سعادة عودة أبو عراق
الحوار المتمدن-العدد: 4346 - 2014 / 1 / 26 - 12:14
المحور:
الادب والفن
العــــار
مُنذُ عشرينَ سنةً, وهوَ يحملُ كابوساً يتلبسهُ في كلِّ وقتٍ ، بلْ يدلِفُ إليهِ في الأحلامِ هلوساتٍ مُرعبةً, تنهضُ بهِ مذعوراً من نومٍ يغطُ بهِ، فيجلسُ إلى ما شاءِ الله ليلاً, لا يدري كيفَ يقتلُ هذا السوادَ الذي يجثمُ على فكرهِ وحياتِهِ
سمير،... ذاك الفتي الذي كان يتميّزُ بالنشاطِ المُفرطِ ، كما هو وعلٌ في موسمِ السَفادِ ، حيويتهُ مفرحةٌ ومبشرةٌ، وينظرونَ إلى رُجولتهِ المُبكرةِ وعزيمتِهِ المتواصلة، فيُصلّون على النبيّ درءً للحسدِ، يبحثُ دوماً عن موضوعٍ يفرغُ فيه طاقتَه المتدفقةَ، أو يقتربُ بها منْ رغبتهِ في أنْ يكونِ سَلطويّاً مُميزاً ، يزعجه وصفُهُم لهُ بالمُراهقِ ، إنها لفظةٌ قبيحةٌ ، تدلُ على عدمِ اكتمالِ النموِّ وعدم المسئوليّةِ ، يرفضُ هذهِ الكلمَةِ بالشدِّ على قبضتِهِ ، فهوَ يعرفُ أنّهم يقولونها تبريراً لتجاوزاتِهِ السيّئةِ ، لكنّه يفضلُ أن يقولونَ عنه (حِمْش)
هو الأصغرُ في العائلةِ، ثلاثةُ أولادٍ وبنتٌ واحدةٌ ، لا يستريحُ إلا معَ أختهِ سميرة التي تكبرُهُ بسنَةٍ ونصف، رُبما أنّ والدَهُ وأخويهِ الأكبرَ منه سناً يعنّفونَه كثيراً ويشتبكُ معهم بالشَتائمِ حدَّ العِِراكِ، لولا تدخّل الأبِ والأمِ وأختهِ سميرة ، التي تسحبُهُ جانباً لتقومَ بتهدئتِهِ, فيهدأ معها ويَغدو مَلاكاً مُستحباً جميلاً.
حينما يصلُ به التذكّرُ إلى هذا الدفءِ الأخويِّ والحنانِ الأنثويّ ، يبتدئُ مقياسُ الضغطَ عندَهُ في الارتفاعِ ، ينهضُ من مَكانِهِ يبدأ بالدورانِ ، ويرفسُ كلَّ ما تطولَهُ قدماهُ ، وإن عزّ ذلك فيلاكِمُ الحيطانَ والأبوابَ ويدقُها برأسِهِ ويسقطُ بعدها مُنهكاً مُنهاراً ككومةٍ من الأعضاءِ.
يبذلُ جهده كيْ لا تصلُ به ذكرياتُهُ إلى ذلكَ المشهدِ ، كيفَ ذهبَ في فورةِ الحماسِ إلى سميرة ، يُشبعها طعناً في صدرِها ورَقبتِها وظهرِها ووجهِها ، وهي لا تعرفُ كيفَ تدفعُ بيديها عن نفسِها هجومَهُ الغريبَ والمُفاجئَ ، سوى أنْ تجحظَ بعينيّها الواسعتَينِ ، مستغربَة متسائلةً: لماذا...!؟ ، حينَ لمْ تسعفُها الطعناتُ أنْ تُخرجَ كلمةً واحدةً ، هَمدَتْ جاحظةً العينينِ تسألهُ سؤالاً ما زالَ مستمراً منذُ عشرينَ سنةً ، فالعيونُ الجاحظةُ لها لغةٌ لا انطِفاءَ لها في الذاكرةِ .
أما مقدارُ احتقارهِ لنفسهِ فهوَ أكثرُ منْ أن يصفهُ ، حينما غادرَها مُنتشِياً بفعلٍ رُجوليِ, سوفَ يفتخرُ بهِ ، لقدْ غسلَ العارَ الذي تَلطخَتْ به العائلةُ ، وها هي صفحةُ العائلةِ الآنَ بيضاءَ ناصعةَ البياضِ ، تجعلُهم رافِعي الرُؤوسِ إلى الأبدِ، انهُ لمْ يدركْ حينها معنَى العارَ الذي غَسلهُ ، هربَ حينما هُرعَ الإسعافُ والشرطةُ والدفاعُ المدنيُّ ، كانَ هُروباً يقتضيهِ عُنفوانُ يرفضُ الاستسلامَ ، فلا بدَّ من مقاومةٍ وإن كان يَعرفُ المصيرَ.
