أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بشارات أحمد - براءة سورة التوبة من تهمة السيف – الجزء الأول:















المزيد.....



براءة سورة التوبة من تهمة السيف – الجزء الأول:


بشارات أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 4340 - 2014 / 1 / 20 - 06:17
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


براءة سورة التوبة من تهمة السيف – الجزء الأول:
تعليقنا على موضوع: آية السيف تصنع التاريخ وتنشر الإسلام:
سعد الله خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1266 - 2005 / 7 / 25 - 07:21

تكذيب إسطورة آية السيف (الناسخة – الناسفة):
سنعرض هذا الموضوع في ثلاث أجزاء متتابعة:
• √-;- جزء 1: حوارٌ مباشرٌ ومُفَصَّلٌ مع سورة التوبة نفسها.
• جزء 2: تكذيب الإفتراءات المغرضة بالأدلة الدامغة والبراهين.
• جزء 3: تفنيد الآيات المُدَّعَىْ عليها بأنها نُسِخُت بآيةِ/آياتِ السيف المزعومة.
مشكلة الناس مع القرآن الكريم أنه محكم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهم يعرفون ذلك حقيقةً مسلم بها، ولكنهم يجهلونه "تدبراً"، لذا إتخذوه مادة سهلة لإستغلالها في تحقيق أهداف ضيقة تبتعد كثيرا عن أهدافه الحقيقية فكثرت الكتب والمراجع والمؤلفات بالإضافة إلى الدرجات العلمية العالية والأبحاث الكثيرة، وإمتلأت المكتبات بالمؤلفات التي تعج بالمتناقضات والخلافات والمناظرات الجدلية بين أصحابها. أولئك الذين لم تزد إجتهاداتهم المسلمين إلا تعقيداً وإبتعاداً عن آياته البينات وإدخالهم "حشراً" في دائرة مناظراتهم وإختلافاتم الفجة العقيمة وإلى طوائفهم وطرقهم ومذاهبهم المتناحرة من الذين أطلقوا على أنفسهم علماء وهم أبعد الناس عن العلم الحقيقي الشرعي، إلَّا من رحم ربي، ووضعوا حولهم هالة وسياجاً لا يصل إليهم عبره السواد الأعظم من الأمة، المغلوبة على أمرها، فأصبحوا بذلك معاول هدم فاق ضرهم ما فعله المستشرقون بهم وبالإسلام.
فأنا لا ولن ألقي كل اللوم على الأخ سعد خليل كرمز لعدد كبير من المراقبين والباحثين الذين ضلوا الطريق القويم إلى روح وجوهر القرآن الكريم وهم يتجولن في غابة من المراجع والمؤلفات وإكتفوا بما فيها من إجتهادات وشطحات وتدليس بلغ في كثير من الحالات حد الزندقة. فإذا قال سعد خليل ((... إنه لا يبالغ إذا قال إنَّ آية السيف قد غيرت وجه العالم، وصنعت تاريخه. بفضلها شكل المسلمون مملكة مترامية الأطراف، لا تغيب الشمس عنها إلا قليلا، وبفضلها انتشر الدين الإسلامي من الحجاز شرقا، إلى أوروبا غربا، مرورا بأفريقيا. وبفضلها سقطت دول وممالك وأمبرطوريات وحضارات. نقلت المتمسكين بها والمتكئين عليها من الصحراء اللاهبة، إلى الجنان الوارفة، ومن شظف العيش وجحيمه، إلى رغده ونعيمه، ومن بيوت الشعر، إلى الدور والقصور ...)). كل ذلك نعذره فيه كثيراً وإنْ كان بمجمله ليس فقط يجافي الحقيقة تماماً وليس فقط متمحوراً في التحامل التقليدي على الإسلام وعلى كل ما هو إسلامي وبالأخص القرآن الكريم، ولا حتى يعتبر تحليلاً علمياً سليماً وفقاً للمعايير والمبادي العلمية الصحيحة المتفق عليها، بل للأسف جاء مبنياً على حقائق مغلوطة لا تتفق مع أقل قدر من الحقائق التاريخية الموثقة و المحددة الوقائع التي تثبت ولو بقدر ضئيل صحة الإدعاءات التي تكون مرجعيها ليست الاصل ولكنها تدور في فلك أفكار وإجتهادات لأفراد وجماعات في الماضي ليس لها أي حظ من العصمة ولم يأتها الوحي ولكن حتى كثير من المحسوبين على العلماء درجوا على تزكية أفراد أو جماعات فرفعوا من قدرهم وقدسيتهم حتى عند البعض تساوى قدرهم وعصمنهم قدر وعصمة النبي أو زادت عليه لدى بعض الطوائف الضالة المضلة المحسوبة على الإسلام والمسلمين.

