سبع مداخلات نقدية ..وقراءة قصيدتين وتوقيع كتابه الجديد:
الاجيال الشعرية تحتفي ب كمال سبتي في مدينة لاهاي.
قامت مجموعة من الشعراء العراقيين بتأجير صالة محاضرات في مدينة لاهاي ودعوة الشاعر المنعزل كمال سبتي للأحتفاء به بعد صدور مجموعته الشعرية السادسة آخرون قبل هذا الوقت.كانت الأمسية هي الاولى للشاعر في هذه المدينة على الرغم من انه يعيش في هولندا منذ اكثر من 5 سنوات. وقد بدأت بقراءة مداخلات نقدية عن شعره كتبها شعراء من اجيال مختلفة اضافة الى مداخلة الناقد ياسين النصير.
كمال سبتي الذي اعلن عزلته الشهيرة في صومعة الشعر كآخر ملاذ مقدس يمكّنه من آخذ الثأر...الثأر الذي يختارله في قصائده ابطال المدن القديمة وحكايا نسوة كان اولها في صيدلية عتيقة... كمال سبتي لبى دعوة اصدقائه الشعراء وحضر الى مدينة لاهاي يوم الثالث من تشرين الثاني الجاري .
كمال في اقصى مدنه المقدسة من جنوب الذاكرة.. مروراً باندلس تركت فيه قرآنا من الوجد تتناهبه مدن من زمن الوصل....تراها في ثنايا نصوصه ولا تمسّك منها سوى ذكرى ألم يتوارى خلف جهات....اندلس طلب من نخيلها فيء بغداد. "ماكنت غيرك فلماذا غيرتني في هذا الليل"... كلمات كنا نرددها في ليل منفى صحراوي وصلتنا فيه مجموعة كمال سبتي باهداء شفيف (( الى كل من بقي منّا يتذكّر تلك المعجزة؛ حياتنا هناك)) لتعلن تواصل معجزة ان نحيا من جديد ونلتقي في ارض اخرى... وكنا نتابع كمال سبتي شاعرأ انشغل بهموم وطنه في كتاباته في صحف عربية وعراقية معارضة... وكتب عن ذكريات بغداد في البذخ الهائل للفعل : كان.
الحديث عن كمال سبتي حديث عن بغدادٍ لازال يحنّ الى فنادقها الرخيصة ويتذكّر اخر بنطال نسيه في فندق الصياد هناك ... الكتابة عند كمال بهذه الشفافية المؤلمة تجعل منه ذاكرة من حنين وطن كامل .. هذا الوطن الذي لم يرد بصريح المفردة في كل مجاميعه الشعرية لكنه موزع بين وجوه صبية وعميان وأمرأة المحطة اذ تلقي عباءتها على برد جنود...ومعه ايضا خاتمه الفضي والاسم الذي لم يسمَ به احد في زمانه .. ومعه تعويذة الرجل المذبوح.. فياللغة التي يسهر لها وينام فيها كمال سبتي... ياللمصير الذي يناديه
(( يامصير هب لنا من لدنك قوّة لا تشبه سرابنا))...حزن وجودي يمرّغه كل ليلة بعناء الشعر...حزن الفرد بمواجهة العالم من خلال القاء الاسئلة الشخصية ذات الصفة المصيرية، الذي تحدث عنه الشاعر زاهر الجيزاني في المقال الذي لم يقرأه كمال يومها لأنه هرب من العراق تاركاً "متحف لبقايا العائلة" والمعاني المعلٌّّّّقة فيه قيد بحث وتداول الاصدقاء.
في مجال النقد كُتب الكثير عن كمال سبتي الشاعر المتجدد، وأفردت للشاعر دراسات وبحوث فيما يتعلق بتأثيراته واضافاته في النص العربي، ومجال البحث في تلك الكتابات يطول. والتي ربما سيكون لكم سادتي الحضور شأن في تداولها مع الشاعر بعد قليل.
بهذه الكلمات قدّم كاتب هذه السطور للأمسية الاحتفائية.
