سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 4341 - 2014 / 1 / 21 - 17:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الله بين المعنى واللامعنى – جزء ثالث.
نحو فهم للوجود والحياة والإنسان (8)
فى الجزأين السابقين تناولنا المعنى والغاية والقيمة كمنتج فكرى إنسانى يمنحه للأشياء لتكون بمثابة إسقاط الإنسان لإنطباعاته على الأشياء ولم تستثنى تلك الرؤية خلق الإنسان لفكرة الإله ليرسم ملامحها ويسقط صفات ومعانى إنسانية على تلك الفكرة لنتلمس بشريتها فى كل ملمح من ملامحها .
سنعتنى فى هذا الجزء بالتعاطى مع المعانى والغايات التى أسقطناها على الإله لنجد أن المعانى هى معانينا ,بمعنى أن أى توصيف للإله جاء من الإنسان نفسه ولكننا بدون تعمد منحنا إستقلالية للمعنى والقيمة والغاية فى فكرة الإله لتستقل عن وعينا لتترنح فى العبثية واللامعنى بعدما وضعناها فى برج عاجى تتحرك فى فضاء الفكرة المطلقة .
- الله بين الغاية واللاغاية .
نقول أن الله خلق البشر ليعبدوه فهكذا كان سبب خلقه للإنسان " وماخلقت الإنس والجن إلا ليعبدون" ليعد بجنات وملكوت لعباده الصالحين ويجهز للكافرين والمشركين والأشرار حفلة جحيم أزلى ولكن هذا الإيمان الشائع يجعل الله تحت الحاجة بينما هو إله كامل عظيم عزيز منزه عن الإحتياج والرغبة و"إن الله غني عن العالمين".
هنا فكرة الإله تأرجحت بين المعنى واللامعنى فعندما أوجدنا للإله غاية فقد خلقنا له المعنى وعندما أردنا تنزيه الفكرة كفكرة كاملة منزهه عن الحاجة والغاية أدخلنا فكرة الإله فى العبثية واللامعنى . فالحاجة والغاية للإله جعلت له معنى وجودى بينما تحرير الإله من تلك الحاجات والغايات أفقدته المعنى ووضعته فى دائرة العبثية أى يخلق أشياء بلا هدف فبالرغم أنها تنزه الفكرة من بشريتها إلا أنها تستعدى العبثية واللامعنى كفعل بلا غاية .
- ضياع المعنى مع المطلق .
يقولون أن الله مطلق الصفات والقدرات وهى مقولة ليست ذات معنى كونها تتحرك فى الضباب لعدم وجود وعى بالمطلق واللانهائى إلا كمفهوم رياضى لا يشفى رغبات العقل فى الإحساس , ولكننا سنتجاوز هذا ونتعاطى مع فكرة الإله المطلق بصفاته لنقول أن فكرة اللامحدود المطلق هو الهراء واللامعنى بعينه فالتوصيف هنا لا يزيد عن سفسطة وشطحات لغة , فوجود وتفعيل أى صفة إلهية سيكون لها سقف محدود بمحدودية الوجود الإنسانى ,فمجال وجودها وحركتها محدد فى الملعب الإنسانى وحدود وجود البشرية كبدايات ونهايات , فالله سيغفر ويرحم ويَعدِل ويرزق الخ لتقف فى النهاية عند حدود وجود الإنسان ,فكيف نقول أن المغفرة والرحمة والعدل والرزق صفات مطلقة بينما هى محددة بحيز الوجود الإنسانى وحراكه بمعنى ان القضايا موضع العدل والمغفرة والرزق مثلا ستتحرك فى إطار المحدد والمحدود الإنسانى ,فالله لن يحقق العدل إلا على الأنسان فقط وليس على آلهة أخرى بحكم أنه إله واحد أحد ,ليبقى فى النهاية أن فعل ووجود وحدود الصفة مرتبط بالإنسان صاحب القضايا المحددة والوجود المحدود.
