رائد عبيس مطلب
الحوار المتمدن-العدد: 4351 - 2014 / 1 / 31 - 20:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"عندما يتسلَّم المرء مسؤولية عامة ,
فعليه أن يعتبر نفسه مُلكاً للجميع "
جونسون
إن المسؤولية الحقيقة هي ليست المسؤولية القانونية مع أهميتها, فأن أصل المسؤولية مبدأ أخلاقي , ولا يسن قانون أو يراد له أن يطبق دون إحساس ضميري بمبدأ المسؤولية كحافز ذاتي لدى الفرد , فالتربية على قيم المسؤولية وعلى فهم المسؤولية وعلى القيام بالمسؤولية , هو شأنٌ ذاتي صرف , فضلاً عن شأن المجتمع والدولة في تربية أجيالها و مواطنيها على القيام بذلك . فالمسؤولية الواعية هي المسؤولية الذاتية والقانونية , بمعنى ما يفرضه عليك الدين والأخلاق كقيم معيارية ميتافيزيقية أو عرفية .
تُفهمك المسؤولية و كيفية القيام بها و التصدر لها , على أَنها مهمة شرعية و إنسانية و قانونية , لأن الدين و الأخلاق يحثان دائما على تبني المسؤولية بوصفها احترام وبوصفها مصلحة . فمسؤولية الفرد تجاه عمل ما في الدولة أو الحكومة وإن كان ينافي أو لا يتفق مع الرؤى الميتافيزيقة أو لا ينسجم مع أخلاق العرف فعليه أن يخضع لما هو مناط به من عمل مسؤول وضعي , لأنه مصلحة يجب أن تراعى , فالمسؤولية هي حافز ذاتي أولاً وحافز قانوني ثانياً . ولكن بما أن الفرد الليبرالي يتمتع بحرية الإختيار , فالمسؤولية لديه هي انفتاح نحو الرغبات بما يتفق مع مسؤولية المواطنة . ومسؤولية الفرد عن نفسه تحتم عليه الحفاظ على حياته وحياة الآخرين مراعاة لمصلحته ومصلحة الآخرين .
فالمسؤولية التشاركية التكاملية في الحفاظ على المصلحة العامة هي من واجب الفرد والمجتمع بشكل تبادلي , وعلى الدولة أن تحدد طبيعة المسؤولية وفق خيار التوجه .فمفهوم المسؤولية يختلف في الدولة الليبرالية عنها في الدولة الديكتاتورية . فالفرد المسؤول هو ( راديكالي - متعايش - يشعر بالمواطنة - يحترم - موضوعي ) , فالمسؤولية و إلقائها على عاتق الآخرين الغير مكترثين للمسؤولية هي أيضاً مسؤولية كبيرة , فالمتصدر للمسؤولية ليس بالضرورة أن يكون هو الأكثر تأهيلاً من غيره الذي لا يرغب بتوليها في حقل الإنتهازية , فالإختيار والحرية والمعرفة و الكرزمة , هي مؤهلات للمسؤولية الفردية والجمعية , فإحساس القدرة على تبني مسؤولية شيء ما , يأخذ بعداً معياريا بالدرجة الأساس , مما يؤهل الفرد ويعطيه دافعاً ذاتياً متحمساً للقيام بهذا الفعل . بغض النظر عن نجاحه أو عدم نجاحه فهذا بحثٌ آخر , تحدده عوامل التنمية البشرية.
فنحن نتحدث عن إرداة المسؤولية , الإرادة التي تكمن بين النية والسلوك بين الرغبة في تحمل المسؤولية و الاستعدادات لتلك المسؤولية , فمسؤولية الفرد في تحديد مستقبله هي مسؤولية ذاتية , ولكن إن كان يفكر بطريقة جمعية في أن يجعل من نفسه إنساناً صالحاً ومتعلماً يقصد خدمة ذاته ومجتمعه بشكل متوازن , فتأخذ المسؤولية في هذه الحالة طابعاً آخراً وبعداً اكبر.
وهذا يحتاج إلى همة كبيرة ووعي ناضج يتفق فيه الطموح مع المسؤولية , فمسؤولية المصلح هي مسؤولية جمعية بالدرجة الأساس , لأنه ينتقل من إصلاح نفسه ومن يحيط به إلى إصلاح مجتمعه , فالتفكير الجمعي كدافع للمسؤولية يتحدد وفق سعة الأفق في التفكير والفهم و الإحساس بالآخرين . فعندما نجد أن الدين لا يحفز بنا كل طاقة المسؤولية , فمن المؤكد هنا يكون خيار القانون هو البديل , فالفرد الذي لا يفهم المسؤولية كما ينبغي في هذه الحياة , ولابد أن يكون هناك أناساً ملزمين بتعليمه وإرشاده , وإن لم يكن هذا طريقاً ناجحاً , فيكون الإجراء القانوني - الذي وضع أصلاً من اجل الحفاظ على سلامة الآخرين ومن أجل المسؤولية - كواجب على الدولة وضعه كي توضع الناس موضع مسؤول , فالأشخاص الخارجين عن القانون هم أشخاص غير مسؤولين في مفهوم الدولة المدنية الليبرالية .
