|
كيجينيسكي، الرياضيات والفلسفة وتفجير الجامعات
محمد فرج
الحوار المتمدن-العدد: 4345 - 2014 / 1 / 25 - 09:48
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
كيجينيسكي، الرياضيات والفلسفة وتفجير الجامعات (1-2)
كيجينيسكي الذي بات معروفاً بلقب "UNABomber". بدأ بالرياضيات والاهتمامات الفلسفية البسيطة وانتهى بصفقة، أن يوقف عمليات التفجير مقابل أن ينشر بيانه "عن الممحتمع الصناعي ومستقبله" في النيويورك تايمز أو الواشنطن بوست.
ولد كيجينيسكي عام 1942م، تلقى دراسته في هارفرد، ومن ثم أكمل الدكتوراة في الرياضيات من جامعة ميتشيغن، وبعمر ال 25 كان مساعد بروفسور في جامعة كاليفورنيا. استقال من هذا المنصب بعد سنتين، ورحل للعيش في أماكن نائية في إشارة إلى القدرة على العيش بعيداً عن المجتمع الصناعي الحديث.
قام بإرسال أكثر من 16 قنبلة، حاول من خلالها لفت انتباه العالم لمساوئ المجتمع الصناعي. وإحدى محاولاته لنشر هذه الأفكار كانت من خلال إرسال رسالة إلى النيويورك تايمز عنوانها العريض: “الأمن مقابل النشر”، أنه سيتم إيقاف العمليات من هذا الطابع مقابل نشر بيانه عن المجتمع الصناعي.
ألقي القبض على كيجينيسكي عام 1996م، ووجدت العديد من الأوراق عن صناعة المتفجرات كما وجدت العديد من أبحاثه في مواضيع مختلفة.
البيان، المجتمع الصناعي ومستقبله
في بيانه المشهور تعرض كيجينيسكي إلى العديد من المواضيع: التحليل النفسي لليسار الحديث، معالجة الطاقة أو تصريفها ( وهنا أتحدث عن الطاقة البشرية، عن الفعالية البشرية، Power process)، الفعالية البشرية البديلة، السيطرة الذاتية أو التحرر الكامل (Autonomy)، مصادر الإشكاليات الاجتماعية، تدمير الفعالية البشرية في المجتمع الحديث، كيف يتمكن البعض من التوازن في المجتمع الصناعي، عن طبيعة الحرية، تقييد الحرية مسألة لا مفر منها في المجتمع الصناعي الحديث، التكنولوجيا كأكبر قوة اجتماعية مؤثرة، الثورة أسهل من الإصلاح أو إعادة التشكيل، التحكم بنشاط الإنسان، المعاناة البشرية، المستقبل، خطر اليسار.
في مجلة راديكال سنناقش آراء كيجينيسكي المطروحة في هذا البيان على حلقتين، في هذه المقالة سنناقش العناوين التالية: ( مقدمة عن المجتمع الصناعي، التحليل النفسي لليسار الحديث، معالجة الطاقة أو تصريفها، الفعالية البشرية البديلة، التحكم بالذات (Autonomy)، مصادر الإشكاليات الاجتماعية، تدمير الفعالية البشرية في المجتمع الحديث)، وسنترك العناوين المتبقية للعدد القادم، العدد 43.
مقدمة عن المجتمع الصناعي
يعتبر كيجينيسكي أن الثورة الصناعية والتكنولوجية في العالم، قد أدت إلى معاناة نفسية وجسدية للإنسان في العالم المتقدم والعالم الثالث على حد سواء (مع تركيزه على أن العالم الصناعي أضر بالعالم الثالث أكثر من غيره)، كما أن العالم الصناعي أضر بالطبيعة إلى حدود خطيرة. ويرى أن استمرار التطور التكنولوجي سيفاقم هذه الإشكاليات ويضع البشرية في ظروف أسوأ ، وأن العواقب الأسوأ للمجتمع الصناعي والتكنولوجي هي تلك العواقب طويلة الأمد، أي بعد مرور حقبة زمنية طويلة على ركام من المعاناة البشرية في ظل المجتمع الصناعي. ويرى أن إنهيار هذا النظام يجلب العواقب السيئة حاله في ذلك حال استمراره، ولكن عواقب الانهيار ستكون أعظم وأصعب كلما طال عمر هذا النظام، لذلك أطلق كيجينيسكي في بيانه دعوة إلى الثورة على هذا النظام “المجتمع الصناعي” و بأسرع وقت، ولم يعطي لهذه الثورة طابعاً واحداً، حيث اعتبر أن لا أحد يدري إن كانت هذه الثورة عنفية أم لا، تراكمية أم مفاجئة!
انطلق كيجينيسكي في بيانه، وبعد المقدمة مباشرة إلى نقد اليسار الحديث “حيث استثنى من حديثه يسار القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين”. النقد اللاذع الذي وجهه كيجنيسكي لليسار لم يوحي بأنه هجوم اليميني على اليسار ، لكنه وجد في نقد اليسار البوابة الأسلم لنقد هذا المجتمع، وكأن سوء حال اليسار إنما يدلل على سوء أوضاع هذا العالم.
على أية حال كان نقده في كثير من المواضع يشير وبوضوح إلى عدم إلمام كافي بأدبيات اليسار إجمالاً على الرغم من نقد بعض المشاهد لليسار الحديث بشكل قد نتفق معه صورياً.
نقد اليسار الحديث
يعتبر كيجينيسكي أن الإشكاليتيتن الأساسيتين اللتين يعاني منهما اليسار الحديث (عقدة النقص، المبالغة في المحافظة على البنية القائمة للمجتمعات)، ( feeling of inferiority and over socialization).