هشاشة الصفة المطلقة تظهر عبثية تواجد الصفة قبل المشهد الوجودى الذى تظهر من خلاله فعل الصفة فكيف يكون الله عادل ورحيم وغفور قبل الوجود الإنسانى .. أن يكون كلى الرحمة والعدل والمغفرة وماشابه من صفات كلية ومطلقة عبث لغوى , فالكلى والمطلق فى صفاته يعنى أن الصفة حاضرة فاعلة من الأزل إلى الأبد ولكن لا توجد صفة بدون ميدان تثبت وجودها , فلن أصف جنين أنه طبيب ماهر إلا عندما يمارس مهارة الطب..وكذلك الكرم يكون على الشيء لا على اللاشيء , وكذلك الرحمة فلكى تكون هناك رحمة لابد من وجود مرحوم .
الصفات تكون لها معنى فى إطار محدوديتها فالإنسان يمكن ان يكون رحيم وعادل ومنتقم وغيرها من الصفات كون صفة محدودة فهو يمارس العدل حيناً والإنتقام حيناً والمغفرة حيناً بينما إطلاق الصفات ستعنى اللامعنى والعبثية , فكون الله عادل فيعنى ان أنه يمارس عدله على الإطلاق فلا يفارقه لحظة فى أزليته أى لن يمر مشهد دون ان يوزنه بميزان عدله وهذا يعنى أيضا كلى الرحمة والمغفرة لذا يستحيل أن أن تتحقق أى صفة فى حضور الأخرى ,فحين تتحقق العدالة تتلاشى الرحمة والمغفرة وكذلك حين تتفعل صفتى الرحمة والمغفرة لن تجد العدالة لها مكاناً فحضور وتفعيل الصفة فى لامحدوديتها تلغى الأخرى تماما .
لقد ضاع المعنى الذى أسقطناه على فكرة الإله عندما حلقنا بالفكرة فى فضاء اللامحدود والمطلق وهذا يثبت بشرية الفكرة .
- هل الله بسيط أم معقد ؟!
إشكالية أخرى فى فكرة الله عندما نبحث له عن معنى فلو أطلقنا سؤال هل الله بسيط أم معقد فالأمور هنا لا تتحمل إلا إجابة واحدة من هاذين النقيضين ليصبح إختيار أى إجابة منهما ناسفاً لفكرة الإله فلو قلت أن الله كيان بسيط يتكون من وحدة واحدة فحينها يكون الصرصار أكثر تعقيداً من الله وهذا لا يليق بجلاله كما يضعنا أمام إشكالية البسيط الذى خلق المعقد والتى لو تم إقرارها فسنصل إلى مادية الوجود والإلحاد لذا ليس أمامنا سوى أن يكون الله معقداً بل قمة فى التكوين والنظام وهى الرؤية التى تليق بإله ولكن هذه الرؤية ستنفى وتبدد أزليته وسرمدتيه بل ألوهيته. فلا يمكن لله ان يكون معقداً مركباً , فالمركب يعنى انه يتكون من أجزاء تشكل وجوده .وبداهة أن وجود الأجزاء يسبق وجود الكل , فالمركب تكون من مجموعة أجزاء سبقت المركب فى الوجود .إذن القول بأن الله معقد يناقض أزليته ووحدانيته وكونه سبب بدون مُسبب ,فلابد من وجود علة تضم الأجزاء لبعضها لتنتج المركب لأن الأجزاء لن تنضم وتتراكب مع بعضها بدون علة سواء عاقلة أو غير عاقلة لتضم هذه الأجزاء وهذا ينفى أزلية الله ووحدانيته فهناك علة قامت بتركيب الأجزاء .. ولا تكتفى إشكالية الله المعقد بالنيل من أزليته وحدانيته بل تنال لما يقال عنه لامحدوديته ,فالمركب محدود بكمية أجزاءه ومقداراها ومحتوياتها .
- الكمال هو اللامعنى .
لو فكرنا في صفة الكمال كحالة مثالية لا تقبل النقصان ولا تحتمل الإضافة سيحق لنا أن نسأل : هل الله كاملا ً على الدوام أم إكتمل بفعل الخلق ؟! - فحدث الخلق يُعتبر فعلاً مستحدثاً تم إنجازه لم يكن متواجداًُ فى الحالة الإلهية .. أى أن الله لم يكن كاملا ً قبل الخلق فهناك فعل لم ينجزه بعد ثم إكتمل بإنتهاءه من صناعة الكون والخلق ..إذن حالة الكمال الإلهي هنا حالة تشوبها النقصان والتطور والنمو فليست بثابتة ولا مطلقة ولا أزلية ولا أبدية لتتشخص كحالة إنسانية تنجز أفعالها وأعمالها .