وكان للشاعر حميد حداد مداخلة طويلة بدأها بالقول ان كمال سبتي بالنسبة لنا ليس شاعرا كبيرا في الشعر العراقي فقط انما في الشعر العربي ايضا،وكانت مداخلته بعنوان( شعرية الاصغاء الى الذات)،
نقتطف منها التالي :
" آخرون قبل هذا الوقت"كتاب شعري سادس للشاعر كمال سبتي صدر مؤخرا, يضم اربع قصائد هي البلاد ومكيدة المصائر وحكاية في الحانة وآخرون قبل هذا الوقت التي يحمل الكتاب عنوانها.والملاحظ تاريخيا ان كمال سبتي لم يصدر كتابا شعريا منذ ما يقرب من عشر سنين وبالتحديد منذ عام 1993 اذ اصدر كتابه الخامس وهو عبارة عن قصيدة واحدة طويلة"آخر المدن المقدسة" مما يعني ان كمالا قد مارس اصغاء طويلآ وتوحدا مدهشأ مع نصوصه الاخيرة الاربعة التي كتبت في فترة طويلة نسبيا. والمعروف عن كمال سبتي هو اصداره كل ثلاث سنين كتابا, ففي عام 1980 اصدر وردة البحر وعام 1983 ظل شيء ما وفي عام 1986 اصدر حكيم بلا مدن اما كتابه الرابع متحف لبقاية العائلة فقد صدر عام 1989 والذي شكل انتقالا نهائيا الى النص النثري وليؤسس لذائقة شعرية خاصة هي شعرية الاصغاء الى الذات اذا صح القول, وهذا الاصغاء العميق الى الذات والتوحد المنقطع اليها هو الذي يفسر الفترة الطويلة التي استغرقتها كتابة آخرون قبل هذا الوقت . وفي محاولة الى الاصغاء مع كمال الى نصه نقترب اكثر الى اجوائه وسوف يمنحنا ذلك مفتاحا حذرا للدخول غير السهل الى عالم سري سكانه فلاسفة وصوفيون وشعراء وباطنيون ومجانين وسكارى الخ.. من اناس غيرعاديين , فيقتضي التعامل الحذر مع مساحة ضاجة بكل هؤلاء, وعلى القاريء ان يضبط ايقاعه الداخلي ليتناسب مع الايقاع الذي يعتمده كمال سبتي في الكتابة لكي لايفقد الخيوط المتشابكة وليتمكن بالنتيجة من نسجها مجددا" .
بعد ذلك قـُرأت مداخلة الشاعر احمد عبد الحسين التي بعثها من كندا وهنا نص المداخلة وعنوانها:
مجرد إحتفاء بشاعر كبير
(( كمال سبتي شاعر من طراز فريد. وفرادته تعلن عن نفسها بلا صخب .نحن الذين قرأناه في مقتبل أعمارنا ندرك الان انه كان (بعون من إيمانه الكبير بالشعر) هو الاوفر حظاً في الحضور كممثل عن الشعر العراقي في نماذجه الأكثر إضاءة وتاثيراً.
كان هو المختلفَ في محفل شعراء السبعينات الذين أسسوا حقبة ذهبية لشعرنا العراقي.
اختلافه عنهم لم يكن تضاداً، على العكس فقد كان يشاركهم تلك الاندفاعة التي ستحرض الاجيال اللاحقة على رود مناطق جديدة.
لكن أداءه الشعري كان ينبئ انه يحوز، خلافاً لأقرانه، الأدوات التي ستمكنه من الاستمرار حتى بعد أن تنطفئ الأضواء ويخلد الشعراء مطمئنين الى ما أنجزوه. ولقد تحقق ذلك.
فرادته هي التي جعلته أقلّ تنظيراً في الوقت الذي كان فيه مجايلوه يحاججون بلا هوادة عن مشروعهم ( مشاريعهم .(
وفي أواخر الثمانينات حين فقد الشعراء شهوة الكلام عن التخطي والتجاوز، تكلم كمال سبتي عما يريده من النص.
حين نستذكر الان ما كتبه في تقديمه لنصه (حروف المصحح) نجد الفارق العميق بين من يكتب ليدافع عن الحيّز الذي يتموضع فيه اشتغاله الشعري وبين من يريد لكتابته ان تكون منطلقاً لتوسيع هذا الحيز واثرائه.
تلك المقدمة التي لم ترقْ لبعض النقاد آنذاك ، تتضح أهميتها اليوم لمن يتابع الانجاز اللافت الذي يطالعنا به كمال في كل نص جديد له.
أهميتها تكمن في كشفها اننا أزاء شاعر يزن كل خطوة من خطواته بميزان يقظ ، فالحلم باجتراح فضاء كتابي مختلف، الحلم الذي احتوته تلك المقدمة القصيرة لكن الثرية، سرعان ما وجد مصاديق له بعد خروج كمال سبتي من وطنه الى منفاه.