امسكوهُ ولمْ يعترفْ ,لأنهُ لا يجدُ سبباً وجيهاً لقتلِها ، لمْ يكنْ إلا نِقاشاً حاداً وصاخباً بين أخويهِ وأبيهِ عن هذهِِ الفاجرةِ التي لطَّختْ سُمعةَ العائلةِ ، ولنْ يُغسلَ العارُ إلا الدّمَ ، كانَ الكلامُ حماسيّاً واجبَ التنفيذِ الفَوريِّ ، كانوا ثلاثتُهم ينظرونَ إليهِ كأنّهم يستحثونَ همّتَهُ وهو يُحاولُ أنْ يفهمَ ما يُمكنُ أنْ يفهمَهُ ، أما كيفَ وجدَ نفسَهُ ذاهِباً إلى المَطبخِ ويسّتلُ سكيناً على مَرأى مِن ثلاثتِهم وصمتِهم وبالتالي موافقتهم، فإنّهُ لا يدري ، كانتْ في الغُرفةِ الداخليةِ منكمشةً مرعوبةً ، حينما دَفشَ البابَ وانتصبَ أمامها كالماردِ ، وارتفعَ صُراخُها واستغاثاتُها الصادرةُ منْ ألمِ الطَعناتِ، فلم تكن لثلاثتِهم في الخارِجِ سِوى الإعلانِ عَن غَسلِ العارِ، الذي نفّذهُ مراهقٌ سوفَ لنْ يجريَ عليهِ القانونُ الجنائيُ.
في السجنٍ لم يأتلف مع الفِتيانِ الجانحينَ، فهم لَواطيّونَ سارقونَ ومُدمنونَ، وجدَ واحداً مَوقوفاً على جريمة شرفٍ مثله ، كانَ كلٌ منهُم يريدُ أن يُفضفِضُ عمّا يعتملُ في نفسِهِ، تكلموا فعَرَفَ أنّه لنْ يطولَ سجنُهُ، ولنْ يُحكمَ عليهِ بالإعدامِ أو المؤبدِ، سيُفرجُ عنهُ، فالقانونُ لنْ يطولًهُ، والقاضي سيكونُ رحيماً بوالدهِ، الذي سَيفقدُ ابنتَهُ وابنَهُ معاً ، فرِحَ أنْ وجدَ أباهُ وإخوتَه والقانونَ والقاضيَ رؤوفينَ به ، لا يُعاملونهُ بالقسّوةِ التي عاملَ بها أختَهُ ، لكنّه بُهتَ حينما سُؤلَ عَن المُعتدي على أختِهِ ، تساؤلٌ لمْ يخطرْ ببالِهِ سِوى أنّها اقترَفتْ ذنباً ، وما دَرى أنّ لها شريكاً ، يتحمَلُ الإثمَ والعقابَ، فلماذا تُعاقبُ أختُهُ ولا يُعاقبُ الجانيَ ؟
خرجَ كما بشّرَه الجميعُ, لكنّه خرجَ مُثخَناً بالألَمِ ، بالعنفوانِ الذي انكسَرَ بداخلِةِ ، مُثقلاً بالذنبِ الذي اقترَفهُ ، والحنانُ الذي افتقدَهُ في الأسرَةِ ، خرجَ شخصاً آخرَ ذليلاً معقداً ، تحاشى الناسَ ولمْ يعلمْ أنّهم يتحاشونَه أيضاً، وجدَ نظراتِ أختهِ المتسائلةِ عبرَ جُحوظٍ لمْ يرَ مِثلهُ ، مرسومةٌ أمامَهُ على الطريقِ وعلى الجُدرانِ وأجسامِ الحافلاتِ وعلى صفحَةِ السّماءِ الزرقاءِ وعلى شاشَةِ التِلفازِ ، كأنَها إعلاناتٌ لمنتجاتٍ تِجاريةٍ ، مَن الذي وضَعها أمامَهُ بهذا المِقدارِ وهذهِ الكثافةِ.
هرَبَ إلى بلادٍ بعيدةٍ ، لكن هذهِ الإعلاناتِ اللعينَة كانت قدْ سبقتهُ ، راحَ يطلبُ عملاً في مجالاتٍ مُنهكةٍ لعلَّ عينيّ سميرة تغادرانهُ قليلاً, لكنّهُ وجدَها في قُفَّةِ الترابِ، و الطوبِ الإسمنتيِّ الذي يحملُهُ، في الطريقِ المنهكِ الذي يسلكهُ عائداً لغرفتِهِ الصغيرةِ ، وعلى المَخدةِ التي ينامُ عليّها وفي الأحلامِ التي تأتيهِ غافلاً في سديمِ النومِ.