الصفات المطلقة اللامحدودة تنال من فكرة الكمال الإلهى فكون الله غير محدود فهذا يعنى انه فى كل يوم بحالة بحكم ان اللامحدود لا يوجد له نهايات ولا حدود تحده فهو مستمر فى الإنطلاق ,لذا فلن يتحقق الكمال حيث هناك فى كل لحظة إضافة للمزيد فى محتواه .
يأتى فى سياق إشكالية الكمال جدوى الخلق ,فإذا كان خلق هذا الكون الهائل لا يزيد من كماله أو يُنقصه ,فهو مُكتفى بذاته لن يزيده الوجود والكون ولن ينال منه ,فمن المُفترض أن الله قبل الخلق مُكتمل كما يروجون فلن تزيده عملية الخلق كمالا ً وبالتالي خلقه لهذا الكون الهائل بكل محتوياته يأتى فى توصيف العبث واللا معنى .!!
تأكيدا لهذا المنظور ماذا تكون إجابتنا على السؤال التالي : هل يقدر الله على خلق جبل ضخم ولا يحتاجه؟ - إذا قلت أنه يقدر أن يخلق جبل فهو هنا لدية غاية ورغبة وقدرة يحققها ليسقط في بئر الغاية والأمنيات مما يجعله مثلنا كمفردة وجودية ذات غاية ولكن بحجم كبير فقط فهو يرغب ويريد ويفي حاجته لتتولد له حاجات ومشاريع أخرى ..الحاجة تعنى عدم القدرة وإلغاء الكمال والارتهان للحدث والزمن .ولو قلت يمكن لله أن يخلق جبل بل كون بأكمله ولا يحتاجه فهنا ستتحقق صفة القدرة في الخلق لجبل ضخم كما سيتنزه الفعل الإلهى عن الحاجة والغاية ولكن سيسقط فى بئر اللامعنى واللاغاية والعبثية .!
لا يتصور أحد أن الكمال شئ رائع ذو معنى فهو اللامعنى والموت والجمود بعينه فما معنى ان تكون كاملاً لا يوجد شئ ينقصك وليس لديك عمل تنجزه ولا خطة تريد تحقيقها ولا غاية ولا هدف ولا خطة ولا تطور ولا حيوية بل وجود بلا أى فعل ككتلة ساكنه بلا حراك..الحياة والمعنى والقيمة تكمن فى النقص ليستأثر الكمال بالعبثية واللامعنى والعدم
إن تفكيرنا الإنساني بكمال وغنى الله نشأ في البدايات كإستحضار لصورة ملك عظيم تخضع له الجماعة البشرية وتقدسه، يمتلك مملكة عظيمة وتحاط صفاته بالحكمة والعظمة ,فالملوك القدامى كانوا آلهة أو أبناء آلهة أو صور للإلهة .. لذا كان الانتماء للجماعة هو الإخلاص للملك باعتباره رمزا للسمو والكمال واجب التقديس, لتنتقل الصورة بنفس ملامحها من الملك الإله إلى الإله الملك .
أسقط الإنسان مع بداية نشأة الحياة العقائدية هذه الصورة على الإله وعلق صورة هذا الملك في السماء وفرد أهل اللاهوت الصفة ومددوها لتخرج من قالبها الإنسانى وتتمرد عليه حتى يصبح للإله وجود مفارق وليس كوحدة وجودية شأن الإنسان ليحل التناقض بالضرورة بحكم أن الصفات بشرية محدودة الفعل والتأثير ,لا تقبل أن تمتد للمالانهاية وهكذا انتقلت فكرة الإله من المعنى إلى اللامعنى عندما تم إطلاقها فى اللانهائى .
- الله الصامت
كان تأمل الله الصامت أول تأملاتى المُندهشة والمُشفقة على الله لتنطلق مع السنين تأملات أخرى تتحسس حجم العبث الذى نال فكرة الإله من إطلاق صفاته وقدراته بلا حدود فبدلا من أن تمنحه التمجيد والتعظيم والإعجاب أفقدته المعنى ومنحته العبثية .