فالمسؤولية بوصفها معنى أخلاقي أو مبدأ ميتافيزيقي أو وصف إجرائي هي كلها وسائل تربوية وظيفية لتنظيم حياة الشعوب والمجتمعات والأفراد , فهناك أناس يحملون الوعي بالمسؤولية إلى حد الإنضباط التام أخلاقياً وقانونياً وعرفياً , وهذا ما يتفق عقلانياً مع مهمة الإنسان في هذه الحياة , فالمسؤولية الإيجابية هي المسؤولية القائمة على الوعي بمفهوم الخير العام الذي يتحقق من خلال الفرد المسؤول والمسؤولية السلبية هي كل عمل نقيض ذلك , يتبنى فيها الشخص المتطرف الغير عقلاني مهمته في هذه الحياة , بممارسة كل ما هو غير إنساني ضد الإنسانية والطبيعة , وهؤلاء ينطلقون أيضا من الفهم الخاطئ لطبيعة المسؤولية بوصفها واجب إنساني عقلاني .
فمسؤولية البحث عن طبيعة المسؤولية بوصفها وعي وواجب وفعل أخلاقي ؛هي مسؤولية هذا البحث الذي تناولنا فيه مفهوم المسؤولية بكونها تأخذ بعد انطولوجي وقيمي وفلسفي فهانس جوناس عمل على تناول المفهوم وفق مسؤولية ذاتية وكونية نتيجة ما آلت إليه الرؤى المعيارية والتطبيقية وبمساعدة التكنولوجيا من أوضاع سلبية وايجابية انعكست سلباً على حياة الإنسان المعاصر بأبعادها الإنطلوجية والسياسية والأخلاقية وهي ما تشير إليه محاور هذا البحث التي هي :
1- الأساس الانطولوجي لأخلاقيات المسؤولية .
قدم هانس جوناس مؤلف المسؤولية كمبدأ وهو من أهم مؤلفاته ,كرد فعل ومحاولة فلسفية لمحنة الإنسان المعاصر , منذ أن كانت الحرب الباردة في أوجها , بدأ العمل به في عام 1976 , وهو يدرك خطر التدمير الكامل والحقيقي الذي يمر به العالم بسبب الإنفتاح الدبلوماسي و الإقتصادي واعتماد الأساليب المنظمة , ولكن حسب جوناس ثمة خطر آخر أكثر تهديدا من كارثة بيئية هو تهديد من نوع آخر يتمثل بنوايا الأشخاص - الجهات الفاعلة الفردية المتقدمة - رئيس الدولة قادرة على إطلاق الصواريخ النووية و يستطيع أن يفعل ذلك ولا يمكن منعه بحكم أخلاقي فقط .
جوناس هنا يذهب باحثاً عن مؤسسة تكميلية جديدة للأخلاق، لأن مع الأخلاق التقليدية ، يمكن أن يدمر العالم . فمع خطر التدمير ومسؤولية حماية الكوكب لا يمكن السير وفق الأخلاق المستمدة من التقاليد و يجب علينا هنا التحقق من صحة افتراض ذلك - أي التحقق من سلامة الأخلاق مع ضرورة البحث عن بديل...
إن التفكير الأخلاقي بالموضوع يمكن أن يساهم في عدم إلغاء الإنسان وقطع طرق مساعدته . فالإنسان في خطر ! لو بحث الأمر بشكل تبريري غير مسؤول في إيجاد كارثة إنسانية تحت غطاء سياسي يبت به الحاكم الفرد .
إن جوهر الإنسان مفتوح للخير والشر, وبالتالي فإن مسؤولية الكواكب يجب أن ترتكز إلى شيء لا يمكن تجاوزه , وهو الوقوف وقفة رجل لتحمل مسؤوليته , نعم , يجب أن نعترف،وسبب الاعتراف هو أنه لا يزال هناك جانب شخصي في اللعبة. الشيء الوحيد الذي يقف فوق الشعب، دون أن يتطلب الاعتراف به، أو التغاضي عنه , ويتم الاعتراف دائما على وجه (افتراضية) وجود سلطة أعلى وراء الحاكم يجب إن لا تتأثر بعد تنحيه .
