أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكى - المنهج والتجريد والعلم والاقتصاد السياسى















المزيد.....


المنهج والتجريد والعلم والاقتصاد السياسى


محمد عادل زكى

الحوار المتمدن-العدد: 4352 - 2014 / 2 / 1 - 06:15
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


(1)
حينما نتسائل عن طبيعة الألوان والألحان والأفكار، هل هى محدودة أم غير محدودة؟ أى: هل الألوان يمكن عدها وحصرها؟ أم هى غير محدودة، ومن ثم لا يمكننا أن نعدها ونحصيها، ونفس السؤال بشأن الألحان والأفكار، هل هما محدودان يمكن حصرهما، أم لا حدود لهما؟ يتعين قبل أن نقدم إجابة أن نتعرف على بعض الأفكار الرئيسية المتعلقة بالمنهج. أى نتعرف على طبيعة الطريق الذى يسلكه الذهن فى سبيله لتقديم إجابة.
(2)
المنهج هو فن ترتيب الأفكار. هو الطريق الذى يسلكه الذهن فى سبيله لإنتاج المعرفة. ومن ثم فحينما يُطرح سؤال، مثل أحد الأسئلة المطروحة أعلاه، فليس من المهم، فى مذهبى، أن تقدم إجابة، إنما المهم هو الطريق الذى يسلكه الذهن كى يُنتِج هذه الإجابة. فالإجابة الصحيحة، دون ادعاء امتلاك الحقيقة، ستكون فى التحليل النهائى نتيجة خطوات فكرية سليمة.
ولننظر إلى المسألة عن قرب. ما الذى نحتاجه كى نشيّد بناء؟ لا شك فى كوننا بحاجة، إضافة إلى الأرض الصالحة للبناء، إلى مواد عمل (تتمثل فى الطوب والرمل والأسمنت،... إلخ) وأدوات عمل (كالروافع، والخلاطات، ... إلخ). ونحتاج كذلك إلى قوة عمل تتمكن من خلال تلك الأدوات من استعمال هذه المواد فى سبيلها إلى تشييد ذلك البناء على هذه الأرض. ومن المعلوم بالبديهة أنه كلما صلحت الأرض للغرض وقويت، علا البناء ورسخ. ولست منشغلاً ها هنا بالنظر فى تهيئة الأرض غير الصالحة، إذ لذلك مجال أرحب وحديث أوسع، وإن وددت أن تتمكن من استخلاص خطوطه العريضة ممّا سنسير فيه معاً عبر المراحل الفكرية.
هذا عن تشييد البناء، فماذا عن إنتاج الفكرة؟
إن شأن إنتاجها شأن تشييد ذلك البناء، مع إختلاف التركيب العضوى لكُل منهما؛ فمواد العمل المطلوبة لإنتاج الفكر تتمثل فى ذلك الكم المعرفى المختزن و/أو المكتسب، الذى ينشغل الإنسان بتحصيله خلال حياته، وعلى أسس وأصول وجب احترامها وتعيّن تدبر أهميتها قبل تخطيّها وتدميرها عن جهل بعد أن فشى الرفض الجاهل للقيم وأصول الأشياء بلا تساؤل عن المعانى التى تحملها الضوابط قبل الرفض... أما الأدوات، وهى التى تمثل شغلنا الشاغل، فتتبلور فى ذلك الطريق الذى يسلكه الذهن فى سبيله لإنتاج المعرفة، هذا الطريق يُسمّى المنهج، الذى هو فن ترتيب الأفكار.
إذاً، مثلما أن مواد العمل لبناء منزل تتمثل فى الطوب والرمل...، وفى الروافع والخلاطات... كأدوات لا يتم البناء من دونها، كذلك الأفكار بحاجة، كى تُنتَج هى الأخرى، إلى أدوات ومواد؛ فالأدوات هى المنهج، أما المواد فهى كم معرفى. المواد هى الكم. والأدوات هى الكيف. لا توجد فكرة، ولا يمكن أن يوجد فكر ما، بمعزل عن الأفكار السابقة، ولا يمكن أن توجد فكرة لا تعتمد على فكرة موازية أو سابقة عليها. ولا تعدو الفكرة الجديدة عن كونها نقداً أو تطويراً لها أو توضيحاً. فالأفكار التى يحصلها الذهن هى موضوع المواد، أما ترتيبها على نحو يؤدى إلى فكرة صحيحة، لا تدعى ملْكيتها لناصية الحقيقة الاجتماعية، فذاك هو المنهج، أو الطريق الذى يسلكه الذهن فى سبيله إلى إنتاج المعرفة.
