أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - مدخل النص القرأني (الكامل)















المزيد.....



مدخل النص القرأني (الكامل)


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 4342 - 2014 / 1 / 22 - 12:12
المحور: الادب والفن
    



الإهداء

إلى أبي الذي لا يعرف إلا أن يعطي
إلى إخوتي وجيه وبلال وجميل الذين حملوا عني الكثير




مدخل تاريخي إلى النص القرآني
منشورات منتدى العتيق الثقافي


رائد الحواري

منشورات منتدى العتيق الثقافي



مدخل تاريخي إلى النص القرآني

• مدخل تاريخي إلى النص الفرآني
• دراسة
• رائد الحواري
• الطبعة الأولى 2013
• جميع الحقوق محفوظة


تأويل يتجاوز مسماه !

تتجاوز هذه القراءة ما انتقدته، ويحاول هذا التأويل ظلم عنوانه، فالعنوان يحمل مضامين ومصطلحات أكبر واعمق من كونها مدخلاً لقراءة النص القرآني وفهمه، وهي غاية مرجوة ومأمولة في زحمة التأويلات والقراءات وطغيان المصطلحات الكبيرة .
لكن ذلك النقد الذي تناص مع حقوله افترض وتعمق أكثر مما يجب بحيث لم تعد المعالم واضحة وكذلك الافتراضات والأزمنة كما الأمكنة، كان الباحث موفقاً بالفعل في ذلك النقد السريع للكثير من القراءات والتأملات التي ربطت نفسها بالأحداث التاريخية واعتمدت على النصوص الأسرائلية لتفسير النص القرآني وفهم اختراقاته العلمية والتاريخية، لكن ذلك كما كشف حالة التقدير عن الكثير من الأعمال فإنه يظلم ويتجاوز كثيراً من المؤلفات التي قرأت القرآن قراءة علمية، وصاحبت ونزعت عنها أية قدسية دينية ورجحت أنها مجرد إستنساخ بائس للأرث والميثوجيا الكنعانية وهي كثيرة ، فما كتبه زياد منى وحسن الباش وغيرهما .
يغوص الباحث بتأويل مقبول وبقراءات مضنية على مستوى التأمل، زهدت في احتراف التوثيق العلمي الأكاديمي ، وهو مسموح للباحث، لكن الصدقية الأعمق لا بد ان تركن اي توثيق علمي حتى يصح التأمل بحثاً معمقاً، لكن ذلك لا يعني ان الباحث كان موفقاً في استخدام الشواهد والوقائع والأحداث ، ليؤكد على صحة رؤيته وتمكن تأويله ليرتفع بالقرآن الى درجة الكمال والإعجاز والريادة، فهو يقدم تأويلات رائدة على مستوى الحدث واللغة والزمان والمكان، وحتى تقنيات السرد التي اتبعها النص القرآني لتبليغ رسالة واستذكار أخبار التاريخ والمفاصل الكبرى في حياة الحضارت البائدة، والملامح اللازمة لأنشاء الحضارة والثقافة البديلة التي يقترحها ويعمد اليها القرآن .
يرى الباحث أن عدم ذكر القرآن للأسماء والأماكن وحتى الوقائع التاريخية زمنياً سيفضي بالتأكيد الى رفع مستوى المتلقي وتحقيق أعلى مستوى من الارتفاع نحو الكونية الأنسانية، بصفته كتاباً مخلصاً للبشرية جمعاء، حتى لا يظن أن ذكر الأسماء والأمكنة والأحداث تقديس لها وما هو لا يليق برسالة أممية ، تهدف الى تجاوز العنصرية والأقليمية .يتجاوز الباحث القضايا السطحية نحو الأفكار العمودية ويبلغ التأويل أقصى درجاتة عند ذلك الربط بين نضج الكتابة وتلك الحالة المتداخلة بين الشام ومصر وبين إبراهيم والأنبياء الذين جاءوا بعده وقبله، وعلاقة كل ذلك بضرورة وصول لغة التخاطب والكتابة إلى مستوى من التعريف بالشام عند أهل مصر والجزيرة العربية وحتى العراق، مأخوذة من قصة يوسف ومن قصة السحر ،ذلك الربط الذي بين التوحيد وحكم الفراعنة المناقض، وبداية تكوين الجماعة الاسرائيلية التي ستبدأ بمصادرة التاريخ بعد ذلك .
ان هذا التاؤيل يتجاوز المألوف ويعطي الباحث فسحة ليتفرد بها نحو إكمال مشروعه في المقارنة بين التوراة والسحر والقرآن ومرحلة الضياع وعقدة الذنب وصولاً الى النرجسية المطلقة .
في الأوقات التي تشتد فيها الضجة ويرتفع فيها الصراخ ويلاحق جل الناس الجلجلة والدخان، تظل أصوات متوحدة مع ذاتها تمارس الحياة بشئ مختلف مؤتلف، هكذا أرى عزيزي رائد .

د وليد الشرفا
جامعة بير زيت







بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين الذي فتح علينا من علمه، وعلمنا من خير العلوم، علوم القرآن الكريم، فبدون رحمة الله علينا ما كان لنا أن نقدم هذا الكتيب المتواضع، الذي نرجو أن يكون فاتحة لنا لكي نغترف اكثر من لذة العلم، واي علم ؟ علم القرآن الكريم، فكان حجمه المتواضع نتيجة أعتمادنا إلى تكثيف الافكار وعدم الأطالة قدر المستطاع، ولكي نتأكد أكثر من موضعنا هذا فقد عرضناه على أكثر من شخص من الذين لهم إهتمام بالموضوع، وقد أبدوا الإستحسان والريادة فيه مما أعطانا دفعة إلى تقديمه للجمهور
رائد الحواري

مدخل إلى النص القرآني

منذ عدة عقود والمحاولات المتعددة تظهر لتفنيد التوراة معتمدة على المكتشفات الأثرية، سواءً كانت أعمالاً فنية أو أدبيةً أو مدونات سياسية وتاريخية، ورغم النجاح الذي تحقق من خلال تلك الأعمال التي أثبتت بكل جلاء، أن العهد القديم ما هو إلا حضارة و ثقافة الهلال الخصيب، الذي تم انتحاله إلى كتاب مقدس لليهود، فقد أضافت تلك الأعمال إلى المجد و العظمة التي تحققت في العصر الإسلامي، مجدا ورفعة جعلا المنطقة من المراكز الحضارية والثقافية المتميزة في العالم، والتي لم ينقطع عطاؤها على كافة الأصعدة والأزمنة المتعاقبة، إلا أن بعض القصور انتاب تلك الأعمال، الذي تمثل في قلة الإصدارات رغم أهمية وحساسية الموضوع، إضافة إلى أنها لم تتجاوز النظرة الغربية، والتي اعتمدت على جغرافية الهلال الخصيب فقط، ولم يتم الاستعانة بإنتاج الحضارة المصرية و حضارة الجزيرة العربية.
إن التغيب التام لحضارة العرب قبل الإسلام يصب في وعاء الجاهلية والقبلية التي يرددها البعض، إن كان ذلك عن جهل أو دراية، ويخدم أولا وأخيرا أعوان الجهل والتخلف، ويقطع التواصل والتكامل الحضاري والثقافي في المنطقة والذي استمر على مر العصور، وهو أهم ما يميز منطقتنا، فنحن آمة أعزها الله و أكرمها بأن جعل فيها البيت الحرام، الذي لم ولن تنقطع قدسيتة منذ عهد إبراهيم علية السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إن الشعاع الذي وجد في مكة، لا يمكن إن يكون فارغاً من العناصر الحضارية والثقافية والدينية والأخلاقية، فوصول بعض الثوابت الأخلاقية والدينية رغم مرور أكثر من آلفي عام على إيجادها في زمن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وحتى ظهور محمد (ص)، يمثل ذلك التواصل الحضاري والثقافي الفريد لهذه الأرض المباركة، فكانت حرمة بيت الله الحرام والنداءات الشعائرية التي يرددها زائروه، والأشهر الحرم التي لم ينقطع احترام حرمتها بتاتاً، وكذلك الأسس الأخلاقية التي وضعت في زمن إبراهيم عليه السلام، والتي تمثلت في إكرام الضيف، إن قصة ضيفي إبراهيم وذبحه العجل السمين بقيت حية عند العرب، ولا أدل على ذلك من الكرم الطائي الذي مازال يتردد على ألسنتنا حتى الآن، وان الضبط لكل الشراسة والعصبية القبلية في الأشهر الحرم، هو صورة أخرى لذلك التواصل، فهذا الإنسان الذي جبلته الصحراء والحياة الاجتماعية، بكل تناقضاتها وعنفها، جعلته يتسامح في هذه الأشهر حتى مع قاتل أبيه فلا يتعرض له، وتلك النداءات التي أطلقها زائرو البيت الحرام قبل الإسلام "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إلا هو تملكه ومالك" ، هذا فضلاً عن الشعائر التي تأخذ في شكليتها عين الشعائر التي جاء بها إبراهيم علية السلام، فلباس الإحرام والطواف والسعي بين الصفا والمروة وغيرها يؤكد على ذلك التواصل، وإذا أخذنا أهمية مكة الدينية منذ عهد إبراهيم وحتى يومنا هذا، سنجدها المكان المقدس عبر أكثر من أربعة آلاف عام، وستستمر في قدسيتها إلى إن يرث الله الأرض، فكما كانت لها حرمتها في عصر إبراهيم وفي العصر العربي الجاهلي، ها هي لها عين الحرمة في العصر الإسلامي والعصر الحديث .
وأهم نواحي القصور في تلك الأعمال، أنها لم تعتمد على القرآن الكريم كمصدر من مصادر التاريخ، رغم الكشف عن الكثير من المعارف والعلوم التي جاء بها القرآن، ونحن هنا نؤكد بان هذا الباب ـ التاريخ ـ ولو تمت الاستعانة به من قبل المعنيين في نقض التاريخ التوراتي، من خلال القرآن الكريم لكان هذا الأمر، أحد أهم العناصر التي تثبت عظمة القرآن الكريم أولاً والمسلمين ثانياً، ولوفر عنصر السبق في فض التاريخ التوراتي، بحيث يكون القرآن هو الكتاب الذي يجب الرجوع إليه في مسالة التاريخ اليهودي قبل غيره من الكتب، ونحن نعزو ذلك الخطأ والقصور إلى الأمور التالية : ـ
أولاً : ـ عدم وجود علماء بالقرآن يستطيعون الكشف عن الحدث التاريخي والاكتشاف العلمي قبل اكتشافه، مما جعل النص القرآني يبدو تابعا ولاحقا أو شارحا لذلك الحدث أو الاكتشاف ليس اكثر، وبذلك فقد القرآن أحد أهم مزاياه.
ونعتقد أن القرآن فيه من العلوم أعظم بكثير مما تم اكتشافه وحدوثه، وندعوا علماء المسلمين إلى العودة لهذا الكتاب، لكي يأخذوا الدور الذي أنيط بهم ومن ثم ليرفعوا من علوم القرآن أولاً، ومن أنفسهم ثانياً، بحيث يكونوا كأسلافهم سباقين للعلم ويسترشد بهم وبعلمهم
ثانياً : ـ عدم وجود باحثين في التاريخ القرآني، يعززون من المعلومات التاريخية كما هو الحال في العلوم الأخرى .
ثالثاً : ـ إعتماد المفسرين السابقين والمعاصرين على النصوص الإسرائيلية لتفسير الأحداث التاريخية في القرآن، مما جعل القرآن يبدو تابعاً للكتاب المقدس ـ ضمن إطار التاريخ ـ ونحن نضع هنا علامة استفهام، فلماذا استطاع علماؤنا أن يتحرروا من كافة الأفكار الخرافية والنظريات الخاطئة، ويضعوا الأسس العلمية في كافة العلوم إلا أنهم لم يستفيدوا من النص القرآني في مجال التاريخ؟، علماً أن فيه من المعرفة التاريخية ما هو جلي وواضح، وما يزيد من دهشتنا حديث الرسول (ص) عندما رأى صحيفة من التوراة في يد عمر بن الخطاب، وما يؤكد على صحة الحدث التاريخي في القرآن أن أهل الكتاب لم ينكروا ويفندوا أي قصة من قصص القرآن، ولم يقولوا بزيادة أو نقصان أو تحريف أيا من قصص القرآن، وذلك يؤكد أن القرآن يروي القصة بدون تحريف أو مغالاة، إذن القرآن كان أحد أهم مصادر المعارف التاريخية، لكن لم يتم استيعاب تلك المعارف .
رابعاً : ـ يبدو شكلياً بأن القرآن الكريم لا يمتلك الأسس التاريخية، كما هو الحال في العهد القديم، لعدم وجود تواريخ متسلسلة حسب السنين أو الأحداث، وكذلك لعدم ارتباط أحداثه المروية بمسمى جغرافي محدد، لكن هذا الأمر غير موضوعي، لأن هذا الكتاب الذي أنزله الله إلى الخلق كافة لا بد وأن يكون موسوعة تاريخية، بالإضافة إلى كونه كتاب شريعة وعقيدة، فالذي جعل علماء المسلمين يعودون إلى الآيات القرآنية ليدعموا بها نظرياتهم عن الكون والخلائق، التي أصبحت حقائق علمية، لا تقبل النقض في العصر الحديث، والتي تمثلت في كروية الأرض والحركة الدائبة والمنتظمة فيه، وكذلك الحديث عن المياه التي تغطي ثلاثة أرباع الأرض، وعلى أن خلق الإنسان يبدأ بالعظم ثم يكسى باللحم، وعن طبيعة الشمس وإشعاعها والقمر ونوره، وغير ذلك من العلوم الطبيعية والفلكية، كل ذلك وغيره نجح علماء المسلمين في اكتشافه قبل غيرهم .
أما فيما يتعلق بكتاب تلك المؤلفات فقد تمثل قصورهم فيما يلي : _
أولاً : ـ الإعتماد على المؤلفات والنظريات الغربية التي تشكك بكل الأديان، حيث تنسب وجود الدين عند المجتمعات إلى عجز الإنسان في تفسير ومواجهة الظواهر الطبيعية، ومن ثم تراكمت مجموعة من الأفكار الدينية المتباينة، حتى وصلت إلى القول بالله الواحد، بعد إن أسقطت بقية الآلهة، وهي تنظر إلى الدين الإسلامي كدين متطور عن اليهودية و المسيحية، فهو لم يخرج عن الفكرة التوراتية و المسيحية، وعندما نقضوا الفكر الديني التوراتي نقضوا كذلك الحدث القرآني، الذي اعتبروه منسوخاً عن الكتاب المقدس، فهؤلاء المؤلفون لم يكونوا يؤمنون بعظمة القرآن، وعلى أنه كتاب الله المنزل، وإنما كتاب من وضع البشر، فهو يحتوي على الكثير من الخرافات و الأخطاء التاريخية والتعاليم التقليدية ، كما هو الحال في العهد القديم.
إن هذا الإعتقاد الساذج والبعيد عن الحقيقة، والمنهج العلمي سيزول نهائياً كما زال كل التشويه والدس والتحريف، الذي حاول غيرهم القيام به، إذا استطعنا ان نتعامل مع النص القرآني بطريقة علمية، ونكلم الآخرين بالطريقة التي يفهمون، لا التي نفهما نحن، وقد استطاع العلامة محمد سعيد رمضان البوطي ان يشكل منهج جديد في مخاطبة الآخر، مما جعله يحد من النظرة السلبية للدين الاسلامي وان يقدم لغة يفهمومها، وذلك من خلال كتاب " نقد اوهام المادية" وكتاب "الكون".
قبل البدء في مسألة التاريخ في القرآن الكريم، نذكر ببعض خصائص الحدث القصصي القرآني الذي سنستمد منة معلوماتنا التاريخية .
أولاً : ـ القرآن الكريم لا يركز على التسمية (الجغرافية) إلا في المواضع التي تخص الشريعة والعبادة، وأحيانا التي حدثت فيها أحداث مهمة وعظيمة، إن كانت هذه الأحداث إيمانية أو تتعلق بالكافرين، وهذه بعض النماذج منها "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ" 96 ال عمران
فهنا جاء التذكير بالمكان لمسألة العبادة أولاً، وكأحد أركان الدين الحنيف، و رداً على من قال بأسبقية بيت المقدس ثانياً، وعلى الاستفادة من التسمية لمكة و الذي يشير إلى المعرفة لكل الأسماء التي أطلقت عليها، مما يؤكد على عظمة القرآن ثالثاً، وعلى خصوصية مكة الدينية، وما فيها من مواقع ذات صلة بالعقيدة، منذ عهد إبراهيم وإسماعيل إلى ما شاء الله مكاناً للبركة والخير "وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ-;- مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ-;- وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰ-;-كِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ" 102 البقرة
فهنا المكان بابل ليس له علاقة بالعبادة أو التشريع، وإنما مكان آخر ذكر فيه تعلم السحر، ويمكن أن يكون بابل العراقية، ويمكن إن يكون مكانا آخر، حيث إن مدينة بابل لم يبق منها إلا أطلالا متناثرة، وما يدعم الاستنتاج الأخير، وجود تفسير يشير إلى نزول الملكين في زمن إدريس علية السلام، أي قبل طوفان نوح، علماً أن مدينة بابل بنيت في حدود القرن التاسع عشر قبل الميلاد .
ومن الأمثلة الأخرى على الأماكن التي ذكرت في القرآن "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ" 93 البقره ، فهذا الجبل يقول فيه ابن عباس : ـ "أمر الله تعالى جبلاً من جبال فلسطين فانقطع من أصله حتى قام فوقهم كمظلة"
فرغم القول بأن الجبل من فلسطين، إلا أن المكان الذي اخذ منه لم يحدد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المكان الذي رفع عليه الجبل، وقد تكون كلمة الطور تعني جبل، أي جبل وليس تسمية خاصة لجبل معين .
من خلال هذه الأمثلة، نجد بأن _ الجغرافيا _ المكان لم تأخذ الإهتمام التفصيلي كما هو الحال في العهد القديم، وذلك يعود إلى أن القرآن كتاب منزل إلى كافة الأمم والشعوب، ولكي يأخذ هذه الصفة الكونية ـ كان لابد من أخذ المسار العام للجغرافيا ودون تحديدها بمسمى جغرافي معين، حيث أن تحديد المكان يدفع القارئ للإهتمام بذلك المكان وحسب، ويترك الأماكن الأخرى بأهمية أقل، أما إذا ترك المكان دون تسمية أو تحديد، فسيشعر القارئ بأنه قريب من المكان أو انه موجود فيه، فمثلاً عدم تحديد مكان الطوفان جعل كل الأمم تعتقد بأنه حدث فيها، وكان المفسرون قد قالوا إن الطوفان عم الأرض، كل الأرض وليس جزءاً منها كمؤشر على عالمية الحدث القرآني .
وكذلك الأمر بالنسبة لموقع أهل الكهف، فنجد هناك عدة تفاسير لموقع هذا الكهف، منها يقول في جنوب عمان العاصمة الأردنية، وآخر جنوب تركيا، وآخر شمال العراق، وهذا دليل آخر على أن عدم التسمية الجغرافية في القرآن كان من ورائها هدف جلي واضح، وصول الرسالة والفكرة والعبرة إلى كافة الناس، وترك الأثر فيهم بصورة متساوية، فلا يتأثر بها الصيني أقل من العربي.
ونستطيع القول من خلال ما سبق أن القرآن نجح في تكوين فكرته العالمية، واستطاع الخروج من التقوقع الجغرافي كما هو الحال في العهد القديم، حيث أن عملية التحرر من الجغرافيا ليست بالعملية العادية، وإنما بحاجة إلى الكثير من الجهد والدقة لكي تتم، خاصة في كتاب يحتوي على الشريعة والعقيدة المنزلة من الله، فعملية الأختلاف في تحديد المكان الذي حدثت فيه الأحداث القرآنية، جاءت متزامنة مع عالمية القرآن بحيث جعلت كل من يقرأ القرآن يشعر أن أحداثه قد حدثت في منطقته، وكذلك تخدم ـ المشاعية الجغرافية ـ الإنسجام ما بين القارئ والفكرة القرآنية التي تدعو كافة الناس على اختلاف قومياتهم وأصولهم إلى التوحيد.
ثانياً : _ القرآن الكريم لا يركز على تسمية شخصيات القصة ، "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ-;- قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ 27 "المائدة
" أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا" 9 الكهف
"وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)" الكهف
"وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ-;- لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ-;- أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60 ) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (61)" الكهف
فكل هذه القصص وغيرها لم يتم تسمية شخصياتها، وذلك يعود أيضا إلى عالمية النص القرآني، فكما أن الجغرافيا توحي إلى مكان معين، فان أسماء الأشخاص توحي إلى مكان معين أيضا، فاسم احمد يشير إلى إنسان عربي أو مسلم، واسم ايفان إلى إنسان أوروبي، وهكذا ولكي يكون القرآن قريباً من كل الأمم ،كان لا بد من تجنب تسمية شخصيات قصصه، حتى لا يشعر القارئ بالأغتراب عن هذه الشخصية، فهنا نجد القرآن نجح في التحرر من الأنغلاق على أبطال قصصه، وقدمهم على إنهم شخصيات مشاعية لكل الأمم والشعوب، بدون أن يكون هناك خلل أو نقص في مضمون الفكر، أو تباين في تأثير تلك القصص بين قوم وقوم، فكل من يقرأها سيتأثر بها وبنسبة متساوية، ونستطيع القول بأن تجنب القوقعة الجغرافية والشخصية في القرآن، يستدل منه على أنه كتاب لكل البشر وأنه لا يختص بمكان محدد أو بقوم معينين .
من خلال ذلك نستنتج بأن الشخصيات القرآنية ليست إقليمية أو عنصرية وإنما هي إنسانية، يستطيع أياً كان التفاعل معها ولا يشعر بأنها غريبة عنه، أو أنها (ملك خاص ) لقوم أو فئة محددة، ونجزم بأن عملية التحرر من الأماكن الجغرافية ومن القومية في القرآن لم تكن لتوضع بدون هدف، وإنما كانت تعمل على خروج القارئ أيضا من جغرافيته ومن إقليميته إلى العالمية، أي أن القرآن يدعو إلى نبذ النعرة الإقليمية، وإزالة كل أشكال التقوقع على الذات أو الأنغلاق عن الآخرين، فهنا نجد الدعوة غير المباشرة للعالمية، وهذا يمثل أعظم ما فيه، حيث أن التماثل بين الفكرة الصريحة التي دعا إليها القرآن، والفكرة ا لمستترة وراء قصصه تجعل منه كتاباً يقرأه الكثير لما فيه من المتعة الفكرية والأدبية التي تغدقها القصص والأحداث فيه .
ثالثاً : ـ القرآن الكريم لا يركز على ذكر السنوات في القصص ، وان ذكر عددها فإنه لا يفيد التاريخ العام
"وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ-;- قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ" 14 العنكبوت
"أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" البقرة 259