الله أزلى أبدى قبل كل الدهور وكذلك هو واحد أحد متفرد خالق الوجود وهذا يعنى أن كل المخلوقات من إنس وجن وشياطين وحتى الملائكة الخادمة المسبحة له جاء وجودها فى وقت لاحق فأنت لا تستطيع ان تفترض وجود مصاحب للإله فى أزليته وإلا أفقدته ألوهيته , وهذا يعنى أن الله منذ الأزل ولأحقاب زمنية سحيقة فى اللازمان كان وحيداً بلا ونيس ولا جليس ولا خادم .. كان الله وحيدا يعيش فى صمت رهيب مطبق .!
المُفترض ان الله ظل صامتاً بعد الخلق أيضا فليس لكلى العظمة والجلال ان تكون له عائلة أو صديق أو ونيس يأنس ويحتاج صحبته علاوة على إستحالة تواجد علاقة بين اللامحدود والمحدود أى بين الخالق والمخلوق , فالله لن يحكى ويتواصل ويتسامر مع حدا ليعيش هكذا حياة سرمدية صامتة. !!
ياله من شعور قاسى وحالة وجودية عبثية بلا معنى فالله صامت صمتاً رهيباً فى أزليته وأبديته لا يحكى مع حدا فلا وجود لأى شئ يكسر وحدته وصمته القاتل .!-لنسأل ماهو توصيف حالة الصمت الأزلى هذه فألا تمنحنا اللا معنى .!
- الله لم يفعل أى شئ بعد اللحظة الخالقة .
نخوض كثيرا فى الإنسان هل هو مُسير أم مُخير .. الفكر الدينى يمنحنا فكرة أن الإنسان يسير وفقا لأقدار مرسومة مرتبة ولكن لن يعنينا فى هذا التأمل تلك القضية بل سنخوض فى الله هل هو مُسير مُبرمج أم لا .
علم الله الكلي بالمستقبل يعني أنه يعرف مسبقاً أفعالنا كما يعلم أفعاله هو أيضا.. فالله قرر مسبقاً وكتب في علمه المطلق جميع أفعاله منذ الأزل وحتى الأبد فهذا ينسجم منطقياً مع فكرة المعرفة الكلية المطلقة كما ليس من المعقول أن يعرف مستقبلنا ولا يعرف مستقبله فعدم إدراكه تجعله واقع تحت حكم الزمن والمجهول مما يبدد ألوهيته ومعرفته المطلقة , كما أنه لا يستطيع أن يحيد عن معرفته المطلقة لذاته فيغير من مواقفه وقرارته مستقبلاً لأن هذا يعنى أن هناك حدث مستقبلى لم يُدركه لذا يحتاج أن يغير مما كان يعلمه مما يفقده المعرفة والعلم المطلق ,كما يعنى أنه تحت تأثير الحدث وما سينتابه من ردود فعل مجهولة وهذا يقضى على ربوبيته قضاءاً تاماً وينعته بالعجز والرضوخ لحدث خارج عن إرادته يتأثر به ويتفاعل معه .
ماذا يعنى هذا .. يعنى أن الله توقف عن إتخاذ أى قرار منذ تلك اللحظة فهو رتب وقدر وقرر وعلم كل الأحداث فى لحظة زمنية ما , فهو سيخلق آدم ويخرجه من الفردوس ويرسل الأنبياء ويرسم قدر كل إنسان ويحدد رزقه ومصيره سواء بالجنه أو الجحيم لتتضمن تلك المعرفة كل التفصيلات الدقيقة ولكن ما يهمنا و نريد التركيز عليه أن معرفته لكل مليارات التريليونات المشاهد منذ الخلق وحتى يوم القيامة تم تقريرها مرة واحدة فى لحظة واحدة متفردة .. فالله لن يفعل شيئا بعدها سوى مراقبة هذا السيناريو بلا أى انحراف أو تبديل لنقول أن الله لا يفعل أى شئ فى الماضى أو الحاضر أو المستقبل فهو يراقب فحسب .