المشكلة لا تكمن فى الأفكار، إنما تكمن فى الطريقة التى تُنتَج بها هذه الأفكار، وكيف نرتبها ترتيباً صائباً يُنتِج معرفة علمية. كيف نكشف عن القوانين الموضوعية الكُلية التى تحكم تطور عالمنا، وقانون حركته على الصعيد الاجتماعى. ابتداء من هنا لم يكن ممكناً لنا الاعتقاد فى أسطورة تراكم المعرفة. لاعتقادنا، بالعكس، فى أن المعرفة العلمية ليست، كما يقال، تراكمية، إنما نراها خطية. إذ التراكم. تراكم الأفكار، فى حقل علم ما، إنما يحتوى على جميع الأطروحات فى ذلك العلم: الصحيحة، والخاطئة، والمشوهة، والرائعة، والسخيفة، والناقصة، والكاملة،... والمعرفة العلمية لا تقبل إلا الأطروحات الصحيحة. أى لا تقبل سوى الأفكار العلمية. وهذه الأفكار العلمية بتلك المثابة تأتى فى شكل خطى وليس تراكمى كما هو شائع. إذ عبر تاريخ علم ما أو نظرية معينة يمكننا أن نرى التراكم وهو الذى يحتوى على جميع الأفكار البدائية والناضجة، الأولية والنهائية، العقيمة والمثمرة...، ولكن العلم يشق طريقه، خطياً، وسط كل هذا الركام والزخم من الأفكار والأراء والرؤى والتصورات والمذاهب، كى يقدم نظرياته بشكل خطى وليس تراكمى. فالمعرفة إن صح بشأنها التراكم، فالعلم خطى فى تطوره.
(3)
إن التاريخ يشرح لنا لمَ سادت الحضارة الإسلامية فى يوم ما وأنارت العالم الوسيط فى مرحلة هى من أشد المراحل إظلاماً وجهالة. ففى نفس اللحظة التاريخية التى سُحق فيها الضمير البشرى الأوروبى بين رحى صنمية الفكر الكنسى وعسف الملكية الاقطاعية، برق الفكر الإسلامى فى سماء الظلام وأنارت مصنفات فحوله حقبة هامة فى الفكر البشرى وتاريخ الإنسانية، ويمكن تلخيص الحالة الفكرية فى أوروبا آنذاك من خلال عبارات شديدة التعبير كتبها تولستوى:"خذوا كُل المراجع العلمية للقرون الوسطى ولسوف ترون أى قوة إيمانية ومعرفة راسخة لا يرقى إليها الشك لما هو حق وما هو باطل فى هؤلاء البشر! كان من اليسير عليهم أن يعرفوا أن اللغة الإغريقية هى الشرط الوحيد اللازم للتعليم، لأنها لغة أرسطو الذى لم يشك أحد فى صدق أحكامه على مدى بضعة قرون بعد وفاته. وكيف كان للرهبان إلا يطالبوا بدراسة الكتاب المقدس القائم على أسس لا تتزعزع. كان من اليسير على لوثر أن يطالب مطالبة بتية بدراسة اللغة العبرية، عندما كان يَعلم عِلم اليقين أن الله ذاته قد كشف الحقيقة للبشر بهذه اللغة. من السهل أن نفهم أن المدرسة كان يجب أن تكون دوجمائية، عندما كان وعى البشر النقدى لم يستفق بعد، وأنه كان من الطبيعى أن يحفظ التلاميذ عن ظهر قلب الحقائق التى كشف عنها الله وأرسطو، والروائع الشعرية لفرجيل وشيشرون. فلبضعة قرون بعدهم لم يكن بوسع أحد أن يتصور حقيقة أكثر صدقاً أو رائعة أكثر روعة مما أتوا به، كان من اليسير على مدرسة القرون الوسطى أن تعرف ما الذى ينبغى تعليمه عندما كان المنهج واحد لا بديل له، وعندما كان كله يتركز فى الإنجيل وفى كتب أغسطين وأرسطو"