"ولبثُوا في كهفهم ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)"الكهف
إن الهدف من القصة هو المهم وليست تلك التفاصيل وعدد السنين، فجاءت السنوات في القصة الأولى تحث على الصبر، واستمرار الدعوة إلى الله الواحد، وعلى جحود ونكران هؤلاء القوم لدعوة نوح عليه السلام، ومن ثم إنزال العذاب والهلاك بهم، أما القصة الثانية فيستدل منها على قدرة الله تعالى من خلال إحياء الموتى، فبمجرد موت الإنسان أو الحيوان، إن كان هذا الموت لساعة أو ليوم أو لشهر أولسنة أو لمائة أو لألف سنة، فانه يخرج من عالم الأحياء إلى عالم آخر، وان إعادته إلى الحياة هو معجزة، ويعد من الأعمال الخارقة، التي تدل على عظمة الخالق، وجاء ذكر عدد السنوات هنا لتوضيح الكيفية التي تتم فيها عملية إعادة الحياة .
والقصة الثالثة جاءت تدعو لتجنب الخوض فيما ليس به علم، وكذلك للتأكيد على أن الهدف من القصة هو معرفة واستيعاب العبرة منها وليس تفاصيلها، من هنا يدعو القرآن الكريم إلى الأخذ بجوهر الحدث والقصة، والابتعاد عما لا يستفاد منه، إن هذه إحدى أهم ميزات النص الإنساني، حيث أن عدم تأرخة الحدث القصصي بتاريخ محدد، يجعل القارئ قريباً من النص، ويشعر به وكأنه معاصراً لزمانه، فلا يحس باغتراب عن المكان أو الزمان أو الشخوص التي يقرأها، فمثلاً قصة آدم عليه السلام لو تم وضع تاريخ لها، بعشرة آلاف عام قبل بعثة محمد (ص)، وجاء القارئ الآن ليقرأها، سيجد البعد الهائل للزمان الذي حدثت فيه القصة، ومن ثم لن يتفاعل بالقدر المطلوب مع ما يقرأ، ويمكن أن تأخذه أهواؤه إلى أبعد من ذلك، بحيث يغالي _ زيادة أو نقصان _ فيها، أما أن بقيت تلك القصة أو الحدث بدون تاريخ، إتبعها إلى غايتها وتفاعل معها، ولا يشعر بالأغتراب الزمني فيما يقرأه، أن القصة القرآنية تجاوزت المفهوم التقليدي لعناصر القصة ومكوناتها، من خلال إزاحة عناصر المكان والزمان لأحداثها ، ومن خلال تحرير شخوصها من أسمائهم وإقليميتهم، فهذه العناصر الثلاثة عملت القصة القرآنية على التخلص منها، وإجراء الأحداث والأفعال خارجها، وهنا تكمن عظمة القصة القرآنية، فليس من السهل إجراء أحداث خارج الزمان والمكان، وإبقاء أبطالها مجهولي الهوية، ونعتقد هنا أن عملية النقد الأدبي ضمن المفهوم المعاصر للنقد، لو عملت به على النصوص القرآنية القصصية، سنجدها قد تجاوزت عصرها بكثير، وإنها أعمق من كل المعايير النقدية التي تميز القصة الحديثة المعاصرة، ومن هنا تكمن أهمية قراءة القصص القرآنية، إن الحديث عن تكسير الزمان والمكان في القصة، كما فعل وليم فوغنر في الصخب والعنف وغيرها من الأعمال، أعتبرت من أهم سمات الحداثة، وأصبحت أحد أهم مقومات القصة الحديثة، لكن الأعظم من كل ذلك تجاوز العناصر الثلاثة كاملة، وبدون أن ينقص ذلك من فكرتها أو جماليتها، بل العكس يعمل على تحسينها وتألقها أكثر، ولا يمكن لأحد القيام بذلك، إلا إذا كانت هذه القصص قد تمت روايتها من خارج الإبداع الإنساني .
رابعاً : _ القرآن لا يركز على التفاصيل لأحداث القصة، وإنما يهتم بإيضاح العبرة والفكرة منها "إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَىٰ-;- آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا(11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ-;- لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) الكهف، إذا تتبعنا هذه القصة حتى نهايتها سنجد النهي عن الحديث في عدد السنين التي قضوها وهم نيام، وعن عددهم، وكل التفاصيل الأخرى التي لا تفيد القارئ، وكأن القرآن يريد من كل واحد منا أن يذهب بخياله الخاص حيث شاء _ضمن الفكرة الأساسية للقصة _ بحيث يكون أمام عالم مفتوح من الأحداث والشخصيات والمكان والزمان، لكن دون أن يصبح ذلك الشغل الشاغل لهم، وإذا عدنا إلى تفسير الرازي سنجد رأياً يتفق مع رؤيتنا حول هذا الموضوع "المسألة الثانية، ذكروا في صفة السفينة أقوالاً كثيرة، فإحداها : ـ أن نوحا عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وقيل في أربع، وكان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراع، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وكانت من خشب العاج لها ثلاثة بطون البطن الأسفل للوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وفي البطن الأعلى جلس هو ومن كان معه مع ما احتاجوا إليه من الزاد، وحمل معه جثة آدم عليه السلام، وثانياً : _ قال الحسن كان طولها ألفا ومائتي ذراع .
و اعلم أن مثل هذه الأحاديث لا تعجبني، ولا حاجة إلى معرفتها ألبته ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلاً، وكان الخوض فيها من باب الفضول لا سيما مع القطع بأنه ليس هناك ما يدل على الجانب الصحيح والذي نعلمه، انه كان من السعة بحيث يتسع المؤمنين من قومه، ولما يحتاجون إليه، والحصول على زوجين من كل حيوان، لان هذا القدر مذكوراً في القرآن، وأما غير ذلك القدر غير مذكور."
وإذا تابعنا بقية القصص القرآنية وما تم إضافتة عليها من كتب التفاسير، سنجد الشيء الكثير، ولا أدل على ذلك من الكتب العديدة التي كتبت عن قصص القرآن والتي تعد بعشرات الكتب، ونعتقد بان تفسير الرازي هو من الذين تناولوا الزيادة والإضافات في القصص القرآنية بمعالجة علمية، حيث قام بتفنيد الكثير من المغالاة التي أضيفت إلى تلك القصص .
إن عملية الأنسجام ما بين الفكرة في القصة القرآنية وشكل إخراج تلك القصة، بحيث نجدها تهنم بالمضمون من دون أن يفقد ذلك من جماليتها الفنية، يجعل منها قصصا متميزة عن سواها ، وكذلك إن التوازن ما بين الإخراج العام لها، والمتمثل في الشكل الأدبي للكلمة، ومن ثم القصة مع مضمونها يمثل سمة بارزة في القرآن الكريم .
خامساً :- القصص القرآنية مكثفة جداً وتبتعد عن السرد الطويل الممل، والذي لا يخدم الهدف العام للقصة ـ الإيمان بالله والعمل بما يأمر والأبتعاد عما ينهى ـ
"وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰ-;-كِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ-;- فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ۚ-;- ذَٰ-;-لِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ-;- فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(176)" الأعراف
نجد هنا تكثيف القصة بحيث إنها تجعلنا نبحر في تلك الآية التي لم تتجاوز الخمسة أسطر، وكأنها رواية من مئات الصفحات، وإذا تمعنا في اللغة التي تستخدم في القصص القرآنية سنجدها لغة رفيعة جداً، بحيث أنها تجذبنا اليها بكل خفة، وتجعلنا ندخل إلى أعماق القصة وننسجم معها، وإذا عدنا إلى قصة أهل الكهف، سنجد أن ذهن القارئ يبحر بعيداً في ظروف الاضطهاد التي عاشها الفتية، وفي تفصيل المكان الذي اهتدوا اليه، ليحتجبوا عن الظالمين، وكذلك الفترة الزمنية التي لبثوا فيها نياماً، ثم استيقاظهم من غفوتهم، والهواجس التي تبعت ذلك، ثم التردد وحسم الموقف، واتخاذ القرار بالخروج ومواجهة العدو الذي احتجبوا عنه، كل ذلك يجعلنا نعيش معهم، لحظات الخوف و التردد ثم حسم الموقف والقبول بالقدر، أما مماتهم في الكهف واختلاف القوم على ما يفعلون بهم، فيضعنا في بحرٍ واسعٍ من الحوار والنقاش، ويجعلنا نعيش في حوار مسرحي شيق، ولا أصدق على ذلك من الآية الكريمة، التي توضح الخلاف الذي وقع فيه المسلمون، عندما أخذوا يزيدون وينقصون في عدد السنوات التي ناموا فيها، والخلاف حول عددهم
سادساً : ـ إذا ذكرت القصة القرآنية بأكثر من موضع، تكون هناك لغة جديدة لم تستخدم في القصة الأولى، بحيث يجد القارئ الفكرة نفسها ولكن بكلمات جديدة، وكذلك بإضافات وتفصيلات لم تذكرها الرواية الأولى، أو باختصارات واختزالات جديدة "وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ(74)" الأنبياء
"كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ(160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ-;- إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ-;- رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ165 وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ۚ-;- بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ(166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ(167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ(173)" الشعراء
هذه الآيات جاء بها القرآن الكريم، حتى يتم التأكيد على أحداث تلك القصة من جهة، وعلى اتعاظ منها من جهة أخرى، فألقرآن لم يهمل هذا الجانب ـ التماثل و التشابه ـ وهذه الآية جاءت توضح العبرة من التماثل "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ-;- أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ-;- كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(106)" البقرة
نجد هنا التوضيح لكل من تسول له نفسه، حول الهدف من وراء الآيات المتماثلة، وتوضح كذلك فضل عملية التماثل والنسخ في القرآن، إن عملية النسخ أو إعادة سرد القصة كان يهدف من ورائها إما إعادة التذكير بها بعين الأسلوب، أو إضافة تحسينات لغوية أو فكرية عليها، بحيث يستفيد منها القارئ البسيط الذي يركز على المضمون فقط، ويستطيع إعادة تركيب تلك القصة بذكر أي جزء منها، أما القارئ المتمعن للقرآن، والذي ينجذب وراء أي تغيير في الحروف أو كلمات القصة، بحيث يستطيع معرفة الهدف والسبب من وراء ذلك، والظروف الزمانية والمكانية التي واكبت كل نص على حده، ولزيادة المعرفة اللغوية والنحوية لديه، حيث يمكن الرجوع لمثل هذه الآيات لإسناد رأي علماء اللغة العربية، وما يقوم به العلامة اللغوي صالح السامرائي يقع ضمن هذا الإطار
سابعاً : ـ القصص القرآنية بلغة روايتها ومضمونها وكثافتها وأسلوبها وعالميتها تكون قصصاً متميزة عن أي قصص أخرى، وجاء وصفها في القرآن الكريم "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰ-;-ذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ(3)" يوسف، وهذا الحسن القصصي يتضمن مجموعة عوامل منها أنها ذات مضمون يرفع من قدرة القارئ اللغوية و الأدبية، ويجنبه الأنزلاق إلى مستنقع النصوص الرديئة، سواء كانت شكلاً أو مضموناً، فقارئ القرآن الكريم يمتلك ثقافة أدبية ولغوية وفكرية تمكنه من كشف أي نص شاذ او رديء، و أيضا تجعل القارئ يبحر مع أحداث القصة القرآنية التي يتوغل في كل تفاصيلها، وأيضا اللغة الرفيعة التي كتبت بها القصة القرآنية حيث أن اللغة أحد أهم عوامل القصة، حتى أن بعض النقاد يتحدثون عن بطولة القصة أو الرواية إلى اللغة التي تشكل العمود الفقري للقصة، ومن العوامل الأخرى لهذا الحسن، الأبتعاد عن السرد الممل والطويل، والأختزال والتكثيف الذي لا ينقص من جمالية القصة، وهذا الأمر المتوازن بين الإطالة والتقصير يعتبر أحد أهم مميزات الحدث القصصي القرآني، الذي لم ينحرف إلى النقيضين وبقى متوازنا، وكذلك عالمية القصص القرآنية التي تجاوزت الزمان والمكان و الشخوص، بحيث أنها تحيا مع كل من يقرأها في كل زمان ومكان، ومن المميزات الأخرى أنها أساس لغوي لكل من يريد الإرتقاء بلغته الأدبية .