أما عن قوله ((... بأن كل العلماء والمفسرين قد اتفقوا على تسميتها بآية السيف، وهي الآية الخامسة من سورة التوبة، التي تسمى سورة براءة أيضا ...))، فنقول له إنًّ هذا القول ليس صحيحاً، فمثل هؤلاء العلماء الذين تتحدث عنهم للأسف الشديد " قد إتفقوا على شيء واحد فقط وهو أن لا يتفقوا على شيء أبداً"، هذه حقيقة مؤلمة إذا إعتبرناهم بهذا العطاء السلبي "علماء في الأصل"، ومن ثم إختلفوا في ذلك كثيراً، والراجح لدى أغلب العلماء الحقيقيون هو عدم الموافقة على إعتبار أي أية من هذه السورة الكريمة ناسخة لغيرها من آيات القرآن الكريم. كما سمعنا من يصدح ويتبجح بقوله "إنَّ إختلاف العلماء رحمة"، والله تعالى يقول لهم (‏‏وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏‏)، ويقول لهم: (‏وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏)، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقول موصياً ومحذراً (لا تَخْتَلِفُوْا فَإنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوْا فَهَلَكُوْا)، وقد رأينا كيف كان حال أهل الكتاب قبل البعثة المحمدية الكريمة والحروب الطاحنة والمتناحرة بين مذاهبهم وطوائفهم والإبادة الشاملة التي كانت تعصف بهم،،، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ تَعَالَىْ يَرْضَىْ لَكُمْ ثَلَاثَاً ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثَاً: «يَرْضَىْ لَكُمْ أنْ تَعْبُدُوْهُ ولَاْ تُشْرِكُوْا بِهِ شَيْئَاً»، «وأنْ تَعْتَصِمُوْا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيْعَاً ولَاْ تَفَرَّقُوْا»، «وأنْ تُنَاصِحُوْا مَنْ ولَّاهُ الله أمْرَكُمْ»،، ويَكْرَهُ لَكُمْ «قِيْلَ وقَالَ»، «وكَثرَة السُّؤالِ»، «وإضَاعَةَ المَالِ» ). وقال لهم أيضاً: (إيَّاكُم والظَنُّ. فإنَّ الظَنَّ أكْذَبُ الحَدِيْثِ، ولا تَحَسَّسُوْا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَنَافَسُوْا، ولا تَحَاْسَدُوا ولا تَبَاغَضُوْا، ولَا تَدَاْبَرُوْا، وَكُوْنُوْا عِبَادَ اللهِ إخْوَاْنَاً)، وقال لهم أيضاً (بَلْ ائتَمِرُوْا بِالمَعْرُوْفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، حَتَّىْ إذَا رَأيْتَ شَحَّاً مُطَاعَاً، وهَوَىً مُتَّبَعَاً، ودُنْيَا مُؤَثِّرَةً، وإعْجَاْبُ كُلِّ ذِيْ رَأْيٍ بِرَأيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، ودَعْ عَنْكَ أمْرَ العَوَامِّ، فَإنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أيَّامَاً الصَّبْرُ فِيْهِنَّ مِثْلُ القَبْضِ عَلَىْ الجَمْرِ، للعَامِلِ فِيْهِنَّ مِثْلُ أجْرِ خَمْسِيْنَ رَجُلَاً يَعْمَلُوْنَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ)،،، الخ . فواضح أن هذا الحديث الأخير يصور واقعنا المعاش الآن في القرن الحادي والعشرين تصويراً دقيقاً ولكن للأسف لم يلتفت الناس إليه والعمل بالنصائح التي جاءت فيه، لذا نشاهد الآن المسلم قد تجرأ على الله ورسوله وسولت له نفسه قتل إخيه المسلم أو التشنيع به والمبالغة في أذاه وهو كله حرام عليه.

