيذ الخطة ابتداءً من قبل المسؤول العسكري للجنة العسكرية للحزب الشيوعي والمسؤول عن تنفيذ الخطة أصلاً. حتى أن المسؤول عن تنفيذ الخطة قائد القوة الجوية العراقية الشيوعي والشخصية المحبوبة في القوات المسلحة العراقية الزعيم الطيار جلال جعفر الأوقاتي لم يبلَّغ بضرورة مغادرته البيت إذ أن من كان عليه إيصال الخبر تعطلت سيارته, ولم يعمد إلى أخذ سيارة أجرة لإيصاله إلى دار السيد الأوقاتي الذي قتل على مقربة من داره وهو بصحبة أحد أبنائه الصغار صبيحة يوم الانقلاب , كما لم تكن هناك خطة بديلة في حالة تعثر أي من مراحل الخطة لأي سبب كان.
3. لم يكن الشعب العراقي موحداً في موقفه من حكم عبد الكريم قاسم, خاصة وأن موقف الغالبية الكُردية كانت ضد حكومة قاسم ومتحالفة مع قوى البعث والقوى القومية لإسقاط حكومته, كما أن جمهرة كبيرة من العرب لم تعد تثق بسياسة قاسم غير الديمقراطية. أما القوى الشعبية التي كانت تريد الدفاع عنه فكانت لا تمتلك القيادة السياسية والعسكرية الموحدة والقادرة على منحها التوجيهات والأسلحة لكسب المعركة ضد الانقلابيين.
وعلينا أن نعي مسألة أخرى هي كثرة من الجماهير التي ركضت في مظاهرات انتصار ثورة 14 تموز 1958, يمكن أن تركض وراء كل انقلاب يحصل في البلاد, فهم جزء من المجتمع الهامشي المسحوق الذي كان ينتظر من كل حركة انقلابية الحصول على مكاسب معينة, إذ لا تربطه بالانقلابيين أياً كانوا أي توافق أو تناغم فكري وسياسي بأي حال. وأن هذه الجماهير التي استفادت من الثورة في البداية تعرضت إلى الكثير من المشكلات حيث بدأت الثورة بالتعثر والوضع السياسي بالتراجع.
إن الدعوة إلى مقاومة الانقلاب استندت لدي قيادة الحزب الشيوعي العراقي إلى عدد من الركائز المهمة, وهي:
1. القناعة التامة بأن المغامرين الجدد ينفذون سياسة مرتبطة بهذا القدر أو ذاك بالاستعمار البريطاني والشركات النفطية الدولية والولايات المتحدة الأمريكية, وهي بالتالي تشكل جزءاً من مخطط دولي يستهدف المنطقة بأسرها ويقوم على مناهضة حركة التحرر الوطني العربية وفي المنطقة, إضافة إلى كونه موجهاً ضد الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية. ولم تكن الحركة الوطنية العراقية مخطئة حين اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بدعم الانقلاب في العراق وأن الانقلابيين جاءوا بقطار أمريكي وفق تصريح علي صالح السعدي في العام 1963, إذ أن السفير الأمريكي الحالي هيل أوضح بتاريخ 19/2/2010 في تصريح واسع له عن أوضاع العراق والآنتخابات قوله:
"وأشار بشكل صريح الى انه في الستينيات عندما كانت الولايات المتحدة قلقة جداً من احتمال انتشار الشيوعية إلى العراق، كان البعث يرى باعتباره بديلاً عن الشيوعية، حيث كانت الولايات المتحدة في حقيقة الأمر تفضل البعثية في عملية عام 1968 والتي أدت إلى عودة البعثيين و كانت الولايات المتحدة تفضل ذلك على أن يصبح فيها العراق شيوعياً".
2. والقناعة بأن الانقلاب مناهض لمصالح الشعب وحرية الوطن ولا يخدم قضية الديمقراطية والتقدم الاجتماعي, بل هو ردة رجعية تدفع بالبلاد إلى الوراء وسقوط في الممارسة الشوفينية والرجعية. وقد جاء فيما بعد في حديث شخصي للملك حسين بن طلال مع محمد حسنين هيكل حول انقلاب البعث في العام 1963 قوله:
"تقول لي أن الاستخبارات الأميركية كانت وراء الأحداث التي جرت في الأردن عام 1957. أسمح لي أن أقول لك إن ما جرى في العراق في 8 شباط (فبراير) قد حظي بدعم الاستخبارات الأميريكية. ولا يعرف بعض الذين يحكمون بغداد اليوم هذا الأمر ولكني أعرف الحقيقة. لقد عُقدت اجتماعات عديدة بين حزب البعث والاستخبارات الأميركية, وعقد أهمها في الكويت. أتعرف أن ... محطة إذاعة سرية تبث إلى العـراق
كانت تزود يوم 8 شباط (فبراير) رجال الانقلاب بأسماء وعناوين الشيوعيين هناك للتمكن من اعتقالهم وإعدامهم" .
3. وأن التحالف بين الحركة الكُردية وقوى الانقلاب لم يكن سوى هروب الحركة الكُردية إلى أمام من الواقع القائم بأمل الخلاص من حكم عبد الكريم قاسم, ولكن قوى البعث لم تكن مستعدة بأي حال الاستجابة لحقوق الشعب الكُردي, بل كانت تصم الحركة الكردية بـ"أنها حركة استعمارية مشبوهة", كما جاء في جريدة الاشتراكي التي كان يصدرها حزب البعث قبل سقوط النظام بأسابيع قليلة . وفي تشرين الثاني من العام 1962 أصدر حزب البعث بياناً نشر في صحافته تضمن الفقرة التالية بشأن الحركة المسلحة التي كان يقودها ملا مصطفى البارزاني:
"إن الحركة المسلحة في الشمال وموقف عبد الكريم قاسم منها, تفوح منهما رائحة التآمر والتواطؤ مع الاستعمار, فقيادة الحركة المسلحة بماضيها وحاضرها الملطخ بالدماء والمتصف بالاعتداء, ونياتها العدوانية التي أفصحت عنها مراراًُ وتعصبها الأعمى, يجعلها محلاً للريبة والاتهام. وأن موقف تركيا وإيران عضوي (السنتو) من الحركة, ورعايتهما هذه الحركة وتغذيتها بكل ما تحتاج إليه من مؤن وعتاد, يحول هذا الاتهام إلى يقين وإدانة" . وعلينا أن نقدر مدى الخطأ الفادح الذي وقعت فيه الحركة الكردية بقيادة ملا مصطفى البارزاني في تحالفها مع حزب البعث والقوى القومية لإسقاط الجمهورية الأولى والخلاص من عبد الكريم قاسم للحصول على حقوق الشعب من قوى لا تعترف بوجود للشعب الكردي أساساً.
4. إن القوى البعثية والقومية سوف ترتكب مجازر بشعة بحق قيادة وكوادر وأعضاء ومؤيدي الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية وضد مؤيدي قاسم أيضاً, إضافة إلى المخاطر التي تتهدد الضباط المختلفين معهم, وبالتالي لا بد من المقاومة لتجاوز المحنة المحتملة الأكثر قسوة, في حالة نجاح الانقلاب.
5. وكانت قيادة الحزب الشيوعي تعتقد أيضاً بأن الجماهير ستهب دفاعاً عنى النظام الجمهوري وعن مكاسبها, كما أن قاسماً سيمنح الشعب ثقته ويمده بالسلاح والعتاد لمقاومة الانقلاب والذي لم يتحقق.
ومع ذلك فقد تكونت لديَّ القناعة بأن الدعوة للمقاومة جسدت حالة عاطفية لدى سلام عادل وقيادة الحزب, إن كانت قد اتخذت القرار بشكل مشترك, أكثر منها عملية عقلية وعقلانية مدروسة على أرض الواقع. ورغم القناعة المتوفرة أيضاً بأن الانقلابيين حتى لو لم تكن هناك مقاومة مسلحة ضدهم, لقاموا بذات المجازر الدموية التي ارتكبوها ضد حكم عبد الكريم قاسم وضد الناس الذين ساندوه أو حتى الذين اختلفوا معه ورفضوا سياساته. لقد كانت الكراهية والحقد وحب الآنتقام والهيمنة الكاملة على السلطة السياسية في أعلى وأقسى وأسوأ صورها لدى حزب البعث.
لقد أصدر الحزب الشيوعي العراقي بتاريخ 3 كانون الثاني/يناير 1963 بياناً علنياً أشار فيه إلى ما يجري في الخفاء لتنفيذ انقلاب بعثي - قومي ضد حكم عبد الكريم قاسم وحذر من العواقب الوخيمة لنجاح مثل هذا الانقلاب. فقد جاء في البيان ما يلي:
"هناك معلومات متوفرة تشير إلى أن الكتائب المدرعة في معسكرات بغداد ولواء المشاة التاسع عشر أصبحت مراكز لنشاط عدد كبير من الضباط الرجعيين والمغامرين الذين يأملون بتحويل هذه المراكز إلى قواعد انطلاق لانقضاض مفاجئ على استقلال البلاد, وقد حددوا موعداً بعد آخر لتحقيق هذا الغرض. وللموعد الحالي مغزى خاص نظراً لخطورة الأزمة السياسية الراهنة وعدد الزيارات التي يقوم بها بعض كبار الجواسيس الأميركيين لبلدنا" .
لقد كانت لدى الحزب الشيوعي العراقي معلومات موثوقة بأن حزب البعث والقوى القومية والمتحالفة تستعد لتنفيذ عملية انقلابية ضد نظام الحكم وبلغا قاسم به عبر الكثير ممن كانوا يتصلون به حينذاك, كما أن الأستاذ الراحل محمد حديد هو الآخر قد بلغ عبد الكريم قاسم بوجود مؤامرة تستهدف النظام وشخص عبد الكريم. ولكن قاسماً كان قد فقد الثقة بهؤلاء واعتمد على جواسيس البعث الذين احتلوا مواقع مهمة في أجهزة الأمن العراقية.
وبعد الانقلاب أصدر الحزب الشيوعي بياناً نارياً جاء فيه ما يلي:
" إلى السلاح لسحق المؤامرة الاستعمارية الرجعية
أيها المواطنون ! يا جماهير شعبنا المجاهد العظيم ! أيها العمال والفلاحون والمثقفون وسائر القوى الوطنية والديمقراطية !
قامت زمرة تافهة من الضباط الرجعيين المتآمرين بمحاولة يائسة للسيطرة على الحكم, تمهيداً لإرجاع بلادنا إلى قبضة الاستعمار والرجعية فسيطرت على مرسلات الإذاعة في أبي غريب وهي تحاول أن تثير مذبحة بين أبناء جيشنا الباسل لتنفيذ غرضها السافل الدنيء في السيطرة على الحكم .
إن جماهير شعبنا المجاهد حفار قبر المؤامرات , وجماهير جيش 14 تموز حفار قبر الملكية والاستعمار , ينهضان الآن كرجل واحد للدفاع عن استقلال البلاد ولدحر المؤامرة والمتآمرين , أعوان وصنائع الاستعمار والرجعية , والتأهب لرد أية محاولة استعمارية خارجية للتدخل في شؤون البلاد.
إلى الشوارع يا جماهير شعبنا الأبي المجاهد , لكنس بلادنا من الخونة المارقين .
إلى السلاح للدفاع عن استقلالنا الوطني وعن مكاسب شعبنا .
إلى تشكيل لجان الدفاع عن الاستقلال الوطني في كل معسكر وكل محلة ومؤسسة وفي
كل قرية.
إلى الأمام.
إلى تطهير الجيوب الرجعية , وسحق أية محاولة استعمارية في أية ثكنة وأية بقعة من بقاع البلاد.
إن الشعب بقيادة القوى الديمقراطية سيلحق العار والهزيمة بهذه المؤامرة السافلة , كما سبق أن سحق بلمحة خاطفة مؤامرة الكيلاني والشواف وغيرها ... إننا نطالب الحكومة بالسلاح.
فإلى الأمام , إلى الشوارع , إلى سحق المؤامرة والمتآمرين.
بغداد في 8 شباط 1963 الحزب الشيوعي العراقي"

أدى النداء الذي أطلقه الحزب الشيوعي لمقاومة الإرهاب إلى نزول جماهير واسعة من الناس إلى الشوارع في محاولة منها لمواجهة الانقلاب, في وقت كانت لا تمتلك أسلحة تساعدها على مواجهة الانقلابيين. في مقابل هذا عجز عبد الكريم قاسم عن استخدام الإذاعة لبث نداءاته التي كان يريد إيصالها إلى الجمهور والموجهة ضد الانقلابيين وطمأنة الناس بأن هذه الحفنة من الخونة الانقلابيين سينهزمون, إذ كان الانقلابيون قد سيطروا على محطة البث أولاً, ولآن الذين تسلموا البيان لإيصاله إلى دار الإذاعة إما عجزوا عن ذلك أو كانوا متواطئين مع الانقلابيين. تضمن أحد ندائي عبد الكرم قاسم النص التالي:
"من الزعيم عبد الكريم قاسم إلى أبناء الشعب الكرام وإلى أبناء الجيش المظفر, إن أذناب الاستعمار وبعض الخونة والغادرون والمفسدون الذين يحركهم الاستعمار لسحق جمهوريتنا, الذين يحاولون بحركات طائشة النيل من جمهوريتنا ولتقويض كيانها. إن الجمهورية العراقية الخالدة وليدة ثورة 14 تموز الخالدة لا تسحق وأنها تسحق الاستعمار وتسحق كل عميل خائن, نحن نعمل في سبيل الشعب وفي سبيل الفقراء بصورة خاصة.وتقوية كيان البلاد. فنحن لا نقهر وأن الله معنا.
أبناء الجيش من مختلف الكتائب والأفراد, أيها الجنود البررة مزقوا الخونة اقتلوهم, اسحقوهم إنهم يتآمرون على جمهوريتنا ليحطموا مكاسب ثورتنا هذه الثورة التي حطمت الاستعمار وانطلقت في طريق الحرية والنصر. وإنما النصر من عند الله وأن الله معنا. كونوا أشداء اسقطوا الخونة والغادرين. أبناء الشعب في كل مكان, اسقطوا الخونة والغادرين, والله ينصرنا على الاستعمار وأعوانه وأذنابه" 8/2/1963.
لم يتسن لقاسم إيصال نداءاته إلى ضباط الجيش العراقي ولا إلى الشعب, في حين تمكن الحزب الشيوعي العراقي من إيصال بيانه ودعوته لمقاومة الإرهاب إلى أوساط غير قليلة من الجيش والشعب, فهب الشارع البغدادي محاولاً الوصول إلى وزارة الدفاع للمشاركة في الدفاع عن الجمهورية وقاسم في آن واحد, كما تحرك بعض الضباط الشيوعيين ومن مؤيدي قاسم أو الديمقراطيين الرافضين لقوى حزب البعث والقوى القومية, إلا أنهم حوصروا من قبل من كانت بيده المبادرة في احتلال رؤوس الجسور والطرق الخارجية أو مناطق مهمة من بغداد. لقد صمم الانقلابيون على ممارسة جميع أشكال العنف في مواجهة أتباع قاسم ورفاق الحزب الشيوعي العراقي, وخاصة القوى التي أرسلت للسيطرة على وزارة الدفاع, حيث مقر عبد الكريم قاسم.
بدأت التحركات الشعبية في الكاظمية والكرادة وحي الأكراد والكريمات وفي مناطق أخرى من الرصافة, إضافة إلى تحركات في مواقع عسكرية.
لقد تمت سيطرة الشيوعيين وأتباع قاسم على الكاظمية وخاضوا معارك ناجحة ضد القوات التي وقفت إلى جانب الانقلاب, إلا أن ميزان القوى قد اختل بعد توجيه المزيد من القوات العسكرية ونهوض تعاون بين البعث وجماعة الشيخ الخالصي في الكاظمية حيث ضربت مناطق شعبية بالمدافع وقتل الكثير من الشيوعيين وأصدقاء الحزب في تلك المعارك. كما وقعت معارك في حي الأكراد في محلة باب الشيخ وفي الكريمات والكرخ والكرادة ومناطق أخرى من العراق, إلا أنها كانت دون جدوى.
اختلفت التقديرات عن عدد الذين سقطوا في معارك الأيام الثلاثة, حيث قدر زكي خيري عدد القتلى من الشيوعيين والقاسميين والديمقراطيين بحدود 5000 إنسان, في حين قدر آخرون بتراوح العدد بين 12000-15000 إنسان, كما أن تقديرات أخرى ذكرت بأن عدد الشهداء الذين سقطوا في تلك المعارك بلغ بحدود 1500 إنسان, وأكثرهم كان من الشيوعيين والديمقراطيين. كتب زكي خيري يقول:
"وبلغ عدد القتلى خلال الأيام الثلاث الأولى من الانقلاب 5000 شخص في المقاومة وفي ملاحقة الشيوعيين من بيت إلى بيت" . أما حنا بطاطو في كتابه "العراق" أو "الطبقات الاجتماعية في العراق" فقد كتب يقول: "وفي تقديرات الشيوعيين أن لا أقل من 5000 "مواطن" قتلوا في القتال الذي جرى من 8 إلى 10 شباط (فبراير) وخلال الاصطياد الشرس للشيوعيين من بيت إلى بيت في الأيام التي تلت" . ثم يقول متابعاً:
"وذكر مصدر في الفرع الأول من مديرية الأمن العراقية للمؤلف في العام 1967 أن عدد القتلى للشيوعيين يومها وصل إلى 340 قتيلاً. وقدر مراقب دبلوماسي أجنبي حسن الإطلاع ولا يرغب في ذكر اسمه مجموع عدد القتلى بحوالى 1500, ويتضمن هذا الرقم ما يزيد على مئة جندي سقطوا داخل وزارة الدفاع و "شيوعيين كثيرين" . أما عدد البعثيين الذين قتلوا في هذه المعارك فقد قدر بالعشرات, إذ ذكر حنا بطاطو ذلك بقوله: "أما البعثيون فيقدرون خسائر حزبهم بثمانين شخصاً" .
قدم حي الأكراد معركة بطولية وملحمية يائسة ضد الانقلابيين بقيادة عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي محمد صالح العبلي, الذي اعتقل فيما بعد مع عدد من أعضاء قيادة الحزب وعذب بشراسة واستشهد تحت التعذيب. وإذ بدأ القتال في هذا الحي بمشاركة ما يقرب من 4000 مقاوم, تقلص العدد إلى 1500 مقاوم في اليوم الثاني من الانقلاب وإلى 500 مقاوم في اليوم الثالث منه, وجلهم من الشيوعيين وأصدقاء الحزب ومن أبناء حي الأكراد . وكانت خاتمة المعارك ونهاية المقاومة المسلحة للانقلاب.
 -;---;--
المبحث الثالث

الاستبداد والقسوة في ممارسات التحالف البعثي-القومي


في الثامن من شباط/فبراير من العام 1963 وقع انقلاب عسكري في بغداد بقيادة تحالف مشترك بين حزب البعث العربي الاشتراكي وبعض الجماعات القومية الناصرية وغير الناصرية والقوى الكُردية. ونجح هذا الانقلاب في إسقاط حكومة عبد الكريم قاسم وقتله مع مجموعة من صحبه في دار الإذاعة العراقية وبدون محاكمات (راجع الملحق رقم 4), وإحلال حكومة بعثية-قومية يمينية في محلها. ومنذ اليوم الأول للانقلاب أعلن البيان الأول "للثورة" باسم "المجلس الوطني لقيادة الثورة", ثم أُعلن عن اختيار العقيد المتقاعد عبد السلام محمد عارف رئيساً للجمهورية والعقيد أحمد حسن البكر رئيساً للوزراء وعلى صالح السعدي نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية ورشيد مصلح حاكماً عسكرياً عاماً, إضافة إلى اختيار البكر لرئاسة المجلس الوطني لقيادة الثورة.
وضم المجلس الوطني لمجلس قيادة الثورة الأشخاص التالية أسماؤهم:
العقيد أحمد حسن البكر.
المقدم الركن صالح مهدي عماش.
المقدم الركن خالد مكي الهاشمي.
المقدم الركن عبد الستار عبد اللطيف.
العقيد ذياب العلگاوي.
المقدم الركن حردان عبد الغفار التكريتي.
العقيد الركن عبد الكريم مصطفى نصرت.
على صالح السعدي.
حازم جواد.
طالب حسين الشبيب.
الملازم الأول منذر توفيق الونداوي.
العقيد الركن عبد السلام محمد عارف
الرائد أنور عبد القادر الحديثي.
العقيد طاهر يحي.
ومنه يبدو أن المجلس قد ضم إليه ثلاثة من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي فقط, في حين ضم غالبية أعضاء المكتب العسكري لحزب البعث, إضافة إلى قومي ناصري إسلامي واحد هو عبد السلام محمد عارف. أي أن عدد المدنيين في المجلس الوطني لقيادة الثورة بلغ ثلاثة أشخاص فقط من مجموع 14 عضواً, أما الباقي فكان من الضباط العسكريين. وكان عدد مهم منهم من أعضاء حركة الضباط الأحرار التي قادت ثورة تموز 1958, وكان هذا البعض منذ البدء على خلاف تام مع عبد الكريم قاسم, وخاصة عبد السلام محمد عارف, وضد الحزب الشيوعي العراقي, ومن الذين تميزوا بالقسوة والاستعداد للبطش بالمعارضين. وهو ما تحقق فعلاً.
اعتبر المجلس الوطني لقيادة الثورة بمثابة السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية في آن واحد. إذ غالباً ما صدرت عنه قرارات بالموت على عدد كبير من الأشخاص كانوا قد قتلوا تحت التعذيب أصلاً. فهو المشرع للقوانين وهو المنفذ لها عبر أجهزة تابعة له, وهو القاضي أيضاً, وبالتالي ألغى من نظام الدولة المبدأ الأساسي في الحكم والمجتمع المدني الذي يقوم على أساس الفصل بين السلطات, خاصة وأنه كان يصدر أحكاماً بالموت على عدد كبير من النسا دون العودة إلى المحاكم الاعتيادية, أو يشكل محاكم غير خاضعة لقانون, كما في محاكم الثورة أو المحاكم الخاصة التي كان يشكلها بين الحين والآخر.
وزع المجلس الوطني لقيادة الثورة المهمات على عدد من العناصر المشاركة في الانقلاب وخاصة بالنسبة إلى الوحدات العسكرية والمحاكم العرفية ومجلس الوزراء. تشكلت الحكومة الجديدة من ممثلين عن القوى المشاركة في الانقلاب, وهم:
1 – الزعيم أحمد حسن البكر رئيساً لمجلس الوزراء.
2 - على صالح السعدي نائباً لرئيس الوزراء.
3 – المقدم الركن صالح مهدي عماش وزيراً للدفاع.
4 – طالب حسين الشبيب وزيراً للخارجية.
5 - المقدم الركن عبد الستار عبد اللطيف وزيراً للمواصلات.
6 - الدكتور عزت مصطفى وزيراً للصحة.
7 - مهدي الدولعي وزيراً للعدل.
8 - الزعيم الركن محمود شيت خطاب وزيراً للبلديات.
9 - الشيخ بابا علي وزيراً للزراعة.
10 - الدكتور عبد العزيز الوتاري وزيراً للنفط.
11 - الدكتور أحمد عبد الستار الجواري وزيراً للتربية والتعليم.
12 - صالح كبة وزيراً للمالية.
13 - عبد الستار علي الحسن وزيراً للإسكان.
14 - شكري صالح زكي وزيراً للتجارة.
15 - الدكتور سعدون حمادي وزيراً للإصلاح الزراعي.
16 - حميد خلخال وزيراً للشؤون الاجتماعية.
17 - الدكتور مسارع الراوي وزيراً للإرشاد.
18 - الدكتور عبد الكريم العلي وزيراً للتخطيط.
19 - الزعيم الركن ناجي طالب وزيراً للصناعة.
20 - الزعيم فؤاد عارف وزيراً للدولة.
21 – حازم جواد وزيراً للدولة.
ضم مجلس الوزراء 21 عضواً, بلغ عدد المدنيين منهم 15 شخصاً و6 من العسكريين, ولكن المدنيين من البعثيين والقوميين لم يكونوا أقل قسوة وشراسة من العسكريين.
ضم المجلس ثلاث قوى سياسية. وهي:
حزب البعث العربي الاشتراكي 14 وزيراً زائداً رئيس الوزراء
الحزب الديمقراطي الكُردستاني وزيراً واحداً زائداً وزيراً كردياً آخر
محسوب عليه
الجماعات القومية 4 وزراء..

ثم أصدر المجلس الوطني لقيادة الثورة قراراً بمنح العقيد الركن عبد السلام محمد عارف لقب مشير ركن أولاً, وتنصيبه رئيساً للجمهورية ثانياً. ونصب الزعيم رشيد مصلح, وهو من القوميين والمتدينين المتشددين حاكماً عسكرياً على البلاد.
أصدر المجلس الوطني الذي قاد الانقلاب منذ اليوم الأول لممارسة نشاطه مجموعة من القرارات التي تميزت بالشدة والعنف والقسوة البالغة. وأبرز تلك القرارات هي:
البيان رقم 1 الذي أعلن فيه "البيان الأول للثورة". وبعد البيان الأول أذاع الانقلابيون نبأ كاذباً أشير فيه إلى مقتل عبد الكريم قاسم وصحبه في وزارة الدفاع, في حين أنه كان لا يزال يقاتل مع صحبه في الموقع المذكور.
البيان رقم 2 الذي أعلن فيه إحالة 18 عسكرياً كبيراً إلى التقاعد, وكان بعضهم قد قتل بعد صدور البيان الأول, مثل جلال جعفر ألأوقاتي, في حين قتل البعض الآخر منهم في اليوم الثاني والثالث, وعلى رأسهم عبد الكريم قاسم وفاضل عباس المهداوي, وطه الشيخ أحمد, ووصفي طاهر, وعبد الكريم الجدة وغيرهم.
البيان رقم 3 الذي تم بموجبه تشكيل الحرس القومي, الذي كان قد شكل قبل الانقلاب بفترة غير قليلة, والذي تميز بالقسوة البالغة والقتل العشوائي للناس والمنفذ الفعلي لجرائم النظام.
البيان رقم 4 الذي تم فيه توزيع المهمات على قيادة الحرس القومي وجميعهم من العسكريين بعد أن منح أغلبهم رتباً عسكرية.
البيان رقم 5 تم بموجبه تعيين الزعيم الركن عبد الغني الراوي قائداً للقوات العسكرية في منطقة الرمادي, وهو الضابط الذي عرف بولائه للسعودية من جهة, وعدائه الشديد للحزب الشيوعي العراقي والذي كان قد طالب بقتل جميع السجناء الشيوعيين دفعة واحدة, ولكن توصل إلى قتل الكثيرين منهم, من جهة ثانية, كما كان من بين المشاركين في أغلب محاولات الانقلاب ضد حكومة عبد الكريم قاسم من جهة ثالثة.
البيان رقم 6 حيث أغلقت بموجبه الحدود والمطارات لمنع هروب المناهضين للنظام.
البيان رقم 7 وتضمن منع تحرك الوحدات العسكرية من مواقعها إلا بأمر من المجلس الوطني لقيادة الثورة.
ثم صدرت بعض البيانات الأخرى التي تم بموجبها إجراء تعيينات جديدة ومنع التجول وتعيين الرئيس الأول الركن جميل صبري البياتي مديراً عاماً لجهاز الأمن, وهو من البعثيين الذين شاركوا في تنفيذ الانقلاب, إضافة إلى تعيين مدير الشرطة العام. ثم صدر البيان رقم 13 السيئ السمعة عن المجلس الوطني لقيادة الثورة, إذ جاء فيه ما يلي:
"إلى الشعب العراقي الكريم
نظراً لقيام الشيوعيين العملاء شركاء عبد الكريم قاسم في جرائمه بمحاولات يائسة لأحداث البلبلة بين صفوف الشعب وعدم الآنصياع إلى الأوامر والتعليمات الرسمية فعليه يخول آمرو القطعات العسكرية وقوات الشرطة والحرس القومي بإبادة كل من يتصدى للإخلال بالأمن وإننا ندعو جميع أبناء الشعب المخلصين بالتعاون مع السلطة الوطنية بالإخبار عن هؤلاء المجرمين والقضاء عليهم" . (راجع الملحق رقم 4).
ثم صدر عن الحاكم العسكري العام في التاسع من شباط/فبراير 1963, الزعيم رشيد مصالح, بلاغاً أعلن فيه ما يلي:
"لقد تم إلقاء القبض على عدو الشعب كريم قاسم ومعه فاضل عباس المهداوي وطه الشيخ أحمد وكنعان خليل حداد من قبل القوات المسلحة وقد شكل مجلس عرفي عسكري لمحاكمتهم وقد أصدر المجلس العرفي العسكري الحكم عليهم بالإعدام رمياً بالرصاص ونفذ فيهم رمياً بالرصاص في الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر هذا اليوم" , أي في 9/2/1963.
كل الوثائق التي تحت تصرفنا تشير إلى أن قاسم وصحبه قتلوا في دار الإذاعة العراقية بقرار من المجموعة التي التقت هناك ودون أي محاكمة حتى لو كانت شكلية والتي سنأتي على وقائعها لاحقاً. (راجع الملحق رقم 5).
في الخامس والعشرين من شهر مايس/أيار 1963 صدر مرسوم جمهوري يقضي بتشكيل "محكمة الثورة" التي ضمت في عضويتها العقيد شاكر مدحت السعود رئيساً وعضوية كل من المقدم الركن حسين عبد الجبار والمقدم الركن حسن مصطفى النقيب والرئيس فاضل جاسم العاني (عضو احتياط), إضافة إلى هيئة للادعاء العام. وبعد ثلاثة أيام من هذا التاريخ صدر مرسوم أخر ألغى فيه مرسومه السابق مشيراً إلى تشكيل محكمة جديدة لم يذكر فيها اسم رئيس المحكمة واكتفى بالأعضاء. وقد شكلت "محكمة الثورة" بعد أن كان القتل قد شمل أعداداً كبيرة من الشيوعيين والديمقراطيين وفق قرارات صادرة عن جهات حزبية أو عسكرية دون وجود أو تقديم المعتقلين إلى محكمة خاصة أو تعرض قضاياهم على محاكم أخرى. وفيما بعد أصدرت محكمة الثورة قرارات بإعدامهم بعد موتهم بفترة طويلة.
كان إحساس المجموعة الانقلابية التي سيطرت على الحكم يشير إلى أنها تمتلك القوة والتأييد الذي يسمح لها بارتكاب أبشع الجرائم بحق المعارضين للانقلاب. فقد تمتعت بتأييد الجهات التالية:
على الصعيد الداخلي
1. الفئات الإقطاعية وكبار ملاكي الأراضي الزراعية التي تضررت من حكم عبد الكريم قاسم, وخاصة بعد صدور قانون الإصلاح الزراعي والبدء بتنفيذه, أو الإجراءات الأخرى التي اتخذت في هذا الصدد.
2. فئة الكومبرادور التجاري والعقاريين.
3. القوى الدينية التي اعتقدت بأن عبد الكريم قاسم يتعاون مع الشيوعيين. وفي عام 1961 تأسس لأول مرة حزب سياسي أطلق عليه شعبياً بـ "حزب الفاطميين" في العراق, وهو حزب الدعوة, حزب شيعي المذهب, طائفي النزعة, كما برزت أحزاب دينية سنية ناهضت حكومة عبد الكريم قاسم من مواقع مذهبية وقومية.
4 الحزب الديمقراطي الكُردستاني بسبب الحرب التي شنها عبد الكريم قاسم ضد الحركة الكُردية المسلحة التي كانت تطالب بالحقوق القومية العادلة والمشروعة للشعب الكُردي. وكان قد تم الاتفاق بين حزب البعث والقوى المتحالفة معه والحزب الديمقراطي الكُردستاني بقيادة ملا مصطفى البارزاني "بحل المسألة الكُردية في إطار الحكم الذاتي لمنطقة كُردستان العراق, على أن تبادر الحركة الكُردية بإعلان تأييدها للثورة عند قيامها" . سنرى بأن القادة الكُرد قد وفَّوا بالتزامهم, في حين نكث البعثيون والقوميون بما تعهدوا به للقادة الكُرد.