ما قصده كيجينيسكي بعقدة النقص هو: عدم تقدير الذات، والميول الاكتئابية، وكره الذات، والعدوانية والتهجم، والشعور الدائم بالذنب،و الازدراء الدائم للآخر. ومن الشعور اليساري بعقدة النقص الذي يتحدث عنه كيجينيسكي، اليساريين الناشطين في مجال حقوق الإنسان، وبالتحديد حقوق الأقليات، فيصنف حساسيتهم المفرطة اتجاه ألفاظ مثل “شرقي، نيغر، …إلخ” من باب الشعور بالنقص. وكذلك الحال بالنسبة لليسلريين الناشطين في مجال الرفق بالحيوان، وكذلك الحال بالنسبة لليساريين الناشطين في قضايا تحرر المرأة “النسوية”. اليساريون يميلون إلى الأقليات، ويعتبرون أنهم (الأقليات) يعانون من عقد نقص، ويرفضون تسميتهم بأسمائهم لمعاناتهم هم (اليساريين) أنفسهم بالنقص (المعاقين، السود، الشرقيين، …إلخ).
وفي الجانب الآخر يكره اليساريون أي طرف يتمتع بالقوة، فالكره للغرب ينبع من عقدة النقص وليس من وصف الغرب “بالاستعماري، يشن الحروب، امبريالي، …إلخ” فهم يبررون أية صفات سيئة في المجتمعات الضعيفة من باب عقدة النقص نفسها.
إن كلمات من قبيل “الثقة بالنفس، الاعتماد على النفس، المبادرة، …إلخ” هي كلمات غير دارجة في أوساط اليسار، فاليساريون يريدون المجتمع أن يخدمهم ويحميهم ويحل مشكلاتهم، اليساريون يرفضون مبدأ المنافسة لأنهم يشعرون في داخلهم دائماً أنهم خاسرون فيها.
اليساريون في الفن يميلون إلى اليأس والحزن، وتستهويهم طقوس العربدة كذلك، الفلاسفة اليساريون اليوم يميلون إلى نسب كل الظواهر إلى أسباب ثقافية وليس إلى أسباب علمية. الشعور بالنقص يتداعى عند اليساريين إلى الحد الذي يرفضون معه التصنيف، هم يرفضون تصنيفات “ناجح، فاشل”، “صحيح، خاطئ” لأنهم يخشونها. وبذلك هم لا يقرون بالأمراض العقلية ولا يقرون كذلك بنتائج ال IQ test.
عقدة النقص هي السبب التي تجعل اليساري لا يشعر بنفسه ولا يعرفها إلا من بوابة المجموع، لذلك هو يطالب بالشمولية التي تحمي فرده الضعيف.
يعتبر كيجينيسكي أن اليسار الحديث مازوشي، فالناشطون الذين يلقون بأنفسهم أمام العربات، وينتظرون ضرب الأمن، “كره الذات” دافع باتجاه هذه الأفعال.يعتقد كيجينيسكي أن اليساريين سيعملون على إثارة المشاكل في عالم اشتراكي لو تأسس.
أما البند النقدي الثاني لدى كيجينيسكي فهو “Over socialization”، وما قصده كيجينيسكي يمكن التعريف به من خلال تعريف “Socialization”، والتي تعني تعليم الأطفال التفكير والتصرف بناء على احتياجات المجتمع. يقال أن الشخص اجتماعي في حال نفذ بدقة الشيفرة الأخلاقية لمجتمعه، بعاداته وتقاليده وأعرافه. واليساريون يحاولون دائماً إيجاد تبريرات أخلاقية لما يفعلون مع أن الأسباب الحقيقية لتلك الأفعال ليست ذاتها المبررات المستخدمة، واليساريون يخشون الإقدام على أفعال تختلف مع الثقافة السائدة للمجتمع، باختصار هم لا يجرؤون على التفكير في “الأفكار غير النظيفة”.
وفي الوقت ذاته اليساريون يطالبون اليوم بما لا يتناقض مع ثقافة المجتمع القائمة، ولكنهم يقولون أنه غير مطبق. على سبيل المثال يطالب اليسار في أمريكا أن يعطى الحق للسود في استلام مناصب عالية في الدولة، أو إتاحة الفرصة لهم في الاستثمار. إذن هم يريدون الرجل الأسود أن يصبح جزءاَ من هذا النظام؟ إذن كل ما يطلبه اليسار أن يصبح الرجل الأسود نسخة عن الرجل الأبيض.
الفعالية البشرية والفعالية البديلة
يعتبر كيجينيسكي أن البشر “ولسبب بيولوجي على الأغلب”، بحاجة إلى فعالية (Power processing). إعتمد كيجنيسكي أربعة عوامل أساسية لهذه العملية “وجود هدف، الجهد، تحقيق الهدف، التحكم الذاتي أو السيطرة على الذات أو التحرر “Autonomy”.
برأيه أن أي شخص يتمكن من تحقيق أهدافه بالتمني فقط يصل في نهاية المطاف إلى الإكتئاب، وبذلك يرى أن الارستقراطية تاريخياً تخرج من هذا الإكتئاب بأن تصبح منحطة، وهنا يتحدث بالتحديد عن الأرستقراطية التي لا تقاتل من أجل الدفاع عن مصالحها، الأرستقراطية المستقرة الهادئة والآمنة.