فهل إستجاب العلماء وإلتزموا هذه التحذيرات؟؟ الجواب للأسف الشديد هو بالنفي إلا القلة القليلة مِمَّنْ رحم ربي فكان خلاف العلماء هو تأسيس وتكريس لآفة ألخلاف والتخالف بين المسلمين حتى أصبحوا مذاهب وطوائف وجماعات أغلبها ضالة مبتدعة ومذندقة.
يقول الأخ سعد خليل عن مثل هؤلاء العلماء ((... إنهم قد أصابوا في تسميتهم تلك. فقد كانت فعلا لا قولا، سيفا بتارا على رقاب الآخرين ...))، فنقول له "جازمين" بأنهم قد جانبوا الصواب بذلك الظن الباطل الخائب الذي غلفوا به جهلهم وعدم دقة حسهم في تدبر آيات القرآن الكريم، ليس فقط بينهم وبين أنفسهم أو في مجتمعاتهم وبيئاتهم وأنماط حياتهم بين قومهم، بل للأسف الشديح قد وثَّقُوا سوء فهمهم بأقلامهم فأشْقُوا به الأمة كلها لتعجلهم وعدم قدرتهم على تَدَبُّرِ ألقرآن بما يكفي. فكل ما يعانية المسلمون الآن من متاعب وحصار وإتهامات وقتل ومحاولة إستئصال لهم من الكرة الأرضية، كانت نتيجة مباشرة لهذه الأفكار الضحلة المتعجلة التي تتعارض تماماً مع روح القرآن الكريم بصفة عامة، ومع سورة براءة بصفة خاصة. تلك السورة الكريمة "المدهشة حقيقةً!!!"، التي تنضح رحمةً وعدلاً حتى مع ألدَّ الأعداء المتربصين الحاقدين المقاتلين للمسلمين، ونقول له، إنك على حق في قولك عن الآية المتهمة ظلماً وعدوانا "وفقاً لمعطيات خطرفة هؤلاء المدعين العلم" بأنها (( ... سيفاً بتاراً على البشر، وأنها قد خلقت بالتعاون مع "الآية 29" مفهوما جديدا لم يكن معروفا من قبل ...))، لأنه ببساطة شديدة هذه نعتبره مفهوماً سخيفاً "غبياً"، لكل من روج لهذه الفكرة البائسة الضحلة، فهذا المفهوم لا يمت للآية/الآيات، ولا للقرآن الكريم بصفة عامة، ولا لسورة براءة "البريئة" بصفة خاصة بأي صلة لا من قريب ولا من بعيد، لأن هذه المفاهيم الغريبة عن السورة وروحها قد أساءت للعلاقة المعتدلة التي فرضتها هذه السورة الكريمة "تحديداً"، بين المسلمين وغير المسلمين، وهم أشقاء وأخوة وأبناء عمومة وأقرباء. وحقيقةً قد رسمت "سورة براءة بكاملها" بدقة حدود هذه العلاقة في أرقى وأسمى معانيها التي يعتز الإسلام والمسلمين بها.
فمثلاً ماهو قولك، إذا ثبت لك بالدليل القطعي أن سورة براءة تحذر تحذيراً مغلظاً من مغبة الإعتداء على غير المسلمين؟؟ فإن ثبت لك ذلك، أليس هذا يؤكد أنها بالفعل قد أحدث واقعا جديدا على الأرض هو التشريع لصيانة حقوق الأعداء، أليس هذا بالأمر الغريب حقاً؟؟؟ . إذن دعك من (الآيات 14و28و30) وغيرها، فلنستفتي السورة نفسها بكاملها لنرى كيف كان إيضاح الأسباب الموجبة لتفصيل والتشريع المسهب والمعجز لهذه العلاقة الإنسانية من رب الإنسانية مباشرةً.