2- المسؤولية السياسية
مستقبل الإنسان ليس محتوى يمكن التنبؤ به و إذا كان علينا أن نبدأ من إنسانيتنا المشتركة للخروج رسميا، يمكننا متابعة تطور الناس كعملية غائية . كل شخص ينمو وفقا للانطولوجيا , يفترض أن يَحسب وجوده بشكل مناسب. له طبيعة تعرب عن طريق غرض الاستخدام المجاني , قد تضع في سلم وطبيعة الحرية واجهة جديدة. فتاريخية المسؤولية الأبوية لا تعبر فقط عن مسؤولية الآباء في تعليم أبنائهم وفي رعايتهم , والدولة أيضا لا يمكن أن تعطي للمسؤولية تاريخاً نهائياً , فموضوع مسؤولية الدولة يجب أن لا يُفهم خارج المستقبل.
وأشار جوناس إلى هذا في مقابلة عام 1992: " من كان يدعي لنفسه أن يعرف أن شيئا ما هو نفسه منذ البداية وإلى الأبد، فإن البداية لا تأخذ على محمل الجد. ولكن لنأخذ على محمل الجد السؤال هو ما الحرية ؟.
في هذه الحالة و للإجابة عن هذا التساؤل عن ماهية الحرية سوف نجد فيلسوف الأخلاق يقدم المشورة , لأنه أول من يدافع عن الحرية وعدم التغاضي عن الحقيقة المتمثلة بالحرية والتي يجب أن توجد على أي حال , فالحرية الفردية غير محدودة ولكن ما يدمرها في الواقع هو تعارضها مع حريات الآخرين.
فإن الغاية النهائية من التاريخ , حسب هانس جوناس , هي المسؤولية الأولى و هي ضمان أيضا في أن يظهر بالمستقبل رجل دولة الحرية , وهذا ممكن فقط إذا لم يكن هناك تبادل لأمن نظام التكنوقراطية التي يمكن أن تجد حريتها الخاصة فقط قبل أن تصبح الوريث فيها .
يصف جوناس الديناميات بين التكنولوجيا والسياسة بوصفها نوع من السباق بين العوامل المعروفة وغير المعروفة من قبل , أصبحت لدينا أكثر العوامل تتزايد بسرعة قوة الحوسبة من أجهزة الكمبيوتر ونحن لا نعرف ما التكنولوجيات وهي تعطينا حل لمشاكلنا، وما إلى ذلك , فهذا مجرد استنتاج وحيد يجعل جوناس يرى أن دولة (الحكومة) تخلق الظروف لخليفتها، لذلك فإنها يمكن أن تحكم في نفس الحرية. و ليس هذا أمراً فارغاً ولكنه يؤدي إلى قرارات معينة مثل التعليم، وقوانين وسائل الإعلام، و حظر الأحزاب غير الدستوري . وهذا الدليل على أن المسؤولية الكاملة المطلقة هي واجب رجل الدولة , وهي حق ملموس ونحن بحاجة إلى أن نسأل عن موضوع الإنسان الذي يحقق وجوده والشعور بالمسؤولية وحده لا يكفي. فالمسؤولية هي المفهوم الذي نحن نستمده مباشرة من الانطولوجيا..
و توجيه هانس جوناس كان إلى رجل الدولة من أجل التعامل مع المجتمع على وفق المسؤولية كونها معيار أخلاقي وقانوني ,وهي طموح قد يتحقق مع رجل دولة الرفاه الذي تحدث عنها يورغن هابرماس أو دولة العدالة الذي تحدث عنها جون رولز , فالمسؤولية الكاملة والمفترضة لرجل الدولة تحتم عليه إن يُحقق الرفاهية والعدالة بكونهما أعلى درجات المسؤولية الأخلاقية والإنسانية فضلا عن القانونية المناط بها رجل الدولة , فالحاكم المسؤول هو الحاكم العادل والمنصف والمحقق بأعلى قدر من المسؤولية رفاهية شعبه ومواطنيه , فهو مسؤول عن كل شيء وهذا ما تُحتمه عليه مفترضات المسؤولية الكاملة لهذا المنصب المسؤول .
3- المسؤولية أفق للمستقبل .
كل مسؤولية لا معنى لها من دون منظور المستقبل. سواء قررت إمكانية الفشل أم النجاح. وهذه حقيقة ولابد من مسؤولية جديدة وربما تصبح ضرورية في حالة وجود أخطاء فنية في مشاكل الحكم , فالمسؤولية تتطلب دائما فعالية التبعية إلى الشخص المسؤول. وهو يملك مستقبلاً كائنا ما في يده، وأنه هو المسؤول عن وجودها . و تكمن المسؤولية الكاملة في أفق المستقبل الحديث ليست في إنجاز إداءٍ معين، ولكن في وجود مسؤوليات فعلية مثل : الطبيب لديه المسؤولية تجاه مرضاه ، والمدرس لديه مسؤولية تجاه طلابه ، و الكاهن لديه مسؤولية تجاه المؤمنين.