على الصعيد العربي والإقليمي والدولي
1. جميع القوى البعثية والقومية في المنطقة العربية أيدت الانقلاب بسبب عدائها لحكومة قاسم من منطلقين أولهما "رغبتها في أن تكون قوى البعث والقوى القومية في السلطة مباشرة, وثانيهما يفترض أن تكون "قناعتها" بتحقيق الوحدة التي لم يندفع لها قاسم مع مصر وسوريا.
2. جميع النظم العربية التي كانت ترى في عبد الكريم قاسم إما معادياً للوحدة العربية, كما في حالة مصر وسوريا, أم أنه من مساندي الشيوعيين والاتحاد السوفييتي وبالتالي يفترض الخلاص منه.
3. النظم المجاورة وخاصة إيران وتركيا بسبب ارتباط تلك الدول بحلف بغداد الذي انسحبت منه حكومة عبد الكريم قاسم, وبسبب تطور علاقات التعاون والصداقة مع الاتحاد السوفييتي وبقية البلدان الاشتراكية, وكذلك بسبب الإجراءات الداخلية التي مارستها والتي تتعارض مع نهج تلك الحكومات.
4. شركات النفط الاحتكارية وغيرها بسبب التحولات التي طرأت على الوضع الاقتصادي في العراق والإجراءات التي اتخذتها حكومة قاسم في مجال اقتصاد النفط والتجارة والعلاقات الاقتصادية الدولية.
5. وقفت الدول الرأسمالية المتقدمة, بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا على نحو خاص, ضد حكومة عبد الكريم قاسم بسبب سياساته التحررية والديمقراطية النسبية وإلغاء القواعد العسكرية في العراق وعلاقاته مع دول عدم الآنحياز ومبادرته في إنشاء منظمة الدول المصدرة للنفط (اوبك) ...الخ.
كما أن حكومة قاسم فقدت الكثير من قاعدتها السياسية التي كانت تؤيدها بسبب السياسة الفردية التي بدأ يمارسها قاسم في الداخل وتراجعه غير المعلن عن جملة من الإجراءات الداخلية بسبب طبيعة أجهزة الدولة التي كانت معارضة لتلك السياسات الديمقراطية التي أطلقتها الثورة في أعقاب وقوعها مباشرة, مما أوجد قطيعة غير واضحة بين أوساط واسعة من الشعب وبين حكومة عبد الكريم. وزاد في الطين بلة الموقف غير العقلاني وغير العادل لعبد الكريم قاسم من القضية الكُردية ومن وضع الدستور الدائم والحريات الديمقراطية في البلاد.
أدت كل تلك الأوضاع إلى انهيار حكومة عبد الكريم قاسم ولم تنفع محاولات الشيوعيين والقوى المؤيدة لعبد الكريم قاسم والكُرد الفيلية في الدفاع عن نظام حكم قاسم, فسقط تحت ضغط القوى المناهضة لحكمه وأخطاء سياساته وعدم اتخاذه الإجراءات الكفيلة بتعبئة الناس حول حكومته.
ارتبط السقوط بجملة من مظاهر القسوة والعنف الجامح في مواجهة قيادة الدولة والجماهير الواسعة, وخاصة القوى التي حسبت على الحكم, ومنهم الشيوعيون والقاسميون والمستقلون والقوى الديمقراطية في الأحزاب التي لم تلتق في اتجاهاتها الفكرية والسياسية مع حزب البعث أو الجماعات القومية اليمينية. ونشير في أدناه إلى أبرز تلك الإجراءات التي تدخل في باب الاستبداد والقسوة والعنف الشرس التي مارستها السلطة الجديدة إزاء القوى السياسية غير المتفقة معها أو المعارضة لها:
• إعدام قائد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 الزعيم عبد الكريم قاسم ومجموعة من كبار ضباط الثورة رمياً بالرصاص ودون محاكمة شرعية تستند إلى القوانين العراقية المرعية. وعرض جثث هؤلاء على شاشة التلفزيون, ويشار على أن جثث البعض منهم رميت في نهر دجلة. (راجع الملحق رقم 5).
• اعتقال عدد كبير جداً من الضباط وضباط الصف والجنود والمواطنين من مختلف الأحزاب السياسية, وبشكل خاص أعضاء ومؤيدي الحزب الشيوعي واليسار الديمقراطي والحزب الوطني الديمقراطي.
• إعدام مباشر لعدد غير قليل من الشيوعيين من عسكريين ومدنيين دون محاكمات قانونية.
• ممارسة شتى أشكال التعذيب المرعب ضد المعتقلين بهدف انتزاع اعترافات منهم عن تنظيماتهم الحزبية وعلاقاتهم السياسية وإسقاطهم سياسياً ودفع البعض منهم للمشاركة في مطاردة رفاقهم السابقين.
• كانت روح الآنتقام والكراهية والرغبة في الآنتقام من الآخر تهيمن على سلوكية القوى المهيمنة على الحكم وعلى تلك القوى التي أخذت على عاتقها مطاردة المعارضين للنظام أو التحقيق معهم. وجدير بالإشارة أن هذه الفترة عرفت حقيقة تشابك ثلاثة عناصر في سلوكية القوى التي في السلطة في مواجهة القوى الأخرى, وهي:
أ . الأيديولوجية والذهنية القومية المتعصبة والشوفينية أو العنصرية المقيتة إزاء الآخر.
ب . التعصب الديني والأصولية الدينية إزاء الشيوعيين باعتبارهم ملحدين وإزاء جميع القوى اليسارية والديمقراطية.
ج . الاستعداد الشديد لممارسة العنف في مواجهة الآخر والتخلص منه ومسحه بالأرض من مواقع السلطة واحتكار العنف, مع إصرار بدوي غير معهود في الحياة المدنية على إعطاء زخم شديد لتحقيق التفاعل لدى الأتباع في المزج الفعلي بين الاستعداد لممارسة العنف وبين روح الثأر وحب الآنتقام ضد من صوروا على أنهم الأعداء في المجتمع للقومية العربية والوحدة العربية والإسلام.
كان البعثيون والقوميون في هذه الفترة, ورغم التحالفات المؤقتة التي أقاموها, إذ لم يكونوا مقتنعين بأي تحالف استراتيجي بل كانت كل التحالفات التي عملوا لها أو دخلوا فيها مؤقتة ولأغراض آنية, قد صمموا على مواجهة القوى التالية:
¬** الحزب الشيوعي العراقي بسبب امتلاكه لأيديولوجية أممية واضحة المعالم والأهداف واعتبارها منافسة لأيديولوجية البعث القومية ذات البعد القومي الشوفيني, وبسبب جماهيرية الحزب الشيوعي الواسعة جداً بالقياس إلى بقية القوى السياسية في العراق, ولكونه كان يناضل من أجل السلطة, ويتخذ مواقف واضحة إزاء جملة من المسائل العراقية, ومنها القضية الكُردية, أو دعوته الهادئة لتحقيق الوحدة العربية على أسس ديمقراطية. في لقاء صحفي عقد في دمشق مع علي صالح السعدي, نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية, قال فيه جواباً عن سؤال وجه له:
"إذا أطلقتم حرية الأحزاب في العراق, فكيف يكون موقفكم من الحزب الشيوعي العراقي؟, ما يلي:
"بالنسبة لحرية الحزب الشيوعي, وفي الواقع نحن بالأحداث التي مرت بالعراق, والتي توضحت بالنسبة للحزب الشيوعي في موقفين ظاهرين من سلوكه العام منذ تأسس حتى الآن. والسلوك العام يتركز بالنسبة لمواقف عديدة له:
موقف الحزب الشيوعي العراقي عندما أصبح مطية للحلفاء باسم المعسكر الديمقراطي في حركات مايس 1941, وموقف الحزب الشيوعي السوري عند حكم الفرنسيين, وكيف كان الفرنسيون باسم الموقف مع الحلفاء, وموقف الحزب الشيوعي الجزائري والفرنسي بالنسبة لمجزرة 1945 التي كان فيها موريس توريز في الحكم وقت المجزرة.
ونذكر موقف الحزب الشيوعي عندما أصبح مطية للصهيونية سنة 1948 وسمى الحرب الفلسطينية بالحرب الفلسطينية القذرة ورفع شعار إخوانه اليهود, وأصبحت فصائله في الأردن وفي فلسطين عبارة عن رتل خامس تطعن الجيوش العربية وتتجسس عليها.
في الواقع أن الحزب الشيوعي (تكسي) امتطاها عبد الكريم قاسم وامتطاها الشيشكلي في حينه. فالحزب الشيوعي هذه أعماله, وتوج أعماله بالجرائم التي ارتكبها في العراق بالسحل والإجرام الذي ارتكبه والذي عرفتموه. ... ومن الناحية القومية : إن الحزب الشيوعي نعتبره رتلاً خامساً..." . وأنهى أجابته عن هذا السؤال بقوله: "ولهذا فأن الحزب الشيوعي في العراق سيحرم حرماناً كاملاً ومطلقاً, ولن نسمح للشيوعيين في العراق بممارسة عملهم لاسيما وتسندنا في هذا المنطق النظري الأعمال التي ارتكبها الحزب الشيوعي" . جاء هذا في نشرة الآنباء الداخلية السورية في دمشق بتاريخ 11/3/1963.
إن هذا الحديث المليء بالمغالطات والافتراءات يكذب الادعاء الذي طرحه علي صالح السعدي بعد سنوات حين أكد إلى الشاعر الشيوعي العراقي مظفر النواب, وبعد أن أصبح بعيداً عن الحكم تطارده أشباح الذين ساهم بقتلهم وتعذيبهم, بأنه لم يكن راغباً في قتل الشيوعيين, بل أن مقاومتهم هي التي جعلت الوضع يتدهور معهم إلى تلك الدرجة.
وتأسيساً على هذا التوجه البعثي القومي أصدر رئيس الجمهورية, عبد السلام محمد عارف, ورئيس الوزراء, أحمد حسن البكر, ونائب رئيس الوزراء ووزير الإرشاد على صالح السعدي, وبناء على ما عرضه وزير العدل, مهدي الدولعي, الأخير بتاريخ 19/5/1963 القانون رقم (38) سمي بقانون ذيل قانون العقوبات البغدادي الموجه ضد الحزب الشيوعي والشيوعية والترويج لها, إذ تقرر بموجب هذا القانون إنزال عقوبة الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة بكل من يروج أو يحبذ تلك الأفكار, إذ أن القانون قد اعتمد على المادة (78) من قانون العقوبات البغدادي فقرر معاقبة كل من حبذ أو روج "أياً من المبادئ التي ترمي إلى الطعن في القومية العربية وأهداف الأمة العربية , وإثارة النعرات العنصرية أو المذهبية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة , أو شارك في تنظيمات سرية ترمي إلى تغيير نظام الحكم والمبادئ والأسس المقررة للهيئة الاجتماعية وذلك بطريقة مباشرة أو بواسطة هيئات أو منظمات تسعى للغرض المذكور, ..." .
** ضد القوى القومية الكُردية وحزبها الديمقراطي الكُردي بسبب مطالبة هذا الحزب بضمان حق تقرير المصير ودعوته لإقامة الحكم الذاتي لإقليم كُردستان العراق أو الفيدرالية في إطار الجمهورية العراقية. وكان موقف البعث ينطلق من الذهنية القومية الشوفينية إزاء الكُرد وإلى اعتبار العراق كله جزءاً من الوطن العربية والأمة العربية, وهو أمر مخالف لواقع العراق وبنيته القومية الفعلية. كما كان يعتبر القوى القومية الكُردية حليفاً طبيعياً للحزب الشيوعي في العراق بسبب مواقف الأخير إلى جانب القضية الكُردية. ولم يكن التحالف الذي تم بين القوى القومية, بمن فيهم حزب البعث, لإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم سو تحالفٍ مؤقتٍ للخلاص من عدو بعينه ثم الالتفاف على الحليف للخلاص منه.
** ضد القوى الإسلامية باعتبارها قوى منافسة لها, إذ أنها كانت القوى القومية والبعثية بشكل عام تعتبر الإسلام مكوناً أساسياً من مكونات القومية العربية و من الأساس الفكري القومي الذي تعتمده في دعايتها وفي كسب الناس إليها, وبالتالي فهي ضد أية قوى أخرى في هذا الشأن, سواء أكانوا من أتباع المذهب السني أم المذهب الشيعي. ولكنهم كانوا يضيفون في مواقفهم ضد الشيعة إلى أن أتباع المذهب الأخير شعوبيين وهم أكثر تأييداً لإيران من تأييدهم لأية دولة عربية. وفي هذا تجاوز على واقع وطنية أتباع المذهب الشيعي.
وفي الحقيقة كان الصراع بين القوميين والبعثيين على أشده, إذ أن كلاًُ منهما كان يدعي الوصل بليلى ويرى نفسه ممثلاً للقومية العربية دون غيره ويفترض حل تنظيمات الآخر. وقد تبلور هذا الصراع بعد فترة وجيزة من نجاح انقلاب 1963 وتتوج بانقلاب القوميين ضد البعثيين في 18 تشرين الثاني 1963 والإجراءات التي اتخذت ضد البعثيين في حينها.
وكان الهدف من وراء مكافحة كل هذه القوى هو الهيمنة على السلطة والآنفراد بها وفرض الأيديولوجية القومية على المجتمع بغض النظر عن رأي ومواقف الناس إزاء هذه الأيديولوجية والسياسة والمواقف التي تتخذها القوى القومية, سواء أكانت جماعات قومية أم بعثية.
** ولا بد من الإشارة هنا إلى أن القوى السياسية البعثية والقومية التي تسلمت الحكم قد شكلت مجلساً وطنياً لقيادة الثورة وضعت في يديه منذ اللحظة الأولى السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية, إضافة إلى أنها مارست احتكار كافة وسائل الإعلام, وبالتالي سمحت لنفسها أن تمارس كل شيء دون حسيب أو رقيب, إذ أن التشابك الفكري في ما بين العناصر الثلاثة المشار إليها في أعلاه يقود, متى وأينما حصل, إلى نشوء سلوكية شديدة العداء والشراسة إزاء الآخر, إذ أن مثل هذه الذهنية المركبة تعتقد بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة كلها وتجسد الخير كله, وان الآخر لا يمتلكها ويمثل الباطل وقوى الشر بعينها ولا بد من التخلص منها وحرمانها من الحق في الحياة بمختلف السبل. ولم يعد هما ضرورياً في ممارسة العنف من جانب هذا الطرف إزاء الآخر, سواء أكان قد أعلن ومارس مقاومة الانقلاب فعلاً أم خلد إلى السكون, إذ أن التصميم قائم في التخلص من الأعداء!
وفي ضوء هذا الواقع وتلك الاتجاهات العقائدية المركبة اتخذت قوى الانقلاب التي تسلمت السلطة مجموعة من الإجراءات التي تعبر عن التصميم في ممارسة العنف والقسوة بأبسط وأقصى أشكالها. نشير في أدناه إلى أبرزها:
1. تشكيل مجلس قيادة الثورة من مجموعة أساسية من قياديي حزب البعث والجماعات القومية, مع منح أنفسهم, وفق قانون صادر عنهم دون أي شرعية دستورية, السلطات الثلاث, التنفيذية والتشريعية والقضائية, واحتكار جميع أجهزة الإعلام دون استثناء وفرض الأحكام العرفية في البلاد. وهو قرار مخالف لمبدأ الفصل بين السلطات الذي اقر في الوثائق الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة وكذلك في شريعة حقوق الآنسان بكل أجزائها.
2. تشكيل محاكم خاصة لمحاكمة من يلقى القبض عليه مباشرة ومنح هذه المحاكم حق تنفيذ تلك الأحكام دون تأخير . وهو قرار مخالف للشرعة الدولية ودساتير الدول الديمقراطية وحقوق الآنسان.
3. تشكيل لجان تحقيق خاصة سلمت قيادتها بيد البعثيين بشكل خاص مع مشاركة من القوميين. منحت هيئات التحقيق هذه الصلاحيات الكاملة دون استثناء في التعامل مع المعتقلين بما في ذلك التعذيب بكل صوره والقتل والدفن أو الرمي في نهري دجلة والفرات من الناحية الفعلية. وكانت لجان التحقيق الخاصة تخضع إلى لجنة تحقيق مركزية مقرها في بغداد, كانت في البداية تحت أمرة ضابط عسكري قومي يدعى مصطفى عبد الكريم نصرت, ومن ثم تحت قيادة ضابط عسكري طيار من قياديي حزب البعث يدعى هشام الونداوي. وكان صدام حسين حينذاك عضواً في لجنة التحقيق المركزية التي مارست كل اشكال التعذيب بحق المعتقلين وقتلت الكثير منهم أثناء التحقيق وعلى أيديهم وأيدي جلاوزة التعذيب الآخرين.
4. تشكيل القوات العسكرية الخاصة التي سميت بالحرس القومي. منح هذا الحرس حق مطاردة واعتقال وقتل من يهدد أمن الحكم الجديد . وقد صدر بهذا الصدد القانون رقم 13 لسنة 1963 الذي يمنح الحرس القومي حق قتل الشيوعيين في الموقع مباشرة. وضم الحرس القومي عدداً كبيراً من الشباب القومي الجامح أو المنحدرين من الريف أو من بسطاء الناس من مختلف الأعمار الذين انجروا لهذا الحرس وبدأوا بممارسة ما يطلب منهم إزاء الآخرين الذين وصفوا بالأعداء.
5. تأمين السيطرة الكاملة على أجهزة الدولة ومنع ممارسة الحياة الحزبية والسياسية أو إصدار الصحف والمجلات على كل القوى السياسية في البلاد وفرض الرقابة على إصدار الكتب والنشر بشكل تام.
6. شن حملة اعتقالات واسعة جداً شملت الآلاف من الشيوعيين والديمقراطيين الحزبيين والمستقلين وأنصار عبد الكريم قاسم والكثير من الشخصيات السياسية الوطنية والشخصيات الاجتماعية والعلمية وجمهرة كبيرة من الأدباء من شعراء وكتاب وكذلك مجموعة كبيرة من الفنانين من مسرحيين وسينمائيين وموسيقيين ومغنين وآخرين, إذ اعتبر هؤلاء كلهم وغيرهم في عداد المناوئين للنظام الجديد.
7. ممارسة شتى أشكال التعذيب القديمة والحديثة مع المعتقلين لانتزاع الاعترافات منهم حول تنظيماتهم ومواقع رفاقهم أو ممارساتهم السابقة ودورهم في دعم حكم عبد الكريم قاسم ...الخ. وقد قتل على أيدي هيئات التحقيق عددٌ كبيرٌ من قياديي الحزب الشيوعي العراقي وكوادره وأعضاء الحزب, إضافة إلى بعض الوجوه المحسوبة على أنصار عبد الكريم قاسم.
8. لم تكن ممارسات الاستبداد والعنف والقسوة مقتصرة على قياديي وكوادر وأعضاء حزب البعث فحسب, بل مارسها قادة الجماعات القومية الناصرية وغيرها أيضاً, رغم أن القوى الأخيرة حاولت رمي العبء كله على قوى البعث وحدها وحاولت إبعاد نفسها عن الجرائم التي ارتكبت بحق العراقيات والعراقيين في تلك الفترة في أعقاب سقوط حكم البعث.
أصدر نظام عبد السلام محمد عارف بعد الانقلاب الذي نفذه في 18 تشرين الثاني من عام 1963 ضد حلفائه البعثيين تحت عنوان "المنحرفون من الحرس القومي في المد الشعوبي تحت أشعة 18 تشرين الثاني 1963" حاول فيه تحميل البعثيين ذلك ومحاولة الإشارة إلى أن الشيوعيين اندسوا في صفوف الحرس القومي لتشويه سمعة انقلابهم الأسود. وليس هناك ما يدعم هذا الادعاء بأي حال, بل كل المعلومات المتوفرة تشير إلى أنهم كانوا مندفعين في الآنتقام من الشيوعيين وأنصار عبد الكريم قاسم أيضاً, ولكنهم لم يكونوا في نفس المواقع التي كان بها البعثيون. وعندما تسنى لبعضهم إنزال الضربة بالمعارضين لهم لم يتورعوا عن ذلك خلال فترة الحكم المشترك في أعقاب انقلاب شباط/رمضان 1963.
لقد كان الانقلاب محنة قاسية وكارثة كبيرة للشعب العراقي ولقوى التيار الديمقراطي لما ترتب عليه من استشهاد لعدد كبير من الناس ومن تشويه وإساءة للكرامة ومن دوسٍ على حقوق الآنسان. ويهمنا هنا أن نشير إلى الطابع الاستبدادي الفاشي في ممارسة السلطة السياسية وبعض نماذج العنف والقسوة في التعامل مع قوى المعارضة أو من يحسب عليها. فوفق المعلومات التي نشرت في كتب السيرة الخاصة والوثائق التي ظهر بعضها في أعقاب سقوط الجمهورية الثانية, فأن الحكام الجدد مارسوا الأفعال التالية بحق الناس من مختلف الأحزاب السياسية, ولكن بشكل خاص ضد الشيوعيين والديمقراطيين ومجموعة من أنصار عبد الكريم قاسم:
* إعتقال عدد كبير جداً من ابرز الشخصيات السياسية في عهد الجمهورية الأولى من الوزراء وكبار المسؤولين من مدنيين وعسكريين ومن أنصار عبد الكريم قاسم وقادة وكوادر وأعضاء الحزب الشيوعي العراقي وقادة وأعضاء الأحزاب الوطنية والديمقراطية الأخرى والكثير من الوجوه العلمية والاجتماعية العراقية. (راجع الملحق رقم 1).
الاعتقال والتعذيب إلى حد التعويق أو الموت أو الاعتراف لهم وربما التعاون معهم. وفي هذا التعذيب النفسي والجسدي كانت تمارس أساليب قديمة تعود إلى القرون الوسطى أو فترات التعذيب في العهود الإسلامية المنصرمة, وأساليب أخرى حديثة تنسجم مع التطور التقني الحاصل في العالم. وكانت هذه الأساليب تسعى إلى تدمير إنسانية الآنسان وانتزاع إحساسه بالكرامة والحق في الحياة. كتب الأستاذ حنا بطاطو في كتابه الموسوم "العراق" حول التعذيب في أعقاب انقلاب شباط 1963 ما يلي: "وعثر في أقبية قصر النهاية, الذي استخدمه المكتب (مكتب التحقيق الخاص لدى الحرس القومي, ك. حبيب) مقراً له, على كل أنواع أدوات التعذيب الكريهة, بما فيها الأسلاك الكهربائية المزودة بكلاَّبات والخوازيق الحديد المدببة التي كان المساجين يجبرون على الجلوس عليها, وعثر كذلك على آلة ما زالت تحمل آثار أصابع مقطوعة. وكانت هناك أكوام من الثياب الملوثة بالدماء منثورة هنا وهناك, وبرك دم على الأرضية ولطخات على الجدران" .
* القتل المباشر ودون محاكمات عبر رمي الضحية برصاص الرشاشات الأوتوماتيكية أو دفنهم تحت الأرض وهم أحياء بعد ممارسة أشكال التعذيب بحقهم والإساءات إلى كرامتهم.
* الاغتصاب الجنسي للنساء والرجال ممن كان يتعذر عليهم انتزاع الاعتراف منهم, ثم قتلهم فيما بعد, أو من النساء الجميلات بغض النظر عن كونهن متزوجات أو عذارى.
* الطرد من الوظائف, سواء أكانوا موظفين أم مستخدمين لدى الدولة, والمحاربة بالرزق واعتقال عدد من أفراد العائلات للضغط عليهم من أجل الوصول إلى اعتقال المطلوبين منهم.
* حرمان واسع النطاق للمعذبين من المعالجة الطبية وتأمين الأدوية لهم أو للمرضى من المعتقلين, إضافة إلى سوء التغذية والتعذيب غير المنقطع جسدياً ونفسياً وعصبياً الذي يتعرضون له يومياً ليلاً ونهاراً.
* استخدام الضحايا التي سقطت تحت التعذيب وأبدت استعدادها للمشاركة في مطاردة القوى المعارضة للانقلاب, إذ تميز بعض هؤلاء بالشراسة بسبب خوفه من الموت ومحاولة إبداء الاستعداد لخدمة الحكام الجدد بأقصى ما يمكن لحماية نفسه. وقد تحول البعض من هؤلاء إلى قتلة فعلاً لا يختلفون عن جلاديهم السابقين في تعذيب رفاقهم السابقين.
* مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة لعدد غير قليل من المعارضين لقوى الانقلاب, وبشكل خاص لأولئك الذين قتلوا تحت التعذيب أو رمياً بالرصاص أو الشنق حتى الموت.
* ابتزاز المواطنات والمواطنين وتهديدهم بالاعتقال والاغتصاب أن لم يدفعوا مبالغ معينة يطلبها بعض أفراد الحرس القومي أو غيرهم ممن كانوا في عداد المسؤولين. وقد نشرت وثائق كثيرة عن هذه الحالة في الكتب الصادرة عن هذه الفترة, وبشكل خاص في كتاب "المنحرفون ..." المشار إ‘ليه سابقاً.
* قيام النظام ولأول مرة بتهجير عدد كبير من الكُرد الفيلية بسبب مقاومتهم للانقلاب ومحاولة اعتبارهم من أصل إيراني أو كما يطلق عليهم خطأ وتجاوزا بـ"التبعية الإيرانية". وقد مات تحت التعذيب أو رمياً بالرصاص أو الدفن عددٌ غير قليلٍ من المواطنات والمواطنين الكُرد الفيلية.
* وكانت واحدة من أكثر أساليب التعذيب ومحاولة قتل المعارضين تلك الحادثة التي سميت بقطار الموت حين أراد قادة الحكم الجديد نقل المعتقلين من سجن في بغداد إلى سجن "نقرة السلمان" في الصحراء ووضعوهم في القاطرات المغلقة الخاصة لنقل حمولات البضائع وفي فصل الصيف الشديد الحرارة دون ماء ودون فتحات للتهوية, الأمر الذي تسبب في مأساة إنسانية أطلق عليها بـ "قطار الموت".
* كما استعان البعثيون والقوميون في هذه الفترة ببعض أبرز رجال الدين من الشيعة والسنة لإصدار فتاوى تسمح بهدر دم الشيوعيين باعتبارهم "ملحدين". وعندما عجز البعثيون والقوميون عن إصدار مثل هذه الفتوى اكتفوا بفتوى أخرى أصدرها آية الله السيد محسن الحكيم جاء فيها تحريم الآنتماء للحزب الشيوعي باعتبار الشيوعية كفر وإلحاد. وكان نص الفتوى كما يلي:
"بسم الله الرحمن الرحيم , ولله الحمد. لا يجوز الآنتماء إلى الحزب الشيوعي فإن ذلك كفر وإلحاد أو ترويج للكفر والإلحاد. أعاذكم الله وجميع المسلمين عن ذلك, وزادكم إيماناً وتسليماً, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " .
ولكن الشخصية العسكرية القومية اليمينية المعروفة العقيد الركن عبد الغني الراوي استطاع أن يحصل على فتوى أخرى تسمح بقتل الشيوعيين من الشيخ محمد مهدي الخالصي , إذ جاء في كتاب الدكتور عقيل الناصري بصدد الفتوى نقلاُ عن عبد الغني الراوي ما يلي:
"[خابرني طاهر يحيى, رئيس أركان الجيش, طالباً مني النزول إلى بغداد لمقابلته, وعند المواجهة أخبرني أن مجلس قيادة الثورة قرر تطبيق الشريعة الإسلامية في حق الشيوعيين بالقتل. وأن هناك في نقرة السلمان 9 آلاف شيوعي سجين, وهناك حوالى 2600 (ألفين وستمائة) شيوعي موقوفين في مخافر الشرطة في جميع أنحاء العراق, وفي الوحدات العسكرية, وبما أنك رئيس المحكمة العسكرية التي حاكمت عبد الكريم قاسم (حسب ادعائه, عقيل الناصري), إذن فأنت تكون رئيساً لهذه المحكمة أيضاً, وأنت بعد غد تذهب بالطائرة إلى نقرة السلمان بينما غداً تتحرك جماعة تنفيذ الرمي بالسيارات وأنت بالطائرة. وحسب ما تراه فالبريء يطلق سراحه مع منحه نقوداً عن الأيام التي قضاها بالتوقيف والشيوعي ينفذ به الإعدام فوراً ويدفنون في مقابر جماعية وسترسل بلدوزرات لهذا الغرض مع جماعة التنفيذ أيضاً مع نقود ومخصصات كثيرة توزع حسب ما تراه. فقلت له: إن هذا يتطلب تعيين حكام قضاة أثنين من علماء الشيعة حسب تنسيب السيد محسن الحكيم وأثنين من علماء السنة وأثنين من الحكام المدنيين, وهذا يتطلب منحي الفتوى (القاضية بتحريم الآنتماء للحزب الشيوعي, عقيل الناصري) من الشيخ مهدي الخالصي رحمه الله والسيد محسن الحكيم رحمه الله, وأثنين من علماء السنة.. وطلبت الفتوى من الخالصي وبأني مخول بنشرها وأمر ولده (الشيخ محمد مهدي الخالصي) ... بالكتابة [الشيوعيون مرتدون وحكم المرتد القتل وإن تاب, وبين أن كان متزوجاً وحكم الزوجة والأولاد وأن كان لديه أموال منقولة وغير منقولة وحصة الإمام]... وكان الأمر مع السيد محسن الحكيم الذي أمر ولده بالكتابة وهو يملي عليه: [الشيوعيون مرتدون وحكم المرتد هو القتل وإن تاب ... والشيوعيون نوعان الأول من آمن بها وحمد بها ولم يرجع عنها, فحكمه كما جاء أعلاه, والنوع الثاني من اعتبرها تقدمية ومعاونة المحتاجين, وهؤلاء يحجزون ويفهمون ويعلمون الصح من الخطأ, فإن تابوا يطلق سراحهم وإن أصروا عليه فحكمهم كما جاء في أعلاه...]. وفي اليوم التالي وقبل الساعة 11 صباحاً زرت طاهر يحيى في وزارة الدفاع وأخبرته, إذا طبق البعثيون الشريعة الإسلامية بكاملها وتركوا العلمانية والاشتراكية المؤدية للشيوعية والقومية, حينذاك الإسلام هو الذي يحكم... فنزل طاهر يحيى بالفشار والمسبة على كل من عبد الكريم مصطفى نصرت وخالد مكي الهاشمي وقال لي أنت أرجع واعتبر القضية منتهية وأني أعرف شلون راح أسلگهم] .
* الفتاوى البائسة التي أصدرها شيوخ الدين في حينها, تجسد في واقع الأمر إمكانية تحول شيوخ الدين إلى أدوات بيد النظم الاستبدادية القاهرة. وهي تجربة عانى منها الأوروبيون أيضاً حين تحول بعض القساوسة إلى تأييد هتلر ومجاراته في قتل اليهود الشيوعيين وغيرهم ممن اعتقلته النازية ووضعته في معسكرات الاعتقال الدامية.
* واستعان البعثيون والقوميون بالقوى القومية والبعثية العربية في العالم العربي وبعض النظم الموالية لهم, مثل مصر وسوريا في حينها, لشن حملة شرسة ضد الشيوعيين وأنصار عبد الكريم قاسم والقوى الديمقراطية باعتبارهم معادين للوحدة العربية وشعوبيين يستحقون العقاب ودافعت عن إجراءات النظام الجديد الدموية وغطت عليها وحاولت منع بروز حملة عالمية ضد الانقلابيين الذين أغرقوا البلاد بالدم والدموع وملأوا السجون والمعتقلات بسجناء الفكر والرأي السياسي الآخر.
* وخلال فترة حكم البعث لم يجر التفكير, في ما عدا صدور الدستور المؤقت, بإقامة مؤسسات الدولة الديمقراطية أو السماح لمنظمات المجتمع المدني بالعمل في ما عدا منظماتهم الخاصة التي كانت تلعب دوراً مماثلاً لدور الحرس القومي في ملاحقة واعتقال القوى السياسية غير البعثية وغير القومية. وكان الدستور المؤقت ذاته معطلاً بسبب أن المجلس الوطني لقيادة الثورة هو الذي أصدره وبالتالي هو الذي يصدر القوانين التي يراها مناسبة له ومنسجمة مع أهدافه في تلك الفترة. لقد سادت البلاد ولفترة استمرت قرابة عشرة شهور سياسة فاشية وعنصرية ساحقة بكل معنى الكلمة, رغم أن القاعدة الاقتصادية والاجتماعية للفاشية كانت مفقودة في البلاد. وازداد الأمر سوءاً بعد أن فجر النظام البعثي - القومي الحرب العدوانية ضد الشعب الكُردي في كُردستان العراق ثانية منذ العاشر من شهر حزيران/ يونيو 1963 بعد أن رفض النظام البعثي-القومي الاستجابة لمطالب وحقوق الشعب الكُردي وقرر الأخذ بمبدأ الحكم اللامركزي في البلاد وعلى أساس المحافظات والذي رفضه الشعب الكُردي وقيادته السياسية والعسكرية.
إن القسوة الجامحة التي مارستها القوى البعثية والقومية وهي في السلطة ضد الشيوعيين وأصدقاء الحزب الشيوعي وجمهرة واسعة من الديمقراطيين العراقيين والمستقلين ثم التعرف على بعض القبور الجماعية التي كشفها الناس في حينها, رغم محاولات إخفاء تلك الجرائم البشعة, ثم العودة إلى شن الحرب ضد الشعب الكُردي في كُردستان العراق, إضافة إلى التصرفات غير الآنسانية إزاء المواطنات والمواطنين عموماً, قد شدد من كراهية جمهرة واسعة من الشيوعيين والديمقراطيين ومن أتباع عبد الكريم قاسم من أفراد القوات المسلحة والمدنيين ودفعهم ورفع من عزيمتهم في مواجهة هذا النظام الدموي ودفع بهم إلى الإصرار على تنظيم انتفاضة عسكرية وشعبية تطيح بالنظام القائم وتخلص البلاد من شروره. ولم تكن لهذه الجماعات صلة مباشرة بمركز الحزب الشيوعي العراقي الذي توجهت له ضربات قاسية جداً ومتتالية بحيث كان يصعب تأمين علاقات تنظيمية جديدة خالية من مخاطر اندساس العدو في صفوف التنظيم الجديد, خاصة وأن عدداً مهماً من الكوادر الحزبية السابقة, وعلى رأسهم هادي هاشم الأعظمي, الذي تولى إرشاد الأمن العراقي إلى دور قادة وكوادر الحزب الشيوعي بحمية غير اعتيادية وتواصل غريب. وخلال فترة قصيرة تمكنت مجموعات من الشيوعيين الشباب إعادة تنظيم الصفوف وفق علاقات تنظيمية خيطية دون أي اعتبار للمستويات الحزبية وأن تضع لها خطة للقيام بعملية انقلابية ضد النظام القائم. ولكنها, ورغم الجرأة الكبيرة والاستعداد الفعلي للتضحية التي تميزت بها هذه المجموعات الشيوعية, عجزت عن تحقيق المنشود وفشلت في حركتها التي فجرتها في الثالث من تموز/يوليو 1963, واعتقل أغلب أفرادها وعلى رأسهم قائد الحركة الفعلية والمحرك الرئيسي لها نائب العريف حسن سريع. وجدت سلطة البعث فرصتها المناسبة لشن حملة همجية جديدة ضد الشيوعيين والديمقراطيين أدّت إلى قتل المئات منهم تحت التعذيب أو إطلاق النار عليهم مباشرة أو دفن المناضلين وهم أحياء. ولم تكتف حكومة البعث بقتل الشيوعيين المعارضين للنظام والمشاركين في "حركة حسن سريع", بل عمدت إلى تعليق جثثهم في المعسكرات وفي الأماكن العامة بهدف بث الرعب في نفوس الناس وبين قوى المعارضة للنظام, إضافة إلى أن هذه العملية تؤكد إمعان قادة البعث والقوميين في القسوة السادية التي تذكر بأفعال خلفاء العهود المنصرمة من الحكم الإسلامي في مختلف المناطق التي حكم فيها الأمويون والعباسيون والعثمانيون وكثرة أخرى من الحكام العرب والمسلمين. فقد علقت جثث عدد غير قليل من النشطاء المشاركين في انتفاضة معسكر الرشيد والتي سميت بحركة حسن سريع, بمن فيهم جثة حسن سريع ذاته, ومن بين هؤلاء حافظ لفتة (خياط), عربي محمد ذهب (عريف), راشد عبد الواحد الزهيري (نائب عريف), فالح حسن (جندي أول), كاظم زراك (عريف), وجليل خرنوب (عريف).
وبمناسبة الاحتفال بتخرج دورة تدريبية من رجال الحرس القومي قرر مسؤولها محمد فاضل إعدام وتعليق أربعة من جنود وضباط صف مركز التدريب بمعسكر الوشاش احتفاء بالتخرج وتعزيزاً لمعنويات الحرس القومي ودرساً في القسوة البعثية الفاشية. وكان القتلى مشدودي الوثاق من الوراء. كما أن مهدي العبيدي, عضو القيادة القطرية لحزب البعث أشار في حديث له مع الدكتور علي كريم سعيد إلى أن رئيس الوزراء حينذاك أحمد حسن البكر قام مساء 3 تموز/يوليو 1963 بزيارة خاطفة إلى مقر الحرس القومي في حي المنصور بمدينة بغداد وكانت أمارات الغضب والآنفعال بادية عليه وأمر بقتل عدد من المعتقلين. "وكان جميع من نفذ بهم القتل معتقلين منذ ما قبل اندلاع حركة الرشيد ولم يكن لأغلبهم صلة أو معرفة بما كان يجري خارج مقر الحرس القومي الذي يقع بعيداً عن معسكر الرشيد" .
لا شك في أن حركة حسن سريع كانت تعبر عن تفجر ضيم متراكم في صدور أولئك الذين تعرضوا للإرهاب الدموي والمعاملة القاسية والتعذيب الشرس وكانوا يسعون للخلاص منها حتى وأن كانت على حساب حياتهم الشخصية, إلا أن فرص النجاح لهذه الحركة كانت محدودة بسبب الضربات القاسية التي تعرض لها الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية خلال الأشهر التي تلت انقلاب 8 شباط/فبراير من جهة, وبسبب الاستعداد العالي لدى البعثيين والقوميين في مواجهة مثل هذه التحركات, خاصة وأن معلومات معينة كانت تصلهم وتشير إلى أن الشيوعيين بدأوا بإعادة تنظيم صفوفهم من جهة أخرى. ورغم فشل الحركة في حينها, إلا إنها أعطت زخماً معيناً للحركة السياسية الديمقراطية العراقية وأن ترفع من روح مقاومة الإرهاب والقمع والقتل التي كانت لا تزال تنفذ ضد كوادر وأعضاء الحزب الشيوعي وغيره من القوى السياسية الديمقراطية. وكانت القناعة ثابتة لدى أولئك المناضلين بأن قيام النظام بقتل مجموعات منهم, فأن المجتمع سينجب الجديد منهم باستمرار. وهذه, كما بدا للكثيرين جوهر الرسالة التي كان حسن سريع ورفاقه يريدون إيصالها للناس والتي تتلخص في أن الحزب الشيوعي لا يزال موجوداً ويواصل النضال في صفوف المجتمع. وكان الثمن الذي دفعوه لهذه الرسالة غالياً جداً. إذ يؤكد حازم جواد, وهو من أبرز القادة البعثيين والذي كان على رأس الانقلابيين في 8 شباط/فبراير, بأن عدد الشيوعيين الذين قتلوا بعد حركة 3 تموز/يوليو 1963 أكبر بكثير من عدد الشيوعيين الذين قتلوا خلال الفترة السابقة الواقعة بين 8 شباط/فبراير و3/تموز/يوليو 1963 . كما أن فشل هذه الحركة قد دفع بالبعثيين والقوميين إلى تنفيذ مخططهم في إبعاد الشيوعيين العسكريين من بغداد ونظموا لذلك عملية قطار الموت التي كان يراد منها قتل أكبر عدد من الشيوعيين والديمقراطيين في هذا القطار المنطلق من بغداد صوب الجنوب لنقل المعتقلين إلى نقرة السلمان والذي سنبحث فيه لاحقا باعتباره حادثة من أكثر صور القسوة الفاشية وحشية والتي نفذها الفاشيون الألمان أثناء نقلهم السجناء, وخاصة اليهود, إلى معسكرات الاعتقال أثناء الحرب العالمية الثانية.
والجدير بالإشارة إلى أن الشيوعيين والديمقراطيين الذين قاموا بالحركة كانوا قد اعتقلوا مجموعة من القادة البعثيين, ولكنهم لم يقتلوا أحداً منهم أو يعرضوه للضرب والتعذيب, بل قرروا إبقاء الجميع أحياء وتقديمهم لمحاكمة عادلة لتكشف للشعب الجرائم التي ارتكبت في العراق خلال الأشهر الخمسة المنصرمة على نجاح انقلاب شباط/فبراير 1963.
لم يكن الصراع مع الشيوعيين هو الطابع الذي ميز الحالة السياسية في العراق حينذاك فحسب, بل كان هناك صراع ملموس آخر ومنافسة متفاقمة بين البعثيين وبعض القوى القومية أيضاً. فقد نشر المجلس الوطني لقيادة الثورة بياناً نشر بالعدد 94 من جريدة الجماهير بتاريخ 25/5/1963 أعلن فيه القبض على جماعة كانت تحاول القيام بانقلاب ضد الحكم القائم. وجه البيان أصابع الاتهام إلى الجماعات القومية, إذ ورد فيه ما يلي:
"إن عناصر المؤامرة السوداء تتألف من الزمر التافهة والمعزولة عن الشعب كالحركيين والرجعيين والذيليين والآنتهازيين وكل الزمر الحاقدة التي انصاعت لحكم قاسم وابتعدت عن مسيرة الشعب, والتي أخرت قيام الثورة على حكم قاسم الرجعي بما كانت تقوم به من أعمال تخريبية في الجبهة القومية وبما كانت تفتحه من معارك جانبية أيام النضال الدامي, وبما كانت تقوم به من أعمال التجسس في صفوف الجيش والشعب لحساب أمن واستخبارات الحكم القاسمي المقبور, وبما كانت تفشيه من أسرار محاولات القيام بالثورة" .
وقد تم إلقاء القبض على عدد من القوميين العرب من مدنيين وعسكريين. وتعرض الكثير من المعتقلين القوميين إلى التعذيب الشرس وأدلوا باعترافات كثيرة على جماعتهم, سواء أكانت تلك الاعترافات صحيحة أم خاطئة وأخذت عبر التعذيب الذي لا يطاق. وكان بين المعتقلين شخصيات قومية معروفة مثل محمد صديق شنشل وسلام أحمد والزعيم المتقاعد عبد الهادي محمد الراوي وعدنان الراوي وغيرهم, وهم جماعات مارسوا التآمر أو شاركوا فيه ضد حكومة عبد الكريم قاسم ولم يكونوا أتباعاً لقاسم بل أعداء كارهين له وللجمهورية الأولى. والمعلومات المتوفرة تشير إلى أن حركة فعلية كانت موجودة وكانت تريد إزاحة البعثيين من السلطة وتسلم زمام الحكم من جانب القوى القومية. ويبدو أن القوى المشاركة في الحكومة التي كان المزمع إعلانها قد ضمت إليها حركة القوميين العرب وحزب الاستقلال والحزب العربي الاشتراكي والرابطة القومية وبعض القوميين المستقلين.