إن النور الذى انبعث من بخارى إلى الأندلس فى حقبة تاريخية معيّنة، على الأقل فى القرن الرابع الهجرى، لم يكن انعكاساً لسيل جارف من الأفكار التقدمية، بقدر ما كان انعكاساً للطريقة التى تُنتَج بها تلك الأفكار؛ فلقد استخدم العلماء المسلمون فى عصرهم الذهبى. عصر الرقى الفكرى، على الرغم من الانحطاط السياسى، التجريد كطريقة فى التفكير لكى يهتدوا من خلالها إلى القوانين الموضوعية التى تحكم الظواهر العلمية، والاجتماعية. فعلى سبيل المثال نرى ابن المقفع (724- 759) يُوجه رسالته إلى الطريقة التى يتعيّن اتباعها حتى يمكن الفهم وتكوين الوعى؛ فقد كتب فى الأدب الكبير:"ياطالب العلم إعرف الأصول والفصول؛ فإن كثيراً من الناس يطلبون الفصول مع إضاعة الأصول فلا يكون دركهم دركاً، ومن أحرز الأصول اكتفى بها عن الفصول، وإن أصاب الفصل بعد إحراز الأصل فهو أفضل" يقصد ابن المقفع هنا بيان أهمية التجريد من أجل فهم ظاهرة ما أو عِلم معين، فنراه يوصى طالب العِلم بأن يحرص على أن يراعى الالمام بالقواعد الكلية والمسائل الأصولية، والحرص على عدم الوقوع فى التفاصيل المشوشة على الوعى والمعطلة للفهم. وذهب التوحيدى(922- 1023) فى الامتاع والمؤانسة إلى حدود وضع قاعدة فى المنهج التجريدى، فقد حدد المسائل الأربع الكبرى الواجب الاحاطة بها لمن أراد العلم؛ ورأى أن فى تلك الاحاطة الكفاية، فكتب:"إن أقرب الطرق وأسهل الأسباب هو معرفة الطبيعة والنفس والعقل والإله، فإنه متى عرف هذه الجملة بالتفصيل، واطلع على هذا التفصيل بالجملة، فقد فاز الفوز الأكبر، ونال الملك الأعظم، وكفى مؤونة عظيمة فى قراءة الكتب الكبار ذوات الورق الكثير، مع العناء المتصل فى الدرس والتحصيل والنصب فى المسألة والجواب، والتنقير عن الحق والصواب"ونجد ابن خلدون(1332- 1382) فى مقدمته يتحدث عن الأسس الجوهرية التى ينهض عليها هذا العِلم أو ذاك، ويجد أن صعوبة التعلم إنما تكمن فى التفاصيل العديدة والفرعيات الكثيرة التى تشوش على تكوين الوعى وتعطل التحصيل، وبالطبع لا تُهمَل التفاصيل والفرعيات والثانويات، وإنما لا تُعامل إلا بوصفها هكذا كتفصيلات وفرعيات وثانويات، غير مؤئرة فى الظاهرة محل البحث؛ فالفرعيات والأمور الثانوية تأتى فى المرتبة الثانية بعد الاستيعاب العميق للأصول الجوهرية والمبادىء الرئيسية للعلم المراد تعلمه:"ولو اقتصر المعلمون على المسائل المذهبية فقط، لكان الأمر دون ذلك بكثير، وكان التعليم سهلاً، ومأخذه قريباً"
ولعل أزمة التعليم فى الأجزاء المتخلفة من الاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر إنما تكمن فى الاصرار على حشو عقول التلاميذ بكم هائل من المعلومات (لا الأفكار حتى) ويكون المطلوب من هؤلاء الضحايا لا الفهم وإنما الحفظ، دون وعى، ثم المرور بمأساة الإمتحانات التى تقيس مدى تشرب الضحية بما هو كمى وليس ما هو كيفى. فما يتعلمه الضحايا فى مدارس الأجزاء المتخلفة بعيد تماما لما يمكن أن يجعل منهم جيل قادر على إنتاج الفكر كما فعل أسلافهم حينما سادوا الأمم بفضل وصولهم إلى سر إنتاج المعرفة الإنسانية.
(4)
يمكننا الأن العودة إلى أسئلتنا المتعلقة بمدى محدودية كل من الألوان والألحان والأفكار. إذ ما استخدمنا التجريد، أى إذ استخدمنا الطريقة التى أنتجت بها كل العلوم والمعارف عبر تاريخ البشر، الطريقة التى اعتمدت عليها الحضارة الإسلامية، وكل الحضارات العظيمة، فى إنتاج تاريخها الخالد. يمكننا أن نقول أن الألوان محدودة، والألحان محدودة، والأفكار محدودة.