من فرط مبالغة المؤمنين فى إيجاد معنى عظيم لفكرة الإله فداء منحه العلم والمعرفة الكلية أفقدوا الإله بذلك المعنى ليصير ساكناً لا يتجاوز اللحظة الزمنية التى قدر ورتب وقرر ليكون وجوده صامت بلا حراك ولا فاعلية , فالأمور بالنسبة له إكتفت بالجهد فى لحظة زمنية متفردة ومن حينها هو لم يفعل شيئا ليكتفى بمشاهدة إعادة الفيلم دون أن يقدر على تغييره ولا تبديله فلو اقدم على ذلك ضاعت المعرفة الكلية والأقدار المرسومة ليكون الله هنا مُسير على نهج لا يستطيع الخروج عنه فلا يستطيع أن يغير مستقبله وغير فاعل لشئ منذ اللحظة التى خلق وقدر وقرر لتدخل تلك الحالة فى اللامعنى والعدمية .
- سرمدية الله بين المعنى واللامعنى .
يقولون أن الله أزلى ابدى أى لايوجد له إبتداء وانتهاء متصورين أن هذا يمنحه معنى كبير متميز ومتفرد ولكن هذا يفقده معنى الحياة والوجود , فالحياة تكتسب المعنى والقيمة من الإبتداء والإنتهاء وقيمة أى شئ فى الوجود هى فى وجود الضد حاضراُ ليجعل لوجوده معنى فما معنى حالة مستمرة متفردة فى الوجود بدون ضد ليحق لنا القول أنها موجودة .
قيمة أى شئ أيضا يأتى من ندرته كالذهب مثلا فهو ذو قيمة كمعدن نادر بينما رمال الصحراء بلا قيمة لعظم وجودها وانتشارها فما بالنا لو كانت لانهائية الوجود كالحالة الإلهية المُفترضة لذا قيمة ومعنى الحياة هى فى وجود الموت أما أن تصبح الأمور إمتداد فى اللازمان فهنا هى تفقد قيمتها .. وجود بدايات ونهايات للأشياء تعطى للشكل المعنى والقيمة والتميز لتحدد كنتها وجمالها ووجودها من وجود الضد الحاضر , فالضد هنا يحدد ملامح حالة أخرى ويثبت وجودها ويحقق قيمتها فلو الدنيا متعة على الدوام فلن نحس بهذه المتعة ولن نفهمها إلا بوجود الألم كذلك الحياة لن تكتسب المعنى بدون الموت , فالتحديد يخلق المعنى والقيمة والتعريف لدينا بينما الخط المستقيم اللا نهائى يفتقد للمعنى والهوية والقيمة .
- الفكر بين المعنى واللامعنى .
تخبرنا الأديان أن الله يعلم كل شيء منذ الأزل وإلى الأبد، بل يعلم حتى خياراتنا التي سنختارها وهذا يقودنا الى التساؤل عن هل الله يفكر أو ما جدوى التفكير بالنسبة للإله .. فنحن مثلا نفكر لأنه يوجد أشياء لا نعلمها ألحت عليها إحتياجاتنا كما أن لدينا خيارات من مشاهد متعددة نريد إنتقاء المناسب معتمدين على إستنباط شيء ما من تجاربنا ولكن ألوهية الله تفترض أنه لا يوجد لديه خيارات مستقلة ومنفصلة عنه ، ولا يوجد شيء لا يدركه، كما لا يريد استباط شيء من شئ ولا توجد لديه إحتياج للمعرفة لتفى حاجياته ,علاوة على عدم وجود إحتياجات .
الله بذلك لا يحتاج للتفكير، بل إن مقولة أن الله يفكر تتعارض مع صفته بأنه يعلم كل شيء، فإذا كان الله يفكر فهذا يعني انه يريد استنباط شيء معين، أو أنه يقوم بتحليل ما لأشياء معينه، وهذا لا يمكن أن يتوافق مع العلم المطلق .
إنعدام التفكير وإنعدام الخيارات امام الله تسمح لنا بالقول أن حياة الله بلا معنى ولا قيمة وتفتقد للغاية فقد صارت الامور فى إتجاه الجمود الميت فهو يعرف كل خياراته مسبقا وكل ما جرى وسيجري للكون بكل تفاصيله المملة، لذا هو لا يفكر، لأن التفكير لن يضيف له شيئا بل على العكس "كونه مفكر" يتعارض مع "كونه يعلم كل شيء"
شئ غريب فليس هناك بداية لمعرفة الله بأنه سيخلق الكون والانسان أى أن الله يعلم بأنه سيخلق الكون والانسان وهذا ينطبق على كل شيء خلقه الله أو سيخلقه , وهذا يعني أن الله لا يمكنه اتخاذ قرار معين ,أى أن الله لا يملك أية إرادة وانما هو عبارة عن "علم مطلق" مبرمج لا يخطئ ولا يستجد ولا يستحدث وهنا تحولت المعرفة من شئ يعطى المعنى والقيمة إلى حالة من اللامعنى والعبث عندما تفردت بالكلية والإطلاق .