المبحث الرابع
الحرس القومي الأداة الضاربة في انقلاب البعث

أولاً: الحرس القومي

كانت تنظيمات حزب البعث العربي الاشتراكي تعمل وفق مبدأ التنظيم شبه العسكري. فهي من حيث المبدأ تنظيمات مدنية, ولكنها تتحول في اللحظة المنشودة وعند الضرورة إلى تنظيمات عسكرية مدربة على استخدام السلاح. وكانت هذه الجماعات المنظمة حزبياً هي التي تمارس تنفيذ قرارات قيادة حزب البعث بعدة اتجاهات:
** تنظيم الإضرابات الطلابية والعمالية أو تنظيم المظاهرات.
** توجيه رسائل التهديد إلى الأشخاص الذين يراد إخضاعهم لمواقف حزب البعث أو إبعادهم عن اتخاذ مواقف ضد سياسة حزب البعث.
** تنفيذ عمليات الاعتداء على المظاهرات والتجمعات الشيوعية أو الديمقراطية أو كسر الإضرابات التي لا تنسجم مع خطط البعث ونشاطه السياسي.
** تنفيذ قرارات الموت التي تصدرها قيادة البعث بحق هذا الشخص أو ذاك ممن يراد تصفيته, وهي التي نفذت في حينها قرارات اغتيال الكثير من الشيوعيين والديمقراطيين في بغداد والبصرة وفي غيرها من المدن العراقية, أو التي قامت قبل ذاك بمحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في العام 1959.
** جمع التبرعات وحماية الكادر الحزبي واحتفالات وفعاليات حزب البعث.
كان حزب البعث يعتمد على الأعضاء الحزبيين في مثل هذه التنظيمات أو الذين يقتربون من أن يصبحوا أعضاء في حزب البعث, أي من الذين يعتبرون قادرين على تحمل المسؤوليات التي تناط بهم.
تميز أغلب أعضاء وكوادر حزب البعث في العراق بسمات مشتركة يمكن تشخيصها بالآندفاع والمشاكسة والعنف والقسوة والاستعداد لخوض النزاع, وندرة هم الذين لا تجد فيهم مثل هذه السمات السلبية.
منذ صيف عام 1962 قررت قيادة حزب البعث تنظيم المجموعات الحزبية والقريبين جداً من العضوية لحزب البعث في فرق حزبية عسكرية لتنفيذ المهمات التي تناط بهم في الانقلاب المزمع القيام به ضد حكومة قاسم. ومنذ كانون الثاني من العام 1963 بدأت تسميتهم بـ "الحرس القومي" . كانت قيادة البعث المتمثلة بالثلاثي على صالح السعدي وحازم جواد وطالب كاظم شبيب هي التي تشرف على هذه المجموعة البعثية كما كانت تتولى مهمة التخطيط للانقلاب الذي يستهدف إسقاط حكومة عبد الكريم قاسم. وفي الوقت نفسه جرى توزيع المهمات العسكرية على الضباط البعثيين والمساندين لهم من خلال المكتب العسكري الذي كانت تترأسه ذات القيادة الثلاثية.
قام الحرس القومي بتنفيذ كافة المهمات التي أنيطت به وأن يضع كل عضو في هذه التنظيمات شبه العسكرية قطعة قماش مثبتة على ساعده ومكتوب عليها حرفي "ح. ق. (حرس قومي). كما أقام مجموعة كبيرة من المقرات في بغداد وفي بقية المحافظات والمدن العراقية, داعياً إلى التطوع في هذا التنظيم شبه العسكري الجديد, وفق ما تم الاتفاق عليه في قيادة البعث قبل الانقلاب. وتدفق الكثير من الناس للانخراط بهذا التنظيم شبه العسكري الذي أصبح رديفاً للجيش, بل وتدريجاً مراقباً على الجيش وضاغطاً عليه بعد تعيين قيادته البعثية ذات المواقع الحزبية المهمة. ثم صدر قانون الحرس القومي الذي وقع عليه رئيس الجمهورية عبد السلام محمد عارف.
وفي ضوء هذا القانون لم يعد تنظيم الحرس القومي يعتمد على الأعضاء البعثيين فقط, بل ضم إليه الكثير من العناصر القريبة من البعث أو التي كانت تطمح في الحصول على مكاسب أو تلك التي كانت تتميز بالعنف والقسوة والتي وجدت في هذا التنظيم موقعاً مناسباً لبروزها وممارسة متعتها. وأصبح التنظيم الحزبي العمود الفقر للحرس القومي.
تشكلت قيادة الحرس القومي من العناصر القيادية في حزب البعث التي كانت كلها مدنية في ما عدا رئيسها الأول عبد الكريم مصطفى نصرت, ومن ثم رئيسها الذي عين في أعقاب استقالة نصرت, وهو الطيار منذر الونداوي, ومنحوا رتباً عسكرية دون أن يكونوا بالأساس عسكريين, وهم:
" 1 – العقيد الركن عبد الكريم مصطفى نصرت قائداً لقوات الحرس القومي.
2 – أبو طالب عبد المطلب الهاشمي برتبة رئيس مؤقت معاوناً لقائد قوات الحرس القومي.
3 – نجاد محمود الصافي برتبة رئيس مؤقت عضواً في هيئة القيادة.
4 – صباح محمد باقر المدني برتبة ملازم أول مؤقت عضواً في هيئة القيادة.
5 – أحمد محمد العزاوي برتبة ملازم أول عضواً في هيئة القيادة.
6 – عطا محي الدين برتبة ملازم أول مؤقت عضواً في هيئة القيادة" .
لقد تمتع هذا التنظيم شبه العسكري بالقوة والهجومية والشراسة لعوامل أربعة أساسية, وهي:
1. التزام القيادة الكامل لهذا التنظيم واعتماده في حماية الانقلاب أكثر من اعتمادها على الجيش العراقي.
2. صدور البيان رقم 13 لسنة 1963 الذي منح الحرس القومي صلاحيات استثنائية في قتل أي إنسان لمجر الشك فيه, وخاصة إذا كان شيوعياً أو يشك في كونه شيوعياً.
3. صدور قانون الحرس القومي عن المجلس الوطني لقيادة الثورة الذي منحه صلاحيات "المساهمة في حفظ الأمن الداخلي" واعتبر الفرق المشكلة "منظمات شعبية مسلحة وتكون لها قيادة مستقلة", إضافة إلى "المساهمة في الخدمة العامة وحملات الإعمار والبناء الاقتصادي والاجتماعي" . ووافق القانون على قبول أعضاء في الحرس القومي تتراوح أعمارهم بين 15 سنة و50 سنةً. وبالتالي سمح لصبية بهذا العمر بحمل السلاح والذين يصعب الثقة بقدرتهم على التصرف بحكمة وهدوء عند الملمات. وتقرر في قانون الحرس القومي أن يتألف من:
المتطوعين العراقيين, والجنود وضباط الصف ونواب الضباط والضباط الاحتياط والمتطوعين من الأقطار العربية والعسكريين المنسبين للعمل في الحرس القومي. ووضع القانون مالية الحرس القومي ضمن مالية وزارة الدفاع. ثم منح القانون الكثير من الامتيازات والرواتب والحقوق التقاعدية والتعويضات التي تنظم وفق قانون خاص بها. واعتبر القانون نافذ المفعول منذ 8/2/1963, علماً بأن القانون قد صدر بتاريخ 18 مايس/أيار من العام 1963.
4. وكان الأهم من كل ذلك تلك الواجبات الواسعة جداً وغير المحدودة, وخاصة الأمنية منها, التي منحها وزير الدفاع والصادرة عن ديوان الوزارة وفق الأمر الوزاري الصادر بتاريخ 2/7/1963 برقم 50/1/1/2135.

وفي ضوء هذه العوامل الأربعة, إضافة إلى الصراعات التي نشبت داخل قيادة حزب البعث فسح في المجال ليلعب الحرس القومي دوراً بالغ الخطورة في الحياة السياسية والأمنية والاجتماعية العراقية. وإذا كان قياديو وكوادر وأعضاء وأصدقاء الحزب الشيوعي العراقي الضحية الأولى والأساسية في الجرائم التي ارتكبها أفراد الحرس القومي في مختلف مدن وأرياف العراق, سواء أكان عبر المطاردة والتشريد أم الاعتقال والتعذيب النفسي والجسدي أم بالقتل بمختلف صوره, فأن الكثير من القوى الديمقراطية تعرضت هي الأخرى لاضطهاد وقهر وتعذيب هذا الجهاز الدموي, إضافة إلى جمهرة كبيرة من بنات وأبناء الشعب الذين كانوا بعيدين عن السياسة أيضاً. لقد عاثت هذه المنظمة المسلحة فساداً وقتلاً وتدميراً في أرض العراق أكثر من ثمانية شهور. كما أنها انقلبت على أصحابها بسبب الصراعات التي دارت بين قوى البعث ذاته, وخاصة أثناء انعقاد مؤتمر البعث ببغداد في النصف الأول من شهر تشرين الثاني 1963 وقبل سقوط حكم البعث بأسبوع واحد. والسؤال الذي يفترض أن نجيب عنه هو: ما هي السمات التي ميزت أفراد هذا الحرس القومي؟ وفق المعلومات المتوفرة لدينا ووفق ما صدرت من كتابات وكتب عن البعثيين أنفسهم أو عن القوى القومية التي كانت شريكتهم في نشاط الحرس القومي ثم تعرضت لإرهابه أيضاً, يمكن تلخيص الإجابة بما يلي:
1. تكثفت في الحرس القومي, من حيث بنيته الفكرية والسياسية والتنظيمية, ثقافة العنف والقسوة التي تبناها حزب البعث العربي الاشتراكي والتي هي تجسيد لتراكم ثقافي لدى أوساط معينة من المجتمع العراقي ولدى الحكام المستبدين.
2. وتميز أفراد الحرس القومي بامتلاكهم ذهنية سادية جامحة وشديدة التطرف وقادرة على إيجاد أساليب جديدة غاية في الشراسة والعدوانية لاضطهاد وقهر الآخر وإذلاله.
3. وكانت تحدوهم الرغبة في الإيذاء والآنتقام وفرض الهيمنة والتسلط على رقاب الناس. لقد كان أعضاء الحرس القومي يتمتعون بلذة خاصة عند ممارسة التعذيب ضد الآخر, وكانوا يتنافسون في إنزال أقسى أشكال التعذيب بالضحية بهدف انتزاع الاعتراف منه أو إذلاله بمختلف الأساليب النفسية والجسدية.
4. وإذ تثقف قادة الحرس القومي وكوادره الأساسية البعثية بالفكر القومي العربي الشوفيني والعنصري والعداء الجارف للقوميات الأخرى, فأنهم نقلوا ذلك إلى بقية أفراد الحرس القومي وجعلوهم أكثر تطرفاً وبشاعة في الممارسة العملية.
5. وإذا اعتبروا عدوهم الأول أعضاء الحزب الشيوعي العراقي, فأنهم وقفوا بوجه كل الذين اعتقدوا بأنهم لا يتفقون وإياهم بالرأي, فإما أن تكون منهم أو ضدهم.
6. وكان العداء للكُرد متأصلاً في صفوف حزب البعث, وانتقل منهم إلى أفراد الحرس القومي وتصرفوا بهذه الذهنية, وخاصة بعد أن بدأ القتال ضد الشعب الكُردي منذ حزيران/يونيو 1963.
7. وتميز تنظيم الحرس القومي بالتفسخ الخلقي والسعي لاغتصاب النساء المعتقلات أو الصبية المعتقلين, إضافة إلى فرض المضاجعة على نساء الملاهي في بغداد بالقوة.
8. وتميز الحرس القومي بعدم الآنضباط, وبشكل خاص أولئك الشباب الذين تراوحت أعمارهم بين 15 و30 عاماً, حيث امتلكوا بأيديهم السلاح, فمارسوا العنف بأقسى أشكاله للوصول لا إلى مراكز أعلى فحسب, بل وإلى تحقيق المصالح الخاصة, فانتشر في صفوفهم نهب أموال الناس وأخذ الرشوة, إذ بدأ الفساد المالي والربا في الاغتناء السريع واستثمار الفرصة الذهبية يدب في صفوفهم, خاصة وأن قيادييهم لم يكونوا أفضل منهم, بل كانوا قدوة لهم! كتب هاني الفكيكي يقول:
"وعلى صعيد آخر كان لتصرفات منظمات عدة في الحرس القومي أن أساءت ودون مبرر مقبول, إلى العلاقة مع أوساط شعبية وعسكرية واسعة, ومارست عنفاً وأعمالاً عدوانية واستولت على ممتلكات العديد من الناس, الأمر الذي عزّز عزلتها الشعبية وأضعفها كثيراً. وكان أخطر ما في الأمر أن الحزب وقواعده والنقابات العمالية والمهنية لم تُميز نفسها عن منظمة الحرس القومي, بل بلغ التداخل حداً لم نستطع, ولم يستطع الناس معه التمييز بين موقف الحزب وجناحه اليساري وبين الحرس" . إن هذا النص لا يتضمن الحقيقة, بل فيه محاولة تضليلية لمن كان بعيداً عن الأحداث حينذاك. ويمكن تسجيل الملاحظات التالية على هذا النص:
* إن الحرس القومي الذي شكل في العراق لم يكن يتمتع بأي جماهيرية حقيقية, بل كان مكروهاً من الشعب منذ البداية, إذ أنه مارس عمليات قتل عشوائية وسلط إرهاباً بشعاً على الناس طيلة فترة وجوده وتمتعه بالصلاحيات التي منحت له وفق القانون ووفق التأييد الذي حظي به من جانب علي صالح السعدي والعديد من القياديين من جناح السعدي, بمن فيهم هاني الفكيكي.
* أن قيادة الحرس القومي كانت قريبة جداً من قيادة حزب البعث وفيهم من كان في مجلس قيادة الثورة ومن المشاركين المباشرين في تنفيذ عملية الانقلاب. وبالتالي كانت هذه القيادة التي نفذت تلك الجرائم كانت تقوم بها بأوامر من تلك القيادات.
* إن أعضاء قياديين من النقابات والمنظمات المهنية كانوا أعضاء في الحرس القومي وممارسين لمهمات هذا الحرس, بما في ذلك عمليات المطاردة والتحقيق والتعذيب والقتل.
* وكانت تقارير تصل إلى قيادة البعث بكل تلك الأعمال الإجرامية التي تمارس ضد المجتمع دون أن يطال الفاعلين العقاب.
* وقد ضم الحرس القومي الكثير من الرعاع, بل أصبحوا جميعاً رعاعاً همجيين عندما ارتدوا زي الحرس القومي ووضعوا حرفي ح. ق. على سواعدهم, وبدأوا بتنفيذ عمليات القتل في المعتقلات والسجون وفي الشوارع أو في دور الناس أو اغتصاب النساء أو سرقة الأموال أثناء تفتيش الدور أو مصادرة دور الناس وممتلكاتهم.
* كما أن النص الذي أوردته عن هاني الفكيكي يقول في بدايته "وعلى صعيد آخر كان لتصرفات منظمات عدة في الحرس القومي أن أساءت ودون مبرر مقبول, ..." وكان هناك ما يبرر حقاً إساءة التصرف مع الناس المعتقلين أو مع الأوساط الشعبية, وهي تعبر عن الذهنية التي تميز بها البعثيون الذين ادعوا فيما بعد أنهم كانوا من يساريي حزب البعث.
ومن المعروف أن لجان التحقيق التي تشكلت في العام 1963 قد ضمت إليها الكثير من قياديي وكوادر وأعضاء حزب البعث العربي الاشتراكي ومن أفراد الحرس القومي. وكان بينهم نجاد الصافي وأبو طالب الهاشمي ومدحت إبراهيم جمعة وأحمد العزاوي وبهاء شبيب وعمار علوش وناظم گزار وصدام حسين التكريتي وعبد الكريم الشيخلي, وبعض المجموعات المساعدة الأكثر عدوانية وشراسة.
في مكان آخر من هذا الكتاب أوردت الكثير عن أفعال أجهزة التحقيق البعثية والحرس القومي. وهنا يمكن إيراد بعض الأمثلة على تصرفات الحرس القومي الذي ورد في كتابات قادة البعث الذين حكموا العراق في العام 1963.