جاء نصه( آخر المدن المقدسة( النص الذي أشهر بوضوح ابتعاد الشاعر عن مجمل الأداء الشعري السائد عربياً) ثم نصوصه اللاحقة التي كان آخرها (آخرون قبل هذا الوقت) لتكرس تلك الفرادة التي ستمنح كمال الحيّز الذي يستحقه في خارطة الشعر العراقي والعربي.
نصوصه الطوال امتلكت( خلافاً لملاحم شعراء آخرين) منطقاً شعرياً متماسكاً لا يبرر طول النص وحسب، بل يجعل منه ضرورة فنية تتناغم مع قول شعري أراده الشاعر أن يكون معبَّراً عنه بصنوف من الأداء
مستمدّة من التنقل بين التخوم واللعب الحرّ، لكن المؤسس على أرضية معرفية لا تخطئها العين الباصرة.
ندر ان يستثمر شاعر ما (نفيه) المكاني بهذا العمق ليجعل منه اسماً ملتبساً له ولنصه.
ففي الوقت الذي يشهر الاخرون نفيهم لإستجداء بطولة ترمم منجزاً واهياً، يجد كمال سبتي في النفي معطى معرفياً يتواءم وفهمه لمهمة الشاعر الذي نعته مرة بــ(الشهيد).
شهادة الشاعر بالمعنى الذي قاله كمال تصلح هي الاخرى لأن تكون رداً على ذلك الفهم الذي يجعل من الشاعر شـهيداً على عصر ما، كما يقال عادة.
الشاعر الشهيد هو من يفقد كل اسم ورسم من الاسماء والرسوم الملقاة في الطريق والتي يكتفي بتحصيلها من لم يؤمن بالشعر كفاية.
يفقد الشاعر اسمه للتطابق مع اسمه الخاص الملتبس والذي لا يعبر عنه الا في قول شعري سيكون محرضاً لنا على التشبث بايماننا بالشعر.
الشهادة هنا مأخوذة من بعد معرفي بل عرفاني، وهي لا تنفك عن معطى عرفاني آخر هو الزهد، اي ترك نصيب النفس جملة كما عبر عنه المتصوفة.
أخيراً لا يمكن لي ان اختصر المنجز الذي استطاع هذا الشاعر العراقي ان يحققه، في كلمة كهذه أردتها مجرد مشاركة لكم في الاحتفاء به، ولو عن بعد.
انها تعبير عن وفاء لمن تعلمنا منه بصمت.
لا اعرف من هذا الذي قال ان اعظم الأساتذة هم اولئك الذين نتعلم منهم بلا درس.
لكني اعرف انني وبعض من الحاضرين معكم في هذه الأمسية تعلمنا من كمال سبتي الكثير وما زلنا)).
ثم قـُرأت مداخلة الشاعر محمد مظلوم التي بعثها من سوريا للمشاركة ، وكان قد قدّم بها الشاعر كمال سبتي في الامسية التي اقيمت في دمشق في فترة صدور" آخرون قبل هذا الوقت في آب الماضي" وهذا نصها:
طريقي ألاٌ أكون في طريق. أستنجدُ بما كنته ذات مرة في قصيدة البار، يوم تعرفت إلى نفسي وسميتني شاعراً، فانتهيتُ إلى قوة أخرى. قلتُ: لعلني بها لن أضيعَ في أية حرب، لعلني بها لن أكونَ الميت في كتاب المُلْك. فاختلفتُ بها إلى الحانات، وبدأت أفرحُ بالحكاية أسمعها من شاعر جوال، ومن بقال، ومن حوذي، ومن حمٌال حتى دخل المؤرخُ علينا ذات مرة، فانتزعَ الأسماء كلٌها. فهو الضحية أعني الشاعر وهو سجين القش الذي سقاه الملك سماً..)
بهذا المقطع من قصيدة (حكاية في الحانة) نقدم لكم صديقنا الشاعر كمال سبتي، مقطع يلخص إلى حد كبير طبيعة الحكاية وتفصيلاتها، الحكاية التي يرويها الشاعر أو تروى عنه أو لا يرويها ولا تروى، ذلك أن حكاية الشاعر كمال سبتي لن تكتمل إلا بمفردات الحانة، والنوم في الحدائق، أو في أحسن الأحوال في الفنادق الرخيصة، وصلاً إلى المنافي التي تنفيه هي الأخرى والمدن التي لا يجد لها اسماً في كتاب رحلاته، إنها الحكاية التي توجز واحداً من الشعراء الذين خسروا كل شيء تقريباً في الطريق إلى الشعر وفيه..