أما قولك بأن هناك آية بسورة التوبة، سواءاً المجنى عليها بتسوميتها "آية السيف" أو غيرها، بأنها ((... تأمر المسلمين بقتل المشركين أينما وجدوهم وبأن لا يرفعوا السيف عن رقابهم المشكين حتى يضطروا إلى القتل، أو إلى الإسلام ...))، فهذا ما فهمه الأغبياء من البشر من المشتشرقين ومن ومن جهلاء العلماء، فهذه السورة فيها تفصيل غايةً في الإعجاز، يصعب الحديث عنه إلا من خلال السورة نفسها، فهي خير شاهد على نفسها بنفسها، ولكن الأمر يحتاج إلى أبسط أدوات المعرفة والفهم لتدبر نصوص الآيات ذات اللسان العربي المبين، والوجدان المنصف "المحايد" والرغبة الصادقة في معرفة الحق والحقيقة ليس إلَّا، ومن ثم، فإنني لن أتطرق للرد على ما جاء بحديثك الباقي قبل عرض هذه السورة بشيء من التفصيل الذي تولى الله تفصيله بنفسه حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة دون أدنى لبس أو غموض، تماماً كما قالها الله تعالى "نصاً" لا يقبل التأويل. فستجد بنفسك أن كل الذي إختلف العلماء فيه إنما هو نتيجة حتمية للخلاف والتخالف الذي أوشك أن يذهب بريح المسلمين إن لم يعودوا إلى "تدبُّرِ" القرآن. يقول الله تعالى في سورة محمد عن المنافقين: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ 22)، وهؤلاء محسوبون على المسلمين، ولكن قال الله تعالى عنهم: (أُولَٰ-;-ئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ-;- أَبْصَارَهُمْ 23)، فالذي أوصلهم إلى هذه الحالة المتردية من النفاق عدم تدبرهم للقرآن الكريم، فكان حالهم كحال الذي يفترون على الله الكذب ويدعون أنهم علماء، فقال في مثل هؤلاء المنافقين: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ-;- قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا 24). وهذا لا يعني أنني أتهم أحداً "بعينه" من العلماء بالنفاق ولكن أعمم بظاهرة "عدم تدبر القرآن" بما يكفي، والدليل على ذلك وقوفهم حيارى أمام الة آيات البينات المبينات – آيات الحروف المقطعة في فواتح بعض السور، مع شدة وضوحها وبيانه وروعة تفصيلها مِمَّنْ أنزلها محكمةً.
قبل أن نبدأ الحوار مع سورة "براءة" هناك دعوة بل "تحدٍ مباشر ومفتوح" لكل من إدعى أن القرآن فيه دعوة لقتل الناس إن كانت تلك الدعوة ظاهراً أو تلميحاً أو تحريضاً من أي نوع وبأي درجة،،، الخ، فما على المدعي سوى الإشارة إلى إسم السورة التي يجد فيها ذلك مع ذكر رقم الآية. ونقول له من جانبنا "لك أن تبحث عن الآتي":
1. هل ورد ذكر أي أمر أو توجيه أو تخيير من الله تعالى لأي نبي أو رسول من أنبيائه ورسله في سورة من القرآن الكريم أو آية تعطي الحق لذلك النبي أو الرسول بأن يطبق أي نوع من العقوبة على أي شخص إختار لنفسه الكفر أو الشرك أو الإلحاد؟ وهل هناك أي حادثة تشير إلى أن أحد هؤلاء الأنبياء والرسل الكرام قتل أو عاقب أحداً على دينه؟؟؟
2. هل جاء بالقرآن الكريم السماح أو الأمر لأي نبي أو رسول بأن يفرض رسالته على الناس بالقوة والإكره والقهر؟
3. هل زاد أي نبي أو رسول من لدن إدريس عليه السلام وحتى خاتمهم وإمامهم محمد صلى الله عليهم وسلم عن قوله للناس أكثر مما قاله أول الرسل نوح عليه السلام لقومه: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ 2)، فهل عاقب نوح أحداً من المشركين أم أنَّ العقاب جاء مباشرة من الله تعالى بما شاء وكيف ومتى شاء؟ وهل شذ أي نبي أو رسول بعد نوح عن منهج نوح وهو حصر مهمتهم فقط في (النذارة والبشارة)، مع غياب أي سلطان لهم على الناس مهما كان خيارهم لأنفسهم؟ فإن كانت هناك عقوبة تولى الله أمرها بنفسه.