الماركسية و الدين
تباينت الأراء حول المسألة الدينية، منها ما ذهب إلى تفسيرها حسب المفهوم المادة التاريخية، ومنها اعتمد على النظرية الأجتماعية، ومنها من تحدث بالمنظور الديني، الذي ينسب وجود المخلوقات إلى إرادة الله، وهناك الكثير من علماء الأجتماع الذين تناولوا موضوع الدين من هذه الزاوية أو تلك، وما زال الأختلاف على جوهر الدين قائماً بينهم، وهذه بعض الرؤى حول المسالة الدينة.
تقول المادية التاريخية إن المجتمع البشري يمر بمراحل تطور متتالية، هي المشاعة البدائية، حيث لا توجد ملكية خاصية لوسائل الإنتاج، ويشترك الجميع في العمل، الذي يتوزع بالتساوي على كل أفراد القبيلة، وفي هذه المرحلة لا يوجد تقسيم للعمل، أما على الصعيد العقائدي، فهي مجرد مجموعة من الأفكار تتعلق بالطبيعية، وتكون الطقوس الدينية أقرب إلى الشعوذة والسحر منها الى دين واضح المعالم والافكار، وهذه المعتقدات اكون متعلقة بما يرتبط بالأرض وانتاجها من الثمار، وهي نواة ستشكل فكراً اكثر تطورا ًفي المرحلة التالية للمجتمعات البشرية .
أما المرحلة الثانية فهي العبودية، والتي تنشأ بعد تطور المجتمع القبلي، الذي توسع ولم تعد الأرض المتواجد فيها تكفيه، فأخذ يبحث عن أماكن جديدة، وأيضا لاستخدام أيدي عاملة تساعد في العمل، من هنا ظهر مجتمع جديد، وبتقسيم العمل، بين الأسياد والعبيد الذي أوجد بعض الحرف اليدوية، ثم تطورت ملكية وسائل الإنتاج في هذا المجتمع وكان ظهور الملكية الخاصة، وخير مثل على هذه المرحلة روما وثورة العبيد بقيادة سبارتكس، أما على الصعيد الفكري، فقد تطور الدين وأصبح هناك مجموعة من الكهنة، يقومون بالأشراف على المعبد ورعاية ألا لهة، وتم تطوير المعبودات بحيث تجسدت بصور آلهة على شكل إنسان، من هنا كانت الوثنية هي السائدة في هذا العصر، وكانت الالهه اليونانية خير دليل على ذلك، من هنا نجد آلهة الحب والهة الحرب والهة المياه والهة الهواء وهكذا، وفي هذا المجتمع ظهر الصراع الطبقي من جديد، الذي سيعمل على تحطيم هذا الشكل من مراحل الاستعباد للإنسان .
وبعد أن كثرت أزمات مجتمع العبودية، ولم يعد بمقدور الأسياد مواجهة الظروف الجديدة، ظهر شكل جديد من الأستغلال وهي المرحلة الثالثة (الاقطاعية) والتي تتمثل بتحرير العبيد من العبودية، وجعلهم يعملون في الأرض، مقابل الحصول على المأكل والمشرب والمسكن، فكان الإقطاعي يمتلك الأرض الشاسعة، والفلاح جهده الشخصي فقط، فلا مهرب أمام الفلاح سوى العمل بالأرض وبأخذ نصيبه من الإنتاج، وتمثل هذا المجتمع في أوروبا بالعصور الوسطى، حيث كان أكبر انتشار لنظام الإقطاع، وقد ازدادت متطلبات هذا العصر، مما دفع المجتمع إلى تطوير بعض الصناعات اليدوية، من هنا ظهرت طبقة ثالثة في المجتمع الأقطاعي، أخذت تنافس الإقطاعيين، وتطور من وسائل إنتاجها من خلال تقسيم العمل، فكانت عملية الزيادة في الإنتاج بحاجة إلى أيدي عاملة جديدة، تأتي من المناطق الإقطاعية، فضعف النظام القديم، وأخذ يظهر مجتمع جديد يتمثل بألطبقة البرجوازية وطبقة العمال، وهنا تجاوز المجتمع الفكرة التقليدية للدين، الذي انتقل من المعبودات المتعددة إلى الثالوث والله الواحد، وتكونت طبقة من رجال الدين أخذت تعمل لحسابها الخاص، فدفعت المجتمع إلى خوض حروب داخلية وخارجية، والتي تمثلت في الحروب داخل اوروبا ثم حروب خارجها في الشرق (الحروب الصليبية) أما المجتمع الجديد الذي تكون فلم يكن أفضل من سابقه، إذ لم يعط الطبقة العاملة حقوقها، وكان العامل لا يحصل إلا على القدر الزهيد من الأجر، الذي يبقيه قادراً على مواصلة العمل فقط، وفي هذه المرحلة توسعت الأسواق وازدادت المنتجات، وكبرت المنافسة بين المنتجين مما أدى إلى وقوع الحروب _ الحرب العالمية الأولى والثانية _ وفي عصر الرأسمالية تم وضع أول فكر متكامل يتحدث عن الصراع الطبقي، يتمثل بالفكر الماركسي الذي أوضح مراحل الصراع الطبقي على مر مراحل التاريخ الإنساني، من هنا تنظر الماركسية إلى الدين على انه أحد الإنتاج الفكري، الذي استخدمته الطبقات المستغلة، لمساعدتها في إخضاع الطبقات الضعيفة لسيطرتها، أما المرحلة الأخيرة التي وضعتها الماركسية، فهي الاشتراكية ثم الشيوعية، حيث يتم إزالة كافة أشكال الملكية الخاصة من المجتمع وتصبح الملكية عامة .
أما رؤيتها للدين فتقول : _ إن الفكر الإنساني هو انعكاس للواقع الاقتصادي، الذي يؤثر في الفكر ويكونه، وتفسر الماركسية المرحلة الأولى (المشاعة البدائية) قائله، لم يكن الإنسان يمتلك من وسائل إلانتاج إلا جهده الشخصي، الذي يتحد ويتكامل مع مجهود الآخرين في القبيلة أو الأسرة، وهذا المجتمع كان ضعيفاً، بحيث انه لم يكن قادراً على مواجهة الظواهر الطبيعية، وعجز عن تفسيرها تفسيراً علمياً، ولذلك انكب على تعظيمها وعبادتها، ومن هنا كانت عبادة الشمس والقمر والشجر والمطر والنار وغيرها، وتضيف الماركسية قائلة، وبما أن الفكر البشري يمتاز بالجدلية فانه في حالات معينة كان يسبق التأثير _ الانعكاس _ الاقتصادي للمجتمع، ويأخذ الفكر المبادرة، قبل نضوج المجتمع للحالة الجديدة، ومن هذه النقطة جاء التفسير الماركسي للدين الإسلامي، حيث كان مجتمعا قبلياً غير واضح المعالم الاقتصادية والاجتماعية، فكانت الجزيرة العربية تعيش نظام العبودية بالإضافة إلى حركة تجارية قوية، كما أن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية تخضع للقبيلة بكل ما فيها، بالإضافة إلى تعدد الأديان فنجد اليهودية والمسيحية والوثنية، فهذا المجتمع المتباين والمتناقض يوحي باستحالة توحيده ضمن نظام اقتصادي اجتماعي ديني سياسي واحد، ففسرت الماركسية ذلك ضمن الرؤية العامة للدين وتضيف الماركسية قائلة، لقد تم تجسيد تلك الآلهة بصورة إنسان أو حيوان أو ملاك أو عنصرين أو ثلاثة عناصر مجتمعة مثل الثور ذو الرأس البشري، وبعد تطورت وسائل الإنتاج وظهرت الدولة، التي هي أول مظهر من مظاهر الاستغلال الطبقي، أخذت كل دولة تخصيص اله آو آلهة قومية، وذلك لتدفع الدولة المجتمع إلى عدم الالتفات إلى التفاوت الطبقي بين الأسياد والعبيد من جهة والى تبرير وجود التفاوت الطبقي إلى إرادة الإله آو الإلهة، التي تتماثل مع المجتمع في مراتبها، فمنها ما هو كبير (أبو الآلهه) ومنها ما هو صغير (الابناء)، وكذلك لتكون هذه ألا لهه صاحبة الشان في كل ما يصيب المجتمع من خير آو شر، إلا أن تطور وسائل الإنتاج أولاً، ومن ثم الفكر دفع تلك المجتمعات إلى تخفيض عدد ألا لهة، من هنا جاء الدين المسيحي الذي تمثل بالأب والابن والروح القدس، إلا أن ذلك التخفيض لم يكن يفي بالحاجة التطورية لاقتصاد المجتمع و الدولة، أو لأن حالة الفكر سبقت عصرها، تمخض المجتمع إلى فكرة توحيد الآلهة، من هنا جاء الدين الإسلامي كدين توحيد، استطاع استيعاب كل الأديان و المراحل الاجتماعية السابقة ويضعها في شكل جديد متطور ألا وهو الإله الواحد، إذن الدين في كل زمان ومكان هو إنتاج فكري بشري، نتج عن ضعف الإنسان في مواجهة الطبيعة ومعرفة الأسباب التي تقف وراءها، حسب مفهوم الماركسية.














الرؤية الاجتماعية

أما الرؤية الثانية فهي النظرية الاجتماعية والتي تقول، بأن كل أمة (مجتمع) يتواجد على أرض محددة، بحدود طبيعية يخلق هذا التواجد علاقة ما بين الناس (المجتمع) مع بعضهم البعض، وعلاقة مع الأرض من جهة أخرى، فيتكون إنتاج حضاري مجتمعي لهذه الأمة متميز عن المناطق الأخرى، وترى هذه النظرية في أن الدين هو أحد الإنتاج الاجتماعي للأمة، كما هو الحال بألنسبة للغة، وما تحمل من قصص وأساطير و أدب وتراث وفكر، إذن الدين ضمن النظرية الاجتماعية هو إنتاج اجتماعي (بشري)، يخضع للعلاقة المادية والروحية التي تنشأ في الأمة، وقد فسرت تواجد الديانة البوذية في شرق آسيا ضمن هذا الإطار، وكذلك أوضحت الظروف و العوامل التي أدت إلى ظهور الديانة المسيحية في فلسطين، وهي تعتبر الديانة المسيحية أحد أهم إنتاج المجتمع السوري .



الرؤية الدينية
أما الرؤية الثالثة فهي الفكرة الدينية الإسلامية، التي تقول بأن الدين منزل من الله عز وجل إلى كافة الناس، فهي تنسب كل رسول بعث إلى أمة أو قوم إلى أمر من رب العالمين، وهي لا تحدد بقعة جغرافية محددة خاصة لهؤلاء الرسل، وان تم ذكر بعضها في القرآن الكريم فنجد القرآن لا يذكر (المكان الجغرافي) لهذا الرسول أو ذاك، مثلاً قوم عاد وثمود ويونس وآدم ونوح وغيرهم، لم يذكر القرآن المكان (الجغرافي) الذي تواجدوا فيه، أما سيدنا إبراهيم عليه السلام فيخبرنا القرآن الكريم بأنه كان ينتقل من مكان إلى آخر، وهذا يشير إلى أن الفكر الديني لا يخضع للجغرافيا بتاتاً، وإنما هو مشاع لكل الأمم، كما هو الحال بالنسبة للهواء والماء والشمس، وما يؤكد ذلك هو القول عند بعض المسلمين أن بوذا يمكن أن يكون رسول، منزل من رب العالمين، ومن الرسل الذين لم يذكرهم القرآن، معتمدين على الآية "و وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ-;- وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ-;- تَكْلِيمًا(165)" النساء
وقد اضاف القرآن إلى عالمية الدين شيئاً جديداً، لم يكن يطرح من قبل، هو أن الدين ليس للبشر وحسب وإنما هو ايضاً كذلك للجن،

"قلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً ( 3)" الجن من هنا نجد أن الفكرة الدينية استطاعت أن تتجاوز الكائنات البشرية إلى ما هو أبعد منها، وتنسب إرسال الرسل إلى أمر إلهي، ليس للبشر أو أي مخلوقات أخرى يداً فيه، إلا أنها تذكر السبب وراء ذلك وهو الكفر بالله والإشراك به، و الفساد والظلم اللذان يتفشيان بين الناس، وهذان القسمان ـ الشرك والفساد ـ هما الأساس لإرسال الرسل، وقد تم تفصيلهما في القرآن الكريم كما يلي، الكفر بالله والإشراك به "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰ-;-لِكَ لِمَنْ يَشَاءُ(48 )" النساء، " وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ-;- إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13)" لقمان، الآية الأولى توضح بكل جلاء أن الشرك هو اكبر الشرور وأعظمها عند الله عز وجل، ولا يمكن تجاوزها، والآية الثانية ربطت بين الشرك والظلم، لان فعل الإشراك يحمل الإنسان على ظلم نفسه أولاً، من خلال خروجه من رحمة الله، ومن ثم اتباع أهواءه التي تفسد أحواله وأحوال الآخرين، وإذا أخذنا أمثلة من القرآن عن هولاء الأقوام، سنجد الكثير منها من قوم سيدنا نوح عليه السلام، إلى خاتم الأنبياء محمد ( ص) . أما المسألة الثانية التي أوجبت إرسال الرسل فهي الفساد الأخلاقي والأجتماعي والأقتصادي الذي يتفشى بين الناس، كما هو الحال في قوم لوط علية السلام، فالقرآن الكريم لا يذكر لنا بأنهم كانوا يشركون بالله عز وجل، وإنما كانوا يفعلون الخبائث، " وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ ۗ-;- إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)" الأنبياء، وهناك من جمعوا بين الكفر والفسق، مثل قوم شعيب عليه السلام " وَإِلَىٰ-;- مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰ-;-هٍ غَيْرُهُ ۖ-;- وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ-;- إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ(84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ-;- وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)" هود، في هذه الآيات نجد الفساد الاقتصادي والاجتماعي واضح ومتلازم مع الكفر بوحدانية الله، وإذا تتبعنا قصص القرآن سنجد أن الفساد الاجتماعي والاقتصادي، دائماً كان يلازم الكفر والإشراك بالله، فهو يدفع أصحابه إلى الأستهتار بالآخرين واضطهادهم، من ثم ممارسة كل ألوان البطش والقهر ضد كل من يحاول الخروج على العادة والتقاليد .
ولقد ذكر لنا القرآن الكريم بعض أسماء تلك ألا لهة المعبودة، مثل واللات والعزى ومناة عند العرب في الجاهلية "أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَالْأُخْرَىٰ-;- (20)" النجم، فالأولى تمثل ألا لهة الطيبة وكانت على شكل صخرة مربعة بالطائف، أما الثانية فهي كوكب الزهرة، وكانت تمثل نجمة الصباح أيضا، أما الثالثة فهي الموت والقدر عند العرب، هذه ألا لهة كانت تعظمها العرب قائلة (و اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فأنهن الغر انيق العلى وان شفاعتهن ترتجى)، إذن كانت اللات والعزة تمثل آلهة المساء و الصباح، أما مناة فهي الموت والقدر والتسليم به .
وسواع ويغوث ويعوق ونسرا عند قوم نوح عليه السلام "وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)" نوح تقول كتب التفسير أن تلك الأصنام كانت لأشخاص صالحين، نحتت لهم قبل بعثة نوح عليه السلام، لكن مع الزمن أخذ الناس يبتعدون شيئاً فشيئاً عن إخلاص العبادة لله، ويتقربون بواسطتهم إلى الله، ثم ابتعدوا اكثر واخذوا بعبادة تلك الأصنام .
وعبادة العجل عند بني إسرائيل "وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ-;- أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)" البقرة نجد هنا بان من سذاجة القوم انهم قاموا بعبادة العجل، رغم تدني مرتبته مع الإنسان، ومثل هذه العبادة تؤكد أن الدين عند المجتمعات البشرية، لم يكن يسير بخط تطوري متصاعد، وإنما يخضع لمجموعة عوامل مختلفة ومتباينة، من هنا نجد انتقال اليهود من توحيد الله إلى عبادة العجل، رغم وجود ممثل لموسى أخاه هارون عليهما السلام ، فلم يستطع هارون أن يوقف هؤلاء عن عبادة العجل، فقد ساد وطغى عامل التقليد عندهم، بحيث أنه ألغى كل المنطق والمعجزات التي قدمها موسى عليه السلام، وإذا عدنا إلى رمزية العجل عند الشعوب الهلالية وعند المصريين، سنجد بأنه كان رمزاً للقوة والخصب معاً .
إن عامل التقليد لعب دوراً فاعلاً عند الشعوب القديمة، وكان الدافع والمؤثر الأول في اتخاذ أشكال وصفات ألا لهة المعبودة، فلو كانت النظرية التطورية في المعتقدات الدينية صحيحة، لتحول العجل إلى إنسان أو أي كائن آخر، رغم مرور أكثر من ألف وخمسمئة عام على عبادته، من هنا لا يمكننا أن ننسب عملية تطور المعتقد الديني إلى مسألة بعينها، ونربط كل شيء فيها .
الشمس عند قوم سبأ "وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)" النمل إن عبادة الشمس عند السبئيين وغيرهم يأتي ضمن التباين العقائدي في المجتمعات الإنسانية ويؤكد أن عملية العبادة أعمق بكثير من فكرة التطور، فنجد هنا رغم مرور أكثر من أربعمئة عام على عبادة العجل، إلا إن هناك أقوام اتخذت الشمس كإله .
وعبادة الملائكة و الجن عند بعض الأقوام "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَٰ-;-ؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ۖ-;- بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ۖ-;- أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ(41)" سبأ ، إن عبادة الملائكة أو الجن _الكائنات غير المرئية _ كانت أيضا ضمن المعبودات ، التي انكب المجتمع على عبادتها والتقرب منها، فهناك الكثير من المعبودات التي عبدها البشر، ضمن النص القرآني، ما هي إلا نعمة من نعم الله، أوجدها الخالق لمساعدة وخدمة الإنسان، إلا أن البشر كانوا يغالون في شكر الخالق على نعمه، من خلال أولاً تجسيدها على صورة إنسان أو حيوان أو مخلوق مركب من عنصرين أو اكثر، ومع تطور الزمن أخذت تلك المجسدات تعبد، بعد أن تم إبعادها عن جذورها التوحيدية، وأخذت العادة التقليدية تستشري في المجتمع وتترسح أكثر، وأصبح كل من يخرج عنها أو يشكك بألوهيتها كافر ويجب نفيه أو قتله، من هنا كانت المعاداة واضطهاد الرسل والمصلحين، الذين نادوا بالعودة إلى الوحدانية، و إزالة كل التقاليد والعادات الأجتماعية والأقتصادية الباليه .
إن حديث القرآن عن عبادة الملائكة من بعض الأقوام ، يأتي تأكيدا على أن الدين منزل من الله، ومن ثم كان يتم الابتعاد عنة رويداً رويداً، حتى يمسي شيئاً آخر، بعيداً كل البعد عن أسس التوحيد الذي دعي له من قبل الرسل
عبادة المسيح عليه السلام "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰ-;-هَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ-;-إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ-;- تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ-;-ِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)" المائدة، إن عملية الأبتعاد عن التوحيد كانت نتيجة المبالغة والمغالاة في العبادة، من هنا جاء القرآن الكريم يخبرنا عن قوم عيسى عليه السلام، ورغم مرور أكثر من ألفي عام على نزول المسيح، نجد أن هناك من يقول إنه ابن الله، فهذا المفهوم ينسف أيضا النظرية التطورية للاله، ويؤكد أن هناك توغل أكثر في ترسيخ تلك العقيدة والتسليم بها، وإذا رجعنا إلى التاريخ نجد أن عملية الانتقال إلى عقيدة جديدة، يتم من خلال الاطلاع على عقيدة أكثر نضجاً وعقلانية، تعالج القضايا المستجدة في المجتمع وتجيب عن الأسئلة التي عجزت الأفكار والعقيدة القديمة عن الإجابة عليها، أو أن تأتى قوة حضارية وثقافية تعمل على فرض ذاتها من خلال أفكارها النيرة .
عبادة بعل عند قوم إلياس علية السلام "وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (132) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ" الصافات
إن عبادة بعل والتي تعني السيد والعلي، جاءت من خلال محاولة المجتمع الهلالي تجسيد الله عز وجل في تمثال متميز، ثم اخذوا يعبدون هذا التمثال متناسين انهم بداية حاولوا التقرب إلى الله، من خلال تجسيده في تمثال، ومع مرور الزمن كانت عملية المغالاة تتوغل وتزداد إنحرافا عن الأصل، حتى أنهم سلخوا عنه عز وجل الكثير من الصفات، واقتصروها فقط على انه منزل المطر والخير ( الخصب ) ، ونعتقد بأن هذا الأله _ بعل _ كان يختلف عن الأمثلة السابقة لأنه لم يتم تجسيد مخلوق من مخلوقات الله، وإنما تم تجسيد الله جل جلاله، ومن هنا جاءت الآية القرآنية تقول "َتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ" ولم تقل أتعبدون بعلاً من دون الله، وهذا الأمر يشير إلى أن هناك آلهة كانت تعبد لتجنب الناس الشرور أو لمجرد التقليد فقط .
من خلال هذه الأمثلة نستطيع القول إن القرآن قد أكد أن هناك مفهوم واحد للدين، لكن المجتمعات البشرية قد خرجت عنه، من خلال الزيادة و المغالاة أو النقصان والحذف، ومن خلال تجسد نعم ومخلوقات الله، أو الله جل في علاه في تماثيل معينة، ثم تم الانحراف الكامل عن الأصل، بحيث أمست خارج نطاق الوحدانية التي دعيت إليها من قبل الرسل والانبياء عليهم السلام .
إذن الرؤية الدينية تقول إن أصل الدين هو التوحيد، لكن المجتمعات البشرية ابتعدت عنه تدريجياً، حتى وصلت إلى مرحلة التعدد، وفي هذه الظروف كان يتم إرسال الرسل والأنبياء عليهم السلام، لدعوة الناس للرجوع إلى الأصل المتمثل في التوحيد، من هنا نجد أن كل رسول كان يذكر قومه بالأقوام السابقة، وأن تقليد عبادة الآباء والأجداد دون تفكير، أوصلهم إلى مثل هذه السذاجة، فعمل الرسل عليهم السلام يقع ضمن الإقناع الفكري، وللتأكيد على صدقهم ذكروا أقوامهم بمن سبقوهم، من هنا إن عملية الأخبار عن الأقوام الماضية في القران الكريم لم تكن عملية ( سرقة أو انتحال ) لتراث سابق (التوراة والانجيل ) كما يدعي البعض، وإنما هي وسيلة لمخاطبة العقل تدعوا المجتمعات إلى إستخدام المنطق والإبتعاد عن سلوك التقليد .
في جميع قصص القران الكريم كانت الرسل تنهى أقوامها عن فعل التقليد وتحذرهم بالعواقب الربانية والهلاك في الدنيا والاخرة، فكان القران الكريم بذلك رائد في طرح استخدام العقل والبحث عن المنطق ورفض كل اشكال المعتقدات التقليدية .