في نظر كيجينيسكي، عدم القدرة على تحقيق الأهداف المتعلقة بالطعام والشراب والمسكن تقود إلى الموت، وعدم القدرة على تحقيق الأهداف المتعلقة بالفعالية تقود إلى الإحباط، والفشل الدائم في تحقيق الأهداف يقود إلى الإكتئاب. الفعالية البديلة بنظره هي الفعالية التي نمارسها في سبيل تحقيق هدف مفتعل أو مختلق أو مصطنع أو وهمي (Artificial Goal). ويرى أن هذا الحال هو الأكثر رواجاً، حيث يعتقد أن المجتمع الصناعي أمّن للذين قبلوا الطاعة العمياء والعبودية الحاجات الأساسية (مع تأكيده على وجود نسب فقر ولكنها لم تأخذ حيزاً واسعاً من طرحه) وما تبقى هو الفعالية (Power process). والعبودية التي يؤمن من خلالها المجتمع الصناعي الحاجات الأساسية للراضين عنها، هي السببب الأساسي في غياب السيطرة الذاتية “Autonomy”، والسيطرة الذاتية ضائعة في المجتمع الصناعي ويتم الاستعاضة عنها من خلال الانتساب للمؤسسة الكبيرة. غياب السيطرة الذاتية يدفع باتجاه فشل في عملية الفعالية البشرية (failed power process)، ومن هنا يتعمم الاكتئاب والإحباط عند أفراد المجتمع الصناعي.
مصادر الإشكاليات الاجتماعية
يعتبر كيجينيسكي أن المجتمعات البدائية عانت بشكل أقل من الإشكاليات النفسية التي عانت منها المجتمعات البدائية ، كما يختصر الإشكاليات الاجتماعية في المجتمع الصناعي في مجموعة أسباب تتفاوت في المركزية والتأثير: الازدحام، تفتيت البنى الاجتماعية (العائلة، القبيلة، …)، الاغتراب عن الطبيعة، والأكثر تأثيراً بنظره، العجز عن إتمام الفعالية البشرية (disruption of power process).
الازدحام مصدر دائم للقلق والتوتر، والتكنولوجيا هي التي جلبت المدن والازدحام، ومخترعات الإزعاج التكنولوجية تملأ المدن، ولم يعد اليوم من سبيل لتجاهلها، فالذين يرفضوها سيحرمون الراغبين فيها من استخدامها، ومستخدموها يحرمون المنزعجين منها من الهدوء، ولكن لو أنها لم تخترع أصلاً لما كان هناك ثمة فريق غاضب.
يرى كيجينيسكي أن المحافظين أغبياء، فلا يمكن أن تكون محافظاً وتشجع معدلات النمو العالية في الإقتصاد، فهذه المعدلات هي ذاتها التي هدمت التقاليد التي تدافع كمحافظ عنها.
فيما يتعلق بالسبب الأهم، في نظره، إشكالية الفعالية البشرية. فقد صنف كيجينيسكي الناس إلى ثلاث فئات رئيسية: المجموعة الأولى تضم من يمكن إرضاء الفعالية البشرية الخاصة به من خلال القليل من الجهد، المجموعة الثانية تضم من يمكن إرضاء الفعالية البشرية الخاصة به من خلال جهد جاد، والمجموعة الثالثة تلك التي لا ترضي الفعالية البشرية الخاصة بها مهما كان الجهد المبذول.
برأي كيجينسكي أن الناس يُدفعون للمجموعتين الأولى والثالثة في المجتمع الصناعي. أما المجموعة الثانية فتكتفي بالأهداف المصطنعة (Artificial goals )، وهنا تظهر وسائل الدعاية والتسويق لتغطي الأهداف المصطنعة في المجتمع الصناعي. إذن عدم قدرة الناس على أداء الفعالية البشرية باكتمال، دون الأهداف المصطنعة، وإنما من خلال الأهداف الحقيقية (والحقيقي هنا يعني ذلك الذي لا يمكن الاستغناء عنه)، وعدم قدرتهم على تحسين شروط السيطرة الذاتية أو التحرر (Autonomy) هي الأسباب الأساسية التي تنشأ عنها الإشكاليات الاجتماعية النفسية والجسدية للناس في المجتمع الصناعي.
حوار مع كيجينيسكي
صحيح أن اليسار الحديث يعاني من العديد من الإشكاليات، وأهمها إشكاليات تنظيمية ونظرية تمثلت في قصوره عن مواجهة إزاحة الامبريالية للحلول الشاملة والأيديولوجية لحساب المنظومة التقنية. ولكن مصدر هذه الإشكاليات ليس نفسياً فطرياً، ليس بمنحى أن اليساري يولد يحمل صفات جينية محددة!
إن انزياح اليسار للدفاع عن حقوق الأقليات (العرقية ، النسوية، المثليين الجنسيين، …إلخ)، إنما يعبر عن ضياع بوصلة التيارات اليسارية إبان انهيار المنظومة الاشتراكية، وبالمناسبة أكثر هذه التيارات التي انزاحت إلى هذا النمط من العمل كانت الأحزاب الشيوعية الكلاسيكية، بينما ظهرت تيارات راديكالية جديدة من رحم الأولى أحياناً تنادي بإعادة وحدة القياس في الصراع لحساب المفاهيم الطبقية. لم يكن هذا الإنزياح بموجب عقدة النقص تحرك اليساري دون غيره!
من الطبيعي جداً أن تتحرك ثورات في التاريخ من رحم النواقص، النواقص في الاحتياجات الجسدية والنفسية! لقد وصَّف كيجينسكي العديد من المظاهر التي يعاني منها اليسار، ولكنه اعتمد في تفسيرها تحليلاً نفسياً محدوداً وقاصراً. فليست المازوشية الفطرية التي تدفع الشباب اليساري لإلقاء نفسه أمام المركبات، فلقد تعرض الناشطون السياسيون على مدار العقدين الماضيين لقضايا محددة في النضال، و أساليب محددة له، لقد وقعوا فريسة هذه الأساليب وهذه القضايا ووهم نتيجة “المازوشية” في استفزاز الإنسان داخل “الحاكم”!