الفارق الوحيد بين محدودية الألوان والألحان وبين محدودية الأفكار، يتبدى فى حدود كل طائفة. فالألوان والألحان تمثل، بلغة الهندسة، على قطعة مستقيمة. الألوان محصورة بين لونين الأبيض والأسود، ومهما كان عدد عمليات الخلط بين الألوان، فلا يمكن أن يأتى أحدنا بلون يخرج عن حدود القطعة المستقيمة التى تبدأ باللون الأبيض وتنتهى باللون الأسود أو بالعكس. وبطريقة أخرى مهما كان عدد عمليات خلط الألوان لا يمكن الخروج عن ألوان الطيف السبع، إذ ان كل عمليات الخلط لا تخرج عن الألوان الأصولية التى تمثل القواعد العامة. وكذا الألحان لا يمكننا أن نأتى بلحن خارج القطعة المستقيمة التى تبدأ، وفقاً للسلم الموسيقى، بـ "الدو" وتنتهى بـ "السى". فمهما كان عدد الألحان، الشجية والمنفرة، فلا يمكن الإتيان بلحن خارج حدود السلم الموسيقى. وأظن أن أجهزة الحاسب الألى اليوم لقادرة على حساب العدد.
الأمر الذى يجب التأكيد عليه، قبل أن نستكمل الفكرة، هو أن عدم إدراكنا لمحدودية الألوان أو الألحان، أو عدم قدرتنا على الإحاطة بها لا ينفى عنها هذه الطبيعة المحدودة. فليست الألوان والألحان فقط محدودة، إنما قدرتنا البشرية أيضاً محدودة. هذا عن الألوان والألحان.
وماذا عن الأفكار؟ هل محدودة هى الأخرى؟ نعم. محدودة. ولكن حدودها، بلغة الهندسة أيضاً، حدود شكل مربع. حدوده العلاقات الأربع الذى يعيشها الإنسان؛ فكلٌ منا يعيش الحياة، بجسده وروحه وعقله، عبر أربع علاقات: علاقة مع الآخر، وعلاقة مع الذات، وعلاقة مع الطبيعة، وعلاقة مع إله، حتى مَن كان ينفى وجوده، ولا يمكن للذهن أن يُنتج فكرة خارج هذا المربع. فأى فكرة يُنتجها العقل البشرى لا يمكن أن تكون خارج هذا المربع. الأفكار إذاً محدودة.
بالتجريد إذاً، وبالتجريد فقط، تمكنا من تقديم إجابة على السؤال عن طبيعة الألوان والألحان والأفكار، هل هى محدودة أم غير محدودة؟والواقع إن أى إجابة لن تستند إلى التجريد كطريقة فى التفكير لن يمكنها الوصول إلى أى شىء. بل سوف تغرق فى التفاصيل والثانويات، ولن يمكنها الخروج بأى نتيجة سوى المزيد من الغرق فى المزيد من التفاصيل والفرعيات.
(5)
وبهذه المناسبة، فلعل من أكثر الدعاوى سطحية واستفزازاً فى نفس الوقت، تلك التى تأتى على غرار الأمراض الموسمية التقليدية فتظهر حالة "إحياء الفكر العربى" أو"التواصل مع التراث الإسلامى" بين كُل حين وآخر، وتجد لها من المريدين والمروجين من جُل الإتجاهات فيما عدا مَن لا يرون فى الإنتاج الفكرى الإسلامى إلا ماكان منظوراً إليه من منظار السلف الصالح، كما يرونهم هم. وهم فقط!