- المعرفة المطلقة هى اللامعنى .!!
الحياة بلا معنى فى ذاتها فلو حاولنا ان نتأمل مشاهدها سنجد أن المعانى هى إنطباعاتنا عن الأشياء وفق معرفتنا وإحساسنا وإنفعالنا بها لنرسم لها معنى ومن هنا تكون المعرفة أولى خطوات تكوين المعانى ولا تكتفى انها تمنحنا إحساس بوجودنا بل يكون الرغبة فى المعرفة والسعى نحو تبديد مساحات الجهل هو بحث عن معنى وقيمة وقضية للحياة.
تكون المعرفة متعة الإنسان ولذته سعياً نحو التطور والإرتقاء فلو تصورنا اننا نعلم كل شئ ولا يوجد ما يستدعى معرفة شئ حيث كل الأشياء معلومة فلن يزيد حالنا عن جسم جاسئ استاتيكى ساكن بلا حياة ولا معنى لوجوده .
فرضية الله كمعرفة مطلقة لا يوجد لديه معلومة مجهولة أو غائبة فهو بمثابة أرشيف معلوماتى ساكن لا يتحرك لن يسعى للإستزادة بأى معلومة فهو يجلس على عرشه ساكناً محتفظاً بمعلوماته دون فعل أو عمل أو جهد فلا يوجد ما يجعله يبحث أو يفكر أو يناضل للمعرفة ... اعتقد ان حياتنا رائعة بهذا النضال بين العلم والجهل فهكذا تكون للحياة معنى بينما حياة الإله تصبح بلا معنى فهو ارشيف ,وبذا تحولت رغبتنا فى منح الفكرة العلم والمعرفة المطلقة كتمجيد وتفخيم لها إلى تحويلها إلى حالة ساكنة عبثية بلا معنى
- الثبات واللامعنى .
رسم الفهم اللاهوتى الله ككيان ثابت لا يتغير ولا يتبدل ولا يتطور ولا يخطئ بالرغم ان السرد الميثولوجى لا يعطينا هذا الفهم ليكون سبيل أهل اللاهوت منح فكرة الله معنى الثبات والديمومة والإكتمال فلا تعتريه الأهواء ولا يخوض التطور والإرتقاء فهو كامل فى غير حاجة إلى الإضاقة والحركة التطورية لذا إنتقلت الفكرة من معنى مُراد به التفخيم إلى اللامعنى فقد جعلت فكرة الإله كيان ثابت جامد إستاتيكى بينما الإنسان أكثر حيوية كونه يتغير ويتطور ويجتهد ويصارع لتكون لحياته معنى ولتفقد فكرة الإله معناها عند فعل الإنسان المناضل.
جماليات الحياة وثرائها تنشأ من إحتواءها على ضعف وقصور وأخطاء فلا معنى لحياة تسير فى خط مستقيم ثابت بلا أى ميل أو إنحراف أو تعثر فهنا لن يكون للحياة أى معنى ,لذا هل لنا أن نقول ان الإنسان الذى أبدع فكرة الإله المطلق الثابت أخطأ بتوهمه أن المثالية المطلقة ذات معنى .
-الحرية واللاحرية .
الله حر وله مشيئة ولا يمكن إعتباره غير ذلك فليس من المعقول أن الإنسان حر وإلهه فاقد الحرية ولكن سياق تمدد صفات الإله تنزع عنه الحرية , فالله خير وكلى الصلاح ولا يستطيع أحد أن يقول عنه شرير ينتابه الخطأ والطيش فى أفعاله أى أنه فاقد الإختيار أن يكون شريرا .