توصيف الكره للغرب من بوابة عقدة النقص، سقطة فلسفية أخرى لكيجنيسكي. لا يمكن الفصل الميكانيكي بين عوامل النهوض الذاتية والموضوعية، فالذاتي يحاصره الموضوعي ويرفض أية مبادرة منه، والذاتي كذلك يعاني من غياب الإرادة السياسية في النهوض… هي معادلة مركبة واقعية، وتأجيج الحقد على الغرب الصناعي عند الأمم المضطهدة مسألة طبيعية لا تصنف تحت أي باب من أبواب عقدة النقص، وهذا بالمناسبة كا طرحه الدكتور كيجينيسكي في بدابة بيانه المشهور ، أن دول عالم الثالث هي عرضة لكوارث العالم الصناعي الحديث أكثر من غيرها. انطلاق كيجنيسكي في تحليل الظواهر من عقد النقص كان تجاهلاً غير موفقاً لقاعدة “الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي”.
يقع كيجنيسكي في مأزق ميكانيكي آخر، في اعتباره أن الشمولية وغياب الاعتماع على الذات والثقة بالذات من قاموس اليسار إنما هو عقدة نقص أخرى. إن تمجيد الفرد وفصله عن المجموع لن يقود إلا إلى انهيار الفرد نفسه، لذلك تجاهل الجدلية بين الفرد والمجموع، التي لم تتجاهلها أدبيات اليسار أساساً، كان سقطة في المنطق الميكانيكي مجدداً لكيجينيسكي. المنافسة التي ينتقد كيجينيسكي اليسار في “هروبه” منها هي إحدى أساسات المجتمع الصناعي الحديث الذي هرب منه كيجنيسكي إلى الجبال النائية.
أتفق تماماً مع توصيف كيجنيسكي أن اليسار الحديث “Over Socialized”. ولكن هذه ليست صفة اجتماعية فطرية أو نفسية، هذا أيضاً نتاج الوجود الاجتماعي المتمثل في انتصار الحل التقني وتغييب الأيديولوجيا والحلول الشاملة، لذلك ينزلق اليسار نحو التفاصيل، نحو المعارك الضيقة التي فرضها نظام عالمي على مدار سنوات وقبل اليسار منذ البداية بهذا الهامش من “المعارضة”.
إن التيارات اليسارية التي ترفض مبدأ ال IQ tests، هي تلك التيارات الكلاسيكية والتيارات الحديثة الراديكالية، وهذا بالمناسبة يعود إلى اطلاعها العلمي وتجاوزها التفسيرات الثقافوية الضيقة. هذه التيارات تنتقد الميكانيكا، تنتقد وحدات القياس الضيقة التي تخرج باستنتاجات عريضة، وهذا هو بالضبط مبدأ ال IQ test.
يصف كيجينيسكي الفعالية البشرية (Power process) بمنحى تفصيلي ممتاز، ولكنه يقع مجدداً في فخ التحليل الفوقي للأشياء “اعتماد أن الوعي الاجتماعي سابق وأساس الوجود الاجتماعي وليس العكس أو الجدل بينهما هو الصحيح). توصيفه في هذا الباب يشبه إلى حد كبير أعمال كارل ماركس الأولى عن الاغتراب، ومن الضروري جداً أن يقود الاغتراب إلى كل المظاهر التي تحدث عنها كيجينيسكي من الإحباط وعقد النقص وغيره.
لقد وصف كيجنيسكي العديد من ظواهر المجتمع الحديث بدقة، ولكنه لم يعطي الإجابة الشافية عن أسبابها، على الرغم أنه قدم سبباً جوهرياً في العنوان لم يلازمه في المحتوى: المجتمع الصناعي الحديث.
**********************
كيجينيسكي، الرياضيات والفلسفة وتفجير الجامعات (2-2)
إن الاحتجاجات التي تعجز عن تجاوز البنى التي تواجهها، وتهرب إلى خيارات العودة إلى الوراء لا يمكنها أبداً أن تتحول إلى ثورات.
الحرية عند كيجينيسكي
“المجتمع الصناعي التكنولوجي يعمل على تقييد حرية الإنسان، وكون مفهوم حرية الإنسان مفهوم واسع، لا بد بداية أن نتحدث عن مفهوم الحرية الذي نقصده” بهذا استهل الدكتور كيجينيسكي حديثه عن الحرية وعلاقتها بالتكنولوجيا.
الحرية هي الفرصة في استكمال الفعالية البشرية “Power process” التي تحدثنا عنها في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، استكمال الفعالية البشرية دون أهداف مصطنعة، بل من خلال الأهداف الحقيقية “والحقيقية تعني تلك التي ننتخبها بأنفسنا، نختارها بأنفسنا، بعيداً عن ضغط الموضوعي”. والفعالية التي نختارها دون إملاءات أحد، وتحديداً المؤسسات الكبيرة التي ننتمي إليها. الحرية في الوجود، في المأكل والمشرب والمسكن والأمان… الحرية بنظر كيجنيسكي هي القوة أو الطاقة “Power”، ولكن ليست القوة التي تمكننا من السيطرة على الآخرين وإنما من السيطرة على أنفسنا. ولا بد في نهاية المطاف من تجنب التداخل والاشتباك بين الحرية واللامبالاة.