سافرَ إلى بلادٍ أجنبيةٍ ، لعلّهُ يبعُدُ عن بيئةٍ تذكِرهُ بها ،نساءٌ اسمهنَّ سميرة ووجوهٌ تشبهُ وجهَها ، وصوتٌ يسمعُهُ في الإذاعةِ وفي السوقِ, يُشبهُ صوتًها ، وجرائمُ شرفٍ يسمعُ عَنها ، تنكَأُ جُرحاً لمْ يندملْ كلّ هذهِ السنينَ ، ومُسلسلاتٍ تلفزيونيةٍ تَعرضُ المُشكلةَ بينَ اثنينٍ أغواهُما الشيّطانُ ، وتعيدُ له تساؤلهُ عمّن جَنى عَليها ، لماذا لمْ يُعاقبْ ذاكَ الآبقُ؟ لماذا هذا الاستِسهالُ في القتلِ؟
في البلادِ الأجنبيةِ انفتحَ على هؤلاءِ الذينَ لا يُحمّلونَ الأمورَ فوقَ ما تحتملُ ، هؤلاءِ الذينَ يَرونَ العالمَ بعينٍ أخرى ، يَرونَ الحُبَّ ذاكَ الهُلامَ الصِمغيِّ الذي يتماسك ُبه المُجتمعِ، والحب ُّاختيارٌ شخصيّ لكنه فوقَ إرادةِ الشخّص ، ولكن ماذا فعلته سميرة حتى تقتل؟ هل اقترفت حَملاً لم يدرِ احدٌ أينَ يُواريهِ؟ أمْ تاهتْ في عشقٍ محرمٍ فاستباحَتْ نفسَها لغيرِها؟ وهلْ أخطأتْ إذْ افتتَـنَتْ بشابٍ تمنّتْ أنْ يكونِ لها زوجاً وعَشيقاً؟ لقد قتلها ولمْ يتساءلْ بمثلَ هذهِ الأسئلةِ ، هلْ كانَ من الواجبِ أن يجيءَ إلى هُنا لِكيْ تُوافيهِ هذهِ الأفكار؟
عشرون سنةً أمضاها في الغُربةِ ، فشِلَ في مُحاولتينِ للزواجِ ، فشلَ أنْ يُقيمَ علاقاتٍ إنسانيةٍ ، دائما يسائل نَفسَهُ: لماذا لمْ يقمْ أحدُ أخويهِ الكبيرين بِقتلِها؟ لِماذا لمْ يَقتلها أبوهُ؟ لماذا أوكلوا لهُ قتلًها؟ ظنّوا أنّني اقتلُ فأراً أو صرصاراً، لماذا حمّلوني ذنباً جثَمَ عَلى ضميري كلَّ هذا الوقتِ؟ ولمْ املكْ التخلصَ مِنهُ طوالَ هذه العشرينَ سنةً ، لماذا لمْ يُعاقبُني القاضي؟ وألقى بي في السجنِ أمداً ، لعَلّي اخرجُ منهُ نقياً، مغسولاً بِعقابي، دافعاً من عمري وحريّتي ما يُخففُ عنّي وطأةَ الجَريمةِ.
ها هُوَ يعودُ بعدَ عشرينَ سنةٍ وهو يحمِلُ أسئلةً تثقلُ ضميرُهُ ، لعلَّ والدَهُ يُجيبُ عليها ، فلماذا لمْ يَقلْ لهُ عمّن اعتدَى على أخته؟ فهل فقدتْ البَكارَةَ أمْ حَملتْ سِفاحاً؟ لماذا لم يعترفوا لهُ عَن الفاعِلِ؟ هلْ يكون أحدُهم الذي فعلَ ذلكَ؟ كرِهَ دخولَ البيتِ، وجدَ أبوهُ مُلقى على السريرِ يُعاني مِن سرطانٍ أصيبَ بهِ، وجدَ أخيهِ الأكبرَ قدْ احترَقَ داخلَ صهريجِ البترولِ الذي كانَ يسوقُهُ ، وسمعَ مَن يُرددُ أنّ ذلكَ جزاءً على ما اقترَفوهُ مِن قتلٍ شبهَ مُباحٍ، وذنبٍ لم يكنْ مُؤكداً ، سألَ أبوهُ عمّن اعتدَى على سَميرةِ فلمْ يجبْ، كانَ السرطانُ يشلُّ حنجرتَهُ ولسانَهُ، سألَهُ عن ذنبِها فلمْ يُجبْ، سألهُ لماذا لمْ يوكِلُ القتلَ لأخوَيهِ الأكبرِ منهُ فلمْ يجبْ، سألهُ لماذا استغلَّ طُفولتَهُ وترَكهُ نَهباً لعذابٍ لا يَنتهي؟ سألَهُ لِماذا بَذلَ جهداً كيْ يُخرجَهُ من السجنِ؟ سألَهُ إنْ كانَ الناسُ قَدْ نسَوا عاراً تمَّ غسلَهُ؟
والآنِ... ماذا يفعلُ بأبٍ يملكُ كلَّ هذا الكمِّ مِن السوءِ، إنّه القاتِلُ الذي فرَّ من العَدالِة, وتركه يتلظى بمشاعر الذنبِ وحده ، هكذا قرّرَ أنْ يقتلَهُ خَنقاً، لعلّهُ يُنفِّذَ عَدالةً لمْ تَتَحَققْ، لَعلّهُ ينتقمَ لسميرة, ولعلّهُ يدخلَ السجنَ كقاتِلٍ لأبيهِ، لعلَهُ يَلقى عِقاباً يبردُ مُهجةً ملتهبةً مُنذُ زمَن.
الزرقاء 12/1 / 2014
#سعادة_عودة_أبو_عراق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