الإنسان يمارس الخير أحيانا ً والشر أحيان أخرى لذلك فهو حر ولكنه ليس كلى الخير والصلاح فهو يخطأ فى تصرفاته بينما الله يمارس الصلاح على الدوام فهكذا هى طبيعته فيستحيل أن يخطأ بغض النظر عن تغاضينا لسؤال مصدر الشر ولكننا سننصرف عن ذلك لنعتنى بكلى الصلاح التى ستدفع فكرة الإله إلى فقدانه لحريته فهو يستحيل أن يخطأ نتجة طبيعته الخيرة وهذا يعنى أنه ليس مخيراً أن يفعل الخطأ والشر بل مجبول على فعل الصح فقط وبذا لن يكون حرا .
تصوراتنا أن يكون الله خيراً لا يخطئ بغية تعظيمه وتبجيله بمنحه معنى جميل ولكن الإطلاق أصاب الفكرة باللامعنى فليس لديه خيار أن يفعل غير الخير لنحظى على فكرة مبرمجة فاقدة الحرية .
- البرمجة لا تعطى معنى .
الله يغضب وينتقم ويثور حسب التراث الدينى بالرغم ان الغضب شعور انفعالى يعنى أن الحدث مستقل عن الله وليس فى ترتيبه بل مؤثر عليه لينتج رد فعل متمثل فى الغضب فلنا ان نتحسس أننا أمام صفة بشرية تم إسقاطها أو إعارتها لفكرة الإله ,الله لا يمكن أن يكون حراً طالما يمتلك المعرفة الكلية التى تجعله يدرك الأشياء منذ البدء فالمعرفة مكون فى ذاته وليس مستحدث .. فعندما يقال أن الله غضب من قوم لوط فهو غضب قائم قبل ان يتواجد الخلق والوجود , فغضبه عليهم جاء فى ذاكرته عن الأحداث التى ستكون ..فهل يمتلك ألا يغضب عليهم بعدها أم انه سينفذ مافى الذاكرة الإلهية من معلومات وإنطباعات .. إذا كان لا يملك تغيير مساره فهو محكوم بمعرفته فهنا يكون غير حر .
تأمل إضافى عندما نقول ان الغضب فى المعرفة الإلهية ليس شئ وارد بل متواجد معه منذ الأزل فهذا يعنى ان الله غاضب منك منذ الأزل لأنك قبلت بنت الجيران والأزل هنا مصاحب لوجود الله فى اللانهاية السرمدية.!
- الله الغني والعظيم بين المعنى واللامعنى .
الله غنى وعظيم مقولة ذات معنى منحها الإنسان للإله بغية تعظيمه وتبجيله ولكن بدون أن ندرى أفقدنا فكرة الإله المعنى وأدخلناه فى اللامعنى ,فالله واحد أحد متفرد فى الوجود لا شريك له فمن أين جاء إذن تقييم الغنى والعظمة طالما لا يوجد من ينازعه على أملاكه وعظمته , فالملكية والعظمة لا تتحقق ولا تتواجد بدون وسط منافس ومنازع فمن المُفترض أن الله غنى لوجود فقر فى وسط مجاور ,ويكون عظيم لوجود من هم أقل منه عظمة فكيف يكون هذا والله واحد وحيد بلا منازع او منافس .
لمن لا يدرك فكرة أن الصفة تتحقق من وجود ضدها حاضراً حتى تخلق كينونة للصفة فيكفى ان يتأمل معنى أن تكون غنياً وصاحب أملاك وعظمة بدون أن تبذل مجهودا لتصبح غنى وصاحب أملاك وعظيم ,وبدون وجود يشيد بثرائك وعظمتك .
نحن تصورنا الإله كملك أو إمبراطور عظيم حتى نعطى معنى الفخامة والقوة لفكرة الإله ولكن فى زحمة زهونا وإطلاقنا لتلك الصفات بلا حدود انحرفنا بالفكرة إلى اللامعنى .
*تأملات إضافية .
الإنسان هو خالق المعنى والغاية والقيمة ولا تكون فكرة الإله إلا صورة لمعانى وغايات غير متحققة تم إسقاطها على فكرة الإله لتعطى أمل بدلا من ترك المعانى والغايات فى العراء بلا حاضن لها .
سر تواجد الخرافة أن الإنسان لا يرى الأشياء كما هى بل كما يريدها وقد يكون هذا من جماليات الفكر البشرى أنه ليس صارماً فهو يشكل الصور كما يريد ان يشاهدها خالقاً معانى وإنطباعات من ذاته ولكن الإشكالية تأتى عندما يتصور أن عمليات ترتيب الصور ولصقها هى حقيقة متغافلاً أنه المنتج الوحيد لتلك الفكرة والتصور.