نساء ومدن وأصدقاء وأهل.. وفي هذا الطريق أيضاً يجرب صوته العالي وهو يعيد دعاء الحلاج الصارخ : أكثر أعدائي.. ذلك أن طريق الشعر الذي سلكه هو جنة الخسارات بأشجارها الكثيفة التي لا يحتطبها إلا المزيد من الخسران.. لكنه عندما ينجرح بما في الجنة التي تتحول إلى غابة لا تخلو من أشواك شرسة، فأنه يستعين هذه المرة بصديقه الأخر أبي نؤاس وكأنه يردد معه: وداوني بالتي كانت هي الداءُ..
ثمة بنية حكائية سيجدها قارئ شعر كمال سبتي لا محال في أي من قصائده عبر دواوينه الثلاثة الأخيرة.. آخرون قبل هذا الوقت الذي نحن بصدد الاحتفال بصدوره هذا اليوم، وآخر المدن المقدسة الذي صدر عن دار الكنوز الأدبية بيروت 1993، ومتحف لبقايا العائلة الذي صدر قبل خروجه من العراق بقليل وذلك في العام 1989.. هذه البنية الحكائية سنراها تشكيلاً يبقى ناقصاً لحكاية غير واضحة المرجعية تنهل من سرديات التراث، وسرديات الحياة اليومية على حد سواء ولا تتشكل أنها ستبقى دائماً هكذا تشبه الحكاية في الحانة، حيث تتطاير الجمل مع بخار الليالي الباردة، وتعود لتحط في ليل الشاعر، كما لو إنها أسطورة منسية.. قد لا تكون هذه الأمسية مناسبة لتقديم رؤية نقدية لتجربة شاعر يستحقها، وبما إنها احتفالية بصداقة يمتد عمرها لأكثر من عقدين، أكثر من نصفها في المنافي، فإنني سأكتفي بحدود هذه الإحتفالية بشاعرنا القادم من هولندا، والذي استنفد المدن او استفدته قبل هولندا، في مدريد وبلغراد وقبرص.. على أن أعود إلى إضاءة تجربته في ديوانه الجديد..
كمال سبتي ينتمي إلى الشعر أولاً وقبل كل شيء، لكنه في تقاليد الشعر العراقي الخاصة ينتمي إلى ما يصطلح عليه بجيل السبعينات في العراق وهو أحد الأسماء اللامعة فيه إلى جانب زاهر الجيزاني ورعد عبد القادر وهاشم شفيق وشاكر لعيبي..
أصدر المجموعات الشعرية التالية:
وردة البحر بغداد 1980
ظل شيء ما بغداد 1983
حكيم بلا مدن بغداد 1986
متحف لبقايا العائلة بغداد 1989
آخر المدن المقدسة بيروت 1993
و آخرون قبل هذا الوقت الذي صدر قبل أيام عن دار نينوى بدمشق..
حكاية الشعرية قد يرويها الشعر وقد ترويها الحكاية نفسها كمال سبتي وشعره )).
مداخلة الناقد ياسين النصير
وكان للناقد ياسين النصير مداخلة نقدية عن الشاعر كمال سبتي،نورد للقراء شيئاً منها:
((عندما اتحدث عن كمال سبتي فأنا اتحدث عن شيء ممّيز في الشعر العربي وفي الشعر العراقي، الحديث عن قفزة في الكتابة المركّبة ذات المستويات الفكرية والفنية الصافية،والخالية من المقطعية والبرقية، كتابة هجرية للتقاليد والسائد، هذه الكتابة كانت دائما تأخذ من مرورها بالاحداث والممارسات في العراق شكلاً عميقاً في الشعر.
كمال سبتي في "آخرون قبل هذا الوقت" يضيف شيئاً مهماً في رصيد الكتابة العربية ،ويسجل للشعر العراقي خطوة مهمة في فتح مغاليق الشعرية العربية،مثلما كانت الشعرية العراقية دائما قائدة للحداثة العربية الى مفاوز جديدة.
في "آخرون قبل هذا الوقت" اتضاح مهم لأفق ما يكتب ومعايشة دالة على وعي هذا الشاعر ورصيده اللغوي واطلاعه الهائل على التراث العربي)).