الزمن
عدم نضوج علم الكتابة

إن عدم ذكر أي كتاب سماوي منزل قبل إبراهيم عليه السلام، يؤكد على ما يلي
اولاً : ـ حداثة علم الكتابة عند المجتمعات .
ثانياً : ـ إن هذا العلم لم يكن قد وصل إلى درجة الكمال والنضوج، بحيث يقدر على أن يستوعب كتاب الله .
ثالثاً : ـ على عدم وجود لغة عالمية ( نسبياً )، تقرأ وتفهم دون أن يكون هناك التباساً عند من يقرأها .
رابعاً : ـ على أن المجتمعات القديمة لم تصل إلى درجة من التوحد اللغوي، تستطيع من خلاله أن تتعامل مع لغة واحدة .
إذا عدنا إلى التاريخ القديم، نجد هناك ثلاثة أو أربعة دول عملت على توحيد المنطقة سياسياً وحضارياً واجتماعياً .
عصر ألد ويلات السومرية : _ في هذا العصر لم تكن الكتابة فيه قد خطت أكثر من بضع خطوات، حيث استخدم السومريون الكتابة المسمارية على ألواح الطين، ثم عملوا على تطوير لغتهم من خلال إضافة الحركات الصوتية على الكلمات، التي حددت معانيها أكثر، إن تطور الكتابة كان يسير ببطء في المجتمعات القديمة، وذلك لأن أدوات الكتابة بدائية جداً، ألواح الطين والخشب وكذلك العاملين في حقل الكتابة محدودي العدد، وفي العصر الاكادي استخدمت عين الأدوات السابقة . ونعتقد أن أهم إشارة على تطور علم الكتابة هو استخدام الأختام الأسطوانيه للكتابة على سطح الطين الناعم، فهذه العملية تماثل عملية استخدام الطابعة في العصر الحديث، لما وفرته من وقت وجهد، وهذا الأمر يشير أيضا إلى أن نظام التعلم في المدارس قد انتشر كثيراً في ذلك العصر، وأصبح ذا أهمية ثقافية واجتماعية، وهذا يعكس حالة التطور المعرفي والحضاري للمنطقة، لقد كانت اللغة المسمارية الأكثر تطوراً في زمانها، بحيث أنها استطاعت أن تفرض ذاتها على كافة المجتمعات المحيطة، حيث استفادت من التجربة السومرية كثيراً، من خلال تجاوز العراقيل والصعوبات التي تحد من تطور اللغة وفن الكتابة، فكانت الحضارة السومرية بمثابة البيت الكبير يرحب ويكرم ضيوفه.
إذن هناك مجهود إنساني عظيم _ الكتابة _ تطور كثيراً كماً ونوعاً وينتظر من يحسن الارتقاء به، من هنا كان لا بد من وجود مجتمع حضاري، يعمل على توظيف تلك المنجزات ورفعتها .
إن عصر الد ويلات السومرية كان يضم عدة دول ذات استقلال كلي أو جزئي، وأحيانا تتم تحالفات بين مجموعة دول، إلى أن جاء لوجال زاكيزي الذي استطاع أن يخضع كل المدن السومرية، إلا أن تلك الوحدة لم تكن طويلة، واقتصرت على الجزء الأكبر من وادي الرافدين، أما في العصر الاكادي فعمل سرجون الأول على تأسيس الإمبراطورية الاكادية وترسيخ الوحدة للبلاد، وقد دام حكم سلالته زهاء 93 عاماً، وتوسعت مملكته حتى وصلت إلى البحر الأبيض المتوسط شمالاً، والخليج العربي جنوباً، ولقب ملكها ملك سومر واكاد، وقد عمل ملوكها على التوسع والبنيان، فعمروا المدن وأقاموا السدود، ولم يتوانوا عن حماية مواطنيهم وملاحقة المعتدين عليهم أيما كانوا، وقد عملت الدولة على الاستفادة من كل الإنجازات الحضارية والثقافية السابقة، مستفيدة من الإنجاز ألحضاري وألثقافي السابق وخاصة طريقة الكتابة المسمارية، فرغم اختلاف اللغة السومرية عن اللغة الاكادية، إلا أن الاخيرة استفادت من التجربة السومرية واعتبرت الانجاز السومري جزءاً أساسياً من حضارتها وثقافتها، ثم أخذت الدولة تنقسم بين الأحفاد مما افقدها الكثير من الأراضي، وعادت البلاد إلى نظام الد ويلات السومرية، بقيادة مدينة آور التي أعادت جزءاً كبير من السيادة السومرية إلى المناطق التي كانت ضمن الحكم السابق، لم تدم فترة حكم مدينة آور أكثر من خمسة أجيال ، إنتهت في عصر أبي سين الذي تعرضت مملكته للغزو الخارجي بالإضافة إلى المشاكل الداخلية، فانتهت الدولة السومرية إلى الأبد، وحل نظام الد ويلات المبعثرة مرة أخرى .
من خلال التجربة الاكادية نستطيع القول أن بؤرة ( العاليمة ) قد تم وضعها في المنطقة، وكانت اللغة الاكادية قد سادت في الهلال الخصيب كاملا، وأصبحت الأكثر إنتشاراً والأسهل وصولاً، الا أن المساحة الجغرافية التي غطتها الدولة الاكاديةلم تكن لتفي المقدار المطلوبة لنشر لغة عالمية، تكون قادرة على ضم كل الاقاليم، بحيث تتعامل بها دون تباين أو اختلاف في تفسيرها او يساء فهم معانيها .
وفي القرن التاسع عشر قبل الميلاد حدثت هجرات كثيرة، خاصة نحو وادييالرافدين، فقد وصل هؤلاء المهاجرون إلى مدينة بابل وأسسوا فيها دولة لهم، أخذت في التوسع شمالاً وجنوباً، بحيث ضمنت السيادة على الجزء الأكبر من الهلال الخصيب، وكانت الهجرات الأمورية تتجه شرقاً وغرباً، وأخذت هذه القبائل في الاستقرار بوادي الرافدين ووادي النيل وقد أطلق عليها المصريون (مورو) ،وهذه التسمية قريبة جداً من التسمية التي أطلقها عليهم السومريون ( مورتو )، فكانت هيمنتهم السياسية على وادي الرافدين في وقت مبكر نسبياً، حيث توسعت مملكتهم في عصر حمورابي، الذي طور كل نواحي الحياة في الدولة البابلية، فكان التشريع وما يحمل من انظمة وقوانين لكافة نواحي المجتمع ولكل فئاته، كأحد سمات العالمية التي انتشرت في المنطقة، فاهتمت القوانين البابلية بالأطباء والفلاحين والبنائين ووضعت الروادع والعقوبات لكل من يتجاوز حقوق الاخرين، وكذلك اهتمت بالجنود والأسرى وجعلت تحريرهم من واجبات الدولة والمجتمع، واهتمت بالمرأه وبحقوقها على الزوج، وفي مجال العمران والبناء عملت الدولة البابلية على تطويره وليس أدل على ذلك من بوابة عشتار التي تعتبر من أشهر المعالم العمرانية في تاريخ الانسانية، و في مجال التعليم والكتابة أنشأت المدارس الخاصة والعامة، وعملت على الحفاظ لكل الإرث الثقافي والادبي السابق، واعتبرت نفسها الوريث الشرعي للحضارة السومرية والآكادية، من هنا جاءت الحضارة البابلية لتكمل الدور الذي أنيط بها، مستفيدة من الانجاز الحضاري والثقافي للسومريين والاكاديين، حيث تم نشر اللغة البابلية في العراق وبلاد الشام، بالاضافة إلى مصر التي وجدت في اللغة البابلية ضالتها، وبعد ان وصلها الهكسوس توسعت رقعة اللغة البابلية، واستخدمها عامة الشعب الذين هم أصلاً هلاليون يتكلمون اللغة البابلية، ومن هنا تم انتشار اللغة الامورية في كافة الهلال الخصيب، وأيضا في مصر من خلال القبائل التي وصلتها، فقد أطلق عليها المصريون الملوك الرعاة ( الهكسوس )، ولا ننسى بان اللغة الامورية جاء أصحابها من الجزيرة العربية، وانهم يتكلمون لغتها ويفهمونها.
إذن هناك أربعة أقاليم كانت تتكلم وتكتب باللغة الامورية، بلاد الشام والرافدين والجزيرة العربية ومصر، فقد سادت لغة هؤلاء المهاجرين من خلال الهجرات المتتالية والمتتابعة، فلم يكن هناك اغتراب لغوي في هذه الأقاليم، عدا أن المجتمع كان ذا ديانة وثقافة واحدة، وأحيانا متداخلة كما هو الحال مع مصر، وننوه هنا إلى أن اللغة الاكادية والامورية هما مشتقتان من فرع واحد وهناك تقارب كبير بينهما، على خلاف اللغة السومرية التي لم يشتق منها لغات أخرى بتاتاً، وأنتهى تطورها مع إنتهاء سلالة آور الثالثة.
من خلال ما سبق نستنتج بأن القرآن الكريم قد تحدث _ بطريقة غير مباشرة _ عن العصر الذي سبق إبراهيم علية السلام، بأنه عصر تطورت فيه اللغة، وان تلك المجتمعات لم تصل إلى درجة الكمال والتوحد الاجتماعي والاقتصادي واللغوي إلا في عصر إبراهيم علية السلام، وهذه أسبقية تاريخية جاء بها القرآن من خلال الحديث عن صحف إبراهيم علية السلام .
وإذا عدنا إلى الآية الكريمة التي تتحدث عن تعلم آدم علية السلام "وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (50 )" البقرة، نجد هذا التعليم شفويا وليس كتابيا وكان أقرب لتعلم النطق عند آدم علية السلام منه إلى تعلم لغة كاملة، من هنا يمكننا القول إن عدم إنزال كتب سماوية إلى الأنبياء قبل إبراهيم علية السلام، يرجع إلى عدم نضوج علم الكتابة عند تلك المجتمعات، إذ لا يمكن نقل التعاليم والشرائع السماوية بطريقة كتابة بدائية لا تواكب متطلبات العصر، أي بلغة يصعب تداولها بين المجتمعات المتباينة، أو يساء فهمها عند آخرين، إذن لا يمكن أن يكون هناك كتاباً سماوياً (عالمياً ) منزلاً بدون وجود لغة ناضجة وواضحة وتستطيع أن تضم مثل هذا الكتاب، وإذا تم تداوله بطريقة النقل الشفوي فقط سينشأ عن هذا الأمر العديد من الأخطاء والتحريفات، إما بالزيادة أو بألنقصان ، فكما هو متبع اجتماعياً عند تناول الحدث أو الخبر، حيث يتم الزيادة والمبالغة فيه، ويمسي الخبر أو الحدث إلى شيءٍ مغايرٍ للأصل الذي إبتدأ منه، إن حادثاً معيناً في مكان معين وزمن قصير لا يتجاوز العام يمكن أن يخرج بشكل جديد وبعيد كل البعد عن الأصل الذي ابتدأ منه.
من هنا نجد الأخطاء والمغالاة في حالة تداول الخبر أو الحدث شفوياً وحتى ضمن زمن قصير، فما بالنا إذا امتد هذا الزمن إلى عقود عديدة، وضمن جغرافيا مفتوحة ماذا سيبقى من الأصل؟، ولا أدل على ذلك من تفسير العلماء لعبادة الأصنام عند قوم نوح علية السلام، الذين اتخذوا من أشخاص صالحين قدوة لهم ثم ابتعدوا عن الطريق القويم الذي وضعة السلف الصالح، فاخذوا يصنعون لهم التماثيل لكي يعظموهم، ثم قاموا بعبادتهم مع الزمن، بحيث أنهم خرجوا من الملة بعبادتهم لتلك التماثيل، فلم يعوا أن الأصل كان التوحيد وليس التعدد.
إذن عملية النقل الشفوي تتطور باتجاهات متباينة، بحيث أنها في زمن معين تشوه الحقيقة، وتمسي خرافة لا تمت إلى اصلها بشيء، ومن الأمثله الأخرى على عملية الانسلاخ عن الأصل عبادة قريش للأصنام، فإذا رجعنا إلى الأصل سنجد هناك شعائر واضحة المعالم، تتمثل بألطواف والسعي، لكن المجتمع المكي والعربي مع تواتر الزمن اخذ ينحرف شيئاً فشيئاً عنها، حتى أصبحت لا يربطها بأصلها إلا الشكل فقط .
أما الانحراف الناتج عن سوء القراء ة أو عن الترجمة الخاطئة، فنقتبس من القرآن الآية الكريمة "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ-;- فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰ-;-ذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)" الصافات، لقد تم التلاعب بترجمة هذه الآية عند اهل الكتاب بحيث أصبحت تعني عندهم كلمة احمد (الوسيط أو المحامي أو جبريل)، والأمثلة كثيرة جداً في الكتاب المقدس، التي لم يحسن مترجموه التعامل مع نصوصه الأصلية، وأفضل دليل على ذلك كتاب ( نخلة طي أو كشف لغز الفلسط ) للشاعر زكريا محمد، الذي يشكل مرجع لكل من يريد اعادة النص إلى جذوره.
ومن الأمثلة الحية الأخرى إذا قام أحدنا بقراءة عمل أدبي ثم حاول آخر إعادة ترجمته إلى اللغة ألام، سيكون هناك فجوات كبيرة في المعنى وفي اللفظ، بحيث يخرج العمل عن مساره .
كما حال الإنسان في الرقي كذلك حال اللغة، فهي كائن حي يسعى دائماً نحو الرفعة والتكيف مع الظروف، فكان المجتمع يقوم بوضع إضافات جديدة واختزالات، حتى يسهل عليه استخدامها وتكيفها مع متطلبات العصر الجديد، فكانت عملية التنقيط ثم التشكيل للغة العربية حتى يتم تسهيل الأمر على تعلميها، وأيضا إن عملية الاشتقاقات لها دور أساسي في تطور اللغة، من هنا يمكننا أن نرجع عملية شطط المجتمعات البشرية، عن التوحيد إلى هذه العوامل، بالإضافة إلى عوامل أخرى لا تقل أهمية عما سبق، ألا وهي العوامل الاقتصادية، التي تحتل المركز الأهم في حياة الأمم والشعوب، فوجود نظام العبودية لدى المجتمعات القديمة، لعب دوراً أساسيا في الإبقاء على الديانات التقليدية، ورفض الأفكار النيرة التي جاء بها الأنبياء والمصلحون، من هنا كان التناقض ما بين أصحاب النفوذ وأصحاب الدعوات التوحيدية، منذ عهد نوح عليه السلام "قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)" الشعراء، الى ان يرث الله الأرض ومن عليها، فهذا كان العامل الأهم لرفض الأفكار التوحيدية، ولمواجهة الدعاة إليها بكل شراسة وعنف، فكانوا يشكلون العقبة الرئيسية أمام الدعوة الجديدة، حفاظاً على مصالحهم وامتيازاتهم، ولو رجعنا إلى اتباع الرسل والأنبياء سنجد أكثرهم من العامة، وليسوا من ذوي الشأن أو المال، لأنهم وجدوا الطريق الذي سيخلصهم من عذابهم الدنيوي أولاً، ولأنها وضعت لهم رسلهم أملاً في حياة رغدة بعد الموت ثانياً، ولأنها أعطتهم قيمة روحية لم يكن ليحصلوا عليها بدون العقيدة الجديدة ثالثاً.









أول الكتب السماوية
لو رجعنا إلى كتب التاريخ القديم، سنجد أن هناك مجموعة كبيرة من الهجرات حدثت في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، باتجاه الشرق والغرب، أي نحو الأنهار، النيل في مصر ودجلة والفرات في العراق، وقد استطاعت أن تحدث انقلاباً قومياً في المنطقة برمتها، ففي العراق إستطاع الأموريون أن يشكلوا أقوى دولة في الهلال الخصيب، وأن يفرضوا سيطرتهم عليه، ومن هنا كانت اللغة البابلية منتشرة في كل المنطقة، كما أنها أصبحت اللغة الرسمية للتخاطب بين دول المنطقة، وهذه اللغة البابلية هي لغة أرض كنعان، حيث أن هؤلاء الأموريين قدموا إلى العراق من الغرب _ بلاد الشام _، ويتحدثون لغة الجزيرة العربية، وفي مصر استطاع ( المورو أو الحبرو ) أن يدخلوا مصر ويحكموها، وفي هذه ألحقبة من الزمن إنتشرت اللغة الأمورية في مصر، وكذلك الديانة التي يعبدونها، من هنا لو رجعنا إلى أسماء ألهه الهكسوس سنجد ( بعل شيف ) وهذا مؤشر على أن بعل كان من ألآلهة التي حملها المهاجرون معهم إلى مصر، وعلى انهم من الهلاليين.
إذن الهجرة والانتقال داخل الهلال الخصيب أو مصر أو الجزيرة العربية، كان ميسراً جداً خلال الفترة ما بين القرن التاسع عشر والخامس عشر قبل الميلاد، حيث كانت تخضع المنطقة للأموريين، وتم انتشار الديانة واللغة الهلالية في الأقاليم الثلاثة، فلم يكن المهاجرون من وإلى هذه الأقاليم يشعرون بالأغتراب القومي أو الديني أو اللغوي، ونستطيع القول إن مسألة الهجرة والتنقل في هذه الحقبة، أصبحت عادة اجتماعية يمارسها الجميع .
أما إذا عدنا إلى القرآن الكريم فأنه يخبرنا أن إبراهيم عليه السلام قد هجر موطنه بعد أن حاول قومه إحراقه في النار، وكانت الهجرة الأولى لإبراهيم ولوط عليهما السلام إلى بلاد الشام، "وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)" الأنبياء "فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ۘ-;- وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ-;- رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)" العنكبوت، إن القرآن يعطينا صورة التنقلات في المنطقة، حيث كانت تتوفر وحدة اللغة، فلكي تتم هذه الهجرة لا بد من توفر عنصر التخاطب بين المهاجر والمقيم، لكي يستطيعوا التخاطب بلغة مفهومة من كلا الطرفين، فهذا الأمر يشير إلى أن اللغة كانت في العراق وبلاد الشام لغة واحدة أو لغة يفهمها الجميع، بحيث أن كل من هو داخل هاتين المنطقتين يشكل جزءاً من مجموع موحد قومياً، ولو عدنا إلى الديانة التي كانت تسود العراق وبلاد الشام سنجد التماثل فيها، فبعل يوازي تموزي وعشتار توازي آنا .
ويضيف القرآن الكريم في حديثه عن الهجرة الثانية، التي قام بها كل من إبراهيم ولوط عليهما السلام "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰ-;-ذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ َمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ-;- وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)" إبراهيم، الآية الأولى تعطينا صورة المجتمع القديم الذي هاجر منه إبراهيم علية السلام، مجتمع يعبد الأصنام، من هنا جاءت دعوة إبراهيم "وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ" ابراهيم، وهذا يؤكد أن تلك المناطق كانت ذات ثقافة وديانة واحدة، فكلمة (كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) إنما جاءت بعد هجرات متتالية قام بها إبراهيم عليه السلام وتأكيداً على أن هناك مناطق جغرافية متعددة تعبد الاصنام من هنا نجد الأعتزال عن تلك المجتمعات، ومن ثم بناء مجتمع جديد بعيد عن عبادة الأصنام، فكان اختيار إبراهيم عليه السلام لبقعة بعيدة عن ذلك المجتمع "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ" ، وهذا الاعتزال متماثل مع الاعتزال الذي حدث بعد طوفان نوح عليه السلام، حيث كان التخلص من كل عبدة الأصنام، وفي حال إبراهيم عليه السلام نجد الأبتعاد عنهم، وكان هذا الاعتزال جزئياً وليس كلياً، لان مهمة الرسل تبليغ الرسالة وهداية الناس، من هنا جاءت الآية (مِنْ ذُرِّيَّتِي) لكي يعطي من سيبقى بذلك الوادي متابعة الرسالة والدعوة إلى الوحدانية .
ونعتقد أن الآية ( أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ) تؤكد أن المجتمع الهلالي كانت عبادة الأصنام فيه، مستشرية وعامة وإذا عدنا إلى اللغة التي تخاطب بها إبراهيم ولوط مع المجتمع الجديد الذي تواجدا فيه، سنجد التأكيد من القرآن الكريم بأنها لغة واحدة كانت سائدة في العراق وبلاد الشام والجزيرة العربية ، "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ-;- فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ-;- وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) ابراهيم
فرغم التنقل لأكثر من مكان لكل من إبراهيم ولوط عليهما السلام، إلا أنهما كانا يدعوان إلى الوحدانية بلغة تفهمها وتدركها التجمعات السكانية الجديدة، فاللغة هي أهم وسيلة تخاطب بين البشر، خاصة إذا كان هذا التخاطب فكرياً وليس تعارفياً أو تجارياً، ففي حالة التعارف يمكن أن يشير أحد المتخاطبين إلى جهة معينة فيفهم منها الأخر إلى المكان الذي ينتسب إليه، وفي حالة التبادل التجاري يمكن ألإ شارة إلى نوع السلعة والمبلغ الذي يريده، أما في حالة الحوار الفكري والعقائدي فلا بد من وجود لغة، ولغة تصل برقيها إلى المقدرة على إيصال الحوار الفكري والعقائدي إلى غايته، وكذلك على وجود مجتمع موحد لغوياً واجتماعياً، من هنا نجد عصر إبراهيم عليه السلام قد وصلت فيه اللغة الآرامية أوج ازدهارها ورقيها، ولذلك جاء أول كتاب منزل من الله عز وجل، بلغة يفهمها ويقرؤها اكبر عدد ممكن من الشعوب، وإذا ربطنا تطور تلك اللغة في عهد إبراهيم عليه السلام، من خلال الآية "إِنَّ هَٰ-;-ذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ-;- 18 صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ-;- 19 " سورة الاعلى، بتطور اللغة في ذلك العصر، فيمكننا التأكيد على أن اللغة الآرامية بما أنه كتب بها الكتاب المنزل من الله فلا بد أن تكون لغة ( عالمية ) في زمانها، حتى يستطيع أكبر عدد ممكن من المجتمعات من قراءتها وفهمها، وعلى أن معظمهم يتحدثونها ويقرءونها، وهذا ما تحدث عنه علماء الآثار الذين أكدوا على أن اللغة الآرامية هي اللغة الأكثر استعمالاً والأطول عمراً في ذلك العصر، وعلى أنها اللغة التي يتخاطب بها بين الدول .
إن حديث القرآن الكريم عن صحف إبراهيم يعد أسبقية تاريخية، توضح الزمان والمكان الذي تم فيه تطور اللغة الإنسانية بحيث اكتملت جميع عناصرها، وعلى أن الوحدة اللغوية التي سادت في ذلك العصر، وكذلك يخبرنا القرآن عن ( مشاعة المكان ) بحيث أن عملية التنقل بين الجزيرة العربية والعراق والشام ومصر، كانت منتشرة بكثرة حتى أصبحت وكأنها إقليم واحد، يستطيع أيا كان التنقل فيه، وهذا الأمر يؤكد على أسبقية القرآن في الحديث عن الهجرات الامورية في المنطقة، وعلى أن لغتهم هي اللغة السائدة في الأقاليم الأربعة .
إذن من خلال ما سبق نؤكد أن إبراهيم ولوطا عليهما السلام كانا رسولين من سكان الهلال الخصيب ويتكلمان لغة المنطقة، وقد انزل الله سبحانه وتعالى صحف إبراهيم باللغة التي يتكلم ويكتب بها في ذلك الزمان، ألا وهي اللغة الآرامية، التي خرجت من الإقليمية إلى العالمية _ نسبياً _ ، فلا يمكن أن ينتقل إبراهيم ولوط عليهما السلام اكثر من مرة، والى مناطق متباعدة دون أن يتكلما لغة الأقوام المهاجرين إليها، وأن يكتبوا ويقرأوا لغتها، ومن دون أن يشعرا بالاغتراب القومي أو الاجتماعي، إن القران الكريم حين يخبرنا أن هناك كتاب أنزل إلى إبراهيم علية السلام ، نستنتج من ذلك
أولا : _ أن يكون مكتوباً بلغة يقرؤها ويفهمها كل من هم داخل المناطق الجغرافية التي انتقل إليها إبراهيم عليه السلام .
ثانياً : _ أن عملية الفهم والقراءة تلغي وتنفي عملية الترجمة لتلك الصحف، فلا يمكن أن تترجم تلك الصحف والرسول الذي أنز لت عليه موجوداً وحياً يرزق .
ثالثاً : ـ بما أن هناك إخبار من القران الكريم بإنزال كتاب سماوي من الله سبحانه وتعالى فلا بد أن يتم تداول هذا الكتاب لفترة طويلة وفي أماكن متعددة
رابعاً_ نستدل من القرآن الكريم أن اللغة التي أنزل بها القرآن، والكتب السماوية الأخرى لغة راقية ومتطورة وعميقة في مفهومها، وواضحة وضوح الشمس في تعاليمها، خاصة ما يتعلق منها بالعبادات والتشريع، فلا يمكن أن ينزل كتاب من الله عز وجل بلغة آيلة إلى الانقراض، أو بلغة إقليمية لا يفهمها إلا جزء صغير من الناس
من هنا نجد لغة إبراهيم عليه السلام لغة متطورة جداً، ولغة يفهمها جميع سكان الأقاليم، الهلال الخصيب والجزيرة العربية ومصر، أي أنها لغة عالمية في زمانها، وسنورد النص القرآني الذي يؤكد على أن إبراهيم عليه السلام أول رسول عالمي، يشترك مع رسولنا الكريم ( ص ) في عالميته، وأنه لم يختص بقوم معين، وإنما كان ضمن أكبر مساحة جغرافية يرسل إليها رسول في ذلك الزمان، "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰ-;-كِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ لْمُشْرِكِينَ(67)" أل عمران) هذا أكبر دليل على أنه أول رسول تجاوز الإقليمية والقومية إلى العالمية، وإذا عدنا إلى الآية ( أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)
نجد أن إبراهيم عليه السلام ترك بذوراً في الجزيرة العربية ستستمر في عطائها إلى ما شاء الله، ولا أدل على ذلك من خروج سيد الخلق من البقعة المباركة، فكما أننا لا ننفي عن رسولنا عالمية رسالته "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰ-;-كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)" سبأ، كذلك لا ننفي بأنه عربي المولد، وقد انزل الله كتابه الكريم بلغة قومه "إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)" الزخرف وهذا الأمر ينطبق على إبراهيم عليه السلام، فهو الرديف لرسولنا في عالميته وفي مولده، وفي اللغة التي تجاوزت الأقليمية والقومية، وسنورد باقتضاب بعض العناصر المشتركة بينهما، إبراهيم عليه السلام ترك قومه ومسقط رأسه قصراً، وذلك فعل محمد (ص)، إبراهيم أنزل عليه كتاب لأكبر عدد ممكن من الناس وبلغة يفهمونها، وكذلك فعل محمد ( ص )، إبراهيم عراقي المولد
الا انه تجاوز العراق وأصبح ظاهرة عالمية، ومحمد (ص) تجاوز الجزيرة العربية إلى الأرض كافة، إبراهيم ترك إسماعيل في الجزيرة العربية، وإسحاق في الشام ليكملا الدعوة التي بدأها، ومحمد (ص) ترك الصحابه رضوان الله عليهم .
من هنا نجد أن كل من يؤمن بالوحدانية ينسب إلى إبراهيم الخليل، والذي لقب بابي الأنبياء، إذن وضمن السياق السابق نؤكد أن إبراهيم عليه السلام، هلالي المولد عالمي الرسالة، ولا يمكن لأحد أن يدعي انه مختص بقوم أو جماعة بعينها، وهو أول رسول عالمي الرسالة، انتشرت رسالته في اكثر من منطقة، فهو مشاع لكل المؤمنين بوحدانية الله تعالى، أينما كانوا وأينما وجدوا .