أقول تظهر تلك الحالة، وعند نقطة انتهاء منحنى فورانها لا يُقدم أصحابها فى جُل مؤتمراتهم ومعظم كتاباتهم سوى أحبار حالكة على خلفيات أحلك. كما أن الحالة ذاتها لا تتمكن إلا من تقديم أمرين لا ثالث لهما، أولاً: زخم كمى، فوضوى ربما، بشأن عبقرية مفكر مسلم ما كابن رشد، الإنتقائى غالباً: ابن رشد البرهان وليس ابن رشد بداية المجتهد ونهاية المقتصد، مثلاً، وكيف تمكن ببراعة من الانتصار للعقل فى عصور التخلف، وستنبت من هنا أطروحات فرعية ترى الخلاص عند ابن رشد البرهان. أو كيف أن المقريزى هو أول من عبر وباقتدار شديد، وتلك حقيقة، عن هيكل الأزمة الاقتصادية وحلل أسبابها وعلاقاتها الجدلية الداخلية. أو كيف أن ابن خلدون قد سبق آدم سميث فى تقديمه لنظرية فى التجارة الخارجية. وعلى الرغم من أن هذا السبق هو مجرد وهم فى خيال من يقول به، إلا أنه لا بأس من دسه فى الإحتفالية وترديده ببغائياً. ثانياً: هى عن أولاً متولدة من جهة التنائى أكثر وأكثر عن عبقرية الفكر الإسلامى، فى عصره الذهبى. الفكر الذى عَلم العَالم.
إن المسلمين، فى عصرهم الذهبى، قد علموا العالم العِلم والمعرفة، أو أن علوم المسلمين ومعارفهم قد انتشلت أوروبا من مستنقع الجهالة والرجعية والتخلف، أو أن علوم المسلمين لولاها ما قامت لأوروبا قائمة إلا بعد أحقاب تاريخية أكثر طولاً... كُل تلك العبارات جوفاء المضمون خاوية المحتوى ليس لها مكان داخل إطار ماهو عِلمى،مع إحتفاظها،وبكل قوة، بموقعها فى التاريخ الإنتقائى العصابى،إنه التاريخ الذى ينشغل بالإستنتاجات الجاهزة كى يُلقى بها فوراً فى كراسات التعميم، وكى تتشرب به الأذهان الملقَنة فى هذه الصناعة أو تلك.
"إن المسلمين، فى عصرهم الذهبى، قد علموا العالم كيف يُفكر". تلك هى الإجابة التى نفترض صحتها على السؤال المطروح، والمعنى بماهية ما خلفه العلماء المسلمون للعالم.
ولقد تشكل لدى ابتداءً مِن هذا، وإنطلاقاً من موقف رافض لصنمية الفكر والرأى، الإيمان الراسخ بشرعية الجهاد بلا هواده للإنتصار لعلو منزلة المنهج فى الطرح؛ ولأجل ذلك أضحت قضيتى التى إنشغلت بها دوماً هى الدفاع عن أهمية الإنتباه إلى الطريقة التى يستعملها الذهن لقيامه بتقديم إجابة، أكثر مِن الإهتمام بالإجابة نفسها. ولن يكون ذلك متاحاً إلا بالتجريد.
التجريد إذاً كطريقة فى التفكير مؤداها العلو بالظاهرة عن كل ما هو ثانوى يستطيع أن يرشدنا إلى الحقائق الكلية التى تحكم تطور عالمنا وقوانين حركته الاجتماعية. والتجريد هو المنهج الذى نراه بوضوح فى كل الأعمال الفكرية العظيمة التى صاغت وعى البشر عبر التاريخ بل وشكلت التاريخ نفسه. والتجريد، على هذا النحو، هو المنهج الذى سوف نلتزم به فى أبحاثنا الراهنة.
لقد عبر ماركس(1818-1883) بدقة بعد مئات الأعوام عن منهجه فى رأس المال حين قال:"... لا يمكن لتحليل الأشكال الاقتصادية إستخدام المجهر أو الكواشف الكيمياوية، بل يجب على قوة التجريد أن تحل محل هذا وتلك" .