مثل هذه المسؤوليات لا تؤثر في وجود هذا الموضوع- النظر في المستقبل - ولكن علينا إن ندرك , يجب أن يكون للطفل مستقبل ما، وليس في هذا تثبيط للعمل، ولكن هو أساس وجزءُ من المسؤولية، و خوفُ على المسؤولية ذاتها , حقيقة إن الكائن تجاه المسؤولية هو دائما حدث، وليس مجرد كائن، فنظرية المسؤولية هي البنية الفوقية للفلسفة اذ يتم إصلاحها وإعادة النظر بها في حالة الاعتماد الكلي عليها ، فعلى سبيل المثال : لديك طفل رضيع، ويمكنك أن تمنع عنه الرضاعة الطبيعية في أي لحظة، إذا كنت تريد ذلك وتكفل لكَ الطبيعة هذا الحق : ولكن لدينا ولديك غريزة الأبوة. والمسؤولية الكاملة عنه تعني الاستمرارية. ممارسة المسؤولية تجاهه يجب أن لا تنقطع ، إذ ليس هناك عطلة عن الأبوة والأمومة. والآباء مسؤولون قانونيا فهذه نقطة نهائية وثابتة من الوالدين ,لا يعني أن مسؤولية الوالدين في نفس الفئة من مسؤولية الطبيب والمعلم , بل تتساقط المسؤولية المهنية للطبيب أو المعلم , بكونها تعالج جانباً واحداً فقط (صحة الطفل أو إداء مدرسته) ولكن مسؤولية الأب تجاهه لا يمكن أن تنتهي.
4- الوعي بالمسؤولية .
يعطي جوناس لمفهوم المسؤولية وظيفة أخلاقية دقيقة جدا . ينطلق من قناعة أن العلم والتكنولوجيا الحديثة قد أثارا قطيعة في العلاقة بين الإنسان والطبيعة والإنسانية قادرة من الآن فصاعدا بفضل التكنولوجيا على التعديل الجذري أو حتى على تحطيم محيطها الطبيعي . ينتج عن هذه القدرة واجب أخلاقي جديد يتمثل في العناية بالطبيعة .صاغ هانس جوناس أخلاق المسؤولية بوصفها ضرورة و ضرورة حتمية . لذلك يدعو جوناس إلى النظر في تأثير العمل فيما يتعلق بإمكانية الحياة ... ويرى من الممكن أن يكون بالطبع التحقق من العمل الخاص بك . وليس تعميم الإرادة أو الفعل , فالنتائج المترتبة على إجراء أو أمر أساسي , هي شموليات للحياة البشرية ,فهذه هي أخلاقيات أكثر ضرورية لأنها ابتدائية .
نفهم مما تقدم أن هانس جوناس أراد من خلال فلسفة مفهوم المسؤولية البحث عن جوانب أخلاقية وقانونية وإنسانية , هذا المصطلح في واقع الحال يدخل في جوهر الوجود الإنساني , بل وفي مهمته ودوره وطبيعته وجوده , بل وضرورة العيش , بكون الإنسان حيوان اجتماعي ميال إلى الإجتماع , ولكن رغبة إجتماع دون مسؤولية لا يمكن إن يجتمعا مع بعض , فالواجبات والحقوق تنبع من صلب إحساس الإنسان بالمسؤولية تجاه وجوده وقبل أن يكون مسؤولاً كان مسؤولاً عنه , فدورية المسؤولية تحتم على الإنسان ( الوعي بالوجود الأخلاقي " إنطلوجيا الأخلاق " كما هي عند هانس جوناس , والوعي بطبيعة المسؤولية وحجم المسؤولية ونوع المسؤولية ) إذ تحدث جوناس عن دور الأسرة ودور الدولة في خلق وعي مسؤول لدى المواطن الذي يعيش في كنف هذه الدولة , فالمسؤولية يجب أن تفهم - بين مسؤولية الدولة في الحفاظ على أمنه وضمانه - وبين مسؤولية الفرد بكونه مواطن عليه أن يعي مسؤولية وجوده كعضو في المجتمع الإنساني , وهذا ما أشار إليه جوناس في حتمية المسؤولية , بكونها حتمية إنطلوجية تولد مع الإنسان السوي القادر فعلاَ على تحمل مسؤوليته , فضلا عن نوعها وحجمها , وهذا أيضا وضحه جوناس في كلامه حول مسؤولية الكوكب الذي نعيش فيه , وحمايته من دمار الحروب والأوبئة والمخلفات الصناعية .
#رائد_عبيس_مطلب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