 -;---;--
ثانياً: نماذج من أساليب التعذيب البعثية

إن فترة التحالف البعثي – القومي في الحكم, التي دامت قرابة عشرة شهور, تقدم للقارئة والقارئ نماذج صارخة جداً لسلوكية العنف والقسوة والإمعان في تعذيب الآنسان نفسياً وجسدياً ومحاولة تحطيمه معنوياً وتدمير حياته, سواء بالموت أو التعويق أو الآنهاء السياسي أو تحويل السياسي إلى مخبر يعمل في صفوف الحاكمين ضد رفاق دربه السابقين. وقد سجلت أقلام المعذبين أحياناً وشهود عيان أحياناً أخرى والتقارير التي كشف عنها في فترات لاحقة أو ما نشرته القوى القومية, بسبب صراعها مع البعثيين عما جرى في تلك الفترة, صوراً ومشاهد يصعب على الآنسان السوي تصور حدوثها أو أن في قدرة الآنسان ممارستها إزاء أخيه الآنسان. وسنحاول في أدناه عرض بعض مشاهد من أساليب التعذيب التي مورست في تلك الفترة العصيبة من تاريخ العراق السياسي.
تعرض جميع المعتقلين السياسيين دون استثناء إلى مختلف أساليب التعذيب الجسدي والنفسي, مع الفارق في نوع وشدة ومدة التعذيب ونهاياته وعواقبه على الفرد, ومن ثم على العائلة. ففي الوقت الذي تعرض بعض المعتقلين للضرب والتعليق والفلقة وما شاكل ذلك, إضافة إلى الإهانات المستمرة, تعرض آخرون إلى أشكال أخرى من التعذيب الأكثر شراسة واستخدام أدوات أخرى لتهشيم وتقطيع جسم الآنسان أرباً إربا. ننقل بعض المشاهد الواقعية دون تعليق أو إضافات:
نشر كتاب "المنحرفون" إفادة الدكتور علي الزبيدي, الأستاذ المساعد في كلية الآداب بجامعة بغداد, جاء فيها وصفاً لعملية تعذيب تعرض لها, كما تعرض لها معتقلون آخرون يقول فيها ما يلي:
"إنهم يربطون يد الموقوف وراء ظهره ثم يربطونها بحبل يتدلى من بكرة في السقف ويجذبون طرف الحبل الآخر فيرتفع جسم الآنسان .. إن اليدين المعلولتين ترتفعان مع الحبل إلى أعلى من الجهة الخلفية وما أن تصل إلى مستوى قريب من الكتف حتى تشعر الضحية بالآم هائلة وتزداد هذه الآلام كلما ازداد الجذب وتصل إلى غايتها عندما يرتفع الجسم كله .. وكانوا لا يرفعون الجسم إلى ارتفاع عال بل إلى الدرجة التي تظل القدمان تلامسان الأرض بأصابعه ... ويعلو صراخ الضحية وهي تتوسل بهم أن ينزلوها ... ولكنهم يستمرون في التحقيق والصراخ: تكلم .. اعترف أنك قد .. وتتوالى الكلمات البذيئة والسب الرخيص فإذا أصر على عدم الاعتراف كما يريدون يجذبون الحبل أكثر فأكثر فيشتد الصراخ والاستغاثة ... ثم ينهالون عليه بالضرب بالعصي الغليظة .. أو بأنابيب المطاط (الصوندات) .. وعندما تصل آلام المتهم إلى حد لا يطاق يحشون فمه بالقطن فإذا أغمي عليه أنزلوه وسكبوا عليه سطلاً من الماء أو حقنوه بإبرة خاصة ليعاودوا تعذيبه حتى يخبرهم بما يريدون .. وإذا قصر أعادوه إلى مكانه بعد أن يتعبون من تعذيبه ويتركونه في غرفة التعذيب أو يحملونه ويعيدونه إلى مكانه السابق في القاعة... وهكذا كان .. يأتي الحرس إلى المكان ليأخذوه مرة أخرى .. ثم تتجاوب أرجاء القصر المشؤوم (المقصود هنا قصر النهاية, أي قصر الرحاب الخاص بسكن الوصي على عرش العراق عبد الإله بن علي بن الحسين سابقاً, ك. حبيب) بصراخ المعذب ... لقد شرعوا بتعليقه مرة أخرى ويستمر هذا الصراخ مدة تطول أو تقصر ثم تخمد فجأة .. وما أن تمر فترة ربع ساعة أو أكثر من خمود الصوت حتى يأتي الحرس إلينا ثانية يقود رجلاً آخر إلى جحيم التحقيق والتعذيب وجمد الدم في عروقنا .. كان كل منا ينتظر أن يأتيه الدور ولكن متى؟" .
جاء في هامش الكتاب الذي أصدره الدكتور والمؤرخ الراحل علي كريم سعيد بشان تعذيب أعضاء قيادة الحزب الشيوعي العراقي ما يلي:
"أولاً: روى خالد طبرة (وهو أحد أعضاء هيئة التحقيق الخاصة. ك حبيب) للأستاذ صفاء الفلكي (سفير في أكثر من بلد وبعثي ساهم بكل المراحل السابقة) قائلاً له: حفرنا أنا وسعدون شاكر (وزير داخلية ومدير أمن عام بعد ناظم كزار) قبراً لمحمد صالح العبلي وجئنا به وأنزلناه إلى القبر (الحفرة) وبعد مدة بداخله, طالبه سعدون شاكر بالاعتراف أو الموت؟ فرد عليه العبلي بشجاعة واتهمنا بخيانة الوطن. فأطلق عليه سعدون شاكر (الرصاص) فمات فوراً دون أن يعترف أو يتنازل, وحصل الأمر مع مهدي حميد.
ثانياً: المحامي حمزة سلمان الجبوري عضو لجنة مركزية جيء به مع الضابط الشيوعي مهدي حميد من نقرة السلمان إلى بغداد (مركز تحقيق المأمون) وطالبوه أمام حشد من المعتقلين بالاعتراف ثم طلبوا منه أن يعد من الواحد إلى العشرة وقبل أن تنتهي أطلق عليه (الرصاص) فمات. ثم جيء بمتي الشيخ مباشرة فرفض الاعتراف فقتل بنفس الطريقة.
ثالثاً: قتل عضو المكتب السياسي جمال الحيدري والصحفي عبد الجبار وهبي بعد اعتقالهما مع العبلي في دار فاضل الخطيب والد الدكتور الراحل عطا الخطيب والدكتورة عطية الخطيب, فوراً بعد رفضهما الاعتراف, وقتل معهما أبن جمال الحيدري ونرجس الصفار الصبي فاضل الحيدري, وعمره 14 سنة, وكان يقوم بنقل البريد أحياناً.
رابعاً: مقتل توفيق منير العاني بدار هاشم عبد القادر المملوكة لعزيز شريف, مقابل السفارة المصرية والمجاور لدار عز الدين الراوي (أخو عبد الهادي الراوي). وتمت العملية بعد أن أبلغ أحد عناصر الأمن بوجوده فنزل عليه الحرس القومي من سطح الدار, وعلى عكس ما أشيع من أنه قاتلهم فقتل, لم يكن الراحل يحمل سلاحاً بل بادره بالرمي بصليات كثيرة فتناثرت دماؤه في كل مكان. ويذكر أن نوري السعيد كان قد سحب جنسيته العراقية مع كامل القزانجي (من قادة الحزب الوطني الديمقراطي السابقين) (الذي قتله البعثيون في محاولتهم الانقلابية في آذار العام 1959 في الموصل, ك. حبيب) وآخرين عام 1954 وسفَّره إلى خارج البلاد. وكان توفيق منير حائزاً على جائزة جوليو كوري للسلام.
خامساً: أعتقل متي الشيخ مع الدكتور محمد الجلبي في دار الأخير ونقلا إلى مركز المأمون, فقتل متي الشيخ مع عضو اللجنة المركزية الآخر حمزة سلمان الجبوري, ومهدي حميد, في حين نقل الجلبي إلى قصر النهاية, ووضع في السرداب مع سلام عادل والآخرين , ثم نقل عضو اللجنة المركزية نافع يونس إلى بناية محكمة الشعب, وقتلا هناك في تموز 1963, أي بعد شهر من تقرير د. علوش" .
يصف عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي حينذاك والراحل صالح مهدي دگلة الوضع بعد اعتقاله مباشرة كالآتي:
"وفي الحال جاءني ضابط الحرس القومي الجلاد أحمد أبو الجبن (أحمد العزاوي, الذي قتل في دمشق في العام 1976 على أيدي الأمن العراقي الصدامي, ك. حبيب), وقد منحه الانقلابيون رتبة ملازم واصطحبني إلى القاعة الرئيسية لنادي الاقتصاديين الذي حولوه إلى مقر رئيسي للحرس القومي. وأمام العشرات من المعتقلين صار يوجه اللكمات ويزعق أنه هو (يقصدني) الذي كتب وطبع هذا النداء "الخياني الحقير". وكان يتصور أنه بالتستر على المطبعة يستطيع خداعنا ولكن يقظة الثوريين من الحراس سرعان ما كشفت بوسائلها الذكية جهاز الخيانة. أعادوني إلى غرفة التعذيب ورموني على الأرض بحراسة صبي يحمل رشاشة سترلنگ. عرفت, مع الأسف, فيما بعد أنه فلسطيني من المفترض أن يتعاطف مع كل المضطهدين أمثال شعبه ولكن ما العمل وهو مضلل صار يتسلى بشتمي حيث جاوز حدود الأدب واللياقة فبدأ يكيل لي ولعائلتي أقذع الشتائم, فما كان مني إلا أن أرد عليه بمثلها وبأقذع منها. هنا لم يتمالك الصبي "الحارس القومي" أعصابه فراح يطلق عليَّ الرصاص من رشاشته وأصابني في مناطق مختلفة من جسمي وأصاب الحائط الذي اتكأت عليه أيضاً.والذي انطلقت منه شظايا أصابت وجهي واستقرت في أسناني. أما الإصابات البليغة فواحدة في صدري وأخرى استقرت في مفصل ركبتي فضلاً عن شظية كبيرة استقرت في صدغي الأيسر بالقرب من الأذن" .
وهذا نص آخر يوضح الأساليب التي مورست في تعذيب المناضل الراحل حسين الرضي (سلام عادل) السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بعد أن اعتقل في التاسع عشر من شهر شباط/فبراير 1963 وأعلن عن إعدامه وإعدام رفيقيه محمد حسين أبو العيس وحسن عوينة في السابع من آذار/مارس من نفس العام. وكان القادة الثلاثة قد قتلا تحت التعذيب, ولم يكن إعلان الإعدام سوى ذر الرماد بالعيون وإخفاء حقيقة التعذيب القاتل.
" وبعد أن فشلت كل أساليبهم في النيل من إرادته الفولاذية ضربوه بالهراوات حتى أدموه, علقوه من رجليه مشدوداً إلى السقف, أوقعوه مغشياً عليه ... قطعوا من لحم ساقه وذروه بالملح ... كسروا عظامه ...طوحوا به في سراديب "قصر النهاية" أياماً وليالي ... مطروحاً في مياهها الآسنة الباردة مقيداً عارياً ... حرموا عليه الأكل والشرب والمنام, لم يبقوا في جسده مكاناً تمتحن فيه بطولة وإرادة الآنسان الشيوعي إلا وسلطوا عليه آلات تعذيبهم الجهنمية. وامتدت أيديهم الآثمة إلى عينيه الجريئتين رغم كل هذا العذاب ... ضغطوهما بالأصابع حتى ينزف منهما الدم وسال منهما ماء الرؤية ... وأخيراً طرحوه أرضاً .. مهشماً .. مشوهاً .. بقية إنسان كبير كان بالأمس مليئاً بالحيوية والحب للخير .. لكل البشرية ... للشعب العراقي .. وسيروا فوقه عجلة حديدية ضخمة (حادلة, ك. حبيب) سحقت جسده النحيف..." .
نشر كتاب المنحرفون قوائم كثيرة عن أشخاص قتلتهم قوات الحرس القومي أو غيبوا بعد إحالتهم على هيئة التحقيق الخاصة, كما عرضوا لصندوق خشبي صغير استخدم لنقل متتابع لـ 120 جثة قتل أصحابها من قبل لجنة التحقيق الخاصة ودفنت في مناطق مختلفة , كما عرض الكتاب لمقبرة جماعية دفن فيها الكثير من القتلى حيث جاء تحت صورة المقبرة الجماعية ما يلي: "منطقة الجزيرة ما بين بغداد-الكوت .. وقد دفنت عشرات الجثث في هذه المنطقة الخالية من قبل مكتب التحقيق الخاص التابع إلى الحرس اللاقومي.. أخذت الصورة يوم 15/12/1963" .
وفي الملحق رقم 1 الذي نشره الدكتور الراحل علي كريم سعيد في كتابه الموسوم "العراق البيرية المسلحة حركة حسن سريع وقطار الموت 1963" والصادر في عام 2002 يؤكد على تنظيم مهرجانات من التعذيب والقتل لعدد كبير من الضباط الأحرار في أعقاب نجاح انقلاب 8 شباط ومن ثم في أعقاب فشل حركة حسن سريع في عام 1963, أولئك الذين ساهموا في ثورة تموز كالزعيم الركن داود الجنابي, والمقدم إبراهيم الموسوي, والعميد عبد المجيد جليل, والعقيد حسين خضر الدوري الذي قلع له طه الشكرجي أذنيه بكلابتين, قبل رميه بالرصاص بأمر من صالح مهدي عماش. كما يذكر بأن طه الشكرجي كان قد قتل تعذيباً في مقر اللواء 19 في معسكر الرشيد النقيب عمر فاروق جلال من حماية عبد الكريم قاسم وآخرين. كما كان "على قائمة الإعدام 34 ضابطاً من أصل حوالى مائة معتقل في مقر اللواء 19, فنادى عليهم (طه الشكرجي, وهو أحد الضباط البعثيين المسؤولين عن التحقيق, ك. حبيب) وأخذهم بسيارة لوري إلى منطقة قريبة من عكركوف, وتم هناك رميهم ودفنهم في نفس المكان, وكان بين القتلى المقدم فاضل البياتي, والرئيس الطيار منعم حسن شنون, والرئيس الأول جلال أحمد فهمي, والنقيب عباس الدجيلي والرئيس هشام إسماعيل صفوت, والنقيب حسون الزهيري وكلهم من الضباط الأحرار, وإيراهيم الحكاك ولطيف الحاج وصاحب أحمد المرزا (طالب بكلية الطب) وصبيح سباهي وغيرهم".
وفي مكان آخر يشير الدكتور سعيد إلى أن الملازم أيوب وهبي الملقب بابن شيتا قد دخل في عام 1963 إلى نادي الأولمبي الذي كان أحد مقرات التحقيق والتعذيب السيئة الصيت ببغداد "فرأي مجموعة من الضباط يقفون جانباً, فسأل مَن هؤلاء؟ فقالوا هذا الرائد حافظ علوان مرافق عبد الكريم قاسم, وهذا الملازم نوري ناصر أحد مرافقي قاسم, والملازم الطيار طارق محمد صالح أبن أخت عبد الكريم قاسم والملازم الطيار كريم صفر والرئيس غازي شاكر الجبوري, فسحب أيوب وهبي أقسام رشاشته ورماهم جميعاً دون تردد, فلم ينج غير حافظ علوان الذي احتمى بعامود كونكريتي, وغازي الجبوري الذي اكتشفه فيما بعد ناقل الجثث بسيارة الإسعاف إنه ما زال حياً, فأخذه إلى مستشفى الرشيد العسكري حيث أنقذه أطباؤها بأعجوبة" .
عرف الشعب العراقي في أعقاب ثورة تموز 1959 صحفياً بارزاً ومتميزاً في كتاباته ومقالاته الصحفية حيث كان يكتب باسم "أبو سعيد" في جريدة اتحاد الشعب, وكان أحد الكوادر المتقدمة في الحزب الشيوعي العراقي, إنه الآنسان الطيب عبد الجبار وهبي. اعتقل عبد الجبار وهبي مع رفيقيه جمال الحيدري ومحمد صالح العبلي وتعرض إلى تعذيب شرس يصف جزءاً من عواقب التعذيب عليه بعض البعثيين الذين شاهدوا وهبي في قصر النهاية, إذ كتب الدكتور على كريم سعيد يقول:
"يقول الضابط محمد علي سباهي الذي كان عضواً وأحد مؤسسي المكتب العسكري لحزب البعث العربي الاشتراكي قبل 8 شباط: "في عام 1963 زرت في قصر النهارية عمار علوش وكان مشرفاً على التحقيقات, فرأيت عنده عبد الكريم الشيخلي (وزير الخارجية فيما بعد)وأيوب وهبي وخالد طبرة, وفوجئت بالصحفي عبد الجبار وهبي ممدوداً على الأرض وكان على وشك الموت ويطلب الماء, ويجيبه خالد طبرة (مدير عام فيما بعد): "ها كواد (قواد) تريد مي (ماء)!!", ولم يعطه. وكان الدكتور فؤاد بابان قد أخبرني بمدينة السليمانية عام 2001 قائلاً: كنت معتقلاً في قصر النهاية "فرأيت عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) منشور الرجل من تحت الركبة بآلة نشر خاصة, وكان إلى جانبه شخص آخر لديه يد واحدة معلق منها" .
يشير طالب شبيب, وكان في قيادة البعث ووزير خارجية حكومة الانقلاب, إلى أن ستة من مدراء البلديات الذين عينهم وزير الشؤون البلدية محمود شيت خطاب وذهبوا لتسلم مناصبهم ووجهوا بالحرس القومي الذي تناولهم بالضرب تأديباً لهم لكي لا يعودوا ثانية إلى مناصبهم, فليس الوزير يعين مدراء البلديات, بل هم الذين يقومون بتعيين مدراء البلديات. جاء وزير الشؤون البلدية بهؤلاء الستة إلى مقر حازم جواد وكان طالب شبيب موجوداً هناك. فسألوه عما جرى لهؤلاء الجرحى "وكأنهم خارجون تواً من غرفة إسعاف وتضميد, يحملون رؤوساً معصوبة وأيدي وأرجلاً وأقداماً مجبَّرة. وكان منظرهم أشبه بتظاهرة أثارت استغرابنا, فقال إنهم رؤساء البلديات الذين وافقتم على تعيينهم, قام رجال الحرس القومي بضربهم تأديباً لهم, وطلبوا منهم أن يعودوا مرة أخرى إلى مراكز عملهم, لأن قيادات الحرس القومي قد اختارت بنفسها رؤساء بلديات آخرين, وهم الآن يمارسون وظائفهم دون الرجوع إلى وزير البلديات" .
وبصدد أساليب التعذيب التي مارسها البعثيون ضد المعتقلين كتب المحامي خالد عيسى طه في مقال له حول تجربته مع المندائيين أثناء وجوده في المعتقل كتب يقول:
".. أدخلونا ذات ليلة في غرفة .. و في الصباح التالي رأيت منظرا لن أنساه ما حييت إذ رأيت شخصا كهلا ، شيخا مسنا قد وثقت يداه ورجلاه بكرسي وكان هناك رجل من الحرس القومي يمسك بيده شمعة ويريد بها حرق لحية الشيخ بينما كان شيخنا يصرخ و يصرخ .
فكرت في داخلي إذ لم أكن أتخيل يوما أن يكون هناك حزبٌ بكامله يحمل السلاح ويهدد لحية رجل مسن بريء!!!! فبدا لي أن حرسا قوميا يمثل حزب البعث قد ترك كل الأهداف المعادية وركز على لحية الشيخ المندائي" الصابئي" ....
سُحبت إلى الغرفة بعدما عذبوني بقيادة حرس.. ولم أدرك بعدها النتائج ولكن علمت فيما بعد بان هذا الشيخ كان يعود لعائلة تلقب ب(الصكر..).
أيام تلت أيام و سنين تلت سنين و تبدلت الأجواء و حدث انقلاب على انقلاب البعث وجاء عبد السلام عارف .. وكانت كل معرفتي بالمندائية أنهم أناس طيبون جل احترافهم يكمن في الصياغة ..وما كانت صورة الشيخ لتغادر مخيلتي وسألت نفسي: ترى ما الذي فعله ذلك الشيخ وما الذي اقترفه ليعذب هكذا ؟؟؟؟" (موقع بحزاني الإلكتروني بتاريخ 27/3/2007).
 -;---;--
شهادة الكاتب والأديب العراقي السيد جاسم المطير حول الاعتقال والتعذيب بعد انقلاب 1963

اتصلت بالأخ السيد جاسم المطير, وهو مقيم في هولندا ويعاني من جملة من الأمراض التي حملته إياها سني السجن والتعذيب والاضطهاد والقمع الوحشي لنظام البعث الأول, ورجوته أن يكتب لي صفحات عن الوضع الذي واجهه بعد اعتقاله في عام 1963. ورجوته أن يشير إلى ما يساعد القارئة والقارئ أن تتشكل لديهم صورة واقعية دقيقة وصادقة عن طبيعة القسوة الجامحة التي يتسم بها المستبدون وأعوانهم في العراق. وهذه هي الرسالة التي وصلتني منه بتاريخ 16/2/2004 أضعها, كما وصلتني أمام القارئات والقراء بالعربية ليطلعوا على لوحة واحدة من ألاف اللوحات المماثلة في عراق عام 1963 وعراق المرة الثانية من حكم البعث للفترة 1968-2003.

الذاكرة الصعبة عن أيام الحرس القومي ..
قبل الاعتقال
حدث الانقلاب في شباط عام 1963 وبدأ وحوش الحرس القومي بتفتيش بيتنا في 23 شباط وفي 1 آذار وفي 9 آذار. اعتقلوا والدتي نهاراً كاملاً ثم أطلقوا سراحها .. فتشوا دار عائلة زوجتي سميرة محمود بحثاً عنها وعني وعن شاكر محمود.
كان جميع من يعرفني من البعثيين والحرس القومي، وهم كثيرون، يريدون أن يرووا عطشهم مني لكثرة ما تردد أسمي أمامهم من قبل بعض المعتقلين المعترفين. تكررت أمامهم المعلومات والتقارير عن كوني مسؤول اللجنة المحلية في الحزب الشيوعي بالبصرة وعن كوني عضواً في مكتب لجنة المنطقة الجنوبية وعن حركتي وتنقلاتي خلال الشهر الأول من الانقلاب.. مرة يجيئهم اعتراف من عامل ميناء بأنني كنتُ مجتمعاً بالعمال ومرة من طالب في اجتماع طلابي بالبصرة ومن معلم في اْلمَديْنة (إحدى نواحي البصرة) ومن فلاح في القرنة ومن معلم في السيبة أو الفاو أو الزبير فصاروا يكمنون لي الكمائن بعد " مغادرتي " لتلك المناطق التي كنتُ أزورها فأخرج سالماً منها وقد نجوتً بسهولة من كمائن عديدة ..
من 13 شباط حتى 19/3/1963 يتلفتون في كل الوجوه بأعين ملؤها الترقب والحذر. قضيتُ عدة أيام مختبئاً في دار شخصية قومية معروفة بنزاهتها (فيصل حمود ) صاحب مكتبة الفكر العربي وهي أقدم مكتبة في البصرة وله صلات متينة مع المتصرف ومدير الأمن ومدير الشرطة ومع البعثيين. يساعدني في تنقلاتي من مكان إلى آخر في كثير من الأيام عندما استنجد به وكان الرفيق ( سلمان محمد النجار ) قد خصص سيارته البيكاب لتنقلاتي ليلاً ونهاراً، داخل البصرة وخارجها .. كنتُ أحتفظ لنفسي بأصفى أغاني الصبر والحذر رغم أنني واثق أن الخوف سيزول سريعاً وأن عتمة الحرس القومي ستنتهي أسرع من البرق المنتظر حدوثه في أية لحظة .
الأصدقاء مثلما الأهل يخشون عليّ إذا ما وقعتُ بأيديهم. ازدهرت تلك الأيام باقتراحات كثيرة تقدم ألي للفرار إلى خارج العراق ( عبادان أو الكويت ). حتى أصدر صالح دگلة أمره ألي بمغادرة البصرة إلى بغداد أو الكويت فقد كان كل الذباب المتوحش يبحث عني كما كتب ألي ذات مرة .
استولت الليلة الحرة الأخيرة على جفوني . قضينا ليلة كاملة أنا وعبد الحسين الشهباز (عضو اللجنة المحلية ) لتصفية الكثير من الأوراق والتقارير الحزبية ذات الخطورة. كنا نعاني في تلك الليلة كما في قبلها السأم والاضطراب والخوف نتوقع الخطر فــي كل لــحظة. فما أن نسمع صوتا في الزقاق إلاّ وتثقل قلوبنا جميعا بشيء من صمت الحذر.
وفي صبيحة العشرين من آذار 1963 أغارت مجموعة من عناصر الحرس القومي على دارنا المستأجرة من قبل الحزب لتكون مقراً لمكتب اللجنة المحلية للحزب الشيوعي في البصرة. كانت الدار في محلة ( الجمهورية ) قريبة من المكتب الرئيسي لشركة نفط البصرة .

لحظات الاعتقال
الساعة الخامسة فجراً. لم يطرق الباب أحد إلاً أنني شعرتُ بحركة تطويق غير طبيعية قرب الباب الرئيسي وحول الشباكين المطلين على الزقاق. حركة سريعة وهادئة كتحرك اللصوص.
كان معي في البيت زوجتي ( سميرة محمود ) التي أيقظتها في الحال مشيراً إليها الصعود إلى سطح الدار والآنتقال منه إلى سطح الجيران والهرب ، بينما ذهبتُ إلى غرفة عبد الحسين الشهباز فأيقظته باحثاً عن رسالة حزبية صغيرة لكنها خطيرة كتبتها قبل ساعات ملفوفة مثل كبسولة الدواء كان مقرراً أن يسلمها عبد الحسين لمسؤول إحدى المنظمات. في الرسالة معلومات عن مناضلين عسكريين كنا نرتب معهم بعض الأمور الخاصة واللقاءات، فبلعتُ الرسالة في اللحظة التي كان أفراد الحرس قد كسروا باب البيت هاجمين إلى داخله وأنا مُهم في صعود السلم. ألقي القبض عليً وهمّوا بمحاولة إخراج الرسالة من فمي لكن أوان ذلك قد فات إذ أحسست بأنها استقرت مشكورة في معدتي.
قبضوا على عبد الحسين بينما لاحظتُ انسلال شقيقته ماجدة الشهباز ( عضو اللجنة النسائية ) من بين صفوفهم إلى خارج الدار دون انتباه منهم.
أصبحوا مسيطرين على باحة البيت مشهرين بنادقهم الرشاشة ( بور سعيد ) نحو صدري وصدر عبد الحسين الشهباز بينما صعد اثنان منهم إلى السطح فزاد قلقي لكنهما عادا خائبين سريعاً إذ صارت سميرة جزءاً من عائلة الجيران .
فتشوا البيت بدون دقة. لم يجدوا غير أربعة كتب في الشعر العربي موجودة في غرفة عبد الحسين ورقعة شطرنج وطاولي خشبي أخذوها مع الكتب وتركوا أحجار الشطرنج التي توجد في داخل قلعتين من قلاعها الأربعة رسالتين حزبيتين مخبوءتين بدقة رغم عدم أهميتهما. أما الأوراق الحزبية الأخرى فكانت مخبوءة في مكان لا يتصوره أحد منهم، داخل ماكنة المروحة المنضدية الموضوعة في زاوية غرفة الاستقبال.

الهمسة الداوية
صعدنا إلى سيارة بحجم كبير( لاندروفر). فوجئت أن فيها عبد الحسين خليفة(عضو مكتب المنطقة الجنوبية) في المقعد الخلفي وأجلسوني في مقعد أمامه (الحوض الوسطي) بينما أجلسوا عبد الحسين الشهباز في مقعد يقابلني ويقابل عبد الحسين خليفة وكانت آثار تعذيب شديدة قد شوهت وجهه. على أرضية الحوض الوسطي كان شيء ما مغطى ببطانية عسكرية. صعد حارس مسلح بجانب السائق بينما صعد الآخرون في سيارة ثانية تتبعنا. قبل أن تتحرك السيارة همس عبد الحسين خليفة بأذني : أمامك جثة عباس نعمة.
عرفتُ أن السيارة قادمة من لواء العمارة لأن عباس نعمة الحداد كان مسؤولاً عن تنظيم لواء العمارة لمنظمة الحزب الشيوعي، وكان عبد الحسين خليفة قد ذهب قبل يومين للأشراف على التنظيم هناك باعتباره عضواً في مكتب المنطقة الجنوبية.
الهمسة كانت أول صدمة كبيرة كبداية لفصل خطير من فصول محاربة تنظيمات الشيوعية في البصرة والمنطقة الجنوبية. وكانت فصلاً من فصول العنف الدموي والتصفية الجسدية الذي لم تشهد له بلدنا مثيلاً من قبل. يا لبؤس المصادفات الغريبة ..
قبل بضع ساعات فقط ، أي في الساعة الواحدة صباحاً كنتُ أقرأ تقريراً عن الوضع الإرهابي في لواء العمارة كان قد أرسله عباس نعمة الحداد نفسه قبل بضعة أيام يُعلم فيها مكتب المنطقة الجنوبية أن مجيئه من العمارة سيتأخر لمدة أسبوع واحد لاستكمال بعض الأمور التنظيمية قبل انتقاله إلى البصرة. كان يشكو في تقريره أنه متضايق من الحركة في مدينته المعروف وجهه فيها جيداً من قبل أصدقاء الحزب وأعدائه. وقد ورد في التقرير " أن الحرس القومي استباح العمارة بصورة همجية ".
كان مكتب المنطقة قد وافق على نقله إلى البصرة مع إبقائه مسؤولاً عن اللجنة المحلية لتنظيم الحزب الشيوعي في العمارة. بدلاً من مجيئه حياً، جاءتنا روحه المغدورة في حوض هذه السيارة. نقلنا بسرعة إلى مقر الحرس القومي الذي أحتل بناية نادي جمعية الاقتصاديين العراقيين فرع البصرة المطل على نهر الخورة، وهو النهر المقترن بفرح البصريين ومتعتهم ومسراتهم فيه تجري احتفالات عيد نوروز في 21 آذار من كل عام أي يوم غد .. على شواطئ النهر المتعددة التعرجات المظللة بالنخيل وأشجار التكي يجتمع المحبون والعاشقون تحت ظلالها الوارفة التي ليس لجمالها جمال مماثل في أية بقعة بصراوية أخرى. وكثيرا ما شهد النهر احتفالات جماهيرية عديدة بعد قيام ثورة 14 تموز كان منها احتفال جماهير البصرة عام 1959 بعيد تأسيس الحزب الشيوعي. تحول هذا النادي إلى مَجلد. إلى حاكم بالعنف والتعذيب. يدور حول الجميع بالسياط لكي تنزف أجساد ضحايا ولكي تنوح قلوب. هذا مكان موحش عقيم. يحس الجلادون فيه بالعظمة وهم صغار. ويحس المجلودون فيه بالآنكسار وهم كبار. العظمة والآنكسار وجها لوجه. أيهما ينتصر ..؟

داخل المسلخ

أدخلونا إلى القاعة الرئيسية في نادي جمعية الاقتصاديين العراقيين، المقر الرسمي للحرس القومي في لواء البصرة. أخرج عبد الحسين الشهباز من القاعة إلى مكان آخر بينما لم ينزل معنا عبد الحسين خليفة إلى المكان نفسه، ولم أعرف المكان الذي اقتيدا إليه. بعد قليل ( ربما بعد نصف ساعة ) جاءوا بصالح دگلة - مسؤول مكتب المنطقة الجنوبية - وبزوجته وطفلتهما. أجلسوا صالح على كرسي بجانب الشباك المطل على الحديقة بينما أجلسوا زوجته إنعام العبايچي على الأرض. لم أكن قد التقيت بها من قبل لكن كريم فرج كان قد حدثني، قبل الانقلاب، عنها وعن شخصيتها التي كثيراً ما أظهر إعجابه بها. نظرتُ إلى وجهها. كان نضراً، جميلاً، أليماً، فيه صلابة وتحد ٍ. المرأة الوحيدة في هذا المَجلد تنظر إليهم بشراسة وتوتر. تغمغم بكلمات لم اسمعها. لقد محت تلك اللحظات ليس الكلام من شفتي فقط بل محت سمع أذنيّ أيضاً كأن فيهما وقر. قلتُ في نفسي : ساعدك الله يا إنعام وأنت تحملين وقر طفلتك.
فجأة اهتزت القاعة بانطلاق رشاشة بور سعيد داخل القاعة متجهة رصاصات نحو صالح دگلة. أصابته عدة شظايا ورصاصات أطلقها شاب من الحرس القومي نقلوا صالح، بعد حدوث هرج ومرج من جميع الحرس الموجودين في المقر، إلى خارج القاعة بسرعة عرفت فيما بعد أنهم نقلوه إلى المستشفى .
ثم سمعتُ مكالمة هاتفية من غرفة الآمر مع بغداد (المقر العام للحرس القومي) تبلغهم باعتقال لجنة المنطقة الجنوبية وذكر أسم صالح دگلة وبعده أسم جاسم المطير. وخلال بضع ساعات وصلت طائرة خاصة من بغداد على متنها أحمد العزاوي، وصباح المدني، وجاء أبو طالب عبد المطلب الهاشمي الذي كان موجوداً في مدينة العمارة بسيارة مسلحة, وجميعهم من القيادة العامة للحرس القومي، ومنذ اللحظة الأولى من وصولهم بدءوا مع المعتقلين تحقيقاً بأساليب بشعة.
الألم الأشد
تألمتُ كثيراً في تلك اللحظة فها نحن ثلاثة من أعضاء المكتب قد تم اعتقالنا. لم يبق طليقاً غير واحد هو محمد حسن مبارك. كم تمنيتُ أن يفلت من قبضتهم. كان شاطراً في التخفي وكان حذراً جداً منذ أول يوم الانقلاب، فقد كنتُ قد التقيته طالباً مني الآنتقال إلى دار جديدة خلال أسبوع واحد .
كان عدد غير قليل من الحرس الواقفين حولنا من معارفي. الكبار منهم أصدقاء لي سابقون. وكان فتـَيان عرفتُ من اسميهما أنهما ابنان لصديقين من أصدقائي المعلمين غير البعثيين. أنا أتطلع لوجوههم بألم وهم يتطلعون إليّ بألم.
استفسرت من أحد الفتيين كان واقفاً بقربي عن آمر الحرس القومي في لواء البصرة (فتحي حسين) الذي هو مسؤول البعثيين في اللواء. إن كان موجودا أم لا.. فأجابني هامسا انه موجود.
كان فتحي حسين صديقاً لي قبل أن يصبح بعثياً عام 1952 أيام انتفاضة تشرين، أزوده دائماً بمنشوراتنا الحزبية وكان يوقع على عرائضنا بحماس. بين عائلتي وعائلته علاقات طيبة فنحن أبناء محلة واحدة في ذلك الحين، محلة العشار، التي يطلق عليها، الناس والشرطة، لقب (موسكو) لكثرة الشيوعيين فيها ولأن الرفيق فهد كان أحد ساكنيها في دار شقيقه فرج في إحدى فترات حياته. كانت دار فرج سلمان مجاورة لدار سكنانا ذات يوم بصورة مشتركة أنا ومحمد سعيد الصگار. كنتُ أفاخر دائماً بهذا السكن فمنه تأتيني قوة معنوية معينة.
بسط جواب الحارس الشاب شيئا من الراحة في نفسي. فتحي حسين هو الآمر الناهي في هذا المكان وفي كل مكان من اللواء كله. أبسط أمر من أوامره يمنع تعذيبي .
أخذ قادة الحرس القومي وقادة التنظيم الحزبي يطلون علينا واحداً واحدا متفحصين وجوه الغنيمة الجديدة من الشيوعيين. دخل علينا شخص نادوه باسم أستاذ زهاء وكان وجهه متوحشا. ثم دخل علينا شخص برتبة ملازم أول اسمه نصار السعدون نائب آمر الحرس القومي لكن وجهه كان هادئا.