(6)
كى نُنتج العِلم، بالكشف عن القوانين الموضوعية التى تحكم الظاهرة محل انشغال هذا العلم، يتعين أن نستخدم منهج. وبقدر وضوح المنهج يكون وضوح الرؤية. وعلى أساس من وضوح الرؤية يمكن إنتاج العلم. هذا الإنتاج يكون بالكشف عن القوانين الموضوعية التى تحكم الظاهرة المراد تفسيرها. فما هو العِلم؟
العلم، ابتداءً مِن رفض التعريفات (التى لا تقدم سوى فكرة مقيدة وعازلة) والاعتماد على التحديدات (التى تعطى رحابة فى الفكر وثراء فى المعرفة) هو طريقة تفكير لتفسير ظاهرة مُعينة تُميز نفسها بمنهج وموضوع خاص، ومِن ثم الكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة لها. ولا يُمكن الحديث عن وجود عِلم دون وجود الظاهرة؛ فالظاهرة هى السبب الرئيسى وربما الوحيد الذى يُؤدى إلى ظهور الطريقة التى مِن خلالها يسعى العقل مِن أجل تفسيرها، والكشف عن قوانينها الموضوعية؛ فيُمكن القول أن عِلم الفلك، على سبيل المثال، مِن أسبق العلوم ظهوراً؛ إذ نشأ كى يكشف عن القوانين الموضوعية للعديد مِن الظواهر المتكررة التى أرقت الذِهن البشرى منذ بداياته الأولى، مِن رعد وكسوف وخسوف وأمطار وأعاصير إلى آخر تلك المظاهر الطبيعية المتكررة التى استلزمت تبلور طريقة تفكير معينة تنهض بتفسير الظاهرة بالكشف عن القوانين الموضوعية التى تحكم نشأتها وتطورها وعوامل فنائها. أُحدد هنا العِلم ولا أعرفه، أحدده بتحديد إنعكاسه المباشر وهو طريقة التفكير. وذلك تجاوزاً لكون العِلم، ونقصد هنا العلم الاجتماعى، هو: مجموعة القوانين التى تحدد الشروط الموضوعية التى تحكم نشؤ وتطور ظاهرة اجتماعية معينة. فطالما كان تحديد العِلم مِن خلال ما يَكشف عنه أكثر إيجابية فمِن الأوفق الركون إلى تحديده فى حالته الديناميكية، ومِن ثم القول بأن العِلم هو طريقة التفكير، تعبيراً عن العِلم والتفكير العِلمى معاً، لعدم امكانية فصل الموضوع عن المنهج إلا كحيلة منهجية لاعتبارات التبسيط ودَرس كل منهما على استقلال. لكن، منعاً للارتباك سنَعمد إلى تفصيل التحديد بشكله التقليدى، على النحو التالى، تاركين، مؤقتاً، ما نفضّله مِن تحديدات.
(أ) العِلم (طبعاً نقصد هنا العِلم الاجتماعى) هو مجموعة القوانين الموضوعية الحاكمة لظاهرة ما.
(ب) التفكير العِلمى هو الطريق التى يتّبعه الذهن مِن أجل الكشف عن تلك القوانين الموضوعية.
(ج) لا يوجد، ولن يوجد عِلم، من دون ظاهرة واضحة وجوهرية ومتكررة؛ فالذى يُنشىء العِلم هو الظاهرة المتكررة وليس العكس، فالذى يُنشىء عِلم خاص بالنقود هو هيمنة التبادل النقدى، كظاهرة، فى التعامل اليومى بين البشر، والذى يُنشىء علم خاص بالقانون هو حاجة المجتمعات إلى التنظيم. الواقع يصيغ الفكر وليس العكس، على الأقل فى مرحلة أولى، كما أن الخسوف والكسوف والرعد والبرق، كظواهر طبيعية متكررة تحتاج إلى تفسير، هى التى أنشأت عِلم الفلك وعلوماً أخرى، وليس عِلم الفلك أو عِلم الجغرافيا مثلاً، هما اللذين قاما بإنشاء الرعد أو البرق، أو السهول والأودية وممرات السيول.
(7)
وهكذا، فحينما يتحول الإنتاج مِن الإنتاج بغرض الاشباع المباشر، ويُصبح من أجل السوق. بقصد التداول. بقصد البيع. بقصد الربح، كظاهرة منتظمة ومتكررة الحدوث كقاعدة عامة، وحينما تتحول قوة العمل إلى سلعة تباع وتشترى فى السوق كظاهرة منتظمة ومتكررة الحدوث. وحينما يتم إنتاج السلع المادية من خلال ألية معينة مؤداها أن الرأسمالى يأتى بالعمال إلى مصنعه ويحضر لهم مواد العمل وأدوات العمل، ويطلب منهم الإنتاج فى مقابل الأجر. وحينما تخرج السلعة المنتجة يوجهها الرأسمالى إلى السوق كى تباع ويحصل على نقوده التى بدأ بها العملية الإنتاجية، مضافاً إليها مبلغ يسمى الربح. حينما تكون هذه الألية ظاهرة منتظمة ومتكررة الحدوث كقاعدة عامة يكون من المتعين ظهور العلم الذى يتكفل بالكشف عن القوانين الموضوعية التى تحكم كل تلك الظواهر. الظواهر الطارئة على المجتمع. الظواهر التى لم يألفها قبل سيادة نمط الإنتاج الرأسمالى. وفى مقدمة هذه الظواهر ظاهرة القيمة، والقيمة الزائدة. فالرأسمالى يبدأ العملية الإنتاجية برأسمال قدره 10 وحدات من النقد، وقبل أن يبيع سلعته (المفترض أن قيمتها تساوى الـ 10 وحدات) يجد بين يديه سلعة، قبل البيع، تساوى 12 وحدة! فكيف ذلك؟ وكيف يتجدد الإنتاج؟ وما هو نصيب كل طبقة فى المجتمع حين توزيع الفائض؟ وعلى أى أساس يتحدد هذا النصيب؟ كان يجب فى سبيل تقديم إجابة على هذه الأسئلة وغيرها أن يظهر علم يقوم بالكشف عن القوانين الموضوعية التى تحكم هذه الظواهر الجديدة على المجتمع، أو بعبارة أدق الظواهر التى فرضت هيمنتها، بعد صراع جدلى مع ظواهر أخرى، على المجتمع.