يقال أننا نعيش في مجتمع حر، الذي ضمن لنا العديد من الحقوق الدستورية. ولكن هذه الحقوق ليست مهمة كما تبدو، ولا تمثل الشروط الأساسية للحرية (للحرية بمعنى الفرصة الكاملة للفعالية البشرية الحرة ضمن أهداف حقيقية وليست مصطنعة). إن المواد الدستورية لا تعني شيئاً في تحقيق الحرية، فالإقتصاد هو الذي يحدد الحرية ويحدد شكلها. فالعديد من الأمم الهندية عاشت ملكيات والطليان عاشوا في ظل ديكتاتوريات، ولكنهم تمتعوا بمنسوب أعلى من الحرية “ضمن التعريف السابق” أكثر من المجتمع الصناعي الحديث. ويعود السبب الأساسي في ذلك إلى حرمان السلطة، أية سلطة، من أدوات الاتصال الحديثة، وأدوات التجسس الحديثة، وأدوات جمع المعلومات وتخزينها الحديثة، وقوى الامن المنظمة باستخدامها.
لنأخذ حرية الصحافة على سبيل المثال، نحن هنا لا نقصد ضرب هذه الحرية، فهي تساعد في كثير من الأحيان في لجم العنف الأمني ضد الناس من خلال حشد الرأي العام ضدها. ولكن، بالنسبة للمواطن العادي هذه الحرية لا تعني الكثير، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فوسائل الإعلام الضخمة تابعة لمؤسسات ضخمة مندغمة في النظام، نظام المجتمع الصناعي الحديث. صحيح أن أي شخص يتمكن من نشر ما يريد عبر الإنترنت، لكنه مع حجم المعلومات الضخم سيخسر أمام وسائل الإعلام الكبرى.
خذ آرائي على سبيل المثال (كيجينيسكي متحدثاً)، لولا العنف ما كانت ستنشر، ولو كنت أرسلتها إلى أي ناشر، على الأرجح أنها لن تنشر، ولو نشرت، كم سيقرأها؟ (فالناس يحبون مشاهدة أفلام التسلية ولا يحبون قراءة المواضيع الجادة). ولو قرأ المادة العديد من الناس، فسينسونه بعد فترة قصيرة نظراً لضخامة المعلومات المنشورة وتنوعها. حتى تلفت الانتباه إليك، لا بد أن تقتل الناس! هذا الذي لا يُنسى.
الحقوق الدستورية مفيدة إلى حد معين، إلى حد مقيَّد. ولكنها لا تتجاوز ما يسمى النظرة البرجوازية للحرية. الحرية لآلة في ثوب كائن اجتماعي، الحرية اللازمة لتغطية احتياجات هذا المجتمع الصناعي.
لا مفر من تقييد الحرية في المجتمع التكنولوجي
في المجتمع الصناعي، لا بد من تنظيم الأفراد لتغطية حاجات المجتمع التكنولوجي، في العمل يجب على الناس تنفيذ ما يطلب منهم كي يتم الإنتاج بصورة صحيحة، هذه هي طبيعة المجتمع الصناعي الأوامر المتتالية من النظام ستفرض نمطاً نفسياً إلى تنفيذنا ما يحتاج النظام وليس ما نحتاج نحن.
عندما يحتاج المجتمع الصناعي للعلماء، الرياضيين، المهندسين… يتم دفع الناس إلى هذه الحقول “وهنا تضيع الفعالية الحرة للبشر”. الأطفال الهنود الصغار كانوا يمارسون فعاليتهم بما يتناسق مع طبيعتهم، أما اليوم يُدفع الأطفال إلى مهمات تقنية ليمارسوها على مضض.
وبسبب الضغط الدائم على سلوك الناس، يتراجع حجم الاحتجاج الاجتماعي نفسه. المجتمع التكنولوجي بطبيعته غير قابل للتفكيك لمجتمعات أصغر، هو بحاجة إلى هذه الدرجة العالية من التنظيم، ولذلك لا مفر من قمعه للحرية، ولا مفر من شكل اتخاذ القرارات من قبل المختصين الذين يمثلوا الأقلية، وعلى الأغلبية أن تنفذ، وهذا على كل حال يضرب مفهوم السيطرة الذاتية “Autonomy” الذي تم شرحه سابقاً في الحلقة الأولى من هذه السلسلة. إن الحركة ضد ال “autonomy” هي حركة النظام التكنولوجي نفسها.
يرى كيجينيسكي أن آثار التكنولوجيا لم تكن خطأ الرأسمالية ولا خطأ الاشتراكية، إنما خطأ البشرية بأكملها. وهذا النظام المجتمعي يغطي حاجات الناس الفيزيائية والنفسية لأنه لا يستطيع الاستمرار في ظل إحباطهم أو جوعهم. لا يمكن فصل إيجابيات المجتمع التكنولوجي عن سلبياته، فكما تحب التطور التكنولوجي الذي يحسن من نوعية الدواء، فقط إنتظر تجكم الحكومات من خلال الهندسة الوراثية بأبنائك، عندها الحل الوحيد سيصبح الأخلاق التي لن تجدي في مواجهة هذا المد.
التكنولوجيا قوة ضغط أكثر من الحرية
لا يمكن عقد صفقة طويلة الأمد بين الحرية والتكنولوجيا، والتكنولوجيا لها اليد الطولى في هذا النوع من التفاوض.
يوصِّف كيجينيسكي العلاقة بين الحرية والتكنولوجيا كالعلاقة بين جارين يملكان قطعتين متماثلتين متجاورتين من الأرض. أحدهما قوي والآخر ضعيف، في طلب القوي من الضعيف الأرض مقاومة شديدة من قبل الطرف الضعيف، ولكن في سياق التفاوضات، وفي سياق علائق القوة نفسها، لو طلب الطرف القوي نصف قطعة الأرض من الضعيف، سيعطيه إياها، ومن نصف المتبقي وهكذا. تراكم التنازلات في المفاوضات ضمن علائق القوة سيستحيل إلى هزيمة نهائية، وهذه هي العلاقة بين الحرية والتكنولوجيا في نظر كيجينيسكي. والتكنولوجيا لم تظهر فجأة لتحارب الحرية، وإنما ظهرت هذه الصيغة من الصراع لاحقاً، أو أنها تمظهرت لاحقاً.