محاولة يائسة
ثم صدر أمر بنقلي إلى غرفة صغيرة ملحقة بالمطبخ، ربما هي إحدى مخازن المطبخ. غرفة مساحتها متر بمترين. شاهدتُ في أرضها رطوبة كما شاهدتُ في زاويتين من زواياها آثار دماء وشعر آدمي.
مرت دقائق جاءني بعدها علي حسين الطهراني ( صاحب محل أحذية في شارع الصيادلة بالعشار) وهو شقيق فتحي حسين آمر الحرس القومي بالبصرة. كان محله عنواناً "محطة" لإيصال منشورات حزب البعث العربي الاشتراكي القادمة من بغداد إلى تنظيماتهم في البصرة. في أواخر عام 1959 ألقي القبض على المراسل البعثي القادم من بغداد الذي سرعان ما أعترف بمهمته وبالعنوان الذاهب إليه فاعتقلوا أثر ذلك علي حسين الطهراني. وقد سعيتُ كثيراً من أجل إطلاق سراحه فتم ذلك بعد أسبوعين من اعتقاله وقد شكرني هو وجميع أفراد عائلته بمن فيهم فتحي حسين لأنهم لم يكونوا يتوقعون عودة أبنهم إليهم.. أول كلمة قلتها لعلي حسين: ـ هل تتذكرني يا علي ..؟ ـ نعم . بالتأكيد..
ـ هل تتذكر كيف أنقذتك من أزمة اعتقالك عام 1959 يا علي..؟ ـ نعم ..
ـ هل تتذكر الجهود المتواصلة الحثيثة التي بذلتها مع صديقي مدير الاستخبارات العسكرية المقدم عريبي فرحان لضمان إطلاق سراحك وضمان عدم المساس بكرامتك أو تعذيبك خلال فترة التحقيق ..؟ ـ نعم أتذكر كل شيء.
كان يجيب على أسئلتي بنوع من الذل الذي يشعر به الآن. تحاشى النظر إلى وجهي.
وذكرته أيضاً كيف سافرتُ إلى بغداد لرفع "الحيف" عن شقيقه فتحي بعد أن استنجد بي لحل مشاكله مع اتحاد الطلبة العام في كلية الإدارة والاقتصاد حيث صلافته أدت به إلى الهروب من الكلية إلى البصرة بعد حوادث الموصل في أعقاب مؤامرة الشواف وكان في السنة الأخيرة من الكلية. بينما عائلته ترتب له أمر الهرب إلى إيران.
في حينه، وعلى عجل، اصطحبت فتحي حسين معي إلى مقر اللجنة التنفيذية لاتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية التي كنتُ عضواً فيها. تفهم الرفاق قضيته مقررين منحه فرصة العودة إلى الكلية وحل مشاكله مع إدارتها ومع لجنتها الطلابية، وبالفعل كلف هاشم الطعان بحل مشكلته وعاد إلى الدوام بحرية .. قال لي علي :
ـ نعم أتذكر كل ذلك. لا ننسى فضلك علينا ولا ننسى فضل الحزب الشيوعي .. ولا ننسى فضل اتحاد الطلبة العام. صدقني يا جاسم أنا لا أكره الشيوعية ولا أكرهك. قلتُ له: إذاً عليك الآن وعلى فتحي واجب الوقوف إلى جانبي وعدم تعذيبي أو ممارسة أي ضغط بل المبادرة فوراً إلى إطلاق سراحي وسراح الآخرين من رفاقي رداً للجميل .. وعار عليكم أن تعتقلوا امرأة وطفلتها الرضيعة. إن كنتَ شريفاً يا علي أطلق سراحها فوراً. أكد لي أنهم سيطلقون سراحها بعد قليل وأن أحداً لن يمسني بسوء على الإطلاق قائلاً:
ـ أقسم بشرفي أنني أصدرتُ قبل قليل أمراً إلى جميع منتسبي الحرس القومي بعدم الإساءة إليك لحين عودة فتحي من بغداد الذي سيأمر بإطلاق سراحك حتماً. شكرته موقناً أن ادعاءاته أمامي كانت صادقة .

مكالمة مع القيادة العامة للحرس
بعد دقيقتين فقط سمعتُ صوت فتحي حسين يتحدث تلفونياً مع بغداد. كان صوته يصلني قوياً واضحاً من ممر الحديقة عبر شباك غرفته المجاورة للمكان الذي أنا فيه. صوته يعلو ويعلو ويتكرر مع محدثه في بغداد:
ـ تعالوا سريعاً .. ألقينا القبض على اللجنة المحلية. ألقينا القبض على اللجنة المنطقية. كل الشيوعيين الخطرين تحت قبضتنا. أيادينا قبضت على صالح دگلة مسؤول المنطقة وعلى جاسم المطير مسؤول البصرة. تعالوا سريعاً.. في الحال عرفتُ أن علي حسين كان كاذباً عندما ادعى أن فتحي في بغداد. بالتالي فإن وعوده الأخرى كاذبة أيضاً..
دخل إلى الغرفة زهاء حسين الذي كان صيته قد ذاع في البصرة بأنه "زهاء الجلاد" ومعه عدد من حاملي السياط والصوندات. وظيفته في الحرس القومي (رئيس اللجنة التحقيقية ) بيده صوندة بطول متر في نهايتها حديدة .انهالوا عليّ جميعاً ضرباً ورفساً. تنهال السياط على كل مكان من رأسي وجسدي ورجليّ. لم أر أي ضوء ولا أية كوة مفتوحة. العذاب هو الشيء المؤذّن في الغرفة. نزفت الكثير من الدم من أنفي ومن فمي وصارت في جسدي كسور وجروح. كسر في عظم الكتف الأيسر ونزيف مستمر مع بول مدمي مستمر. لم أشعر بعدها بشيء رغم أنهم استمروا في تعذيبي كما علمتُ بعد ذلك. بعد ساعات من المكالمة التلفونية لا أعرف عددها حضر الوفد القادم من القيادة العامة للحرس القومي، من بغداد على متن طائرة خاصة.
الوفد من ثلاثة أشخاص، صباح المدني و أحــمد العزاوي ( أبو الجبن )، وأبو طالب عبــد المطلب الهاشمي . وبعدهم جاء عطا محي الدين.
أبو طالب الهاشمي كان في العمارة وجاء بسيارة خاصة بعد مكالمة تلفونية من علي حسين يحتمل أنه الذي عذب عبد الحسين خليفة وعباس نعمة الحداد في اليومين الماضيين (في العمارة ). لم يستمتعوا بأية فترة استراحة. فبعد دقائق من وصولهم دخل إلى الغرفة أحمد العزاوي .

الدخول إلى الجحيم
كنت ممدداً على الأرض عارياً. حتى الملابس الداخلية كانــوا قد انتزعوها من جسدي المتورم. بيد العزاوي لفة يمضغ فيها وهو يشتم الشيوعية ويشتم عرضي بلسان سرسري بذيء. بيده الأخرى قدح من الشاي. رفسني بقدمه ثم رمى الشاي على جسمي. لم يكن الشاي ساخناً. هددني بالقول: سأعود إليك حال انتهائي من أكل الكباب الطيب. إن لم تعترف سأمزق جسدك كله وأرميك كباباً للكلاب كما رمينا جسد عباس نعمة..
غادر باب الغرفة ومن خلفه مجموعة من حرس البصرة دخل بعده مباشرة (صباح المدني) مبتدأ بضربة قوية بقدمه اليمنى أصابتني في صدري وهو يقــول : أول الغيث قطر وسوف ينهمر. ربطوني بأمر منه، واقفاً، بحبل شد إلى شباك الغرفة. انهمر التعذيب فعلاً بأشكال همجية متنوعة حتى أغمي عليّ بعد وقت لم أعرف مداه.
في المستشفى
ذات يوم لم أفق إلاّ وأنا في غرفة الطوارئ بالمستشفى الجمهوري بأمر مباشر من فتحي حسين كما قال الحراس الذين اصطحبوني إليها. نظرتُ إلى وجه الطبيب أولاً ومن ثم إلى وجه الممرضة. أمعنتُ النظر إلى وجهها جيداً فتأكدتُ أنني أعرف هذا الوجه الجميل ذي الشامتيْن الكبيرتين. همَستْ في أذني:
ـ نعم أنا الرفيقة سليمة . سيأمر الطبيب بإبقائك في المستشفى بناء على طلبي وإلحاحي سأساعدك على الهرب إن بقيت.. هي التي عرفتني. كانت عضو في خلية شيوعية تنظمها عائدة ياسين. زرت الخلية مشرفاً في يوم ما من قبل. لم يبق في ذاكرتي عنها غير شامتيها الكبيرتين.
في الغرفة الثانية كان الطبيب يتحدث تلفونياً بحضور الحارسين مع فتحي حسين بعد أن رفضا بقائي في المستشفى. حاول الطبيب إقناع فتحي لكنه أصر على عودتي. في طريق العودة عرفتُ أن الليل في منتصفه. الشوارع والطرقات خالية تماماً من الناس والسيارات. أعادوني إلى نفس المكان الذي تحولت كل غرفه إلى مسالخ. كنتُ بحالة من الوعي اسمع بوضوح كل ما كان يصلني من صراخ المعذبين ومن أوامر الحرس.
في غرفة قريبة كان يجري (حوار) مهذب ومؤدب عن الشيوعية والاشتراكية بين أبو طالب الهاشمي وبين امرأة كنتُ أسمعها تدافع عن الشيوعية وعن سياسة الحزب الشيوعي. أظن أنها إنعام العبايچي.
يخرج أبو طالب ليأتي غيره شاتماً المرأة الصلبة نفسها التي تحتج وتتجاسر عليهم بلسان طويل لا يصلح لغير القطع. كما كانوا يصفونها. ثم سمعتُ صوت صباح المدني يسبها ويشتمها. خلعوا عني الملابس ورموني في أرض الغرفة مرة ثانية.

مرحلة جديدة
صبرتُ عشرة أيام في نفس المكان بلا أكل ولا شرب. ضرب متقطع أو متواصل، ونوم متقطع أو متواصل، وغيبوبة متقطعة أو متواصلة. لم أعد أعرف ماذا يجري في الغرف الأخرى.
في اليوم الحادي عشر أظهر فتحي حسين نفسه أمامي ليمثل دوره بأنه مستغرب من وجودي في هذا المكان وبهذه الحالة. مقسماً بشرفه وأغلظ الأيمان أنه لا يدري أني من بيــن المعتقلين. كان رهط من الحرس يقف حوالىه فأصدر أوامره التالية: ـ أوقفوا تعذيبه. ـ هاتوا له بملابس داخلية وبيجاما جديدة. ـ هاتوا له وجبة غذاء على الفور. - أرسلوه كل يوم ألى المستشفى للتداوي. ـ هاتوا له صحف اليوم ليطلع عليها. أي تمثيل فاشل هذا يا فتحي..!!
أتعتقد انك بهذا الأسلوب ترد دينا بذمتك. أنظر إلى عظامي يا فتحي قد دقت بأمر منك. شجوا رأسي بالعصي والهراوات بأمر منك. مزقوا ظهري بأمر منك. منحوني عذاباً كاملاً اهتزت له غرف المجلد بأمر منك. فأنت لا غيرك المسؤول عن ارتفاع الآلام في كل مكان من هذه المدينة الطيبة، وسوف لن يسامحك تاريخها من هذا العار.
أعرفك كذاباً يا فتحي حسين. ضايقك ( المد الشيوعي ..) عام 1959 لكنه لم يجلدك ولم يؤذِ ظهرك أو بدنك. انك الآن تنتقم بجلد آلاف الناس. لا احتاج إلى كذبك بعد الآن. فقد أخرجوا جسدي من جسدي. أشهقوني بالجلد وتمزقت كوامني. لجمتم تنفسي ولم يبق في جسدي شيء غير عينين مشرعتين في فضاء الغرفة. استدر بوجهك نحو الحائط واكذب. اقتحم نفسك واكذب فأنا لا أصدقك مهما كان صوت الطبل الذي تضرب عليه الآن.
صاح فتحي بأعلى صوته :
أيها الحرس تراجعوا منذ هذه اللحظة عن هذه الغرفة. يجب أن لا يثقل أحد منكم على هذا الآنسان بأي شيء ولا بأي عذاب. مدوا له بالطعام والشراب. لا ترددوا أمامه غير الكلام الطيب. امنحوه نشوة القراءة. ضعوا أمامه الصحف والمجلات والكتب. لا يمس أحد منكم طرف ردائه. ولا يثب أحد عليه بشتيمة. انه ضيفنا .. أنه أخي الكبير منذ طفولتي. انه هو الذي أرشدني إلى الاشتراكية.. وقف الجلد. وقف الشتم. وقف الصراخ .

نوع جديد من العذاب
أي حلم هذا بعد صخب الأيام العشرة. أعبثاً يلمع قدري أم أن صدفة ما أيقظت ضميره فجأة فقربتني إلى المياه الهادئة ..! أحلم وأفكر .. أحلم أنني أعيش وأفكر أنني حي. أين الآخرون يا ترى .. أين صالح دگلة .. أين إنعام العبايچي .. أين شاكر محمد العبد الله .. أين جميع أولئك الذين واصلوا الحياة بحب الفقراء وحزب الفقراء .. ؟
كانت أسئلتي لنفسي ترتد إليّ بصمت هائل ثقيل .. لا يقطعه غير صوت فتحي حسين يقع على رأسي كأنه صوت الذئب وهو يتحدث عن وعود جديدة بتوفير الاشتراكية والحرية للشعب كله ثم أوصاني:
ـ كن واقعياً يا جاسم المطير. السلطة بيدنا إلى الأبد. لا شيوعية بعد اليوم في العراق الوطني القومي. لا تكن عنيداً كالبغل صالح دگلة. كن مثل الآخرين الذين اعترفوا وانتهى كل شيء يا صديقي. .سأطلق سراحك فوراً لنضع أيدينا معاً لبناء الاشتراكية ..!!
في منتصف الليل جاءني زهاء حسين ومعه ثلة من الحرس. اصطحبوني بسيارة إلى منطقةٍ ما خلف السجن المركزي في البصرة. كان عدد من الحرس قد سبقونا وقد حفروا حفرة واسعة تكفي لعشرة أشخاص.
أنزلوني من السيارة وقيدوا يدي في تلك اللحظة ثم أوقفوني على حافة الحفرة مصوبين رشاشاتهم إلى صدري، ثم ألقى خطابه: نريد أن تدلنا على الأشياء التالية وإلاً سندفنك حياً في هذه الحفرة:
أولاً: أين هو شاكر محمود البصري عضو اللجنة المحلية.
ثانيا : أين هو أبو مولود عضو اللجنة المنطقية.
ثالثاً: أين هي سميرة محمود وعائدة ياسين.
رابعاً: أين هي المطبعة الجديدة .
خامساً: أين هم ضيوفكم من أعضاء اللجنة المركزية لحزب تودة الإيراني المختبئون بمعرفتك في البصرة.
سادساً: أين هو عبد الواحد كرم عضو اللجنة المحلية. وأين عرب عگاب .. أين عبد الوهاب طاهر .. أين سامي أحمد.
سابعاً: قل لنا من هو البعثي الخائن المندس من قبلكم في صفوفنا .
ثم أطلق عيارات من بندقيته الرشاشة بورسعيد. كان سروري عظيماً وأنا أستمع إلى هذه الأسئلة فقد عرفتُ من خلالها أن التنظيمات لم تكشف كلها وأن المعترفين لم يقولوا كل شيء.
فأولاً كان شاكر محمود البصري على بعد عشرات الأمتار لا غير من هذا المكان الذي نقف فيه، إذ كان معتقلاً قبل أيام معدودة من الانقلاب وقد وضع في سجن البصرة مع السجناء العاديين. أنه سالم إذن من قبضة البعثيين وحرسهم القومي. وثانياً كان سروري عظيماً لأن أبا مولود النشيط حر أيضاً وسيكون قادراً على إعادة بناء التنظيمات. وثالثاً أن زوجتي ليست في قبضتهم. ورابعاً أن المطبعة الاحتياطية الجديدة على بعد كيلومترين من هذا المكان سليمة أيضاً وبأيدٍ أمينة.. وخامساً وهذا ما سرني كثيراً أن ضيفينا من حزب تودة، اللذين أمنتهما قبل الانقلاب لدى سعدي يوسف في بيته، هما في أيدٍ أمينة. حمدتُ الله أن سعدي يوسف ورفاقنا الآخرين بيضوا وجه الحزب الشيوعي العراقي أمام الأشقاء الشيوعيين في حزب تودة. وسادساً أنهم لا يعرفون شيئاً عن وجود عبد الوهاب وسامي في نقرة السلمان.
لم يكن لدي من جواب في تلك اللحظة غير كلمتي : لا أعرف. صفعني زهاء ورفسني وأسقطني على كتلة من الحصى وهو يقول: سفلة .. كلكم سفلة أيها الشيوعيون عملاء روسيا.. بالكاد رفعتُ رأسي لأقول له: لسنا سفلة .. نحن حملة آمال شعب العراق.. فلطم رأسي بقدمه إلى الأرض. لاحظت ضياء سيارة قريبة تتجه نحونا. كانت سيارة حرس أيضاً. نزل منها فتحي حسين في مشهد تمثيلي عاصف ومعربد لائماً زهاء واصفاً إياه بالأحمق لتجاسره على عصيان أوامره وتحديها. وأصدر أمره إلى الجميع: ـ فكوا القيود من يديه وأعيدوه إلى مكانه. أنه صديقي وقريبي وأبن محلتي وطفولتي. كان الوقت فجراً ونحن نجوب شوارع البصرة عائدين إلى مقر الحرس القومي تغمرني سعادة الاكتشاف الجديد: لن يموت الحزب الشيوعي طالما يوجد شيوعيون أحياء.
قيل لي في آخر يوم قضيناه في هذا المَجلد: سننقل صالح دگلة إلى قصر النهاية ليبقى هناك حتى الموت.
وقال لي فتحي إن صاحبك عنيد سينال جزاءه بالموت في بغداد. وسوف ننقلك إلى نقرة السلمان لتبقى فيها إلى ما شاء الله.. أنه وعد مني لعائلتك أن تبقى حياً.. ولكن في نقرة السلمان .. وكان هذا أول تهديد لي باسم نقرة السلمان. وبقيتُ أنتظر كل يوم الخلاص من جحيم الحرس القومي للانتقال إلى "جنة" النقرة.

فنون التعذيب خلال أكثر من ثمانية شهور
خلال فترة وجودي في مقرات الحرس القومي الثلاثة مارسوا معي كل أنواع التعذيب للفترة من 19/3/1963 ولغاية صبيحة يوم 18 تشرين الثاني 1963 حين هرب الجلادون البعثيون بعد أن رموا أسلحتهم وملابسهم من دون صدور أية إطلاقة رصاصة واحدة. احتل بضعة جنود مع المتصرف محمد الحياني وسمعتُ أحد الجنود قفل باب التواليت ليخرجني منه كي يضعني في لوري عسكري كان فيه بقية المعتقلين.
كانت المدة المنصرمة جحيماً حقيقياً في ساعاتها وفي ذكرياتها المريرة فقد واجهت فيها مرارات أنواع مختلفة من العذابات أذكر منها:
1. ربطوني عدة مرات في مروحة بسقف غربة التعذيب بنادي الاتحاد الرياضي بعد أن نقلونا من جمعية الاقتصاديين وكانت الصوندات البلاستيكية تنهال على ظهري وعلى كل مكان من جسدي ..
2. سحلوني مرتين بعد ربطي بسيارة ..
3. وضعوني مربوطا على ( ستول ) كرسي عال ٍ عن الأرض وليس فيه مسند للظهر بقيت فيه أربعة أو خمسة أيام بدون نوم رغم عيني المقفلتين.
4. قضيت الشهور الثلاثة الأخيرة من عمر الحرس القومي بدشداشة صيفية داخل تواليت صغير في المقر الثالث للحرس القومي حتى ساعة سقوطهم يوم 18 تشرين الثاني.
5. رفضوا السماح لي بالذهاب إلى التواليت في الأيام العشرة الأولى من اعتقالي ..
6. كانوا يرمون خل زلاطتهم على بعض الجروح المؤلمة في جسدي ..
7. كانت الصوندة والجلد بها على ظهري أبسط وسائل التعذيب اليومي أو الأسبوعي.
8. لمدة الأشهر الثلاثة الأخيرة من عمر الحرس القومي وضعوا سماعة مسجل في شباك التواليت من خارجه لأسماعي على مدى 24 ساعة من كل يوم أغنية أم كلثوم (أروح لمين ) كجزء من حرب نفسية قاتلة ..
9. لم يتركوا شتيمة إلاً وأدخلوها في قاموس شتائمهم ..
10. في الغرفة المقابلة لي بمقرهم في مبنى نادي الاتحاد الرياضي فتحوا لي بابها وشباكها كي يأتيني صراخ امرأة أو فتاة اغتصبوها ..
11. حرقوا مكتبتي 25 ألف كتاب أمام عيني في نادي الاتحاد الرياضي وكانوا يخرجوني من غرفتي في عدة ليال لمشاهدة لهب حريق مكتبتي التي نقلوها من مكتبة بيت والدتي قرب شارع 14 تموز.. ورموا أوراقي بخط يدي في المحرقة وكانت تضم رواية واحدة ومسرحيتين ومجموعة من القصص القصيرة وكتابات أخرى. كانت عيناي في تلك اللحظات تدمعان دماً ..
12.رفضوا معالجتي لمدة ثلاثة أشهر من نزيف دموي حاد بالكلى إلاً في الشهر الرابع بإصرار من الطبيب البعثي.
13. عذبوا الكثير من النساء في الغرفة المجاورة. وكان صراخهن يدمي قلبي ..
أنا واثق أن التاريخ سوف لن يرحم هذه الفترة من حكم حزب البعث العراقي وستكون علاماتها أولى علامات الفاشية الجديدة بعد سقوط الهتلرية في مزبلة التاريخ ..
جاسم المطير , بصرة لاهاي في 8 شباط 2004
انتهت المادة التي رجوت الأخ الفاضل جاسم المطير تسجيلها لي لما كان يجري في البصرة مع المعتقلين الشيوعيين في أعقاب شباط الأسود, وهي صورة حية ودقيقة لما كان يجري في معتقلات البعثيين حينذاك.
 -;---;--
ثالثاً: قطار الموت

يتفق الباحثون الذين درسوا حادثة نقل السجناء السياسيين من بغداد إلى نقرة السلمان والشبيهة بنقل المعتقلين اليهود من مختلف المدن والدول على المعتقلات النازية في قطارات الشحن, في ما عدا فارقين أساسيين هما أن نقل السجناء العراقيين كان في قاطرات مغلقة كلية لا ينفذ إليها الهواء أولاً’ ثم نقلهم في أكثر أشهر السنة سخونة حيث تصل درجة الحرارة في الظل إلى أكثر من 50 درجة مئوية. وقد أطلق على هذه الرحلة التعذيبية ب "قطار الموت". كان عدد الذين شحنوا بقاطرات الشحن قد بلغ في التقديرات الأكثر صواباً 520 سجيناً سياسياً عسكرياً ومدنياً من جهة, وعربيا وكُردياً وتركمانياً وآشورياً وكلدانياً من جهة أخرى, مسلماً ومسيحياً وصابئياً مندائياً وأيزيدياً كُردياً من جهة ثالثة, ومن الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكُردستاني والمستقلين الديمقراطيين وأنصار عبد الكريم قاسم وأكراد فيليين من جهة رابعة. وكانت الغالبية العظمى منهم من أعضاء ومؤيدي الحزب الشيوعي العراقي.
كانت خطة البعثيين والقوميين الانقلابية قد توزعت على المشاركين فيها باتجاهات ثلاثة أساسية:
1. احتلال المواقع الأساسية في بغداد والسيطرة على مخازن الأسلحة والإذاعة ووزارة الدفاع بشكل خاص,
2. اعتقال وقتل الشخصيات البارزة في القوات المسلحة المساندة لحكومة عبد الكريم قاسم لإحباط أية محاولة للمقاومة.
3. استخدام العنف بكل أشكاله لضمان نجاح الانقلاب والسيطرة على الحكم في البلاد.
وكان عدد الذين اعتقلوا وزجوا بالمعتقلات والمواقف المختلف في مختلف أنحاء البلاد يصل إلى عشرات الآلاف من مختلف الاتجاهات السياسية الديمقراطية. وفي سجن رقم واحد في معسكر الرشيد بلغ عدد المعتقلين ما يزيد على 1200 سجين سياسي أغلبهم من ضباط الجيش العراقي. كما وضع عدد كبير من أبرز قادة وكوادر الحزب الشيوعي العراقي في معتقل "قصر النهاية" الذي افتتح لأول مرة في 21 شباط/فبراير من عام 1963 وقلة من معتقلي هذا السجن نجوا من الموت وأغلبهم لقي مصرعه تحت التعذيب ودفن في مقابر جماعية أو ألقي في نهر دجلة.
كانت هناك رغبة جامحة لدى عدد مهم من القيادة البعثية والقيادة القومية, وخاصة العسكريين منهم في قتل أكبر عدد ممكن من الشيوعيين العراقيين, وخاصة قادة الحزب وكوادره الأساسية والعسكريين منهم على وجه الخصوص للخلاص من احتمال مشاركتهم في عمليات انقلابية ضدهم لا تعرف عواقبها عليهم, كما كانوا يدعون. وبرزت هذه الرغبة لدى أحمد حسن البكر, وهو من البعثيين القياديين ورئيس الوزراء حينذاك, ولدى عبد الغني الراوي. وهو من قياديي التيار القومي في القوات المسلحة العراقية ومن المسلمين المتعصبين جداً ضد الشيوعية, على سبيل المثال لا الحصر. وتفاقمت هذه الرغبة بعد أن قامت مجموعة من الشيوعيين العراقيين, من عسكريين ومدنيين, بحركة عسكرية في محاولة انقلابية ضد حكم البعثيين والقوميين. وقد أطلق على هذه الحركة بانتفاضة معسكر الرشيد, إذ كان أغلب ضباط الصف والجنود المشاركين فيها من أفراد هذا المعسكر في بغداد. وكانت نية المنتفضين إطلاق سراح الضباط المعتقلين ليشاركوا بالحركة العسكرية ويحسموا الموقف لصالحها, والذي لم يحصل, بسبب عدم معرفة المعتقلين بطبيعة الحركة العسكرية وحظها من التحضير والنجاح.
قرر المجلس الوطني لقيادة الثورة نقل الغالبية العظمى من سجناء سجن رقم واحد من بغداد إلى نقرة السلمان في جنوب العراق, بعد أن كان عبد السلام محمد عارف قد نفذ جريمة قتل عدد من الضباط المعتقلين في هذا السجن دون محاكمة ومباشرة بعد أن طلب من الجنود المرافقين له في يوم انطلاق الحركة العسكرية في 3 تموز/ يوليو 1963 بتوجيه النار نحوهم وحصدهم, رغم عدم معرفة هؤلاء الذي أعدموا غدراً بوجود حركة انتفاضة عسكرية يقودها حسن سريع, وبالتالي فهم لم يكونوا من المشاركين بها أصلاً.
وفي صبيحة يوم 4 تموز/يوليو 1963 كان قطار الشحن قد امتلأ بالسجناء السياسيين الذين كدسوا بأعداد كبيرة في عربات لا منفذ فيها لدخول الهواء إليها. انطلق القطار باتجاه الجنوب. يصف الكاتب الراحل الدكتور علي كريم سعيد, في ضوء معلومات جمعها من السجناء الذين نقلوا فعلاً في هذا القطار المشؤوم, الرحلة كما يلي:
".. حملهم القطار (ويقصد السجناء السياسيين, ك. حبيب) بعربات (فارگونات) مطلية جدرانها وأرضيتها بالزفت (القار), وغير مبطنة بواقيات عازلة وغير موصلة للحرارة. انطلق بهم في الساعة الحادية عشرة صباح 7 تموز 1963, مع ارتفاع شمس تموز العراقية الحارقة. فكان يمكن للركاب – حسب التقديرات العلمية والطبية – أن يستسلموا للموت بعد ساعتين من انطلاق القطار, بسبب تمركز الحرارة في الجدران والأرضية القيرية, فتتحول كل عربة إلى تنور متنقل أو فرن مغلق على لحوم بشرية. وكانت تلك العربات مخصصة لنقل البضائع, فوضع السجناء داخلها مكبلين, بعضهم بكلبچات وآخرين بسلاسل حديدية, ربطوا بها إلى بعضهم بأشكال مختلفة وبصورة ليست منظمة ولا معتادة تدل على الاستعجال والفوضى. وتوزع الحراس على الممرات بملابس مدنية وارتدى بعضهم ملابس على طريقة أبناء الفرات الأوسط ليظهروا بمظهر عمال أو فلاحين إمعاناً في التمويه. وكانت مهمتهم منع أية محاولة لكسر الأبواب والهرب" .
وخلال محاولاتي للبحث عن وثيقة مهمة تشير إلى حالة السجناء وهم في طريقهم إلى نقرة السلمان, لم أجد أفضل مما كتبه الراحل الدكتور على كريم سعيد بهذا الصدد بسب اعتماده على شهود عيان وسجناء القطار ذاته, لهذا يفضل أن أنقل للقارئة والقارئ ما كتبه الباحث العلمي الدكتور سعيد:
"إن صمود السجناء السياسيين أحياء فترة أطول سببه وجود عدد من الأطباء الضباط معهم أعطوهم النصائح بأهمية (مَص) أصابعهم وأجزاء الجسد الأخرى لاستعادة بعض الأملاح التي يفقدها الجسم وهي ضرورية لاستمرار صمود الجسم البشري .., وكان السجناء قد فقدوا قدرتهم على تحمل الحرارة بعد ساعة من تحرك القطار, وبدأوا يعانون من الغثيان وهبوط ضغط الدم بسبب نقص الأوكسجين داخل العلب التي حاول السجانون إحكام إغلاقها, فتقيأ أكثرهم, ويتدخل الحظ ولكن هذه المرة لصالحهم ويتوقف القطار بعد تجاوزه الدورة وهور رجب في محطة المحاويل". ويقول سائق القطار فيما بعد: "وأثناء توقفي صعد شخص في الثلاثين من عمره وقال لي: خالي تعرف أن حمولتك ليست حديد بل بشر هم أفضل أبناء شعبنا". ويقال أن شخصاً آخر اتصل بالسائق عبد عباس المفرجي في المحاويل قائلاً أن حمولتك ليست بضاعة خاصة وإنما سجناء سياسيين, أنهم ضباط عبد الكريم قاسم !!". فكلف المفرجي (السكن) مساعد السائق أن يذهب للتأكد, فعاد مصفراً وهو يصيح (إلحگ الحچي طلع صدگ) (عجل فما قيل لنا كان كلاماً صحيحاً, ك. حبيب). ولم يكن السائق يتوقع أنه يقود تابوتاً بهيئة قطار مصفح, ولهذا استبدت به الشهامة العراقية المتوقعة, مؤيدة بذاكرة ودية لعهد قاسم, فانطلق قبل الموعد بأقصى سرعة ممكنة (غير مسموح بها) فوصل القطار قبل موعده بساعتين, .. وعندما فتحت أبواب (القطار) في السماوة تكشفت العربات عن حشرجات صادرة عن هياكل بشرية زاحفة للخارج, في حين غاب آخرون عن الوعي ومات شخص واحد على الأقل, وللمرة الثانية يلعب الأطباء الثلاثة السجناء دوراً مهماً في إنقاذ حياة السجناء, إذ قفزوا للأمام وأمروا المستقبلين الذين أحضروا معهم مياه مثلجة وحليب ومشروبات غازية, فمنعوا السجناء من الشرب وأمروا بجلب ماء دافئ وملح, وبسرعة عادوا يحملون ملحاً وماءً دافئاً بالطشوت ورشوا بها السجناء وسقوهم..." .
إن المعلومات المتوفرة والتحقيقات التي أجريت مع عدد كبير من البعثيين والقوميين وما ورد في كتابي الدكتور علي كريم سعيد تؤكد, بما لا يقبل الشك, مسألتين مهمتين بشأن قطار الموت:
• إن القيادة البعثية وجماعة بارزة من الضباط القوميين كانت تريد التخلص من ركاب هذا القطار بأحد أسلوبين, إما الموت في القطار, إذ لا يمكن تحمل حرارة الصيف الشديدة وفي قطار حديدي مغلق ومغطاة أرضيته وجدرانه بالقار وغير المعزول لمنع الحرارة, أو الإعدام في حالة وصول البعض سالمين إلى نقرة السلمان, خاصة وأن النية لدى العسكريين من المجموعتين كانت تريد إعدام أكبر عدد ممكن من الضباط الشيوعيين والديمقراطيين الكُرد وأتباع قاسم.
• كان بعض القادة البعثيين, كما صرحوا فيما بعد, إلى أنهم كانوا ينوون عبر نقل الضباط إلى خارج بغداد الوصول إلى غايتين: أ) إبعادهم عن المسرح السياسي في بغداد واحتمال استثمارهم في حركات أخرى مضادة لهم, ب) إنقاذ من يمكن إنقاذه من هؤلاء من خلال عملية النقل, رغم أنهم كانوا لا يبالون عموماً بمن يقتل منهم, خاصة وأن المعلومات الكثيرة تشير إلى القسم الأكبر من أعضاء القيادة البعثية قد ساهمت لا في اعتقال الشيوعيين فحسب, بل في ممارسة التعذيب بأيديهم في قصر النهاية أو في أماكن أخرى من دهاليز وأقبية الأمن وأجهزة التحقيق.
ولم يكن أمر إنقاذ الضباط من الموت المحقق سوى الصدفة وحسن الحظ وبعض الشرفاء من العراقيات والعراقيين الذين لعبوا دوراً مهماً في هذا الشأن.