يعقوب وأولاده عليهم السلام

لقد ترك إبراهيم الخليل ولديه إسماعيل في الجزيرة العربية وإسحاق في الشام ليكملا دعوة التوحيد التي بدأها في العراق، مع أن المعلومات التاريخية محدودة جداً عن إسماعيل عليه السلام، إلا أننا نستطيع القول أنه شكل مركزاً دينياً مهماً، مازال أحد أهم أركان عقيدة التوحيد "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ-;- إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)"البقرة ، "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)" إبراهيم، هذه الآيات تؤكد لنا استمرار قدسية المكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإذا عدنا إلى مقدمة الكتاب سنجد أن مكة استمرت قدسيتها، منذ أن بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وما زالت تشكل أحد أهم أركان عقيدة التوحيد، والتي يمثل الحج إلى مكة أحد أركانها .
أما إسحاق عليه السلام فهو الآخر لا يأخذ الحديث عنه في القرآن الكريم السرد التاريخي، لكن يخبرنا بعض المفسرين أنه كان في الشام، وعلى ملة أبيه إبراهيم، وقد ترك ذرية صالحة سيكون لها الأثر الكبير في عقيدة التوحيد، "وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ-;- مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۚ-;- ذَٰ-;-لِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰ-;-كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)" يوسف ، فالقرآن الكريم يخبرنا أن ولدا إبراهيم، إسماعيل وإسحاق عليهم السلام، قد اختص كل منهما بمنطقة جغرافية معينة، الأول في الجزيرة العربية والثاني في الشام، وهما قد ولدا في الشام من أب عراقي المولد، ويتكلما اللغة الهلالية، وهما على نهج التوحيد الذي تركه إبراهيم عليه السلام من خلال الصحف التي أنزلها الله عز وجل، والمكتوبة باللغة البابلية، ويشكلان فرعين متوازنين من مجرى واحد _ إبراهيم _، من هنا لا يمكن الحديث عن إقليمية أي منهما بتاتاً، لأنهما يشكلان عائلة مفردة واحدة في الشام وأخرى في الجزيرة العربية، فهما موجودان ضمن مجتمع كبير جداً وذي مساحات جغرافية مترامية الأبعاد، فلا يمكن أن نتحدث عن عائلة تعيش في منطقة جغرافية كبيرة جداً مثل الجزيرة العربية، ونقول إن تلك العائلة تشكل قومية أو أمة، لأنها لا تملك من معايير ومكونات الأمة شيئاً، فهي تستخدم اللغة المتبعة التي يتداولها الناس، وتمارس عملها الأقتصادي والأجتماعي ضمن المجتمع الأكبر والأشمل، ولمعرفة تفاصيل العصر الذي وجد فيه يعقوب وأبناؤه لا بد من العودة إلى القرآن الكريم، لنضع استنتاجاتنا التاريخية حول هذا الموضوع من خلال سورة يوسف، تتميز هذه السورة عن سواها، بأنها السورة الوحيدة من السور الطوال التي تتحدث عن موضوع واحد فقط، فهي تعطينا صورة واضحة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت تعيشها المنطقة _ بلاد الشام ومصر _ .
بعد ثلاثة أجيال من حياة إبراهيم عليه السلام يمكننا أقول أن أحداث القصة جرت بعده بأكثر من مئة عاماً، حيث هناك إسحاق الذي جاء متأخراً جداً، ثم يعقوب الذي جاءه يوسف وأخوه متأخرين أيضا، فإذا اعتبرنا حياة إسحاق سبعين أو ثمانين عاماً، وأضفنا عمر يعقوب، سيكون هناك زمناً لا يقل عن مئة عاما، من خلال ما سبق نصل إلى جملة من الاستنتاجات حول هذه السورة،
أولا : _ إنها تؤكد عملية التنقل والهجرة واستمراريتها بين الشام ومصر، بعد اكثر من مائه عاما من هجرة إبراهيم عليه السلام، "وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ۖ-;- وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)" يوسف
ثانياً : _ العلاقات الاقتصادية بين مصر والشام ميسرة جداً، والعملة النقدية مقبولة من الإقليمين، ويتم تداولها بدون أي موانع أو عوائق "وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ-;- أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ-;- " يوسف
ثالثاً : _ القوم الذين يحكمون مصر في هذا الزمن ليسوا من المصريين وإنما جاءوا من بلاد الشام "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ۖ-;- قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ-;- إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)" يوسف، القرآن الكريم يخبرنا أن المصريين يلقبون الحاكم بفرعون أو الملك وليس بالعزيز، وهذه التسمية هي اقرب إلى تسمية الحاكم في بلاد الشام _ بعل أو السيد _
رابعاً:ــــــ نظام الحكم والعلاقات الأجتماعية والسياسية تختلف كثيراً مع النظام الفرعوني "قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ۚ-;- وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) يوسف، نجد هنا الاستقلالية التامة للقضاء، الذي يساوي بين زوجة الحاكم وخادمها، وجعل التهمة تنسب إليها كما نسبها إلى خادمها
خامساً :ـــــ اللغة التي يتحدث بها في الشام ومصر لغة واحدة ومفهومة من كلا الإقليمين "ثمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70 قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ (72)" يوسف
إذا رجعنا إلى هذه الآيات وما بعدها، سنجد حواراً طويلاً قد جرى بين صاحب النداء واخوة يوسف، وهذا مؤشر إلى وحدة اللغة في مصر والشام
سادساً : _ نجد بذور التوحيد وألمفاهيم الأخلاقية مازالت ضمن المعايير السائدة "قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ۚ-;- قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)" يوسف، نجد هنا رغم عظمة الجرم الأخلاقي، وما يتبعه من انكسار نفسي واجتماعي، حيث أن صاحبة الخطيئة من أهل المكانة الرفيعة، إلا إن النوازع الأخلاقية و الدينية دفعت المرأة إلى الاعتراف بخطيئتها، وتحملت كل تبعاتها .
سابعاً : _ هذه السورة تؤكد على أن يوسف على نهج إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، وعلى أن صحف إبراهيم الخليل مازالت متداولة وبلغة الأم التي كتبت بها، أي إن اللغة الآرامية ما زالت حية ومتداولة في مصر والشام "وَكَذَٰ-;-لِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ-;- آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ-;- أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ-;- إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)" يوسف
ثامناً : _ من سمات هذه السورة أنها تضع معايير النظام العنصري ذو النعرات البغيضة عند الله وعند الناس وألتي تتمثل في ما يلي : ـ
أولا : _ الكيد "قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5)" يوسف
ثانياً : _ الاعتزاز والتفاخر بالعصبية " إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (8)" يوسف
ثالثاً : _ الحسد وبغض النعمة عند الآخرين "أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا"
رابعاً : _ التآمر على الآخرين "اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا"
خامساً : _ حب الذات فقط "يَخْلُو لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ"
سادساً : _ القتل بغير ذنب "اقْتُلُواْ يُوسُفَ"
سابعاً : _ الكذب والخداع "قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ-;- يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) يوسف