قبل ظهور وسائل المواصلات الحديثة، الإنسان كان يتنقل عبر المشي، يصل إلى أي مكان يريده من خلال ذلك بالدرجة الأولى. مع ظهور الوسائل الحديثة للمواصلات، أعطت انطباعاً بأن حرية الإنسان في التنقل قد زادت وأصبح تنقله أسرع، ولكن مع ازدياد عدد هذه الوسائل وخاصة في المناطق المزدحمة، تتقيد حرية الإنسان لقوانين تنظيم السير والإزدحام. ويصبح الإنسان مقيد يتدريب السياقة، والرخصة، والتأمين، والترخيص، وتجديد الترخيص، وصيانة المركبة، والقسط الشهري للمركبة. كما أن وسائل المواصلات الحديثة فرضت نفسها كخيار وحيد، لأن التطور التكنولوجي أفرز مجموعة من القوانين التي تتجاوز المواصلات، وبذلك أصبح خيار المشي خياراً غير مطروح أصلاً. كما أن هؤلاء الذين قرروا المشي تعرضت حريتهم للانتهاك كذلك، فهم مضطرون لاتباع تعليمات السير التي تتوافق مع حركة مرور المركبات.
المقصود من المثال الذي طرحه كيجنيسكي، أن التكنولوجيا عندما تقدم إقتراحاً للإنسان ليتبناه في نمط حياته، فإن تبني هذا الإقتراح لا يبقى إختيارياً لفترة طويلة، فحالما ما يصبح هذا الإقتراح إلزاماً ضمن التأثيرات التي يفرزها “المقترح” نفسه على أنماط الحياة وطرق تسييرها. يناقش كيجنيسكي أمثلة إضافية كالكهرباء والهاتف والهندسة الجينية.
إن التكنولوجيا هي الطرف الأقوى، ولا سيما أن العودة عن التطور التكنولوجي الذي يحدث مسألة صعبة تماماً، فظهوره يؤسس لإعتماد كلي عليه لا ينتهي إلا بظهور تطور يتجاوزه، فالإنسان عند ظهور وسائل الإتصال الحديثة بات عاجزاً عن استخدم الطرق القديمة التي ألفها في التواصل والوصول إلى الطرف المراد الإتصال به. والاعتماد على المنتجات التقنية الجديدة يتجاوز الإعتماد الفردي، فليس الشخص بذاته فقط يعتمد عليه، وإنما النظام بأكمله يصبح معتمداً عليه، عندها يصبح القرار الفردي في فك هذا الإعتماد مسألة لا تعني أكثر من خيار في العزلة. الحرية تأخذ خطوات إلى الوراء، لكن التكنولوجيا لا تأخذ ولو خطوة واحدة إلى الوراء، والتكنولوجيا تواصل قهرها للحرية، من خلال سلسلة هزائم كصاحب الأرض القوي، وتواجهها بالإزدحام، والتشريعات، وضرورة الإنتماء للمؤسسات الكبيرة، الدعاية، الوسائل التقنية الحديثة في التأثير في الأوضاع النفسية والوعي. الحل لهذه المشكلة، في نظر كيجنيسكي، هو تدمير النظام التكنولوجي بالكامل (revolution not reform)، فالتكنولوجيا لا تعود خطوة واحدة للوراء، كما أنه لا يمكن إعادة تشكيلها وتشكيل نوعية نتائجها.
عندما يظهر أي تناقض بين الحرية والعمل (الذي سمى كيجنيسكي من يقومون به Technicians بغض النظر عن القطاع)، عندما يظهر هذا التناقض فالعامل (Technician) يختار العمل وليس الحرية. وفي نفس الوقت العامل (وهنا العامل تشمل كل صنوف العمل المعروفة بما فيها الباحثيبن حتى) لا يقدم جهده لأخذ مكافأة ما، أو لتحرير الفعالية البشرية “Power process”، وإنما لتجنب التوبيخ من خلال أدائه لفعالية بديلة (surrogate activity).
خطر اليسار في نظر كيجينيسكي
في ختام بيانه، يشير كيجينيسكي إلى خطر اليسار، أن اليسار غير منسجم مع الطبيعة، وغير متوافق مع الحرية البشرية والهدم الكامل للتكنولوجيا. اليسارية شمولية، وهي تقف ضد ما قيل سابقاً. لأنك لا تستطيع أن تخلق عالماً موحداً أو متضامناً، ويحل إشكاليات العلاقة مع الطبيعة إلا إذا كان منظماً تنظيماً عالياً، وهذا بالضرروة يحتاج إلى التكنولوجيا.
التكنولوجيا في نظر كيجينيسكي هي أساس للشمولية التي تمثل لب فكر اليسار. يظهر بعض اليساريين وكأنهم يعادون التكنولوجيا، ولكنهم في الحقيقة يعادونها من موقعهم خارج السلطة، أما في حال وصولهم للسلطة فلن يستغنوا عنها. هذا ما حدث مع البلاشفة الذين وقفوا ضد أجهزة الأمن السرية وقمع الأقليات، وعند وصولهم السلطة تبنوا الممارسات نفسها. يرى كيجينيسكي أن أية ثورة في هذا العالم ضد التكنولوجيا يجب أن تستثني اليسار من صفوفها، لأنه باختصار لا يؤمن بهدمها.