رابعاً: نماذج من عمليات الاعتداء على شرف الفتيات

خلال العقود الأربعة المنصرمة على نجاح الانقلاب الفاشي في شباط/فبراير 1963 نشرت الكثير من المعلومات والوثائق المهمة عن عمليات القسوة التي رافقت هذا الانقلاب وخلال الأشهر العشرة من حكم البعثيين والحلفاء القوميين في العراق, سواء أكانت عمليات التعذيب أو القتل أو الاغتصاب الجنسي لفتيات باكرات أو لسيدات متزوجات. ولكن تبقى الشهادة التي أدلت بها الآنسة (ن.خ) طالبة كلية الزراعة, التي كان عمرها حينذاك 20 عاماً, ذات أهمية كبيرة لفعل الاغتصاب الجماعي من جانب الحرس القومي. وهي حالة موثقة في دوائر الشرطة ومسجلة لدى حاكم تحقيق ولا تقبل الشك. ونورد هنا إفادتها التي سجلت بتاريخ 11/4/1963 من جانب المحقق العدلي بعد أداء القسم بصحة ما تقول كما هي:
"في يوم السبت الماضي وكان الوقت الساعة الحادية عشرة ليلاً أجري التحري بداري, وكان الذين حضروا التحري حوالى ستة أشخاص واحد منهم يرتدي الملابس المدنية وأجهل أسمه والآخرون يرتدون ملابس الحرس القومي ويحملون بأيديهم الرشاشات .. وكان أيضاً معهم شخص يرتدي ملابس عسكرية أخبرني بأنه طالب في الصف الثاني من كلية التجارة .. وقد صعدوا هؤلاء كلهم فجأة إلى غرفتي حيث كنت نائمة وقالوا لي (أگعدي .. أگعدي) (أمشي داناخذچ معنا) فاستفسرت منهم إلى أين؟ فقالوا:- ( أنتِ ما عليج ), فلبست ملابسي وخرجت أنا وأمي معهم إلى سيارة عسكرية كانت واقفة في باب دارنا وكان يجلس فيها أربعة أشخاص يرتدون الملابس العسكرية. ومعهم في السيارة فتاتين إحداهما "ب.ع" وأختها "ف.ع" وتحركت السيارة بنا إلى مركز الحرس القومي ولما سألتهم (والدتي) عن اتجاههم أجابها أحدهم "إنتِ ما عليچ" .. وقال آخر ذاهبين " إلى الكاظم للزيارة" وأخذوا يضحكون .. وقال آخر .. لا .. رايحين إلى "الإدارة المحلية" .. ووصلنا مركز المأمون ونزل السائق ومعه أحد من الحرس القومي وذهبوا إلى مقر الحرس .. ثم عادوا وقالوا إلى (أمي) .. أنتِ وأبنتك أنزلوا هنا في الشارع وارجعوا إلى بيتكم .. ونزلنا. وتحركت السيارة العسكرية "بالفتاتين" إلى حيث لا نعلم..
وفي يوم الخميس الماضي أي قبل أسبوع ذهبت إلى دار أختي في (الأرضرملي) وفي حوالى الساعة الثانية عشرة ليلاً من نفس اليوم, طرق الباب .. ولما فتحناه شاهدت (والدتي) ومعها أثنين من أفراد الحرس القومي أحدهم السائق الذي جاء إلي في المرة الأولى وشخص أخر يرتدي ملابس مدنية ويحمل بيديه رشاشة وطلبوا مني أن أرتدي ملابسي واصحبهم مع والدتي إلى مركز الحرس القومي..فطلبت منهم إبراز ورقة إلقاء القبض عليَّ إلا أنهم أجابوني بكلمة "أنتِ ماعليچ" وهذه والدتك معنا لا تخافين.. فطاوعتهم وركبت السيارة وأخذونا إلى دار في الصالحية مقابل الإداعة, وشاهدت هناك جماعة كثيرين من الحرس القومي, وعندما دخلنا الدار منعوا (أمي) من المجيء معي .. وأصعدوني إلى غرفة في الطابق العلوي, وحضر ضابط من الحرس القومي اسمه (علاء) وأخذ يضربني على وجهي ثلاث ضربات وقال لي اعترفي .. "أنتِ مو كنتِ شيوعية" ... فأقسمت له بالله وبشرفي لم أكن شيوعية ولم أعرف معنى الشيوعية ولا أي حزب .. وطلبت منهم أن يجروا التحقيق معي ويسألون عن الجيران وأهل المحلة والأمن والشرطة إذا كان عندي أي ميول شيوعية.. فصرخ في وجهي وقال ما تعترفين "فراح نأخذ شرفك" .. فأجبته بأن شرفي هو أمانة في أيديكم .. وأنا أطلب حمايتكم .. وأنا أختكم. فتقدم حارس قومي آخر وبيده (عصا) وأخذ يضربني ويطعن بها بطني, وقد أصابتني غشاوة على عيني من الخوف والألم ولم استطع أن أتبين وجه الذي كان يضربني بالعصا ويطعنني في (بيت الرحم) وأخذت أتوسل بهم .. وأطلب الرحمة منهم .. " إلا أنهم طرحوني أرضاً, ونزعوا عني ملابسي إلى حد النصف" وأنا اقاومهم وأتوسل بهم. وأن أحدهم مسكني من ساقي وهو الذي ضربني كما أخذ (يقبلني من فمي) كأنه سكران.. ثم شاهدت أحدهم وعلمت اسمه (مدحت) وهو ذو شارب أصفر شاهدت وجهه وهو يمسك بي, كما وضع الوسادة على وجهي .. وأن ثلاثة منهم أو أربعة قاموا (بالفعل الشنيع ضدي) الواحد بعد الآخر, وقد أغمي عليَّ, بعد أن أصبح عندي نزيف دموي .. وأنا لا أستطيع بالضبط أن أشخص الذي زال "عفافي" منهم أولاً .. ولكن أستطيع أن أوكد أنهم عملوا معي الفعل الشنيع بالقوة واحد بعد الآخر ..
وعلى سبيل المثال لقد ذكرت لي إحدى الموقوفات هناك, أن المعتدين على شرفها أيضاً كثيرون لكنها تستطيع أن تشخص واحد من الحرس القومي اسمه (زهير) هو الذي زال ( ... ) أولاً .. كما أني بعد أن فقت من الإغماء ونهضت وأخذت ابكي وأندب حظي التعس الذي أوقعني بيد هؤلاء ... في هذا الوقت جاءني أحد الحرس القومي وهو أبيض اللون متوسط القامة وأخذ يتوسل بي أن أفسح له المجال (بالاعتداء ثانية على شرفي) .. فصرخت في وجهه إلا أنه لطمني بشدة على وجهي وطرحني أرضاً ثم (قام بالفعل الشنيع معي) .. بينما كان بقية المعتدين عليَّ "يتفرجون" ويضحكون .. ويشجعونه بالقيام .. بكذا .. وكذا .. من الأعمال أللاخلقية التي مارسوها معي. وبعد أكثر من ساعة من الوقت .. طلبوا مني أن أنزل وأغتسل, وأعالج النزيف الدموي الشديد الذي لطخ ملابسي .. وقد حذروني أن أتكلم بشيء إلى أمي أو إلى الموقوفين أو الموقوفات هناك .. وسلمت أمري إلى الله .. ونزلت فاغتسلت وبعدها أخذوني إلى موقف كان فيه (ثلاث فتيات) .. وبعد الحديث استفسرت من (الفتيات) عما إذا كان قد جرى ضدهم ما جرى لي من العمل الشنيع .. فقالوا "نعم" لقد اعتدى الحرس القومي على شرفنا وزالوا (...) منذ الأمس . وفي اليوم الثاني نادوا عليَّ, وربطوا عيوني بمنديل وقدموني إلى الملازم ظافر لإجراء التحقيق معي, وعندما لم يجدوا شيئاً ضدي .. هددني بالقتل لكل عائلتي إذا أفشيت لأحد (العمل الشنيع) الذي قام به الحرس القومي ضدي, ووافقت على ذلك .. ثم أركبوني سيارة لإيصالي إلى أهلي , لعدم وجود شيء ضدي .. بعد أن عصبوا عيوني .. وفي الطريق رفعوا العصابة عن عيوني وقال ضابط الحرس القومي المدعو (علاء) ... (غداً نتقابل في الجسر أو أي محل آخر تحبين) فأجبته أنا ما أقابل أحد .. وقد اعتديتم على شرفي بدون ذنب .. فمد يده في جيبه وناولني (منديل) وقال لي خذي هذا (المنديل) تذكار مني .. فرفضت وبعد الإلحاح أخذته منه .. وهو الآن لدى أخي المدعو (ز.خ) وبعد أن وصلت أهلي,, أخبرتهم بما جرى .. وأخيراً قدمت شكوى إلى الشرطة .. وأني أطلب اتخاذ الإجراءات القانونية بحق الفاعلين وهذه إفادتي ..
توقيع ن.خ المحقق العدلي
11/4/1963 حليم عباس"

وفي كتاب صادر عن ضابط استخبارات مركز البصرة وموجه إلى آمر حامية البصرة بعدد /1س/131 بتاريخ 17/6/1963 يؤكد فيه بأن كافة أهل البصرة يتحدثون عن أن عدداً من أفراد الحرس القومي قد اعتدوا على شرف فتاتين موقوفتين هما "ع.س." و "ف.أ", وأن والد المجني عليها "ع.س" قد سافر إلى بغداد لتقديم الشكوى. والضابط الذي رفع هذا الكتاب يطلب "مفاتحة الجهات المسؤولة بوضع حدٍ لهذه التصرفات اللاقانونية والأعمال الجرمية التي ازدادت في الآونة الأخيرة من قبل الحرس القومي .. وعلى رأسهم قائد الحرس القومي المدعو (فتحي)" .
وعرض كتاب "المنحرفون" صوراً لفتيات عراقيات جرى قتلهن ودفنهن بملابسهن في قبور مختلفة وبعضهن تركن في الصحراء حيث تم التهامهن من الحيوانات المفترسة, إضافة إلى صور مواقع تعذيب النساء وآثار الدماء, وكذلك وثائق أخرى تدين عناصر من الحرس القومي باغتصاب عشرات النساء أثناء التحقيق معهن .
إن التقارير المنشورة وما ورد في كتاب "المنحرفون" من فضح لطبيعة سلوك قادة وأعضاء الحرس القومي ولجنة التحقيق الخاصة تؤشر عدداً من القضايا التي قام بها بعض أفراد الحرس القومي أو لجنة التحقيق الخاصة, وينسى أربعة أمور جوهرية, وهي:
1. أن النظام كله, قيادة وقاعدة وأجهزة, كان منحرفاً عن جادة الصواب وعن مراعاة حرية الآنسان وحقه في حياة آمنة وحق التعبير عن الرأي والعقيدة وعن بقية مبادئ وأسس لائحة حقوق الآنسان.
2. وأن النظام يفضح البعض من الجرائم التي ارتكبها الحرس القومي ولجان التحقيق الخاصة, ولكنه يبتعد عن الإشارة إلى جرائم أبشع ارتكبت أيضاً بحق الناس العراقيين وقوى المعارضة أولاً, كما يبتعد عن الإشارة إلى دور القوى القومية التي شاركت ومارست كل تلك الجرائم مع البعثيين, سواء أكانت عمليات مطاردة وتعذيب وقتل أم اغتصاب وسرقة أموال وابتزاز الناس ... الخ.
3. وأن القوى القومية التي أعدت بعض التقارير والكتاب المذكور مارست في أعقاب سقوط نظام البعث وتسلم السلطة من قبلها بانقلابها في 18 تشرين الثاني 1963 نفس أعمال التعذيب والقتل والإعدام والسرقة والاغتصاب التي فضحتها في مواجهة المعارضين والتي سنتحدث عن بعضها في القسم الثاني من هذا الكتاب.
4. وأن النظام كله مسؤول عن الحرب التي شنها الجيش العراقي ضد الشعب الكُردي, إذ لم يشر التقرير إلى الجرائم البشعة التي ارتكبت بحق هذا الشعب وقواه السياسية بعد أن فجرها النظام في حزيران/يونيو 1963. إذ لم تتعرض القوى المسلحة الكُردية والقرى والأرياف إلى قصف جوي متواصل وتدمير واسع فحسب, بل وإلى حملة اعتقالات واسعة في صفوف المواطنين وزجهم في السجون وتعريضهم للتعذيب الشرس والقتل تحت التعذيب أو الإعدام بحجة المشاركة في العمليات العسكرية ضد الجيش العراقي.


الفصل الثاني
موقف حكام انقلاب شباط من المسألة الكُردية



كان موقف البعثيين إزاء المسألة الكُردية وجميع القوميات الأخرى في الدول العربية معروفاً لدى القيادة الكُردية المتمثلة بملا مصطفى البارزاني وقيادة الحزب الديمقراطي الكُردستاني. فالكتابات المنشورة للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي والقيادة القطرية والبرنامج السياسي لهذا الحزب في العراق, إضافة إلى مواقف القوى القومية عموماً, كانت ترفض بشكل واضح ولا لبس فيه عدة مسائل أساسية تمس الموقف من جميع القوميات في الدول العربية حيث ورد في كتاب "الوحدة العربية والقضية القومية" الصادر عن حزب البعث العربي الاشتراكي بهذا الصدد ما يلي:
"الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدول العربية التي تكفل الآنسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة أمة واحدة وتكافح كافة العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية" . ومنه يتبين الموقف القومي الشوفيني الصارخ لفكر البعث الرافض لجميع القوميات في الدول العربية إلا القومية العربية والداعي إلى صهر جميع القوميات في القومية العربية, وهو موقف يعبر عن عصبية شديدة لصالح العرب ضد الآخرين. ويجري تأكيد هذه الفكرة في الكثير من المقالات التي يكتبها قياديو حزب البعث عند تحديد مفهوم العربي حيث جاء في مقال آخر كتب في العام 1979 ما يلي:
"العربي هو من كانت لغته العربية, وعاش في الأرض العربية, أو تطلع للحياة فيها, وأمن بانتسابه إلى الأمة العربية. وأن هذا التحديد يعني شمول الهوية العربية لكل الأفراد والمجموعات التي ينطبق عليها هذا الشرط دون اشتراط العامل العنصري, وهو يفسح في المجال واسعاً لتعميق امتزاج الأقليات والأقوام الصغيرة في الأمة العربية" .
أما بصدد القضية الكُردية فكان البعث واضحاً في موقفه منها ويتبلور في النقاط التالية:
** رفض الاعتراف بوجود شعب كُردي أصلاً, كما لا يؤمن بوجود حقوق قومية لهذا الشعب, وبالتالي فلا مجال للتفكير بحقه في تقرير مصيره بنفسه ولا يجوز تثبيت ذلك في الدستور العراقي.
** رفض منح الشعب الكُردي حق إقامة الحكم الذاتي وتنظيم العلاقة على هذا الأساس مع الحكم المركزي في بغداد. ولكن هناك موافقة أولية على إدارة لامركزية في الألوية (المحافظات) التي فيها أكثرية كُردية.
** رفض الاعتراف بكركوك وخانقين وبعض المدن الأخرى, التي يطالب بها الكُرد باعتبارها جزءاً من كُردستان في لواء (محافظة) ديالى, كجزء من كُردستان العراق.
** اعتبار العراق أرضاً وشعباً جزءاً من الوطن العربي والأمة العربية, وليس الكُرد سوى أقلية يمكن أن تندمج وتنصهر في الأمة العربية.
** الكُرد الفيلية إيرانيون ولا يشكلون جزءاً من الأمة الكردية.
وتجلت المواقف المناهضة للحزب الديمقراطي الكُردستاني في سياسات القوى القومية العراقية وكذلك في سياسات حزب البعث العربي الاشتراكي منذ تأسيسه في العراق في العام 1952 وفي فترة النضال ضد الملكية, حين رفض حزبا البعث والاستقلال قبول الحزب الديمقراطي الكُردستاني عضواً في اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني, التي تشكلت في العام 1957, وضمت إليها الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال والحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي. وقام الحزب الشيوعي بمهمة صلة الوصل في العلاقة الجبهوية مع الحزب الديمقراطي الكُردستاني لغرض التنسيق في المواقف إزاء النظام الملكي ونشاط قوى المعارضة.
وخلال الفترة التي أعقبت ثورة تموز 1958 وقف حزب البعث, وكذلك حزب الاستقلال وبقية القوى القومية, ضد مطالب الشعب الكُردي وقواه السياسية بشكل صارخ وعدائي, كما لعب الضباط البعثيون والقوميون دوراً مهماً وأساسياً في تعقيد العلاقة بين ملا مصطفى البارزاني وعبد الكريم قاسم, وبشكل خاص بعد أن طرحت قيادة الحزب الديمقراطي الكُردستاني وجهة نظرها بشأن أربع قضايا جوهرية:
** أن يعدل الدستور العراقي المؤقت, وحين يتم وضع الدستور العراقي الدائم, بالصيغة التي لا تعتبر العراق ولا الشعب الكُردي كله جزءاًُ من الوطن العربي ومن الأمة العربية.
** الاعتراف بالشعب الكُردي ليس فقط شريكا مع الشعب العربي في العراق, بل وله حقوقه القومية المشروعة في كُردستان العراق.
** وفي حالة قيام وحدة أو اتحاد فيدرالي بين بعض الدول العربية, يكون للكُرد الحق في التمتع بحقوقهم القومية العادلة بما فيها تشكيل فيدرالية كُردستانية في إطار الدولة الواحدة.
** طرح بعض المطالب الكُردية التي تمس تنظيم العلاقة المالية والإدارية والتعليم واللغة ...الخ بين الإقليم والحكم المركزي.
وكان نشاط القوى البعثية بشكل خاص والبيانات التي أصدرها حزب البعث تدين نشاط الحزب الديمقراطي الكُردستاني وتعتبره تآمراً مع القوى الإمبريالية وإيران ضد وحدة العراق أرضاً وشعباً وضد استقلال وسيادة العراق وتطالب القوات المسلحة بوضع حد لذلك. وكانت التسمية المحببة لدى البعثيين هي "القوى الكُردية الآنفصالية", وفيما بعد "الجيب العميل".
في مقابل هذا كانت القيادة الكُردية تدرك دون أدنى ريب بأن قاسماً من حيث المبدأ غير عنصري وغير شوفيني وغير طائفي أولاً, وأنه سعى بكل الجهود الممكنة إلى تثبيت شراكة العرب والكُرد في العراق الجديد في إطار حركة الضباط الأحرار وتضمين ذلك في الدستور المؤقت, وأنه اعترف للكُرد الفيلية بحقوقهم المشروعة باعتبارهم من مواطني العراق الأصليين وليسوا طارئين عليه أو أنهم ليسوا بإيرانيين. وبهذا الصدد كتب السيد مسعود البارزاني في الجزء الثالث من كتابه الموسوم البارزاني والحركة التحررية الكُردية (ثورة أيلول 1961-1975) ما يلي:
"وبإصرار من عبد الكريم قاسم, تم وضع المادة الثالثة من الدستور المؤقت الصادر في 27 تموز التي أقرَّت ولأول مرة في تاريخ الدولة العراقية بل في تاريخ كُردستان بشراكة العرب والكُرد في الوطن الواحد" . (المقصود هنا 27/تموز/يوليو 1958, حيث صدر قانون الدستور العراقي المؤقت, ك.ح.)
فما هو السبب وراء قبول الحزب الديمقراطي الكُردستاني إقامة تحالف سياسي مع البعث لإسقاط حكومة قاسم؟
يبدو لي أن هناك العديد من العوامل التي كانت وراء هذا الموقف رغم معرفتهم بحقيقة موقف القوى القومية, وخاصة الشوفينية منها, من مطالب وحقوق الشعب الكُردي من جهة, ومعرفتهم بحقيقة موقف عبد الكريم قاسم من جهة ثانية, ورفض كل التيار القومي العربي لفكرة حق الشعب الكردي في تقرير مصيره. لا شك في أن الوعي السياسي والتعقيدات التي رافقت تلك المرحلة من تطور العراق والتشابك بين الصراعات التي أثارتها القوى القومية الشوفينية بوجه عبد الكريم قاسم, جعلته أكثر حذراً في التجاوب مع مطالب الشعب الكُردي والقيادة الكُردية بشأن الدستور أو الحكم الذاتي لكُردستان العراق وخشيته في أن يصاب بالعزلة عن العالم العربي, وبالتالي يطوق من جميع الجهات. ولا شك في أن القيادة الكُردستانية كانت ترى بأن الظرف كان مواتياً للشعب الكُردي في أن يكرس بعض الحقوق المشروعة والعادلة التي ناضل من أجلها طويلاً وقدم الكثير من التضحيات الغالية, إضافة إلى أنه لم يطالب بالآنفصال أو إقامة دولة مستقلة له, رغم حقه الكامل في ذلك. وأن مطالبه يراد لها أن تتحقق في إطار الجمهورية العراقية الجديدة, وهي لا تمس بأي حال الوحدة الوطنية العراقية بل تعززها.
لم يكن, كما يبدو, في مقدور قاسم أن يتغلب على هذه المحنة بين موقف القوى الكُردية من جهة, وموقف القوى القومية العربية الشوفينية التي شنت حملة شعواء في العراق والعالم العربي ضد سياساته وسمته بقاسم العراق وهرجت ضد الكُرد باعتبارهم "انفصاليين وعملاء للاستعمار!" من جهة أخرى, ولم يقبل بتلك العجالة التي يسعى الكرد إلى تحقيق كل شيء أو إعلان الثورة ضده من جهة ثالثة, واعتبر المسألة وكأنها صراع بينه وبين ملا مصطفى البارزاني الذي لم يقدر دور قاسم في الموقف من الشعب الكردي من جهة رابعة, فأصبح عبد الكريم قاسم يئن تحت وطأة موقفين متشددين, ولم يتحر بهدوء وروية عن حل عملي مناسب بعيداً عن لغة القوة واستخدام السلاح وضرب مواقع البارزانيين عبر الطيران الحربي. إذ كان في مقدوره أن يعود إلى الشعب العراقي كله ويستعين به في اتخاذ القرار الصائب ومن خلال استفتاء أو تنظيم لقاءات بين كل القوى السياسية العراقية الديمقراطية لدراسة الموقف من هذه القضية واتخاذ الموقف المناسب بالتفاوض الجاد مع قيادة الشعب الكُردي.
لم تكن القيادة الكُردية راغبة حقاً في التحالف مع البعثيين والقوميين لإسقاط قاسم, بل كانت تريد التفاوض مع الشيوعيين حول هذا المشروع وطرحت على قيادة الحزب الشيوعي العراقي فكرة التعاون والتنسيق للإطاحة بحكم قاسم. إلا أن الحزب الديمقراطي الكُردستاني عجز عن إقناع الحزب الشيوعي بفكرة النضال المشترك ضد حكومة قاسم وإسقاطها, إذ كانت القيادة الكُردية تعتقد بإمكانية الحزبين على تحقيق النصر على قاسم. في حين كان الحزب الشيوعي العراقي يعتقد بضرورة دعم حكومة قاسم والسعي لإيجاد حل سلمي للقضية الكردية ورفع لهذا الغرض شعار ""الديمقراطية للعراق والسلم لكردستان", كما كان شعار الحكم الذاتي مؤيداً من جانب الحزب الشيوعي العراقي.
لقد كانت للحزب الشيوعي العراقي مواقع مهمة في الجيش كما كان الحزب يمتلك عدداً كبيراً من الضباط من مختلف الرتب العسكرية وفي القوة الجوية, إضافة إلى جمهرة واسعة من ضباط الصف والجنود وجماهيرية واسعة في صفوف الشعب حينذاك تفوق نفوذ وإمكانيات القوى القومية في الجيش وفي الأوساط الشعبية بكثير. ولكن الحزب الشيوعي رفض الدخول في عملية انقلاب ضد قاسم لأسباب غير قليلة, وفي المقدمة منها قناعة الحزب بأن مثل هذه المحاولة ستساهم في تعبئة قوى كثيرة ضد الحزب وضد الحركة الديمقراطية الكُردية وسيعجز الحزبان عن تحقيق المنشود, خاصة وأن حكومة قاسم لم تكن قد استهلكت نفسها جماهيرياً أو استنزفت إمكانياتها في معالجة الوضع حينذاك, أو لم يعد لحكومة عبد الكريم قاسم من يساندها من الضباط الديمقراطيين. كان الحزب في أكثرية قيادته لا يرى موجباً للانتفاض على حكومة قاسم وكان يرجو ويأمل في حصول تحول في سياسة عبد الكريم قاسم ومواقفه لصالح الديمقراطية وحل المسألة الكُردية بصورة سلمية وديمقراطية. ويبدو أن هذا الموقف من جانب الحزب قد دفع بالحزب الديمقراطي الكُردستاني إلى التحالف مع أي جماعة أخرى مهما كانت طبيعتها ومواقفها في سبيل الخلاص من حكومة قاسم التي كانت ما تزال تمارس الضغط والقصف الجوي ومطاردة كوادر الحزب الديمقراطي الكُردستاني, ولا تزال تأمل بحل عسكري للمشكلة! ويشار هنا إلى أن السيد إبراهيم أحمد هو الذي بدأ الحوار مع القوى القومية والبعثية بشأن إقامة التحالف لإسقاط حكم قاسم من خلال اتصاله بالعقيد المتقاعد طاهر يحيى, رغم صراعه الفكري والسياسي وكتاباته القوية التي نشرها في تلك الفترة ضد موضوعة "يشكل العراق جزءاً من الأمة العربية", كما أن تلك القوى هي التي كتبت ونشرت ضد حق شعب كُردستان في تقرير مصيره أو حقه في الحكم الذاتي, وهي التي ألّبت عبد الكريم قاسم عبر المندسين منهم في الأجهزة المدنية والعسكرية الحكومية المحيطة بقاسم ضد ملا مصطفى البارزاني والحزب الديمقراطي الكُردستاني ... الخ.
كان قادة الاتحاد السوفييتي لا يؤيدون الإطاحة بحكومة قاسم باعتبارها حكومة وطنية يفترض مساندتها وأن العراق قد أقام علاقات سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية واسعة مع الاتحاد السوفييتي ومع عدد من الدول الاشتراكية. وكان هذا الموقف في عمومه صحيحاً. ولكنهم كانوا قد وافقوا في نفس الوقت على دعم القوى الكُردية والمساعدة في تسليحها لأربعة أسباب, وهي:
** اعتبار الحركة الكُردية قوة قومية ديمقراطية يمكنها أن تدعم نضال الشعب العراقي ضد الهيمنة الاستعمارية.
** المساهمة في عدم اضطرار الحركة الكُردية مد يدها وطلب المساعدة العسكرية من إيران أو من دول المعسكر الغربي.
** اعتبار القوى الكُردية صمام أمان أمام المطامع التركية في العراق من جهة, وإشعار القوى الأخرى بأن الاتحاد السوفييتي يسند العراق والقوى الكُردية فيه من جهة ثانية.
** الحديث الصريح الذي جرى بين قادة الكرملين وملا مصطفى البارزاني حول احتمال قيام انتفاضة ضد عبد الكريم قاسم وان الوضع الخاص للكُرد يستوجب امتلاك السلاح وتحصين موقف الحركة الكُردية التحررية.
ولا شك في أن القادة السوفييت كانوا يتابعون التطورات الجارية في العراق والموقف من الحزب الشيوعي العراقي ومن القوى الديمقراطية وكذلك الموقف من الحركة الكُردية, وكانوا يلاحظون التراجعات في السياسة الديمقراطية لحكومة قاسم والمخاطر الناجمة عن ذلك على وجود حكم قاسم ذاته. ويبدو أن الحزب الشيوعي العراقي لم يكن في ذلك الحين على علم بأن الاتحاد السوفييتي قد بدأ بتزويد القيادة الكُردية بالمساعدات المالية لاقتناء الأسلحة, وإلا لربما كان قد دخل في حوار أوسع مع الحزب الديمقراطي الكُردستاني حول الموقف من قاسم. لا شك في أن الكُرد عندما حصلوا على السلاح لم يكن الوضع بينهم وبين عبد الكريم قاسم قد تدهور إلى تلك الدرجة التي ظهرت بعد زيارة ملا مصطفى البارزاني إلى الاتحاد السوفييتي وعودته في آذار/مارت من العام 1961. ومن المحتمل أن يكون قد وصل إلى قاسم خبرٌ يعلمه بموافقة السوفييت على تزويد الكُرد بالأسلحة, مما رفع من عدم ثقته بالقيادة الكُردية وتأخير استقباله لملا مصطفى البارزاني بعد عودته من الاتحاد السوفييتي. يشير السيد مسعود البارزاني إلى أن السوفييت وافقوا على تزويد الكُرد بالسلاح, وأنهم اتفقوا على أن يتم إيصاله إلى منطقة معينة في كُردستان عبر الجو, ولكن ذلك لم يحصل لأسباب فنية, مما جعل السوفييت يدفعون المال لتشتري القيادة الكُردية به سلاحاً لأنصارها. كتب السيد مسعود البارزاني بهذا الصدد ما يلي:
"وما أن استقر المقام بالبارزاني في بارزان حتى قام بإعداد برنامج منتظم لشراء السلاح. وكانت السفارة السوفياتية همزة الوصل بين البارزاني وموسكو. وعن طريقها كانت ترد المبالغ المرصودة ويتم إيصالها إلى بارزان. والمسؤول المباشر في هذه الصفقة هو السكرتير الأول في السفارة المدعو (ناسكوف). أما المكلف بتسلم المبالغ المخصصة وشراء الأسلحة وإرسالها إلى بارزان فكان الشهيد (حميد كاواني) وقد قام بذلك بمعونة رسول گرويتي وفرع الپارتي في أربيل – لاسيما خلايا الحزب في سلك الشرطة حيث كانت تشكيلات الپارتي ضمن مراتب الشرطة بدرجة عالية من القوة والتنظيم والتفاني الحزبي. .. كان معظم السلاح من طراز چيكي وإنگليزي من النوع الذي استخدم في الحرب العالمية الثانية. إلا أنه كان بحالة جيدة وصالحة. وقد تم شراء زهاء ثلاثة آلاف قطعة بين شهري أيار وأيلول 1961" .
إن الموقف السلبي الذي اتخذته حكومة عبد الكريم قاسم من مطالب القيادة الكُردية ومن ملا مصطفى البارزاني من جهة, وبعض المشكلات التي حصلت في كُردستان من قبل القوى الكُردية من جهة ثانية, والتي كان في مقدور العقل البارد والقلب الدافئ على العراق ومستقبله أن يعالجها بهدوء وروية ويصل بها إلى شاطئ السلام, قد أديا إلى تدهور العلاقات بين عبد الكريم قاسم وملا مصطفى البارزاني, وبين الحزب الديمقراطي الكُردستاني والحكومة العراقية. بدأ الطرفان باتخاذ إجراءات متبادلة تعبر عن رفض كل منهما لسياسة الآخر وتشديد العداء المتبادل والوصول إلى نقطة اللاعودة, رغم توفر نقاط غير قليلة كانت توجب العودة إلى الحوار الموضوعي والأكثر شفافية وعقلانية, مما دفع بعبد الكريم قاسم إلى اتخاذ عدة إجراءات خاطئة, كان أبرزها ما يلي:
* تنظيم حملات عسكرية وقصف جوي ضد مواقع العشيرة البارزانية في بارزان في كُردستان العراق وضد مواقع المسلحين الكُرد.
* تنظيم وتأليب بعض العشائر الكُردية التي كانت قبل ذاك في خدمة النظام الملكي ضد الحركة الكُردية المسلحة والحزب الديمقراطي الكُردستاني وتقديم السلاح لها وتشجيعها لتقوم بعمليات عدائية ضد قوى البارزاني.
* شن حملة إعلامية معادية للحزب الديمقراطي الكُردستاني وللملا مصطفى البارزاني في الإعلام والصحافة والتلفزة العراقية. وقد وظف قاسم قدرات الدولة الإعلامية لهذا الغرض شارك فيها الكثير من العناصر القومية والبعثية الشوفينية المعادية للنضال المشترك في العراق لتأجيج الصراع وتأليب المجتمع ضد الكُرد.
* قيام أجهزة قاسم باعتقال مجموعة من قياديي الحزب الديمقراطي الكُردستاني وزجهم في السجن والتضييق على الكثير من كوادرهم وأعضاء الحزب في بغداد والمناطق الأخرى.
* رفض قاسم شعار الديمقراطية للعراق والسلم لكُردستان الذي رفعه الحزب الشيوعي العراقي, وبالتالي جعل الأمل في التراجع عن مواقف قاسم بعيدة المنال, خاصة وأنه شن حملة اعتقالات واسعة ضد حملة هذا الشعار وزجهم في السجون وأصدرت المحاكم العراقية, التي كان يقودها مناهضون لعبد الكريم قاسم وسياساته, أحكاماً كثيرة ضد الشيوعيين والديمقراطيين.
لقد جرت محاولات عديدة من جانب القيادة الكُردية, كما بذل عبد الكريم قاسم من جانبه بعض الجهود لإعادة الصلة والتفاوض وإيقاف القصف الجوي ضد مناطق بارزان وعبر التفاوض مع الشيخ أحمد البارزاني حتى بعد إعلان ثورة الكُرد في الحادي عشر من أيلول عام 1961, إلا أنها لم تدفع بعملية الحوار إلى أمام, بل فاقمت الوضع المتردي خاصة بعد أن بدأت قوات الحكومة تتكبد خسائر فادحة وتضعف من مواقع الحكومة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