ورأى عدد من الشعراء الحاضرين ان يستأنسوا بمداخلة لصديقهم الشاعر نصيف الناصري فقرأوا له مقالا كان كتبه عن الشاعر كمال سبتي بعنوان " حياة مكرسة بكاملها لبهاء الشعر" نجتزأ للقراء هذا المقطع منها:
(( لقد كانت المفاهيم والتصورات التي طرحها كمال سبتي في الثمانينات من خلال جهوده الكتابية عبر نصوصه ومجموعاته او عبر تنظيراته تحفر بعمق في ارض
شعرنا الذي تحجرت انماطه وأساليبه وموضوعاته بسبب المفاهيم النقدية المشوّهة التي ترسّخت في الواقع الثقافي العراقي . والان تبدو ثماره هذه التجربة الاصيلة واضحة للعيان عند الشعراء الذين ظهروا بعد جيل كمال سبتي حسب تسميات ومصطلحات نقادنا الاجلاء... نراه واضحة عند شعراء (الموجة الجديدة).
وان بدت هذه التجربة المعقدة جديدة وغريبة وتتقاطع مع ما هو سائد ومستقر. فقد اخذتها العقول الشعرية الجديدة على محمل الجد وتبنتها بقوة. حتى صار مصطلح الكتابة الجديدة لايذكر الا بإسم كمال سبتي حكيمه ودليله الاول في ظلام العراق العميق.
شعر حكمة ودلالات عميقة انتجته ثقافة الشاعر العالية وروحه القلقه والهائمة التي تصطدم مع العالم في كل لحظة بسبب شروره وفساده وعدوانيته . باحثة في اروقته السرية عن لحظة صفاء ، عن ( ظلّ شيء ما)، عن نسمة او اريج زهرة تنعش روح الشاعر العطشى للطمأنينة وللحرية.ألم يصرخ في اول سطر من مجموعته ( اخر المدن المقدسة) :" سلام على كل شيء حي".
اذا كان الشعراء الحقيقيون والمخلصون للحقيقة الشعرية لا تهمهم اضواء المجتمع، ولا لطموحات الفارغة في الشهرة والنجومية، فأن ما نعوّل عليه في المحصلة النهائية هو
( النص) ولا شيء سوه. النص الذي يحنو عليه الشاعر ويصونه من الصدأ والرتابة . وضمن هذا الفهم العميق للعملية الشعرية ، اصبح كمال سبتي ينجز قصيدته التي ينحتها بمهرة وصبر المبدع في كل سنتين او ثلاث. ومجموعته السادسة هذه ابتدأ كتابتها منذ عشر سنوات ، وطوال هذه الفترة الطويلة لم يقدّم قراءات شعرية الا مرة واحدة في جامعة في اسبانيا ومرة في هولندا)).
بعدها قرأ الشاعر قصيدة "اخرون قبل هذا الوقت" ، وفــُتح باب الحوارمع الشاعر واستهله الفنان المسرحي احمد شرجي بسؤال حول نشاط الشاعر التنظيري في بغداد.
اجاب كمال:
كان التيار المحافظ وهو تيار موجود في أي بلد يحارب محاولات الخروج من الكتابة النمطية السائدة، وكان بيننا ايضا مَنْ كان شاعرا ضعيفا ، مقلدا ، كاذبا في الحداثة، فكان نقطة ضعف يستغلها التيار المحافظ في حربه ضدنا. لذلك كان عليّ مواجهة الاثنين: التيار المحافظ الذي لم يكن لديه شعر حيوي اصلا، والتيار الكاذب في الحداثة .كان عليّ ان اقول ان حداثتنا قد ولدت من القرآن والتراث الشعري العربي والمقاتل العراقية،من بشار وابي نؤاس ومن قبلهما والى بدر شاكر السياب. قبل ان تولد من قراءات الاداب الاخرى ، رغم تماسنا الحيوي معها.
وسئل الشاعر كريم ناصر عن اختلاف المفاهيم في الشكل الكتابي للشعر.
فقال كمال: لا احد يقرر ان يختار شكلا او اداءً شعريا يعني ان يذهب اليهما متعمدا .وينجح.
انهما ينتجان عن تجربة ، عن العمر كله ، انهما مثل نبض الدم . الاداء داخل القصيدة هو نبض دم الشاعر نفسه.