فقبل ظهور الرأسمالية على الصعيد العالمى، منذ خمسمائة سنة تقريباً، لم تعرف المجتمعات أياً من الظواهر التى عرفتها مع ظهور نمط الإنتاج الرأسمالى. فلم تكن الأرض محلاً للتداول، ولم تكن قوة العمل سلعة تباع وتشترى، ولم يكن الرأسمال أكثر من تعبير عن ثروة مكتنزة. ولكن، مع الرأسمالية صارت الأرض خاضعة لمنظومة القانون المدنى، إذ أصبحت مما يمكن التنازل عنه وبيعه وشرائه والتصرف فيها بجميع أنواع التصرفات الناقلة للملكية. ومع الرأسمالية تحول العالم والطبيب والكاهن والشاعر إلى شغيلة فى عداد المأجورين. ومع الرأسمالية لم يعد الرأسمال مبلغاً من النقود، إنما صار علاقة اجتماعية تنتمى إلى حقل الإنتاج. كان من الحتمى إذاً ظهور علم يفسر كل هذه الظواهر"الجديدة" بالنسبة للمجتمع. ولذلك ظهر الاقتصاد السياسى كعلم اجتماعى ينهض بالكشف عن القوانين الموضوعية التى تحكم ظواهر نمط الإنتاج الرأسمالى. والتى تدور جميعها فى فلك قانون القيمة..



#محمد_عادل_زكى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعد أن تحول العالم والكاهن إلى شغيلة فى عداد المأجورين
- اقتصاد سياسى بلا ماركس. هكذا يعدمون عقولنا
- المختصر فى تاريخ بلاد فارس - الجزء الثانى
- المختصر فى تاريخ بلاد فارس
- لينين: الرأسمال المالي والطغمة المالية
- نمط إنتاج آسيوى؟
- رأسمالية الذهب والدم
- فى التجريد
- فى المنهج
- تحالف الأضداد. فنزويلا نموذجاً
- الاقتصاد الإيرانى
- الفكر الاقتصادى من التجاريين حتى النيوكلاسيك
- المختصر فى تاريخ السودان
- الاقتصاد السودانى
- إيران: تقاطع الجغرافية والتاريخ والاقتصاد
- المختصر فى تاريخ الشيعة الفرس القديم والمعاصر
- التجريد كمنهج فى التفكير
- 500 سنة من الانحطاط
- ماركس المسكوت عنه
- الشروح على قانون القيمة


المزيد.....




- سقط من الطابق الخامس في روسيا ومصدر يقول -وفاة طبيعية-.. الع ...
- مصر.. النيابة العامة تقرر رفع أسماء 716 شخصا من قوائم الإرها ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى يستخدمها -حزب الله- لنقل الأ ...
- كيف يؤثر اسمك على شخصيتك؟
- بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل حاخام في الإمارات
- حائزون على نوبل للآداب يطالبون بالإفراج الفوري عن الكاتب بوع ...
- البرهان يزور سنار ومنظمات دولية تحذر من خطورة الأزمة الإنسان ...
- أكسيوس: ترامب يوشك أن يصبح المفاوض الرئيسي لحرب غزة
- مقتل طفلة وإصابة 6 مدنيين بقصف قوات النظام لريف إدلب
- أصوات من غزة.. الشتاء ينذر بفصل أشد قسوة في المأساة الإنساني ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكى - المنهج والتجريد والعلم والاقتصاد السياسى