لقد كانت الحرب بين الحركة المسلحة الكُردية والقوات العراقية الحكومية حرب استنزاف للطرفين, ولكنها كانت أكثر تأثيراً في قدرات الجيش العراقي وأكثر نخراً في كيان نظام حكم قاسم, وهيأت الجو بدورها لنجاح انقلاب 8 شباط/فبراير 1963.
في ربيع العام 1962 اقترح السيد إبراهيم أحمد, عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكُردستاني عقد لقاء مع طاهر يحيى ليطرح عليه بعض المقترحات بشأن التعاون لإسقاط حكومة قاسم. وافقت قيادة الحركة الكُردية بقيادة البارزاني على السير في هذا المجال ورؤية مدى إمكانية التعاون. وفي الوقت نفسه كان هناك لقاء بين صالح اليوسفي وعلي صالح السعدي.
كان البعثيون يريدون من الكُرد تحقيق مسألتين, وهما:
• استمرار القتال ضد حكومة قاسم لإضعافه وإشغاله بها وإبعاده عن امتلاك القدرة على معالجة القضايا الأخرى التي كانت تنخر بالنظام أيضاً. يشير هاني الفكيكي, عضو القيادة القطرية لحزب البعث, الذي انتخب إلى هذا المركز بعد وقوع الانقلاب من قبل المجلس الحزبي الذي عقد بين 15-18 شباط/فبراير 1963, بصدد هذه النقطة إلى ما يلي:
" ... اتصل الأكراد بالحزب عن طريق عسكريين من أصدقاء البعث فعرضوا التعاون والتنسيق بهدف إطاحة الزعيم وحكمه. ولئن لم يتعدّ همهم إيقاف الأعمال العسكرية ضد الشعب الكُردي وضمان الحكم الذاتي لكُردستان في المستقبل, كان همنا توثيق الصلة بالحركة الكُردية وتمني استمرار القتال في الشمال لإضعاف قاسم من جهة, وضمان عدم تحرك الأكراد ضدنا إذا نجحنا في استلام السلطة من جهة أخرى. أما في حال الفشل فالعلاقة بالحركة الكُردية تتيح لنا الهرب إلى الشمال! وهكذا وللمرة الأولى في تاريخ الحزب في العراق, تضمن تقرير القيادة إقراراً بالحقوق الثقافية للأكراد, وإشارات عامة إلى اللامركزية" .
• إيقاف القتال في أعقاب إسقاط النظام لكي لا تشغل القطعات العسكرية بمشكلات القتال في الشمال وتعجز عن مواجهة احتمالات الوضع في العراق.
كانت الموافقة على ذلك مكسباً كبيراً للانقلابيين. ولكن ماذا كانت الوعود التي منحت للقيادة الكُردية إزاء المسألة الكُردية؟
كان الكُرد يسعون إلى انتزاع اعتراف من القوى التي تهيئ للانقلاب على وعد خطي بعدد من المسائل نشير إليها وفق ما جاء في رسالة السيد إبراهيم أحمد إلى طاهر يحيى بأمل الاتفاق على إسقاط حكومة قاسم:
"إن الشعب الكُردي يملك الحق الذي لا ينازع في الآنفصال عن الدولة. ولكنه لا يرغب في ممارسة هذا الحق. ولتفادي أي سوء تفاهم في المستقبل, من الضروري أن تعترفوا مقدماً بالحكم الذاتي الداخلي لمنطقة كُردستان, وأن يرد هذا الاعتراف علناً في إحدى البيانات الأولى لحكومة الثورة" . وكان السيد إبراهيم أحمد قد اقترح أيضاً ما يلي وبناء على اتفاق مع قيادة الثورة الكُردية:
"تعيين سيادة الملا مصطفى البارزاني حاكماً أو رئيس وزراء لهذه المنطقة (كُردستان العراق), وإعطاؤه الحق في تشكيل حكومة لكُردستان ذات الحكم الذاتي. إن هذه الشروط ستكون ضمانات ضد أي احتمالات سوء تفاهم في المستقبل. كما أنها تؤلف تطبيقاً حقيقياً للمادة الثالثة من الدستور العراقي ... إن الرفاق الذين تباحثت معهم يعتبرون قبول هذه الشروط بشكل قطعي أساساً جوهرياً لبدء المفاوضات حول المسائل الأخرى التفصيلية" .
لم يقدم طاهر يحيى وعداً تحريرياً بأي شيء يذكر عدا الوعود العامة, في حين التزم على صالح السعدي, أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق حينذاك, بوعد شفوي قطعته قيادة البعث للقيادة الكُردية في اجتماع مشترك ضم كل من السيد صالح اليوسفي وعلي صالح السعدي, حين أكد له بأن الحكم الذاتي للشعب الكُردي سيعلن فور نجاح الانقلاب .
لا شك من فائدة تثبيت مسألتين أساسيتين في هذا الصدد, وهما:
** لم يكن البعثيون جادين في الوعد الذي قطعوه على أنفسهم, إذ أنهم وقبل فترة قصيرة من الانقلاب, كانوا يتهمون الحركة الكُردية التحررية بالعمالة للأجنبي وبالتفاهة, وهو ما ظهر في سلوكهم إزاء الكُرد في أعقاب نجاح الانقلاب مباشرة.
** وأن قيادة الثورة الكُردية, رغم قبولها بالمساومة مع البعث على الحكم الوطني العراقي , ورغم أخطاء قاسم الفادحة إزاء القضية الكُردية والديمقراطية, فأنها لم تكن تثق بكلام البعثيين واستعدادهم لمنح الشعب الكُردي حقه في الحكم الذاتي. ولهذا كانت القيادة الكُردية على استعداد لمواجهة قوى البعث التي بدأت حربها ضد الشعب الكُردي لاحقاً وبشدة أبشع مما كانت عليه في عهد قاسم. إذ أنها بدأت بتعزيز إمكانياتها العسكرية في أعقاب سقوط حكم قاسم, رغم صدور أمرها بإيقاف القتال ضد قوات الجيش العراقي.
وفي تصريحات لاحقة أنكر علي صالح السعدي تلك الوعود التي قطعها للطرف الكُردي بذريعة أن حزب البعث لم يدخل بمفاوضات فعلية مع ملا مصطفى البارزاني أو الحزب الديمقراطي الكُردستاني, بل كان هناك لقاء تباحثي مع السيدين صالح اليوسفي وشوكت عقراوي, وأن ليس في ذلك أي التزام من قيادة البعث إزاء الكُرد. ولم يكن هذا الآنكار غريباً على البعثيين, إذ كانت السياسة التي مارسوها تؤكد التزامهم الدقيق بالقاعدة التي روج لها الدكتور بول جوزيف غوبلز, وزير الدعاية السياسية في النظام الهتلري, وهي التالية:
"افتروا ثم افتروا ثم افتروا, لعل بعض افتراءاتكم تعلق بأذهان الناس".

بعد نجاح الانقلاب الفاشي يشير السيد سعد ناجي جواد إلى أن كلا من السيدين صالح اليوسفي وشوكت عقراوي, وهما يمثلان القيادة الكُردية, ذهبا سوية إلى دار الإذاعة العراقية, وكانت مقراً للمجلس الوطني لقيادة الثورة وهنئا الانقلابيين على نجاح الانقلاب وأعربا عن تأييدهما وأرسلا برقية باسم قيادة الحزب الديمقراطي الكُردستاني جاء فيها:
"إن الأكراد فرحون بالثورة التي أسقطت قاسم وينتظرون "خطوات إيجابية تتخذها هذه الثورة نحو حل المسالة الكُردية على أساس الحكم الذاتي الذي يضمن الأخوة الدائمة" .
وكان هذا التصريح ضد رأي وإرادة الغالبية العظمى من الشعب العراقي حينذاك, رغم كل أخطاء ونواقص النظام السياسي لعبد الكريم قاسم.
لم تتحرك حكومة الانقلاب صوب طرح مشروع أو حوار حول القضية الكُردية إذ أنها كانت مشغولة بالوضع في بغداد الذي نشأ في أعقاب الانقلاب ومقاومة الحزب الشيوعي وقوى أخرى له. مما أجبر القيادة الكُردية على تقديم طلباتها عبر برقية أرسلت إلى المجلس الوطني لقيادة الثورة تضمنت ما يلي:
"الإعلان عن وقف إطلاق النار, والإفراج عن السجناء الأكراد وتعويض المتضررين, وإقصاء ومعاقبة المسؤولين عن تعذيب الأكراد, والإعلان الفوري والرسمي عن حق الأكراد في الحكم الذاتي ضمن الجمهورية العراقية" .
تحرك الطرفان للحوار, بعد أن تم إعلان إيقاف القتال من الطرفين, حول تنفيذ ما جرى الاتفاق عليه مع حزب البعث وما تعهد به الحزب الأخير للقيادة الكُردستانية بعد ما يزيد على شهر على نجاح الانقلاب. وصل وفد الحكومة برئاسة طاهر يحي, وهو أحد الضباط الأحرار وأحد القوميين والمشاركين في الانقلاب, إلى "چوار قرنه" في كُردستان العراق ومعه ثلاثة من الكُرد هم بابا علي وفؤاد عارف والعميد فتاح شالي, إضافة إلى آخرين. وتسلم مقترحات الكُرد بشأن مطالب الشعب الكُردي والتي تضمنت عدداً من القضايا المطروحة سابقاً, وأبرزها:
* الحكم الذاتي لكُردستان وتشكيل الحكومة لمنطقة الحكم الذاتي.
* أن تكون حدود كُردستان شمالاً تركية وشرقاً إيران وغرباً سورية وجنوباً سلسلة جبال حمرين.
* تكون اللغة الكُردية رسمية لمنطقة الحكم الذاتي.
* أن يكون الحكم في العراق برلمانيا ديمقراطياً وأن يكون نائب رئيس الجمهورية كُردياً ومجلساً وطنياً لكُردستان.
* توزيع المسؤوليات بين الحكم المركزي والحكم في الإقليم, وأن يبقى في مسؤولية الحكومة المركزية وزارات الدفاع والمالية والخارجية مع وجود وزراء دولة لهذه الوزارات في الحكومة الذاتية لكُردستان.
* مشاركة عدد مناسب من الكُرد وفق عدد النفوس في الحكومة المركزية.
* تحديد نسبة معينة من الجيش تتناسب ونفوس كُردستان, وقوام الوحدات من أبناء كُردستان. مع إحداث مؤسسات عسكرية مشابهة للمركز في كُردستان.
* يتم الاحتفاظ بقوات الآنصار إلى حين الحل النهائي حين تصبح جزءاً من قوات الجيش العراقي.
* تتألف الميزانية العامة من واردات الضرائب والگمارك والمكوس ..الخ وتوزيع الموارد المالية بنسبة عادلة لا تقل عن ثلثي الواردات في كُردستان.
وفي حينها أصدر المجلس الوطني لقيادة الثورة بياناً حول المفاوضات وأمله في الوصول إلى نتائج حسنة مشيراً إلى حقوق الشعب الكُردي, ولكنه لم يذكر الحكم الذاتي وركز على اللامركزية في الحكم, وأنه سيدخل ذلك في الدستور المؤقت والدائم.
لم تكن الثورة التي اندلعت في كُردستان لتكتفي بما طرحه مجلس قيادة الثورة في بيانه المذكور, وإلا لكان الأمر قد تحقق في فترة حكم قاسم ومن دون تعقيدات كثيرة.
لقد بذل الحكم البعثي كل الجهد الممكن لتجنب الالتزام بأي تعهد جديد مع الحركة الكُردية المسلحة, بل يمكن تأكيد اندفاعه الواضح للتخلي عن وعوده السابقة. وحاول تبرير هذا الموقف بأنه لا يريد إثارة العرب ضده أو الجمهورية المصرية بسبب سعي العراق لإقامة وحدة ثلاثية بين مصر وسوريا والعراق, وأن من المفيد لو رافق الوفد الكُردي, الذي كان موجوداً في بغداد, مع الوفد العراقي, الذي كان على وشك المغادرة إلى القاهرة, لغرض دراسة مشروع إقامة وحدة ثلاثية.
أدرك قادة حركة التحرر القومي الكُردي أن البعثيين وهم في السلطة لا يفكرون ولا يريدون منح الأكراد حقهم في تقرير المصير أو في الحكم الذاتي, بل جل ما تحدثوا عنه لم يتجاوز الوعد "بإدارة لامركزية" تكون تحت رحمة حكم البعث وهيمنته الكاملة. كان الوفد الكُردي المفاوض برئاسة السيد جلال الطالباني موجوداً في بغداد عندما غادر الوفد العراقي بشكل مفاجئ إلى القاهرة للتفاوض حول إقامة دولة عربية اتحادية من دول ثلاث هي مصر والعراق وسوريا. ورفض الحكم وحزب البعث قبول دخول أي عضو من الوفد الكُردي ضمن الوفد العراقي. وإزاء هذا الواقع غير الطبيعي قدم الوفد الكُردي في الثامن من نيسان/ أبريل عام 1963 مذكرة إلى اجتماع القاهرة تضمنت ثلاثة مطالب مشروعة, هي :
1 . إذا بقى العراق بدون تغيير في كيانه يقتصر مطلب الشعب الكُردي في العراق على تنفيذ البيان الصادر من الجمهورية العراقية بشأن الحقوق القومية للشعب الكُردي على أساس اللامركزية.
2 . إذا انضم العراق إلى اتحاد فيدرالي, يجب منح الشعب الكُردي في العراق حكماً ذاتياً بمفهومه المعروف غير المتأول ولا المضيق عليه.
3. إذا اندمج العراق في وحدة كاملة مع دول عربية أخرى يكون الشعب الكُردي في العراق إقليماً مرتبطاً بالدولة الموحدة وعلى نحو تحقيق الغاية من صيانة وجوده وينفي في الوقت نفسه شبهة الآنفصال, ويضمن تطوير العلاقات الوثيقة بين الشعبين الشقيقين نحو مستقبل أفضل" .
أغفل اجتماع القاهرة الثلاثي (مصر والعراق وسوريا) هذه المطالب العادلة للوفد الكُردي في بغداد وأعلن في السابع عشر من نيسان/أبريل من نفس العام عن تشكيل دولة عربية اتحادية باسم الجمهورية العربية المتحدة على أن يجري استفتاء شعبي حولها بعد خمسة شهور من هذا الإعلان .
كانت القيادة الكُردية لا ترفض قيام وحدة مع مصر وسوريا أو مع أي بلد عربي آخر, ولكنها كانت ترى وتريد بشكل مشروع وعادل أن يكون لكُردستان العراق وللشعب الكُردي وضعٌ متميزٌ وأن لا تحسب كُردستان على أنها جزء من الوطن العربي أو أن الكُرد جزء من الأمة العربية. وكانت القيادة الكُردية في ذلك على حق واضح تقره لائحة الأمم المتحدة.
وفي الرابع والعشرين من نيسان/أبريل 1963, أي بعد أسبوع من إعلان الدول العربية الاتحادية, قدمت القيادة الكُردية مشروعاً جديداً كإجابة مباشرة على إعلان الدولة الاتحادية العربية داعياً الحكومة العراقية مناقشته. فماذا تضمن المشروع الكُردي الجديد؟ تضمن المشروع الكُردي موقفاً صريحاً وواضحاً من حقوق الشعب الكُردي إذ طرح القادة الكُرد رؤيتين هما:
1. في حالة بقاء العراق خارج إطار دولة اتحادية عربية يرى المشروع الكُردي "تشكيل حكومة عراقية مركزية لمجموع العراق, وجهاز قومي يحكم منطقة كُردستان العراق ذات الحكم الذاتي, ضمن إطار العراق. ويضم الجهاز جمعية تشريعية كُردية تنتخب انتخاباً حراً ومجلساً تنفيذياً تعينه الجمعية التشريعية ويكون مسؤولاً أمامها. وتكون الحكومة المركزية مسؤولة عن الأمور التالية: رئاسة الدولة, الشؤون الخارجية, الدفاع الوطني, المالية, صناعة النفط, الجمارك, الموانئ والمطارات الدولية, البريد والبرق والتليفون, الجنسية, تنظيم ميزانية الدولة, الإشراف على محطات الإذاعة والتلفزيون المركزية والطاقة الذرية, وهذه القائمة نهائية" .
أ. "أما السلطات الكُردية فتكون مسؤولة عن الشؤون التالية ضمن حدود كُردستان العراق: القانون, القضاء, الشؤون الداخلية, المدارس والتعليم, الصحة العامة, الزراعة, التبغ, البلديات, العمل, الشؤون الاجتماعية, التنمية الاقتصادية, وجميع الأمور التي لا تحدد مسؤوليتها الحكومة المركزية. وتكون حصة كُردستان في الحكومة والإدارة المركزيتين متفقة مع نسبة سكانها إلى مجموع سكان العراق" .
ب. ثم تطرق المشروع إلى تقسيم الموارد المالية المتأتية من النفط الخام والضرائب في كُردستان العراق ..الخ بما يساهم في تطوير كُردستان ودون إلحاق الضرر بالقسم العربي من العراق أو بالحكومة المركزية. وتضمن المشروع أن يكون نائب رئيس الدولة ونائب رئيس أركان الجيش كُرديان يتمتعان بحقوقهما الكاملة. كما يفترض أن يتضمن الدستور الخاص بكُردستان العراق الحقوق القومية المشروعة للأقليات القومية التركمانية والآشورية والكلدانية والأرمن, وهي الحقوق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية.
2. وفي حالة قيام دولة اتحادية عربية فيكون لإقليم كُردستان الحكم الذاتي ويكون عضواً في الاتحاد بكامل الحقوق ويشار في العلم, في حالة استبداله برمز خاص يشير إلى كُردستان والأكراد, وكذا بالنسبة للجنسية. ففي حالة استبدالها بجنسية عربية تضاف كلمة كُردستان إلى جنسية وجواز سفر الأفراد من أصل كُردي, وكذلك في الهوية المدنية.
لم تكن هذه المطالب مقبولة من الحكومة العراقية فأهملتها نهائياً وبدلاً من أن تناقشها بدأت بإجراءات تعسفية ضد الأكراد في مختلف أنحاء العراق, ثم فجرت الحرب ضد الشعب الكُردي ثانية والتي استمرت حتى سقوط البعث في 18 تشرين الثاني من عام 1963 وتسلم الانقلابيون الجدد من بعض القوى القومية للسلطة بقيادة عبد السلام عارف.
لم تكن المفاوضات في القاهرة مجدية للوفد الكُردي الذي كان يترأسه السيد جلال الطالباني, كما لم يكن مثمراً للوحدة الثلاثية, خاصة وأن ثقة عبد الناصر كانت قد تزعزعت من الأعماق بعد حركة الآنفصال التي قام بها البعثيون في سوريا وإنهاء الوحدة مع مصر. كان هذا في شهر نيسان/أبريل 1963.
لا شك في أن قيادة حزب العبث العربي الاشتراكي في العراق ومكتبها العسكري, الذي هيمن على مجلس قيادة الثورة, وكذلك بعض القوى القومية لم تكن موحدة في موقفها من المسألة الكُردية, إذ كانت بينها نقاط التقاء ونقاط اختلاف. كان الموقف الأول, الذي يمثله بعض المدنيين في قيادة حزب البعث وبعض المدنيين في المجلس الوطني لقيادة الثورة, يؤكد:
• إن من الأفضل للنظام الجديد أن يجد حلاً للمسألة الكُردية دون الخوض بحرب جديدة ترهق كاهل الحكم.
• رفض مبدأ حق تقرير المصير أو إقامة فيدرالية أو حكم ذاتي للكُرد في شمال العراق.
• الحل الممكن والوحيد هو منح المحافظات الكُردية الإدارة اللامركزية.
• اعتبار العراق كله جزءاً من الوطن العربي وكذا الشعب العراقي كله جزءاً من الأمة العربية.
• وفي حالة رفض الكُرد لذلك يمكن شن الحرب ولكن بعد أن تتوفر إمكانية أفضل لمواجهة القوى المسلحة في كُردستان.
أما الموقف الثاني فكان يعبر عن موقف العسكريين مع بعض المدنيين في قيادة البعث والمجلس الوطني لقيادة الثورة والمكتب العسكري للبعث, إذ يتفق مع جميع النقاط الواردة في أعلاه مع الجانب المدني, ولكنه يؤكد ويفضل:
• الحل العسكري على أي حل آخر والبدء به مباشرة دون انتظار, إذ لا يجوز المساومة بأي حال. وكان صالح مهدي عماش, عضو مجلس قيادة الثورة ووزير الدفاع يتحدث عن الحرب في كُردستان للقضاء على الحركة الكُردية المسلحة باعتبارها "نزيهة ربيعية"!
وكانت النتيجة ما أرادها العسكريون بعد أن وجهت ضربة قوية للجناح الذي كان يريد بصيغة ما تأجيل الحرب على الأقل وكان في مقدمة هؤلاء علي صالح السعدي والغالبية المدنية في القيادة, وبدأت عملية التشديد إزاء مطالب الكُرد العادلة.
وسرعان ما تبين أن العهد الذي قطعه علي صالح السعدي نيابة عن البعث كان مجرد وعدٍ كاذبٍ, أمام صالح اليوسفي وشوكت عقراوي, عندما قال "ليس من حقكم فحسب أن تنالوا الحكم الذاتي بل إن لكم فوق هذا حق تقرير المصير" .