فكرة الإله هى فكرة وضع فيها الإنسان معانى وغايات كثيرة لتصبح تلك الفكرة بائسة عندما تفقد المعانى المصاحبة لها وتصير الفكرة عبثية عندما نمددها فى اللانهائى .
فكرة الإله هى رغبة إنسانية لإنتشال الحياة من عبثيتها بمنح معنى لوجود بلا معنى وبقدر انها أوحت انها أوجدت الحل إلا انها وضعت فكرة الإله فى قفص العبثية بديلا عن الإنسان عندما إنطلقت الفكرة بلا حدود لتصيبها العبثية فى مقتل.
طفولية الإنسان جعلته يخلق عالم أخر حباً فى البقاء وليجعل لحياته مغزى وهدف ..لذا منح فكرة الإله الأزلية والسرمدية والقدرات اللامحدودة فليس من المعقول ان يكون خالدا بدون إله خالد ومن هنا وقعت الفكرة فى العبثية واللامعنى ,فالفكرة الإنسانية لا تتحمل ان تكون ذات أطراف لانهائية .
كل الفلسفات والأفكار والأديان جاءت لتطفى معنى وحماس للحياة بخلق قضية تُحرر الوجود من عدميته ليكون الخلاف بين من يؤمنون بوجود إله ومن لا يؤمنون هى رؤية كل فريق لكيفية التعاطى مع الحياة فهناك من لا يستطيع التخلص من غموضها وقسوتها بدون أن يعتمد على وجود صندوق أسود ,وهناك من يرى أننا قادرين على خلق معانى متحررة نعيش بها الحياة .
إذا كانت فكرة الله لا تفى معنى وقيمة فهنا يصبح وجوده أو عدم وجوده ليس بذات أهمية ولكن إذا إعتبرت وجوده ذو معنى فيلزم أن تفكر هل الحاجة والمعنى هى لهذه الفكرة أم يمكن تحقيقها من فكرة أخرى ,أى تمتلك إدراك حقيقى بأن فكرة الإله بالفعل هى من تقدم لك المعنى والحاجة .
إشكالية فهمنا للوجود هو أننا نبحث عن غاية له لننتج أفكار ومعتقدات وخرافات فى ظل هذه المنهجية الباحثة عن غاية لنجعل غايتنا فى الحياة والبقاء كصنم نعبده ينفصل عن ذواتنا حتى لا يذكرنا بأن الوجود بلا غاية . صعب أن تدرك أنك ريشة فى الهواء مالم تكن قادر على إستيعاب ذلك وتحمله .
الإنسان يؤمن بالميتافزيقا والآلهة لأنها تحقق له طفوليته وغروره بإحساسه بالتفرد بأنه محور الوجود والإهتمام ولا يكون الغرور والنرجسية هنا تعبير فج عن الغطرسة فحسب بقدر ماهو غرور الفكرة والمنهج الذى يريح إنسان مضطرب عاجز مهمش لتعطى له دعم نفسى أنه مازال متواجداً فاعلاً ضد التهمييش الوجودى , وإذا كان هذا يريحه فلن يسعفه فى التعاطى مع الوجود بهذا الفهم المغلوط , فالفهم الحقيقى هو أنه وحدة وجودية متطورة تتعاطى مع الوجود لتفهمه وتتناغم معه وعليه أن يتعامل معه هكذا بدون أى إضافات أو غايات صنمية تجعله يتوهم أنه محور الحياة .
فكرة الإله هى الأنا العميقة الغير مُدركة فى الداخل الإنسانى لفكرة "الإنسان الإله" الذى أراد أن يُجسد رغبته فى سيادة الحياة فى صورة خيالية مفترضة جاءت بعد إحباطه فى مواجهة الطبيعة فعبد الفكرة كذاته وأحلامه المهدورة .
فكرة الإله هى التعاطى مع الوجود كما نريد وليس كواقع وجود. لتفقد الفكرة منطقيتها عندما تمددت لتصبح فكرة بلا معنى .
دمتم بخير .
-"من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " حلم الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