ثامناً : _ الخيانة "فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ"
تاسعاً : _ التمثيل في المشاعر "وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ(16)" يوسف)
عاشراً : _ الاعتراف الضمني بالجريمة ونسب الدوافع للآخرين "وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)" يوسف .
هذه عشر صفات ستشكل بعد زمن، التجمع الذي كفر بالأنبياء وجحدوا بنعمة الله وفضله، وسيتم تطويرها وإضافة المزيد من الصفات الرديئة عليها، بحيث تمسي ملازمة له، ومن السمات الأخرى التي تعطينا إياها هذه السورة، وصول الهلاليين إلى أعلى المراتب الدينية والدنيوية، وذلك من خلال وصولهم إلى حكم مصر، ونشر التوحيد بعد اعتلاء يوسف العرش، "وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا(100)" يوسف، وهذا الأمر سيعطي عقيدة التوحيد بعداً جغرافياً وبشرياً، حيث تم نشر العقيدة في مصر، واصبح اتباعها من المهاجرين _ الاموريين _ والمقيمين المصريين .
وسيستمر الأموريون في ألحكم إلى أن يأتي حاكم طيبة المصري، ويعيد الحكم إلى المصريين، ويضع الهلاليين ضمن القوانين والشرائع المصرية (العنصرية) القديمة، والتي ستكون جائرة وشديدةً عليهم، ثم يستخدم بحقهم كل أشكال البطش والجور، ويجعل منهم عبيداً أسرى للمصريين، فتكون هذه الحقبة من أشد وأظلم الفترات في تاريخ مصر نحو الآخرين. إذن مع عودة حكم الفراعنة إلى مصر، وما يحمل من عنصرية وبطش نحو الأقوام الأخرى المتواجدة فيها والذين أطلق عليهم (الهكسوس) الملوك الرعاة، وعن هذه التسمية سنجد في القرآن ما يشير إلى المهاجرين الهلاليين، الذين وصلوا مصر أن إحدى صفاتهم الرعي والتنقل "وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ (100)" يوسف، نجد هنا السبق التاريخي للقرآن الكريم وكذلك الدقة والصدق في سرد الخبر، فلم يكن الاخبار القرآني عن يوسف عليه السلام وعن اخوته الا اخباراً صادقاً وموضوعياً، ولم يخفي حقيقتهم رغم النبوة والمجد الذي وصلوا اليه .
فكما يفصل علماء الاجتماع التقاسم الوظيفي في المجتمع، الذي يعطي البدو مهنة الرعي وما يتبعها من بيع الحليب ومشتقاته والصوف وحياكته، وان البدوي لا يخرج عن هذه المهن إلا نادرا، ويبقى أسيرا لها ويورثها لأولاده، ولا أدل على ذلك من استمرار البدو في عصرنا بهذه المهنة، القرآن الكريم جاء ليفصل لنا حقبة زمنية مرت بها بلاد الشام ومصر تحديداً، بكل تفاصيلها الاجتماعية والسياسية، موضحا بأن مصر في هذا الزمن لم يحكمها المصريون وإنما الهلاليون المهاجرون إليها .
قبل الفض من هذا الأمر نود الربط بين الصفات العشر، التي جاء بها القرآن الكريم كمعايير للنعرات ألإقليمية والعنصرية، وبين أصحابها في سورة التوبة "الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99)" التوبة "وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)" التوبة، ثلاث صفات رذيلة للأعراب مقابل صفة واحدة حميدة، وهذا يدل على أن مهنة البداوة تحمل صاحبها على النفاق والكفر والأخلاق الرذيلة، وإذا عدنا إلى صفات المنافقين المذكورة في سورة التوبة، سنجدها ضمن الصفات العشر التي ذكرناها آنفاً، إلا إن القرآن أراد أن يزيد من وضوح صورة هؤلاء، فوصف لنا طبيعة حياتهم وهي التنقل والترحال ولا يعملون إلا بها، وكأن القرآن يرفض أن يشتغل قوم بكل فئاتهم مهنة واحدة فقط، لأنها لا تعطي ذلك ألمجتمع التميز والتنوع الذي سيسمح بوجود التنافس ثم التطور والرقي، إن العصر الحديث يعطي حقيقة ما ذكره القرآن عن هؤلاء، الذين يتبعون أهواءهم في كثير من الأحيان فهم الأداة الطيعة لكل من يصل إلى السلطة، ولا يتوانوا عن خدمته وبصرف النظر عن معتقداته ومسلكيا ته، ما دام يقدم لهم حاجاتهم الأساسية من طعام وشراب ومسكن وملبس.
إذن نستطيع القول أن سورة يوسف أكدت وصول الهلاليين إلى سدة الحكم في مصر وعلى التنقلات المتكررة ما بين الشام ومصر وعلى أن يوسف عليه السلام قد وصل عرش مصر وشكل بذلك مسألتين مهمتين في حياة مصر القديمة :
الأولى:- بداية تشكيل جماعة متميزة بعائلتها ونسبها النبوي
الثاني:- أنها أول دولة (عالمية) ـ نسبياً ـ تصل إلى الحكم وتدعو إلى التوحيد، فقبل هذه الحالة لم يذكر لنا القرآن الكريم أن هناك نبياً أو رسولاً استطاع الوصول إلى سدة الحكم، وإنما ذكر لنا أن الأنبياء والرسل عليهم السلام، وجدوا الاضطهاد والتشرد والعذاب من أقوامهم، فمن خلال هذا الوصول العائلي إلى الحكم، يمكننا القول أن بداية مجتمع متميز عن غيره قد بات يتشكل في مصر، وسيكون لهم إطاراً خاصاً بهم، يدفعها نحو المزيد من الأستعلاء على الآخرين ومن ثم المغالاة فيه، ليصل من الحدية إلى العزلة التامة وتقديس الذات، ونفي الإنسانية والفاعلية عن الآخرين نفيا تاماً، و تبرير وجودهم بإرادة ألهيه وجاعلة الهدف من وجود الناس كافه (لخدمتهم وإطاعتهم)، وإذا عدنا إلى التفاسير سورة يوسف سنجد بداية آمن الملك ثم تبعه الكثير من الناس، وأصبح العدل والتوحيد سيد الجميع، وقد عم السلام والازدهار عهد ذلك الملك الهلالي إلى أن توفاه الله ثم اعتلى العرش يوسف عليه السلام، وأسس بذلك أول دولة حاكمة بأمر الله عز وجل، تطبق شريعته وحكمه على الناس بصرف النظر عن أصولهم وفصولهم القومية، فكانوا جميعا متساوين أمام الشرع والدين وقد أسس يوسف عليه السلام، مملكة كانت المثلى في تحقيق العدالة والرقي الأجتماعي، حيث ما زالت شريعة إبراهيم هي المتبعة واللغة الآرامية التي كتبت بها الصحف متداولة بين الناس، ونحن نؤكد أن استخدام اللغة الآرامية في العهود اللاحقة، من قبل الفراعنة، دليل على أن اللغة الآرامية قد انتشرت في مصر وإنها أصبحت اللغة الأقوى والأرقى والأوسع إنتشاراً، ويؤكد على أن اللغة التي كتبت بها صحف إبراهيم، هي لغة متطورة جدا وقابلة للحياة وللاستمرار كما تحدثنا سابقاً، فلا يمكن أن ينزل كتاب من الله بلغة آيلة إلى الانحطاط والزوال وإنما بلغة راقية وعصرية ويستطيع استيعابها وفهمها أكبر قدر من الناس، ونعتقد أن عهد يوسف قد أعطى الحكم الهلالي لمصر عمراً إضافيا، لأنه جعل المصريين يلتفون حوله، ومن هنا نجد أن الحكم الهلالي لمصر استمر ولأكثر من مئتي عام، أزيل خلالها الاضطهاد الفرعوني لعامة الشعب المصري، وللأقوام والجماعات المتواجدة فيها .
ونحن نؤكد أن فترة حكم الهلاليين لمصر قد أزالت الفوارق الاجتماعية والقومية داخل مصر، وألغت نظام العبودية الذي كان سائداً، بحيث أن الفئات الأكثر عدداً قد أخذت حقوقها، ولم يتضرر من هذه الحقبة إلا الفراعنة وحاشيتهم من حكام المقاطعات والكهنة، من هنا سنجد شراسة وبطش الفراعنة لهولاء الهلاليين بعد أن يعودوا إلى الحكم .
قبل الفض من هذا الموضوع، نذكر أن صحف إبراهيم كما عاشت في مصر وتداولها المجتمع، كذلك استمرت كأحد أهم مصادر عقيدة التوحيد في الجزيرة العربية وبلاد الشام خلال هذه الحقبة من الزمن .
لقد فرط ورثة يوسف بالإرث الديني الذي تركه، وبدأ بينهم التنازع والتنافس على المكاسب والمصالح الشخصية، مما أدى إلى حل مركزية الدولة الهلالية، وبدأت تتشكل مجموعات قبلية تلتف حول اخوة يوسف، باعتبارهم ورثة الرسالة السماوية، ومن البيت النبوي الذي يتصل بإبراهيم عليه السلام، وتوسعت حدة التنازع بينهم مما أدى إلى المزيد من ألتشرذم والانحلال الديني والاجتماعي والضعف السياسي والعسكري، فأصبحت كل فئه تشكل دويلة مستقلة بذاتها، واخذ النظام العشائري والقبلي يمتد ويتسع ويتجذر أكثر فاكثر، من هنا لما وجد حاكم طيبة المصري الفرصة مواتية للانقضاض على هولاء الهلاليين، الذين أصابهم الوهن والضعف، وبدأ يشتد عوده، وارتفع طموحه وعمل على إعادة الحكم الفرعوني لمصر، وفعلاً نجح هذا الحاكم المصري في إعادة النظام الفرعوني، وعمل على الانتقام من هؤلاء الهلاليين بكل ما أوتي من قوة، فأعاد كل مظاهر الحكم المصري إلى سابق عهده، وبدأ عهد جديد من الذل والقهر يقع على هؤلاء الهلاليين
واستمر الاضطهاد الفرعوني للهلاليين، إلى أن جاء حاكم مصري يدعى (اخناتون) عمل على إعادة العمل بعقيدة التوحيد وإرساء العدل والحق ، فأزال كل أشكال الوثنية الفرعونية، وعمل بما تبقى من صحف إبراهيم، وأبعد الكهنة المصريين عن سدة الحكم، وأعاد ترتيب البيت المصري على أسس التوحيد، وأزال النعرة الإقليمية التي وضعها أسلافه، وكل أشكال الاضطهاد القديم الذي مورس في العهد السابق، وتم إزالة كل أشكال ومظاهر الحكم الفرعوني (الوثني) لمصر، فأعطى الأسرى والعبيد الذين استخدمهم الفراعنة الكثير من الحريات والحقوق الاجتماعية والاقتصادية، مما يتعارض مع مصلحة الكهنة واصحاب النفوذ في الدولة، فبات هناك من يتربص لهذا الحاكم، وينتظر الفرصة لعودة العهد الفرعوني، وفعلاً تم إعادة كل شيء إلى نصابه بعد وفاته .
وسنورد النشيد التالي لمعرفة المزيد عن هذا الحاكم (اخناتون) الذي دعا الى التوحيد بكل معانيه
"ما اكثر مخلوقاتك
وما اكثر ما خفي علينا منها
انت اله اوحد ولاشبيه لك
لقد خلقت الارض حسبما تهوى انت وحدك
خلقتها ولاشريك لك خلقتها مع الانسان والحيوان كبيره وصغيره
خلقتها وكل ما يسعى على قدميه فوق الارض
وكل ما يحلق بجناحيه فوق السماء "
من خلال هذا النص نوكد على ان هناك ديانة توحيد دعا اليها (اخناتون) وقد اعاد هذا الحاكم امور مصر الدينية والاقتصادية والاجتماعية الى عهدها السابق عهد يوسف عليه السلام أي قبل وصول حاكم طيبة الفرعوني

من هنا نجد القران الكريم يخبرنا عن بعض حاشية فرعون ما زالت تؤمن بالله الواحد " وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ-;- وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ-;- وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ-;- إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) غافر
واذا عدنا الى موقف السحرة من آية موسى، والسرعة التي امنوا فيها، تجعلنا نؤكد بان الفترة الزمنية التي جاء بها موسى علية السلام كانت مباشرةً بعد انتهاء حكم (اخناتون) التوحيدي ووصول حاكم جديد عمل على إعادة الديانة الوثنية المصرية الى ما قبل وصول يوسف عليه السلام، أي قبل عصر الهكسوس في مصر "فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ-;- (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ-;- إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ-;- فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ-;- (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَىٰ-;- مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ-;- فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ۖ-;- إِنَّمَا تَقْضِي هَٰ-;-ذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ-;- وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ-;- (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ-;- (74)وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰ-;-ئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ-;- (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ-;- وَذَٰ-;-لِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّىٰ-;- (76) طه
ان هذه الايات توضح لنا ما ذهبنا اليه من تتابع الاحداث السياسية في مصر، فما ان انتهى حكم التوحيد على يد حاكم طيبة الفرعوني، حتى عمل على اضطهاد كل من هو على ديانة التوحيد، وزعزعة الافكار التوحيدية من خلال دفع الموحدين الى العمل بالسحر، من هنا نجد السحرة كانوا على يقين تام بكل تفاصيل عقيدة التوحيد، ولذلك نجدهم اخذوا بمناقشة فرعون بامور العقيدة.
المتتبع لتفاصيل المحاورة مابين السحرة وفرعون يجدهم متمكنين تماماً من عقيدتهم وانهم قد فهموها ووعوها منذ زمن بعيد، فلا يمكن لمن يتحدث عن كل تلك التفاصيل العقائدية، من ثواب وعقاب والحديث عن الجنة والنار، وان يقبل بيع كل الترف والرفاهية والتخلي عن أرفع المناصب وتحمل أشد أنواع العذاب والبطش، ان يكون طارئاً او جديداً على هذه العقيدة .