في العشرين من شهر أيار/مايس 1963 بدأ فرض الحصار الاقتصادي على كُردستان العراق وعلى الثوار في آن واحد. وفي العاشر من حزيران/يونيو من نفس العام بدأت الحرب ثانية ضد الشعب الكُردي من قبل حكومة الانقلاب الدموي, وذلك بقيامها بتنظيم استعراض عسكري لإبراز العضلات وتخويف الناس في كل من السليمانية وكركوك, كما أصدرت بياناً هاجمت فيه الحركة الكُردية واتهمت القيادة الكُردية بخرق اتفاقية وقف إطلاق النار والرغبة في الآنفصال...الخ. وكانت بمثابة إعلان الحرب على الشعب الكُردي وقيادته السياسية وحركته التحررية.
لم يشترك الجيش العراقي وحده في المعارك ضد قوات الپيشمرگه في كُردستان العراق بل ساهمت وحدات من الجيش السوري قوامها 5000 مقاتل كانت تمارس عملياتها في المنطقة الواقعة بين زاخو ودهوك. كما حركت الحكومة العراقية وحدات من "الفرسان, الجحوش" الكُرد المرتزقة للمشاركة في القتال ضد قوات الپيشمرگة. وكان الهدف وراء هذا التحشيد الكبير للقوات الحكومية والقوات السورية والفرسان هو إنزال ضربة سريعة بقوات الپيشمرگه لكسر المعنويات وإضعاف الروح الجهادية من خلال السيطرة على بارزان معقل الثوار وقائد الثورة. وقد تمت السيطرة على بارزان من قبل القوات الحكومية, كما سيطروا قبل سقوط النظام, أي في الأول من تشرين الثاني 1963 على المنطقة الحصينة چًمی-;---;-- – ريزان وشوان بعد أن زحفوا على المنطقة بلوائين مجحفلين بقيادة العقيد سعيد حمو, واعتقدت السلطة بأنها بهذه المعارك قد حققت النصر النهائي على الكُرد. إلا أنها كانت البداية لنهاية حكم البعثيين الأول في العراق.
وفي هذه المعارك سقط الكثير من الجنود العراقيين صرعى في الحرب الدائرة, كما سقط الكثير من المناضلين الكُرد في معارك غير متكافئة ولم تكن باستمرار لصالح الحركة الكُردية, ولكنها كانت في المحصلة النهائية عملية إضعاف حقيقية للنظام البعثي وإجهاد لميزانية الدولة وتعميق لمشكلاته الداخلية, وتشديداً للصراع بين البعثيين والقوميين من جهة, وفي ما بين البعثيين أنفسهم من جهة ثانية. إذ في شهر أيار/مايس من العام 1963 القي القبض على مجموعة كبيرة من العسكريين والمدنيين القوميين بتهمة التحضير لانقلاب عسكري ضد حكم البعث تقوده حركة القوميين العرب, والذي أشرنا إليه في مكان آخر من هذا الكتاب. ولم يتوقف القتال فعلياً حتى بعد سقوط نظام البعث في تشرين الثاني من العام 1963, وكانت الحرب ضد الشعب الكُردي أحد العوامل الأساسية في سقوط هذا النظام. كتب السيد مسعود البارزاني بشأن مواقف حزب البعث إزاء الشعب الكُردي يقول: "وكما أتضح فيما بعد بأنهم ما كانوا يؤمنون أصلاً بأن للشعب الكُردي حقوقاً وأن العدالة قبل الاتفاق تقضي الإقرار بتلك الحقوق. لذلك بدا من الصعوبة بمكان أن يُتوصل إلى الحق العادل المنشود من مثل هذه الفئة من الحكام.
لم تكن الحرب التي شنها البعثيون مجرد قتال بين طرفين يحترمان حقوق الآنسان والمواثيق الدولية في قضايا الحروب. بل أقترنت في واقع الأمر بممارسة عمليات انتقامية وحشية وجرائم بشعة بحق المواطنات والمواطنين الكُرد من جانب أجهزة البعث والحرس القومي والقوات المسلحة العراقية على امتداد فترة القتال, إضافة على تجنيد جمهرة كبيرة من أبناء العشائر الكُردية إلى جانب النظام في جماعات مسلحة أطلق عليها بالفرسان, وأطلق عليهم الشعب كلمة "جحوش" العربية أو "جاش" باللغة الكُردية.
لقد قتل المئات من الناس في هذه الحرب غير العادلة التي شنها النظام البعثي, كما جر المئات أيضاً ومن الطرفين, وهدمت الكثير من القرى على رؤوس أصحابها وسويت الكثير من المناطق بالأرض. ولم تكن تلك الحرب سوى التعبير عن ذهنية شوفينية استبدادية لا تعرف معنى الحرية والديمقراطية ولا تعرف غير الشوفينية والعنصرية موجهاً لسياساتهم اليومية ضد الشعوب الأخرى.
لم يكتف البعثيون باعتقال الوفد الكُردي للمفاوضات بل شنوا حملات اعتقال واسعة ضد الكُرد في مدن كُردستان العراق وفي المدن العراقية الأخرى, مما أجبر الكثير من الطلبة والموظفين على ترك وظائفهم والهروب إلى الجبال والالتحاق بقوات الپيشمرگه والمشاركة في النضال هناك. ونتيجة الحملات الشرسة والقتل الواسع النطاق الذي لحق بالشيوعيين أجبرت كثرة من الشيوعيين والديمقراطيين على ترك المدن العراقية في الوسط والجنوب وخاصة بغداد والالتحاق بكُردستان والعمل في صفوف قوات الپيشمرگه والنضال ضد النظام.
فمع بدء الحرب ضد الكُرد قام النظام بارتكاب جريمة كبيرة في السليمانية حيث قامت القوات الحكومية "في ليلة 9 – 10 حزيران 1963, ..بإلقاء القبض على خمسة ألاف من الأهالي اخُتير منهم ستة وثمانون ليدفنوا أحياءً وسُويّ الأخدود الذي حفروه بالتراب". وهذه المأساة وحدها تعبر عن عنف وقسوة وسادية هؤلاء الحكام الذين ارتكبوا أبشع الجرائم بحق الشعب العراقي وهم الذين أصدروا البيان رقم 13 الخاص بإبادة الشيوعيين في العراق, والذي تحدثنا عنه في مكان آخر من هذا الكتاب.
أرسل اللواء إبراهيم فيصل الآنصاري, المشرف على جبهة ميرگه سور, برقية إلى رئيس أركان الجيش بعد معركة دموية خاضها ضد الپيشمرگه في معركة جسر چمه في السابع عشر من أيلول/سبتمبر, كما وردت في كتاب السيد مسعود البارزاني, جاء فيها ما يلي:
"إلى رئيس أركان الجيش/ سكرتير وزارة الدفاع/ قيادة قوة الميدان/ فق 1 رئيس
العدد 1235 / ح
التاريخ 20/9/1963
(لقد نجحت قطعات الفرقة الثانية البطلة والقطعات المتجحفلة معها من تطهير معظم منطقة بارزان (ميرگه سيور-شيروان) من الخونة. وذلك بعد معارك استمرت طيلة شهري آب وأيلول بعد تضحيات جسيمة. ودافع البارزانيون عن منطقتهم دفاعاً مستميتاً ولم يتركوا شبراً واحداً دون دماء.
اقترح عقد اجتماع بحضور وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش وجميع قادة الفرق لدراسة الموقف ووضع خطط المستقبل قبل حلول فصل الشتاء. وأقترح البحث عن حل سلمي لأني أتوقع أن يستعيد العصاة تنظيم قواتهم ومواصلة القتال ولا يجوز أن نزج بقطعاتنا في القتال في فصل الشتاء وحتى المراباة في هذه المنطقة الوعرة تنطوي على مخاطرة كبيرة. أنبؤونا.)" .
يستشف من هذه البرقية عددٌ من المسائل التي نرى فائدة إبرازها للتعرف على طبيعة تفكير هؤلاء الناس:
• اتهام الكُرد وحركة التحرر الكُردية وقوات الپيشمرگه بالخيانة وبكونهم عصاة خارجون عن القانون.
• ولكنه في الوقت نفسه يؤكد أنهم يستميتون في الدفاع عن منطقتهم وعن أهلهم وعن موقع القيادة.
• وأن القوات الحكومية قد تحملت خسائر جسيمة بسبب تلك المعارك, سواء أكانت في الأرواح أم الأسلحة.
• ولكنه لا يتحدث عن الجرائم البشعة التي كانت ترتكب ضد المناضلين والمدافعين عن أرضهم وحقوقهم المشروعة.
• يرى بوضوح عجز قواته العسكرية وجميع القوات الحكومية عن إحراز النصر على حركة التحرر الكُردية وقوات الپيشمرگه الشجعان.
• ولهذا فهو يطالب بدراسة الموقف واتخاذ ما يلزم قبل حلول فصل الشتاء, إضافة إلى ضرورة التحري عن حل سلمي للمسألة. فرغم النجاح الذي حققته قواته بعد قتال دام ما يقرب من شهرين وتقديم ضحايا جسيمة, يرى إمكانية فعلية بعودة قوات الپيشمرگه إلى خوض المعارك لتطهير الأرض من القوات المعتدية. وفي هذه النقطة كان هذا المسؤول العسكري يتحدث عن واقع قائم لا يرى فيه إمكانية الآنتصار بالطرق العسكرية, ويرى ضرورة الوصول إلى حل سلمي للمسألة.
لا شك في أن خسائر الپيشمرگه لم تكن قليلة في هذه المعارك غير المتكافئة من حيث العدد والعدة, ولكن كانت خسائر القوات الحكومية أضعاف خسائر قوات الپيشمرگة. ومن المؤسف أن نقول بأن هؤلاء جميعاً كانوا من أبناء الشعب العراقي, وأن السياسة الشوفينية العمياء للحكام العرب في العراق كانت السبب وراء كل تلك الضحايا.

وللبحث صلة تتبع

المصادر والمراجع

حديد, محمد. مذكراتي- الصراع من أجل الديمقراطية في العراق. دار الساقي. لندن. 2006. ص 460/461.
المصدر السابق نفسه. ص 461.
إسماعيل, عبد الله. مفاوضات النفط العراقية 1952-1968. لندن, دار اللام. 1989259/260.
راجع أيضاً: علاوي, إبراهيم. البترول العراقي وحركة التحرر الوطني. بيروت. دار الطليعة. ط1. 1967. ص 171/172.
كبة, سلام إبراهيم عطوف. إبراهيم كبة غني عن التعريف. مصدر سابق. ص 10.
بطاطو. حنا. العراق. الكتاب الثالث. الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار. ط 1. بيروت. مؤسسة الأبحاث العربية. 1992. ص 282.
الكبيسي, باسل. حركة القوميين العرب. تعريب نادرة الخضيري الكبيسي. بيروت. مؤسسة الأبحاث العربية. ط 4. 1985. ص 106.

كتب السيد عزيز الدفاعي يقول: "آن مذكرات أكرم الحوراني والمرحوم طالب شبيب وتصريحات علي صالح السعدي أمين سر الجناح اليساري لحزب البعث آنذاك التي أكد فيها بان البعثيين وصلوا إلى السلطة على ظهر دبابة أمريكية ينفيها الجناح الآخر من الحزب كما آن مذكرات هاني الفكيكي (أوكار الهزيمة) لا تعيننا كثيرا في تقديم تفسيرات ووقائع معززة بالوثائق والأدلة والاعترافات الرصينة حول الدور الذي قامت به واشنطن في إسقاط جمهورية الزعيم وإعدام المئات من كوادر الحزب الشيوعي العراقي حسب ادعاءات هؤلاء الساسة والمؤرخين.
بعد نصف قرن على تلك الفترة الكارثية من تأريخ بلاد مابين النهرين في العصر الحديث يشير كاتبان أمريكيان مرموقان وهما NAUM CHOMSKY الحائز على جائزة نوبل و MILAN RAI في كتابهما WAR PLAN IRAQ)) آن وليام ليكلاند مسؤول المخابرات المركزية في السفارة الأمريكية في بغداد بالتعاون مع عدد من الجنرالات العراقيين وقادة حزب البعث قد نجح في رسم خطة انقلاب 8-فبراير- شباط عام 1963 والتي اعتبرها السوفيت آنذاك صفعة قوية وجهت لهم ولطموحاتهم في العراق". (راجع: الدفاعي, عزيز. العراق في الحقبة الأمريكية. الجزء الأول. الحوار المتمدن. العدد 2064 في 10/10/2007 . (المقصود هنا قطار أمريكي وفق ما جاء في تصريحات على صالح السعدي, وليس على ظهر دبابة أمريكية, كاظم حبيب).
وجاء في حوار مع الدكتور عقيل الناصري أجراه السيد مازن لطيف علي بهذا الصدد ما يلي: "وقد افتخر بعض ضباط المخابرات الأمريكية بمساهمتهم في إنجاح الانقلاب المضاد لقاسم. وهذا ما أشار إليه جيمس إيكنيس الذي عمل في السفارة الأمريكية في بغداد في مرحلة تموز/ قاسم النيرة، حيث قال عن قادة البعث: " عرفت كل زعماء البعث وأعجبت بهم" ويؤكد أن " المخابرات الأمريكية لعبت دوراً في انقلاب حزب البعث عام 1963. لقد اعتبرنا وصول البعثيين إلى الحكم وسيلة لاستبدال حكومة تؤيد الاتحاد السوفيتي بحكومة أخرى تؤيد أمريكا. إن مثل هذه الفرص قلما تتكرر. ويضيف إيكنيس "صحيح أن بعض الناس قد اعتقلوا أو قتلوا إلا أن معظم هؤلاء كانوا شيوعيين ولم يكن ذلك ليزعجنا ". بمعنى آخر كانت هنالك أموال أمريكية بل ومشاركة= =فعلية على الأرض. راجع الناصري, عقيل. انقلاب شباط 1963 في العراق وتخاذل الوعي العنفي. نشر في الحوار المتمدن بتاريخ 11/2/2007.

الفكيكي, هاني. أوكار الهزيمة. تجربتي في حزب البعث العراقي. مؤسسة المنار. لندن-قبرص. 1992. ص 235.
سعيد, علي كريم د. عراق 8 شباط 1963. من حوار المفاهيم إلى حوار الدم. مراجعة في ذاكرة طالب شبيب. بيروت. دار الكنوز الأدبية. ط 1. 1999. ص 49
سعيد, علي كريم د. عراق 8 شباط. مصدر سابق. الهامش. ص 58. يقول الكاتب الراحل الدكتور علي كريم سعيد بهذا الصدد وفي هذا الهامش رقم 1 ما يلي: "واعتقد أن تسامح قاسم وعدم استخدامه التعذيب الوحشي والقسوة ومعاقبة الزوجة والأطفال والأخوان ... الخ مما مارسته الحكومات التالية, ساعد البعثيين في تنفيذ خطتهم ضده. فلم يكن قاسم وحده يعرف بوجود حركة يخطط لها ضد نظامه, بل علم بذلك مجلس الوزراء بكامله وعدد من المهتمين. فقد حدثتني الدكتورة مي ألأوقاتي أن خالها هاشم جواد (وزير خارجية قاسم) أخبرهم أن مجلس الوزراء بحضور قاسم أُعلِمَ أكثر من مرة بمحاولة سيقوم بها البعثيون".
يوسف, ثمينة ناجي, وخالدو نزار. سلام عادل سيرة نضال. في جزئين. الجزء الثاني. ط 1. دمشق. دار المدى للثقافة والنشر. 2001. ص 336.
- بطاطو, حنا. العراق. الكتاب الثالث. مصدر سابق. ص 286.
- خيري, زكي وسعاد. دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي. المجلد الأول. ط 1. لندن. 1984. ص 372.
بطاطو, حنا. العراق. مصدر سابق. ص 289.
موقع الوكالة الوطنية العراقية للأنباء. نينا. في 19/2/2010.
بطاطو, حنا. العراق. مصدر سابق. الكتاب الثالث. ترجمة عفيف الرزَّاز. ط 1. بيروت. مؤسسة الأبحاث العربية. ص 300.
خيري, زكي وسعاد. دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي. المجلد الأول. ط 1. لندن. 1984. ص 377.
العاني, نوري عبد الحميد د. وصحبه. تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري. 1958-1968. الجزء الخامس. ط 1. بغداد. المطبعة العربية. 2002. ص 228.
بطاطو, حنا. العراق. الكتاب الثالث. مصدر سابق. ص 287.
العاني, نوري عبد الحميد د. وصحبه. تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري. الجزء السادس. مصدر سابق. ص 26.
أورد الدكتور علي كريم سعيد بياناً أخر كتبه الفريق الركن عبد الكريم قاسم موجهاً إلى الجيش والشعب في العراق, ولكنه لم يصل إلى أسماع العراقيين بسبب إما تغييبه مع البيان= =الثاني أو بسبب خيانة جاسم العزاوي الذي كان المفروض أن يوصله لبثه من دار الإذاعة العراقية. ولا يختلف النص الأول عن النص الثاني إلا ببعض الكلمات, والمحتوى يبقى واحداً يؤكد ثقة قاسم بالجيش والشعب وبقدرتهما على سحق الانقلاب, دون أن يكون قد اتخذ الإجراءات الكفيلة بالتصدي للانقلاب. راجع في هذا الصدد: سعيد, علي كريم د. عراق 8 شباط 1963. مصدر سابق. ص 78.
خيري, زكي وسعاد. دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي. مصدر سابق. ص 382.
بطاطو, حنا. العراق. الكتاب الثالث. مصدر سابق. ص 298.
المصدر السابق نفسه. ص 298.
المصدر السابق نفسه. ص 298.
المصدر السابق نفسه. ص 297.
العاني, نوري عبد الحميد وصحبه. تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري. الجزء السادس. مصدر سابق. ص 34.
المصدر السابق نفسه. ص 20.
العاني, نوري عبد الحميد وصحبه. تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري. الجزء السادس. مصدر سابق. ص 27.
المصدر السابق نفسه. ص 23.
العاني, نوري عبد الحميد وصحبه. تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري. مصدر سابق. الجزء السادس. ص 166/167.
المصدر السابق نفسه. ص 8.
المصدر السابق نفسه. ص 68/69.
المصدر السابق نفسه. ص 69..
سعيد, علي كريم د. عراق 8 شباط 1963. مصدر سابق.
العاني, نوري عبد الحميد وصحبه. تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري. الجزء السادس. مصدر سابق, ص 155/156.
تشكل مجلس قيادة الثورة في أعقاب انقلاب شباط من الآتية أسماؤهم:

تشكلت محاكم أمن الدولة والمحاكم الخاصة لمحاكمة عدد كبيرٍ جداً من المعتقلين بتهم كثيرة...
الحرس القومي: تتكون قيادته من الأشخاص التالية:
العقيد عبد الكريم مصطفى نصرت ثم المقدم الطيار منذر الونداوي وعضوية:
نجاد الصافي ومنح رتبة رئيس, أبو طالب عبد المطلب الهاشمي ومنح رتبة رئيس, أحمد العزاوي ومنح رتبة ملازم, صباح المدني ومنح رتبة ملازم, حازم سعيد ومنح رتب ملازم وعطا محي الدين ومنح رتبة ملازم.
أما مكتب التحقيق فقد تكون من:
عمار علوش وناظم گزار, وعبد الكريم الشيخلي, صدام حسين التكريتي. خالد طبرة, شاهين الطالباني, كنعان الجبوري, علي رضا باوة, سعدون شاكر, فائق أحمد فؤاد, فاضل أحمد, أحمد العزاوي, وآخرين.

بطاطو, حنا د. العراق., الجزء الثالث. مؤسسة الأبحاث العربية. بيروت. 1992. ص 304.
المصدر السابق نفسه. ص 244.
الناصري, عقيل د. عبد الكريم قاسم في يومه الأخر (الانقلاب 39). دار الحصاد. سورية. 2003. ص 297.

المصدر السابق نفسه. ص 136- 138.
المصدر السابق نفسه. ص 93.
المصدر السابق نفسه. ص 160.
المصدر السابق نفسه. ص 161/162.
العاني, نوري عبد الحميد وصحبه. تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري. الجزء السادس. مصدر سابق. ص 149.
المصدر السابق نفسه. البيان رقم 4 لسنة 1963 الصادر عن المجلس الوطني لقيادة الثورة. ص 21.
المصدر السابق نفسه. ص 152.
الفكيكي, هاني. أوكار الهزيمة. مصدر سابق. ص 326.
سعيد, علي كريم د. عراق 8 شباط 1963, من حوار المفاهيم إلى حوار الدم. مصدر سابق. ص 175.
هيئة الدليل الدولي. المنحرفون من الحرس القومي في المد الشعوبي تحت أشعة 18 تشرين الثاني 1963. مصدر سابق. ص 84/85.
ملاحظة: من الجدير بالإشارة إلى أن جميع هؤلاء الذين قتلوا على أيدي الحرس القومي وأعضاء لجنة التحقيق الخاصة كانوا قد تعرضوا لأشرس أشكال التعذيب الهمجي الذي يصعب تصوره ثم قتلوا بأبشع صور القتل بما في ذلك قطع الأصابع والأيدي وأعضاء من الجسم, في ما عدا أولئك الذين قتلوا على عتبة بيوتهم أو الذين قتلوا في دورهم مباشرة وحال اعتقالهم. ك. حبيب. ويمكن التدليل على ذلك من أكثر من مصدر في هذا الصدد, ولكن بشكل خاص ما كتبه الدكتور علي سعيد كريم في كتابه عن طالب شبيب نقلاً عما ذكره الدكتور تحسين معلة, وهو من البعثيين البارزين وكان يحتل موقعاً مهماً في حزب البعث الحاكم, حيث قال ما يلي:
"بعد اعتقال قيادة الحزب الشيوعي بأربعة أيام طلب مني حمدي عبد المجيد الحضور إلى "قصر النهاية" لعيادة بعض المرضى. ذهبت إلى هناك وبدأت من السرداب فرأيت سلام عادل نائماً وسط القاعة طاوياً نفسه على الأرض مشدود العينين مدًّمى. وعبد الرحيم شريف العاني بنفس الحالة وكذلك حسن عوينة وعبد القادر إسماعيل البستاني وحمدي أيوب العاني وآخرين لم أتعرف عليهم وكانوا بحالة مزرية ينامون مباشرة على أرضية السرداب الرطبة. حاولت تضميد جراحهم وانتقلت لردهات أخرى وكتبت لهم الأدوية المطلوبة وكنت أعودهم يومياً لمدة أسبوع. وتعاملت معهم كما يتعامل طبيب مع ردهة اعتيادية للمرضى حتى جيء في أحد الأيام بهاشم جواد (وزير خارجية قاسم) وأعطوه وجبة عشاء "خبز وتمر" فسألته : هل تشكو من شيء؟ فأجاب مذهولاً= ="شنو يعني؟" فقال له أحد الحراس القوميين: هذا د. تحسين معلة, فوقف مرتجفاً" نعم نعم!! قلت أنا طبيب وأستطيع أن أخدمكم...". ويبدو أن الدكتور تحسين معلة كان يقصد بأن الدكتور هاشم جواد كان قد فقد جزءاً من قدرته على التفكير بسبب التعذيب الذي تعرض له أيضاً مع الآخرين وسوء المعاملة اليومية وسوء التغذية. ك. حبيب.
سعيد, علي كريم د. عراق 8 شباط 1963, من حوار المفاهيم إلى حوار الدم. مراجعات في ذاكرة طالب شبيب. طبعة أولى. دار الكنوز الأدبية. بيروت. 1999. ص 200.
دكله, صالح مهدي. من الذاكرة. "سيرة حياة". دار المدى للثقافة والنشر. دمشق. ط 1. 2000. ص 97/98.
الغد. مجلة كانت تصدرها لجنة الدفاع عن الشعب العراقي, ومقرها مدينة براغ في جيكوسلوفاكيا. العدد 2/ 1964.
راجع أيضاً: خيري, زكي وسعاد. دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراق. اليوبيل الذهبي. طبعة أولى. لندن. 1984. ص 386.
هيئة الدليل الدولي. المنحرفون منشورات عربية سلسلة رقم 1/ 1964. مصدر سابق. ص 62.
المصدر السابق نفسه. ص 63.
سعيد, علي كريم د. العراق البيرية المسلحة, حركة حسن سريع وقطار الموت 1963. الفرات للنشر والتوزيع. بيروت. 2002. ص 141/142.
المصدر السابق نفسه. ص 142.
المصدر السابق نفسه. الهامش ص 59.
المصدر السابق نفسه. ص 167/168.
سعيد, علي كريم د. من حوار المفاهيم إلى حوار الدم. مراجعات في ذاكرة طالب شبيب. عراق 8 شباط 1963. ط1. دار الكنوز الأدبية. بيروت. 1999. ص 302. الهامش.
المصدر السابق نفسه. ص 302/303.
سعيد, على كريم د. من حوار المفاهيم إلى حوار الدم. طالب شبيب. مصدر سابق. ص 301-303.
سعيد, علي كريم د. العراق البيرية المسلحة حركة حسن سريع. مصدر سابق. ص 254-262.
هيئة الدليل الدولي. المنحرفون. مصدر سابق. ص 103-105.
المصدر السابق نفسه. ص 122.
المصدر السابق نفسه. 64-71, ص 101-122.
الوحدة العربية والقضية القومية. سلسلة الفكر القومي الاشتراكي. (16). دمشق مطبعة القيادة القومية. 1977. 83. (خطوط التشديد من عندي, كاظم حبيب).
مسالة الأقليات القومية في الوطن العربي. حزب البعث. القيادة القومية. بغداد. 1979. ص 6.
البارزاني, مسعود. البارزاني والحركة التحررية الكُردية. الجزء الثالث. ثورة أيلول 1961-1975 مع ملحق وثائقي. أربيل. 2002. ص 21.
بطاطو, حنا. العراق. الكتاب الثالث. مصدر سابق.
جواد. سعد ناجي د. العراق والمسالة الكُردية 1958-1970. لندن. دار اللام. 1990. ص 75-76.
المصدر السابق نفسه. ص 22/23.
الفكيكي, هاني. أوكار الهزيمة. مصدر سابق. ص 191.
جواد, سعد ناجي د. العراق والمسألة الكُردية ... . مصدر سابق. ص 76.
المصدر السابق نفسه. ص 76.
المصدر السابق نفسه. ص 83.
ويبدو مفيداً هنا أن نشير إلى ما كتبه السيد مسعود البارزاني بشأن تقويمه الإيجابي لشخص عبد الكريم قاسم: "صدرت كتب ومؤلفات عديدة عن (قاسم) وعن عهده بقلم مؤلفين مختلفي المشارب والنزعات وهم بين قادح ومادح. ولا يقوم عندي شك في أن كلا الجانبين كان متحيزاً وأن كثيراً من الحقائق قد أخفيت بسبب التحيز.
وخلافاً لاعتدائه على الشعب الكُردي وشنه الحرب على كُردستان وإنكاره الحقوق الكُردية فإني لا أجد مما سجله الكتاب له نقطة يؤاخذ عليها خلاف هذا أو يتهمه بسوء نية في معالجته الأمور الداخلية رغم عثراته وأخطائه. كان بوسعه وهو في أوج سلطانه أن يقضي قضاءً تاماً على أولئك المتآمرين الذين حرموه وحرموا الشعب العراقي حتى من قطعة أرض يوارى فيها جثمان ذلك الرجل الذي أسس جمهورية العراق.
ورغم شنه هذه الحرب الظالمة على الشعب الكُردي بكل ما جرّته من مآسٍ وويلات عليه وعلى الشعب العربي أيضاً فإني أقولها هنا أن مقتله لم يخلف في نفسي أي شعور بالارتياح والسرور. وقناعتي هي أنه رغم سوء عمله معنا فأنه أسمى وأعلى كثيراً من أولئك الذين قاموا بالانقلاب في شباط". راجع: البارزاني, مسعود. البارزاني والحركة التحررية الكُردية. الجزء الثالث. مصدر سابق. ص 82. أختلف مع السيد مسعود البارزاني في هذا التقدير, رغم صواب خطوطه العامة, إلا أن الطريق إلى جهنم غالباً ما يكون مفروشاً بالنوايا الحسنة, كما أن ليس كل ما قام به الفريق الركن عبد الكريم قاسم كان سليماً, إضافة إلى الأخطاء التي ارتكبها إزاء القضية الكُردية. ولا شك في أن الحركة الكُردية هي الأخرى قد ارتكبت أخطاء ساهمت في دفع الأمور إلى تلك الزاوية الحرجة. ك.ح.
جواد, سعد ناجي. العراق والمسالة الكُردية. مصدر سابق. ص 77.
جواد, سعد ناجي. العراق والمسألة الكُردية... مصدر سابق. ص 77/78.
المصدر السابق نفسه. ص 78.
قارن: البارزاني, مسعود. البارزاني والحركة التحررية الكُردية. الجزء الثالث. مصدر سابق. ص 85.
المصدر السابق نفسه. ص 85/86.
جواد, سعد ناجي د. العراق والمسألة الكُردية 1958-1970. دار اللام. لندن. 1990. ص 83/84.
راجع أيضاً: قاسملو, عبد الرحمن د. كُردستان والأكراد. ترجمة ثابت منصور. بدون ذكر دار النشر ومكان النشر. 1967. ص 275.
قاسملو, عبد الرحمن د. كُردستان والأكراد. المصدر السابق. ص 275.
قاسملو, عبد الرحمن د. كُردستان والأكراد. المصدر السابق. ص 276.
المصدر السابق نفسه. ص 276.
المصدر السابق نفسه. ص 276/277.
المصدر السابق نفسه. ص 277.
المصدر السابق نفسه. ص 277.
جواد, سعد ناجي. العراق والمسألة الكُردية. مصدر سابق. ص 89.
المصدر السابق نفسه. ص 83.
المصدر السابق نفسه. ص 99.
المصدر السابق نفسه. ص 99.
البارزاني, مسعود. البارزاني والحركة التحررية الكُردية. الجزء الثالث. مصدر سابق. ص 96.
المصدر السابق نفسه. ص 114.






#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل من دور للمثقفات والمثقفين في الحياة السياسية العراقية في ...
- المثقفون والهوية الثقافية الوطنية العراقية!
- شرطة المالكي تهين كل مثقفي العراق بالإساءة للشاعر عبد الزهرة ...
- قراءة في كتاب -أحاديث برلينية حول قضايا أوروبا والإسلام وفي ...
- المالكي وعسكرة العراق!
- لتتوحد جهود الشعب والجيش لدحر قوى الإرهاب، ولكن لا ينبغي إفل ...
- برنامج التحالف المدني الديمقراطي والموقف من الملاحظات التي ت ...
- وستنقضي الأيام والخير ضاحك يعم الورى والشر يبكي ويلطم للشاعر ...
- إلى متى تغوصون بدماء بنات وأبناء الشعب العراق أيها القتلة ال ...
- ولوج هادئ وودي على خط النقاش الحامي في عمٌان
- برنامج التحالف المدني الديمقراطي يجسد شغف الشعب بالحرية والد ...
- مانديلا الموحد للشعب والمالكي المفرق للصفوف
- من المسؤول عن الفساد وكيف يكافح؟
- تحية وتهنئة وشكر إلى المشاركين في مؤتمر أصدقاء برطلِّة بالعر ...
- هل ينسجم وضع صورة المالكي في -جواز سفر إلى حقوق الإنسان- مع ...
- رسالة مفتوحة إلى سماحة السيد عمار الحكيم حول التغيير السكاني ...
- بغداد ومدن أخرى تغرق ... هلهولة للدعوة الصامد...هلهولة..
- قراءة في كتاب صيدُ البطَّ البرّي للروائي محمود سعيد
- هل مشكلات البلاد تحل بالعراق أم في البيت الأبيض؟
- إعادة قِراءة في كتاب -جدار بين ظلمتين- لبلقيس شرارة ورفعة ال ...


المزيد.....




- منظمة الصحة: خروج مستشفى كمال عدوان -آخر مرفق صحي بشمال غزة ...
- مايوت تواصل جهود التعافي بعد أسبوعين من إعصار تشيدو
- -تلغراف-: ترامب قد يتلقى دعوة ثانية من العائلة الملكية لزيار ...
- قناة عبرية: أنقرة طلبت من تل أبيب إنشاء آلية تنسيق مع الجيش ...
- سيناتور أمريكي: أوكرانيا أصبحت رمزا عالميا لغسل الأموال
- تسريب بيانات شركة تابعة لـ-فولكسفاغن- يؤثر على 800 ألف سيارة ...
- بايدن يعتزم تقديم مساعدات عسكرية لكييف بأكثر من مليار دولار ...
- قانون جديد في كوريا الشمالية.. الطلاق يؤدي إلى السجن في معسك ...
- سوريا.. محافظ دمشق الجديد ينفي دعوته للسلام مع إسرائيل
- معلومات استخباراتية أميركية تفيد بإسقاط روسيا طائرة أذربيجان ...


المزيد.....

- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كاظم حبيب - الجمهورية الثانية بالعراق - الفصل الأول حزب البعث العربي الاشتراكي على رأس السلطة