وبعد هذا الطرح المفصل، يتساءل كيجنيسكي إن كان تعريف “من هو اليساري” مسألة سهلة، حتى عليه هو! على كل حال في بند الملاحظة النهائية للمقال بدا كيجينيسكي مضطرباً ومتردداً في موقفه من اليسار، إلى الحد الذي قال فيه أننا لربما بالغنا في توصيف اليسار بهذه لطريقة، ولكن وصفنا كان يتركز على حركات اليسار الحديثة ومنها النسوية وحقوق الإنسان، … إلخ.الأناركية بعكس ذلك، تطالب بمجموعات صغيرة تتمكن من العيش مستقلة عن التنظيمات الكبيرة، لذلك هي تشكل تياراً معادياً للتكنولوجيا.
الخلاص في نظر كيجينيسكي يكمن في ثورة غير واضحة المعالم. لا تطلبوا معرفة ملامح المستقبل، فالطبيعة تعالج نفسها. ولا تطلبوا منا أن نفك الغموض، فلا بد أن ينجلي تدريجياً حاله حال ثورتكم ضد التكنولوجيا.
حوار مع كيجينيسكي
في جدل كيجينيسكي عن الحرية والتكنولوجيا، هناك فكرة مركزية إنطلق منها في تحليله. أن مشكلة التكنولوجيا في ماهيتها، في كينونتها. بمعنى أن هذه الماهية هي المسبب الأساسي لتقييد الحرية، ولا معنى لشكل النظام (رأسمالياً كان أم اشتراكياً) الذي يديرها كأداة، أو يستخدمها.
ومن هنا كان نقده لليسار أنه لن يقدم إجابات لأسئلة الحرية في ظل التكنولوجيا، لأنه باختصار لا يمانع في وجودها في سبيل إنتاج التنظيم الأرقى الذي يزعم تملكه لتصور خاص به.
هذه النقطة التي أثارها كيجينسكي سؤال كبير، إجابته تقف على مستويات متعددة. مواجهة سؤال بهذا الحجم يفتح الباب على بحث العلاقة بين التكنولوجيا والوجود (التكنولوجيا كجزء من هذا الوجود)، و دور الإنسان (كجزء أيضاً من هذا الوجود) في اللعب بصيغ العلاقة بين التكنولوجيا والوجود (مجدداً بصفتها كجزء منه، تتأثر به ويتأثر بها).
هذا السؤال ليس بالجديد على كل حال، فهيدغر رأى في علاقة التكنولوجيا والوجود ارتهان لا مفر منه، تماماً كالعلاقة بين الغابة وحارسها، وهو في الوقت ذاته اعتبر التكنولوجيا تجاوزاً للمفهوم الأداتي، أي أنها ليست أداة فقط. وجاك إيلول اعتبر أن الإنسان يبقى مرتهناً لشروط التكنولوجيا، وميز بين التقنية (الطرائق الآلية) والتقانة (العلم الذي يدرس تلك الطرائق). وهابرماس نظر إلى التكنولوجيا بوصفها الأيديولوجيا الجديدة للمجتمعات الحديثة، وشكلت البديل الموضوعي للأيديولوجيات الكبرى.
في نقدنا لبيان كيجينيسكي لنأخذ عناصر أساسية تمثل العلاقة بين التكنولوجيا والوجود، الوجود الاقتصادي والاجتماعي للإنسان ( الوعي القائم و “الجديد”، المنظومة الإقتصادية التي تساهم بالضرورة في إنتاج وعينا للوجود، وللتكنولوجيا كذلك بطبيعة الحال).
في حديث كيجينسكي عن حرمان الإنسان من الفعالية البشرية (Power processing) بدون أهداف مصطنعة (Artificial goals)، يتناول ظاهرة قريبة جداً مما تحدث عنه كارل ماركس في بداية أعماله عن الإغتراب، ووسَّعت مدرسة فرانكفورت توصيفات ذلك الاغتراب، اغتراب العامل عن العمل، وتحول البشر إلى (Technicians) وتماماً كما تناولها ماركس (نحن بشر سلعيون عاجزون أمام سيطرة آلات مكتملة الرجولة).
هذا الحرمان من الفعالية البشرية أو الاغتراب أو حتى الاستلاب، لا ينتج بسبب التكنولوجيا في ماهيتها، وإنما للوجود الذي احتضن التكنولوجيا في قوانينه الخاصة وتشريعاته (وهنا نتحدث عن هذه القوانين والتشريعات في مصدرها ومبرراتها وتعبيراتها عن المصالح وليس في ماهيتها كونها تشريعات).
إن النظام يجبر الناس لدراسة صنوف محددة من العلم أو من التقانة ،كما وصفها جاك إيلول، لتلبية حاجات المجتمع. هذا ليس هدفاً للتكنولوجيا في ذاتها وبوصفها ،تجريدياً، قوة غير عاقلة! وإنما هو هدف الاستثمارات الكبرى ورؤوس الأموال التي تدير مصالحها عبر التكنولوجيا، صناعياً وحتى مالياً في البورصات وأسواق الأسهم والعملات. تحويل الناس إلى تقنيين (Technician) يؤدون فعاليات بديلة (Surrogate activity) إنما هو في صُلب وجوهر النظام الحديث ليس فقط بهيمنته على التكنولوجيا، وإنما من خلال هيمنته على منطق العرض والطلب الذي يدفع الناس لدراسة حقول التقانة.
في وصف كيجينيسكي للحقوق الدستورية كوهم للحرية تأطير نظري مهم وإعادة لاعتبار الإقتصاد كمحدد مهم في تشكيل حدود الحرية، وفي وصفه لحرية الإعلام تناول عاملين (الأول: المؤسسات الإعلامية الكبرى، وازدحام المعلومات المنشورة الذي هيأته التكنولوجيا)، صحيح أن المؤسسات الإعلامية الكبرى تتحكم في حجم التأثير على حساب تلك الصغيرة أو الأفراد، وهذا بحد ذاته يقلل من أهمية العامل الثاني (ازدحام المعلومات المنشورة)، ويحول هذا الازدحام أكثر ما يكون إلى غيتوهات صغيرة يشعر الإنسان فيها وكأنه يخاطب العامة، كل العامة. فعلى الرغم من كل هذا الازدحام ما زال الوعي مرتهناً للمؤسسات الكبيرة، ولم تسعف سعة التخزين التكنولوجية العالية في هزيمتها، لم تسعف في ذلك ولو كانت نسبة المعلومات المخزنة للمؤسسات الصغيرة والأفراد تتجاوز بكثير ما تخزنه وتعرضه المؤسسات الكبرى.