إن حالة الذل والاضطهاد تترك عند من تقع عليهم، مشاعر السخط والبغض على الذين يقومون بهذا الاضطهاد، وكذلك على من لا يعملون لخلاصهم من هذا العذاب، وسيكون هذا السخط مضاعف ومركب، خاصة عندما تأتي حالة الاضطهاد والبطش بعد عزة وعظمة، حيث ستدفعهم الحالة البؤس الجديدة إلى التقوقع على الذات والنظر إلى الآخرين _ من سلبوهم _ مجدهم السابق، نظرة البغض والسخط وهذا ما حصل بعدما رجعت مصر الفرعونية، اشد بطشاً وجبروتاً بحق الهلاليين المتواجدين فيها، فأخذ ينظر إليهم على انهم أعداء جاؤوا لحكم مصر وإزالة النظام الفرعوني منها، ولا أدل على ذلك من الآية القرآنية، التي تتحدث عن موقف فرعون مصر من دعوة موسى التوحيدية "قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ-;- (57)"طه، والآية التالية تتحدث أيضا عن موقف أصحاب النفوذ من الدعوة "قَالُوا إِنْ هَٰ-;-ذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ-;- (63)" طه، من خلال هاتين الآيتين نؤكد أن القرآن الكريم قد اخبرنا أن هناك قوماً من غير المصريين قد وصلوا إلى الحكم، وعملوا على إزالة الديانة (الوثنية) المصرية، وتغير نظامها الاجتماعي والاقتصادي، واحلوا بدلاً منها نظاماً جديداً يتناقض تماماً مع النظام القديم، إن سيطرة المصريين على مصر بعد عهد اتون التوحيدي، جعل الكثير من الهلاليين يتعرضون لأشرس أنواع البطش والاضطهاد على يد الفراعنة وحاشيتهم، فتم استخدامهم كعبيد وكأسرى محرومين من كافة الحقوق، مما دفع هؤلاء المستضعفين وخاصة من كان منهم ذو مكانة رفيعة إن كانت دينية أو سياسية، إلى الانعزال والتقوقع على الذات، فهم يعتبرون أنفسهم ورثة إبراهيم واحفاده ، وبأنهم أول من أقام دولة تقيم شرع الله في الأرض، إلا انهم تناسوا أن إزالة تلك الدولة والنظام التوحيدي قد كان لهم يداً فيه، من خلال انحرافهم عن الطريق القويم الذي وضع اسسه إبراهيم عليه السلام، وتفضيل المصالح الشخصية على المصلحة الدينية والعامة، إن كل الأقوام والأمم المهزومة دائماً تنظر إلى التاريخ نظرة تعزية وتبرير لما آلت إليه الأوضاع في الزمن الحاضر وتعتبر أن الازدهار والمجد الذي تحقق في غابر الزمان يكفي، وتبقى أسيرة هذا التاريخ بدون فاعلية مستقبلية وحتى أن بعض فئاتها تنعزل عن الآخرين تماماً، وتعيش حالة من النرجسية جاعلة من ماضيها _ الذي تعتبر ذاتها جزءاً منه _ هو أسمى ما وصلت إليه الأمم والشعوب، ومع تطور مظاهر الاضطهاد والفقر تتوغل مثل هذه الفئات اكثر في عزلتها، وما أن يأتي أحد المؤرخين أو المصلحين ليذكر تلك الأمجاد الغابرة، حتى ترتفع وتيرة النرجسية والنظرة الدونية للآخرين وتستمر في العيش على النظرة الو رائية، ومطورة من فكرها الانعزالي حتى لا يمكن الفصل بين فكرها والمسار التاريخي للعلاقة الأقتصادية والأجتماعية التي شكلت تلك الجماعة .
إن عودة الحكم المصري جعل هناك أعدادا كبيرة من الهلاليين يعيشون حياة الفقر والاستعباد، فمنهم من عاد إلى موطنه ومنهم
من هاجر إلى مناطق جديدة، إلا أن غالبيتهم قد استعبدت من قبل المصريين، الذين لم يتوانوا عن إنزال اشد أنواع الاضطهاد والحرمان بهم، ومع تزايد الفروق الاجتماعية الجديدة والعلاقة القومية مع المصريين، تكونت مع الزمن فئات ترد على هذا الاضطهاد بالتذكير بالأمجاد الماضية، مواسية ذاتها بذلك، إلا إن الوصول المصري إلى الحكم قد تمكن اكثر، واخذ يفرض ثقافته ولغته على هؤلاء، مما أدى إلى تمايز لغة تلك الجماعة خاصة بعد أن ترك العمل بتطويرها، كما حدث في عهد يوسف عليه السلام، كل ذلك شكل فرعاً من لغة أو ثقافة أخذت من الحالة الاجتماعية والدينية والاقتصادية التي تعيشها خطاً موازياً لها، وبذلك ومع ترسيخها وتطويرها المسلكي والفكري للسلبيات التي وصفها القرآن الكريم في سورة يوسف، بداية من الكيد وانتهاءً بتبرير الجريمة، أخذ يتضح معالم خط فكري إنعزالي متخذاً من الحالة الاجتماعية الاقتصادية الدينية، بيتاً آمناً وتربة خصبة لأفكاره ومعتقداته، التي أخذت تظهر معالمها في جماعة أطلق عليها بني إسرائيل .
إذن اليهود هم جماعة هلالية عاشت في مصر، ونتيجة الظروف الأجتماعية والأقتصادية والسياسية والدينية التي عاشتها تشكلت تلك الجماعة، بعد أن تم إعادة الحكم الفرعوني إليها، وكانت عملية الأضطهاد والذل التي تعرضوا لها سبباً أساسيا في انتهاج فكر إنعزالي متشدد، أخذ يبرز عندها مستفيداً من تاريخ عريق ودين توحيد دعي له من قبل أنبياء يعتبرونهم من أجدادهم، هذه النظرة جعلت منهم جماعة عنصرية تنظر إلى الآخرين نظرة دونية، وبأنهم أبناء الأنبياء فهم من سلالة عريقة دينيا وعلى الناس جميعاً يجب أن يتبعوهم ويكونوا في خدمتهم، ومن الأمور التي ساعدت هؤلاء على العزلة اعتمادهم على كتاب سماوي _ صحف إبراهيم _ الذي كتب باللغة الآرامية التي اعتبروها لغتهم الخاصة .
وسنورد بعض النصوص من تفسير الرازي نؤكد ما ذهبنا اليه من هلالية إبراهيم واحفاده ، " قال الكلبي : كان أهله نحو سبعين آنسانا …وقيل حمله وهو حاف وحاسي من مصر إلى كنعان " وهناك اجماع عند المؤرخين والمفسرين على الاصل العراقي لإبراهيم، وعلى الهجرات الأمورية التي تحدث عنها القرآن الكريم، وهناك ثلاث آيات في سورة يوسف توضح لنا طبيعة البيئة الجغرافية التي كان يعيش فيها يعقوب وذريته "قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) " فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ" "وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ(99)" يوسف، من خلال هذه الآيات نجد إنها بيئة قفرا قاحلة يعيش فيها الذئب، الذي يدل على وحشيتها، ومن معالمها أيضا أنها قليلة المياه ولذلك يوجد بئر ماء معروف للجميع، إذن يعقوب يعيش في أطراف الطرق التي تربط مصر بالشام وليس في مدينة او منطقة حضرية، وهم تجمع عائلي يعمل على تأمين متطلبات الحياة مجتمعاً، من هنا يمكننا القول إن يعقوب عليه السلام يعطينا صورة واضحة لطبيعة الحياة التي يعيشها في البادية، فهي حياة قاسية وجافة وشحيحة المياه والعطاء، ويعتمد أهلها على الترحال والتنقل من الأماكن الجدباء القاحلة إلى الأماكن الخصبة وذات المياه .
ومثل هذه البيئة تشكل مجتمعها بصورة أكثر قسوة من غيرها، بحيث تجعل منهم يميلون إلى الحصول على قوتهم بكل الطرق والسبل، المشروعة وغير المشروعة، وأيضا التركيبة العائلية لمثل هذا المجتمع تدفع بأفرادها نحو المساواة في الكثير من الأمور، مما يودي إلى النظرة السلبية تجاه كل متميز من أفرادها، إن كان هذا التميز اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، مثل هذه العقلية ستستمر ليست باتجاه أفراد العشيرة الواحدة وحسب وإنما ستتجاوزها إلى العائلات والعشائر الأخرى، فما إن يتميز أحد الأفراد أو مجموعة أفراد من عائلة أو عشيرة بموضوع معين حتى يجد النظرة السلبية له من الآخرين، والتي ستعمل على انتزاع ذلك التميز وحرمانه منه، ضمن هذه البيئة الاجتماعية تربى يوسف عليه السلام والذي تعرض لكل إفرازات الحياة البدوية .
إذن هناك عقلية تتحكم بمسلكية المجتمع البدوي، وتعمل على التشبث بمنطلقاتها الفكرية والمسلكية ثم تسير بها إلى الوراء اكثر واكثر، والآن سنحاول أن نجمع بين سمات النعرة العصبية المذكورة في سورة يوسف، مع الحياة الأجتماعية التي يعيشها المجتمع البدوي، فكما تحدثنا سابقاً بان المجتمع البدوي ينظر إلى الأفراد والجماعات المتميزة نظرة انتزاعية ويعمل على حرمان الآخرين من تميزهم، فأولاً تتم عملية التفكير لوضع الطريقة التي تمكنهم من تحقيق هدفهم _ انتزاع التميز من الآخرين _ ثم العمل على انتزاعه فعلاً، ضمن هذه المسلكية سيتشكل سلوك اجتماعي يمارس هذا العمل باستمرار، بحيث سيكون مستقبلاً عادة اجتماعية _عادية _ ليس فيها من الخطيئة أو ألإثم شيء، بل هي عمل يحمد فاعله ويثنى عليه .
أما إذا لم يستطع هذا المجتمع انتزاع التميز من الآخرين، فسيكون هناك هاجساً انفعالياً داخلياً لديه، يحاول أن يعبر عنه من خلال تأليف قصص أو حكايات، تتحدث عن أخبار البطولة التي قاموا فيها والمجد الذي تحقق في غابر الزمان، محاولة ان تقلل من أهمية ذلك التميز، فإن لم تحقق هذه الوسيلة غايتها، ستعمل على نسبه لها، أو تحاول أن تقلد هؤلاء المتميزين إن أمكن ولو بصورة شكلية، من خلال استخدام اللباس أو اللهجة أو بعض العادات التقليدية، وبذلك سيكون هناك قطبين، قطب المحرومين من التميز وهم ألاكثريه، وقطب المتميزين وهم ألاقلية، وبسبب عدم القدرة للمحرومين من التماثل مع المتميزين سيندفعون نحو التعصب لانفعالاتهم ولثفكيرهم الضحل، وسيشكلون حالة خاصة بهم تميزهم ثقافيا واجتماعياً، وسيعملون على اخذ لهجة من اللهجات مبتعدين عن تطور أللغة ألام، ومع تطور العصر وما يترتب عليه من تطور المجتمعات في كافة الأصعدة، سيجعل منهم تجمعاً متخلفاً عن عصره، من هنا سيعملون على انتحال كل ما يصل إليهم من حضارة وثقافة الأمم والشعوب الأخرى، وأيضا العزلة تجعلهم يتخلفون أكثر عن جيرانهم المبدعين، مما يعمق الهوة بينهم، وهذا المتشكل الجديد سيلعب الدور الأكبر في مسلكية هذا التجمع، بحيث يكون الفعل أو العادة الفردية قد تطور إلى فعل اجتماعي، يمارس من كل افراد هذا التجمع، ومن هنا سنجد التآمر على الآخرين بكل السبل والأساليب .
إن التجمعات المتطورة دائماً ينظر إليها نظرة استحسان من الآخرين، أما التجمعات غير الفاعلة حضارياً أو التي لا تستطيع أن تواكب التطورات الإنسانية، فإنها تتجه نحو الهاوية وتتوغل أكثر في مسلكيها والمتمثلة في نرجسيتها اتجاه الآخرين، من هنا نجد هذا التجمع القبلي قد طور حاله فكرية تتمثل في ( الأنا ) منعزلة عن التطور الحضاري، ومع تصاعد الهوة مع المجتمعات الفاعله، سيتشكل سلوكاً جديداً يعمل على امتصاص ردات الفعل، وفي ذات الوقت يحقق الغاية العامة لهذا التجمع _ تحطيم كل ما هو عند الآخرين _ من خلال الكذب والخداع
وفي الجانب الآخر هناك تنافس بين الفاعلين أنفسهم، وفي أحيان أخرى العداء ولذلك كان لابد من تشكيل الأحلاف والمعاهدات بين المجتمعات والشعوب، وبما أن المجتمع البدوي اقل حظاً في كل مظاهر الحضارة والثقافة الإنسانية، فانه سيركب الموجه إن استطاع، وفي أكثر الحالات يفضل الإبقاء على عزلته، أما إن تم ودخل مع أحد في حلف أو معاهدة فانه سينقض على حليفه في أقرب فرصة يشعرون بها إن الكفة مالت على حليفهم، متخذين من فكرة التحطيم والإزالة سلوكاً وحيداً لتحقيق التوازن الأنفعالي لديهم، وإذ أمكنهم لن يتركوا حلفاءهم وحيدين في المعركة وحسب، بل سيشاركون في عملية التحطيم والإزالة إن كان بالقتل أو تقديم العون والمعلومة للعدو، وإذا ما انقلبت الأمور، أو أن لهم مأرباً آخر سنجدهم يستخدمون مظاهر الإنسانية والأخلاقية، ليوهموا الآخرين بصدقهم وإخلاصهم، وفي حالات أخرى عندما تتساوى فيها موازين القوى، يعملون على تبرير تخاذلهم بعدم قيامهم بواجبهم اتجاه حلفائهم بالذرائع والأعذار
إذن نستطيع القول إن الصفات العشر قد تكونت في المجتمع البدوي، والذي عمل على زيادة فاعليتها، ثم اخذ بها إلى طور جديد تتوازن مع عدم الفاعلية الحضارية والثقافية، فالمعضلة ترسخ أكثر عند الجماعات القبلية، حتى وهي تعيش في بيئة اجتماعية فاعلية، فهي أينما حلت تحمل صفاتها وخصائصها السلبية التي تحد من تفاعلها مع الآخر، حتى وهي في علاقة مباشرة مع الحياة المدنية، ومع تطور الزمن والمجتمعات تبدأ هذه الفئات بالانسلاخ والعزلة عن الأماكن والمجتمعات الفاعليه، وبذلك تتوغل اكثر لتقنن في عزلتها، مما سيؤدي بها إلى التفكير المتواصل لازالة الخير والتميز من الآخرين، وبذلك سيتشكل تجمعاً منبوذاً كلياً، لعدم فاعليته ولمواقفه التآمر يه من الآخرين، وبذلك لا يمكن لها أن تعيش إلا إذا اخفت حقيقتها وأظهرت ما ليس فيها وبذلك سيغدو هذا الفعل _ التظاهر _ كأحد أهم الصفات لهذه الجماعة .


















الدين والسحر

يقول علماء الاجتماع أن الدين ظاهرة اجتماعية تتعلق بالمجتمع، أما السحر فهو ظاهرة تتعلق بالفرد فقط ، فألدين وسيلة للحفاظ على وتيرة تطور المجتمع، والسحر وسيلة لتحقيق مآرب فردية، تتعلق بفرد أو بضعة أفراد، فكيف انقلبت الأمور في مصر القديمة، بعد زوال الهكسوس وأصبح السحر يطغى على الدين، بحيث كان أحد أهم معالم المجتمع المصري الفرعوني، وتعاظم أمره حتى أنه تماثل في مرتبته مع الدين إن لم يسبقه ؟، إذا رجعنا إلى الفترة التي حكم فيها الهكسوس مصر، سنجد بأنها فترة تحققت فيها العدالة الاجتماعية والاقتصادية لعامة السكان، وعلى حساب الخاصة من كهنة وحكام وقادة عسكريين ومد راء أقاليم، ولم تقتصر تلك العدالة على الجنس الهلالي وحسب، وإنما شملت عامة المصريين أيضا، وكما تحدثنا سابقاً إن الهكسوس الذين اتبعوا التوحيد في مصر، وضعوا لها قوانينها ومفاهيمها التي وضعت منذ عهد إبراهيم عليه السلام، والتي جاء يوسف واخوته من بعده إلى مصر وعملوا على نشرها وتطبيقها، وبقيت مكتوبة ومتداولة بين السكان، بحيث أنها أصبحت جزءاً من الثقافة السائدة عند المجتمع ، وبما إن الدين له خصوصية عند المجتمع فقد أخذ وضعاً استثنائياً عند المصريين، لانه حقق لهم العدالة الاقتصادية والاجتماعية وحررهم من الهيمنة الفرعونية، التي وضعت نفسها كآلهه فوق البشر، من هنا كانت هناك عقيدة توحيد متجذرة عند المجتمع في مصر، وان إضعاف أو إزالة تلك العقيدة بحاجة إلى وسائل خاصة عدا الوسائل التقليدية والمتمثلة في منع التعاطي مع الافكار والمعتقدات من خلال التعذيب والتجويع لمعتنقيها، وسيلة يكون بين ثناياها شيئاً من الانبهار، يدغدغ ويحرك القلب، من هنا جاء السحر كأحد الوسائل لإضعاف العقيدة عند المجتمع في مصر، فكانت المدارس الخاصة بالسحر والسحرة يتم تدريبهم فيها، وكذلك كانت المراسم الخاصة التي تعرض فيها قدرة ومهارة السحرة في الأماكن العامة، لتكون أولاً كأحد أشكال الرفاهية للسكان، وكوسيلة تشكك وتضعف عقيدة التوحيد، من خلال إظهار قدرات خارقة يقوم بها السحرة، ثانياً ومن ثم إلى أنها البديل لعقيدة التوحيد، حيث تم العناية بإظهار الخارق للعادة والأشياء والأشخاص، وبما أن مثل هذه الأعمال تتماثل مع بعض الآيات الدينية التي تتعامل مع الغيبيات، كانت من أنجع الوسائل لتحقيق المأرب الفرعونية .
من هنا إذا عدنا الى آيات موسى عليه السلام نجدها أيضاً من الخارق للعادة ـ العصا واليد ـ، ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ-;- (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ-;- غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ-;- (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ-;- (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ-;- (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ-;- سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ-;- (21)" طه فكانت آية موسى عليه السلام فيها ما يتماثل (شكلاً) مع الاعمال التي يقوم بها فرعون لتأثير في عقيدة قدرات السحرللمجتمع المصري (هكسوس ومصريين ) والمعلومة الثانية التي تعطينا إياها هذه الآية وجود قوميتين في ذلك العصر، من هنا جاء قول موسى عليه السلام "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) َفْقَهُوا قَوْلِي (28) "طه
أن العشر سنوات التي قضاها موسى عليه السلام في بلاد الشام وبالاضافة الى تعلمه النطق في صغره بلسان أمه الهلالية، جعله يجيد اللغة الهلالية أكثر من اللغة المصرية، فكأن هذه الاية تخبرنا بأن نطق كلمات اللغة المصرية أصعب وأشق على اللسان الهلالي، من هنا نجد بأن السورة تعطينا صورة أخرى من تلك الأعمال التي يقوم بها فرعون وحاشيته، للتاثير في عقيدة المجتمع، فكان يخصص أياما بمثابة أعياد يعرض فيها قدرات السحرة "قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) طه


المراجع

1 ـ تفسير الرازي
2 ـ القرآن الكريم
3 ـ الدين المصري / خزعل الماجدي
4 ـ الشرق الأدنى الحضارات المبكرة / جين بوترو ورفاقه ، ترجمة عامر سليمان
5 ـ النزعات المادية في الحضارة العربية الأسلامية / حسين مروة
6 ـ نشوء الامم / انطون سعادة
7 ـ أصول الفلسفة الماركسية / جورج بولتيزر
8 ـ فجر الحضارات في الشرق الادنى / هنري فراكفورت
9 ـ العراق القديم / جورج دو ، ترجمة حسين علوان
10 ـ بلاد آشور / أندريه بارو ، ترجمة عبسى سليمان وسليم طة
11سومر حضارتها وفنونها / اندريه بارو ، ترجمة عيسى سلبمان وسليم طه
12 ـ الكتاب المقدس العهد القديم
13 ـ نخلة طي / زكريا محمد
14 ـ مفصل العرب واليهود في التاريخ / احمد سوسه
15 ـ نقد النظرية السامية / د .توفيق سليمان
16 ـ الأسطورة والتراث / سيد القمني
17ـ بلاد ما بين النهرين / ليوا وينهايم ، ترجمة سعدي فيضي
18 ـ الحضارة الهلالية والتكوين التوراتي / رائد الحواري
19 ـ مقدمة في الانثروبولوجيا الأجتماعية / لويس مير ، ترجمة شاكر سليم الفهرس













الفهرس

1ـ تقديم ...................................... 11
2 ـ مدخل تاريخي إلى النص القرآني .............15
3 ـ الماركسة والدين.............................36
4 ـ الرؤية الأجتماعية............................42
5 ـ الرؤية الدينية ...............................43
6 ـ الزمن / عدم نضوج علم الكتابة .............52
7 ـ أول الكتب السماوية ........................62
8 ـ يعقوب وأولاده عليهم السلام ................71
8 ـ الدين والسحر................................96
9 ـ المراجع ................................. .99



#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملحمة جلجامش النص الكامل
- محلمة جلجامش -الطوفان-
- هواجس
- ملحمة جلجامش - الحلم
- محلمة جلجامش -الثور السماوي-
- ملحمة جلجامش -غابة الأرز-
- ملحمة جلجامش -انكيدو في اوراك-
- ما هو المطلوب في سوريا
- محلمة جلجامش -البغي والوحش انكيدو-
- ملحمة جلجامش والجنس
- ملحمة جلجامش والآلهة
- الملعون لبدر عبد الحق
- حاجتنا إلى الإمام علي
- نزف القلوب لجهاد دويكات
- ملحمة جلجامش والمقدس
- ملحمة جلجامش
- عودة الوعي لتوفيق الحكيم
- غالي شكري واسرار الارشيف الثقافي السري
- اعمدة الحكمة السبعة
- ( النص القرآني) السحر والدين


المزيد.....




- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
- المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا ...
- الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا ...
- “تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش ...
- بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو ...
- سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - مدخل النص القرأني (الكامل)