وحول سؤال للناقد ياسين النصيرعن تأثير القراءات الواسعة في شعره ،اجاب الشاعر: قلت سابقا ان قصيدتي هي تشكيل لحياة عقلية وواقعية هذا اولا ، وثانيا القصيدة الحديثة الطويلة لا تشبه تلك القصيدة القصيرة الغنائية ، البسيطة والتي يقودها الوزن الذي له تراكيبه ونمطه . ان ادرة قصيدة طويلة حديثة هي ادرة شاقة تتطلب معارك كثيرة. وهنا ياتي دور الثقافة القادرة على ادارتها ادارة ناجحة.
وعن سؤل للشاعرين محسن السراج وناجي رحيم عن رأي كمال في تصريحات لشاعر سعدي يوسف ضد المشهد الشعري العراقي ،قال كمال: لم اقرأ تلك التصريحات .لكن قبل بضعة ايام ارسل اليّ احد الاصدقاء مقالا لسعدي منشورا في احد مواقع الانترنت بعنوان :بهجة لقصيدة النثر العراقية، هذا حدث قبل ثلاثة ايام فقط وانا اصدق ما قرأت عيناي.
وردا حول سؤال لأكثر من واحد من الحاضرين حول عزلة لشاعر القاسية في مدينة صغيرة في الجنوب الهولندي ،اجاب كمال سبتي:انها عزلة مفرحة ومحزنة في آن واحد. وقد جاءت بعد ان عشت في مدن كبرى مثل بغداد.في هذه العزلة لا اعرف احداً غير نفسي . لا املك صديقاً وحداً في المدينة الصغيرة التي اعيش بها. ولا املك كمبيوتر ولا الانترنت ولا ارى صحفاً عربية. لذلك اركن الى القراءة والكتابة والترجمة. لا اتكلم اللغة الأم مع احد ولا اتحاور إلا مع نفسي ولمدة احد عشر شهراً.في الصيف اختار صديقً واحدً من المنافي العديدة. فأسافر اليه لشهر او نصف شهر.
وفي المداخلة السابعة التي وضعها الشاعر شعلان شريف بصيغة أسئلة تحدث خلالها عن الهم الشعري العراقي و صعوبة التواصل في المنفى ،وفقدان التواصل الادبي في شكله المعروف بالوسط الثقافي، وجاء في السؤال الاول: هل في هذا تعبير جزئي عن قلّة ماتنشره، هل للتواصل علاقة في هذا، ام ان الكتابة عندك اصبحت تحتاج عالماً آخر؟
اجاب الشاعر:
الغربة اقرّ بها ولكن... (( وكل بلاد وطّنت كبلادي)) كما قال مالك بن الريب في شعر له، نعم انه عناء صعب ان تعيش عزلتك ، ولكنها تزداد وعورة وصعوبة مع تقادم الوقت ، انها قدر جميل لكن ثمنها احياناً حصة من متابعة مايكون في العراق مثلاً، انا لا اعرف شيئاً مهماً عن الشعراء في العراق.
وكان السؤل الثاني بعد تعقيب ومداخلة للشاعر شعلان شريف:
يلاحظ على القصيدة القادمة من الداخل تحولات عن سائد ما كان يكتب او ما يكتب الان في المنفى، شعراء العشر سنوات الاخيرة في الداخل اتجهوا الى كتابة النص القصير ؟
الشعراء في المنفى يحتاجون عملاً مضاعفاً لتعويض قفدانهم الوسط الثقافي، الكثير من القراءات او الاندفاعات في عمر الشباب قد تؤدي الى غير ما يتمناه الشاب ، وهنا سيكون للوسط الثقافي دور في جعله يتعرف على مكنون ما يريد حقيقة،هذا اولا وثانيا لا اعتقد ان التحول الذي تقول به قد تم هكذا وفي تلك السرعة اعتقد ان هناك التباساً في الامر . الشعر العراقي يتجه الى الكتابة المعمقة غير السهلة. وهذه الكتابة لا يمكن ان تستوعبها اشكال القصيدة القصيرة والغنائية البسيطة.
الشعراء الذين يعيشون في المنفى لا يعيشون وسطاً ثقافياً، الوسط الثقافي هو مقهى ومكان عمل في جريده ولقاءات يوميه وهذا كله يساعد على اقامة حوار معرفي عن كل شيء.
وطـُُلب من الشاعرفي اخر الامسية ان يقرأ قصيدة حكاية في الحانة ، فلبى الطلب وابتدأ بعد ذلك حفل توقيع كتابه الشعري الجديد.