وكما في ازدحام المعلومة، يتناول كيجينيسكي نظرته إلى التكنولوجيا في ازدحام الطرق بالمركبات، ويوجه النقد إلى فكرة التكنولوجيا في ذاتها، ويلوم الاختراع “وسائل التنقل الحديثة” في ذاته، ويتمنى كما فعل في أكثر من موقع من بيانه لو أن أن هذه الاختراعات لم تبصر النور. أتفق تماماً أن اختراع المركبة ترافق مع تقيد حرية الإنسان في إلزامية الترخيص، والتأمين، والصيانة، وغيرها. ولكن كل هذه المقيدات للحرية لم تأت في حزمة واحدة بالضرورة مع الاختراع نفسه، “إن لم تكن مشغولاً بأن تولد، فأنت حتماً مشغول بالشراء”، نحن مشغولون بشراء السلعة والخدمة ومستلبون تماماً لها، ولكن هذا ليس بسبب السلعة نفسها وإنما بسبب منتجيها (رعاة إنتاجها بالتحديد وليس العمال). ومن جانب آخر، هل المخترع لآليات التنقل الحر والسريع، هو من فرض الاستخدام الفردي لها ووعيه، هل هو الذي حدد شكل ملكيته كما نراه اليوم؟
فيما يتعلق بمسألة التشريعات (ومنها قوانين المرور)، لغايات التنظيم، فيتخذ كيجينيسكي منها موقفاً عاماً، فهو يقف ضد التشريع أساساً، وضد كل ما ينظم البشرية من خلال القانون، وهنا ينسحب من موقع معاداة القانون في نصه أو في طريقة إنتاجه ومصلحة الطبقة التي تنتجه إلى الوقوف ضد القانون والتنظيم كفكرة، وهذا بالضبط ما أوصل ملاحظاته المهمة في كثير من الأماكن إلى طريق مسدود، وجعلها مجرد ملاحظات تجريدية ليس ثمة إمكانية في إيقافها في المستقبل القريب على أرض الواقع المعاش.
يحاكم كيجينيسكي التكنولوجيا وكأنها الوجود كله، لقد ثبَّت باقي العوامل “الاقتصاد، والوعي القائم، والوعي المحتمل” وانطلق في نقده لمظاهر يتفق الكثيرون على سوءها، ولكنه حاكم أسبابها بمنطق أحادي البعد. فالوقوف ضد التنظيم إلى جانب ثورة مبهمة، لا تطرح الحد الأدنى من التصور عن المستقبل، مغامرة غير محسوبة تنزع صفة الثورة عنها. فالحرية غير المنضبطة لأي من شروط الضرورة تودي بالبشرية حتماً إلى الفوضى. للانفكاك النهائي من القيود، كل القيود، شروط ضرورية لا يمكن التغاضي عنها، الوعي بالوجود، وتطور التكنولوجيا نفسها جزء من تلك الشروط.
#محمد_فرج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
معنى أن تكون يسارياً
-
عن الإمبريالية (1-4)
-
المانفستو الرأسمالي والمانفستو الشيوعي (2-2)
-
المانفستو الشيوعي والمانفستو الرأسمالي (1-2)
-
في التهديد الأمريكي لسوريا
-
في هدم النموذج الإخواني
-
الحرية والتكنولوجيا
-
أوهام الحرية في ظل الرأسمالية
-
-جهاد النكاح”| الجنس في الاشتراكية والرأسمالية والدين
-
“جهاد النكاح”| الجنس في الاشتراكية والرأسمالية والدين
-
الرأسمالية والاتفاقيات الزائفة | كيوتو نموذجاً
-
الحرية في عصر الاغتراب والاستلاب
-
مشروع الهيمنة بأدوات التمويل و”المجتمع المدني”
-
الرأسمالية، إقتصاد المافيا والدعارة والموت (2-2)
-
كيف يهاجمنا الرأسماليون؟ لودفيغ ميزس نموذجاً
-
الرأسمالية، إقتصاد المافيا والدعارة والموت (1-2)
المزيد.....
-
الدفاع التركية: تحييد 14 عنصرا من -حزب العمال الكردستاني- شم
...
-
-حل العمال الكردستاني مقابل حرية أوجلان-.. محادثات سلام مرتق
...
-
عفو «رئاسي» عن 54 «من متظاهري حق العودة» بسيناء
-
تجديد حبس المهندس المعارض «يحيى حسين» 45 يومًا
-
«نريد حقوق المسيحيين» تظاهرات في سوريا بعد إحراق «شجرة كريسم
...
-
متضامنون مع المناضل محمد عادل
-
«الصيادون الممنوعون» في انتظار قرار مجلس الوزراء.. بشأن مخرج
...
-
تيار البديل الجذري المغربي// في خدمة الرجعية يفصل التضامن م
...
-
جريدة النهج الديمقراطي العدد 585
-
أحكام ظالمة ضد مناهضي التطبيع مع الكيان الصهيوني والجبهة تند
...
المزيد.....
-
اللاعقلانية الجديدة - بقلم المفكر الماركسي: جون بلامي فوستر.
...
/ بندر نوري
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
/ حامد فضل الله
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
المزيد.....
|