4. هل إختلف النبي محمد الخاتم عن من سبقه فكان بدعاً من الرسل؟ وهل هناك أيُّ آية تعطيه أي قدر من السلطان أو السيطرة أو حق العقوبة على إختيار الناس لدينهم وعقائدهم سواءً أكان ذلك الإختيار كفراً أو إشراكاً أو إلحادا؟؟؟
5. هل هناك أي أمر أو تلميح بالقرآن الكريم من الله تعالى لأي نبي أو رسول بإباحة البدء "بقتال الكفار والمشركين "إعتداءاً"؟ أم أن القتال المسموح به "فقط" لصد العدوان "مقاتلةً" وليس قَتْلَاً إلَّا إذا جاء القتل نتيجةً حتميةً للمقاتلة المسلحة "في ميدان المعركة" حيث يستوي فيها الطرفان المتقاتلان، إما موت أو شهادة أو أسر؟؟؟
6. هل هناك بأي سورة من القرآن الكريم "الذي يحكي ما صَحَّ من التوراة والإنجيل وسلم من التحريف"، أي ذكر لقتل أي شخص "لدينه أو عقيدته"؟ خاصة إذا لم يبادر هو بالإعتداء على الآخرين أولاً ثم أصر على القتال والقتل والإستئصال للمسلمين؟
¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬
الآن إلى سورة التوبة (براءة):
أولاً: كيف كان الحال في مكة قبل نزول سورة التوبة؟
وكيف كان الوضع الأمني والنسيج الإجتماعي والمخاطر التي تواجه ذلك المجتمع بكل طوائفه ومعتقداته؟
وهل يمكن أن تستقر حياة في مثل تلك الظروف السياسية والإجتماعية السائدة في مجتمع مكة حينئذ والجو مشحوناً بالكراهية والحقد والتربص والإعتداءات والإستفذاذات المتواصلة؟
كان المجتمع يتكون من عناصر أساسية هي - مشركين يعبدون الأصنام، وطوائف يهودية متناحرة مع بعضها البعض، وطوائف من النصارى متناحرة فيما بينها، ومتناحرة مع الطوائف اليهودية بصورة يصعب تصورها. فهم جميعاً ليسوا على وفاق فيما بينهم كأمتين متناحرتين وكل أمة منهما تتكون من طوائف متناحرة متباغضة, لا يتفقون على شيء سوى عداءهم الشرس للإسلام والمسلمين. كلهم قابلوا الإسلام بالعداء الشديد، فبعضهم إكتفى بوجدانه وموقفه الرافض اللإسلام والمسلمين، والبعض الآخر نذر حياته كلها لمناهضة الدين الإسلامي بإعتباره ديناً منافساً لهم، وهم يعلمون تماماً أنه سيكون مهيمناً على كل الأديان السابقة، فحقدوا عليه وأبغضوا نبِيِّهِ وأتباعِهِ، بدلاً من أن يتبعوه ويناصروه ويطيعوا نبيهم عبيسى عليه السلام الذي أوصاهم بذلك وشدد في وصيته، ولكن للأسف دخولوا في حربٍ مفتوحةِ شرسةٍ معلنة ومضمرة في شكل مؤامرات ومظاهرة أعداء المسلمين ومساندتهم وتحريضهم على قتالهم والتضييق عليهم. والهدف الإستراتيجي عندهم هو إستئصال الدين وقلعه من جذوره وقتل نبِيِّهِ ورسوله الكريم. وهم متواجدون بين المسلمين وفي ديارهم، فأصبحوا يمثلون خطراً مباشراً لا يمكن السكوت عنه لأنه يستهدفهم مباشرة على مدار الساعة. كما أنهم يقومون بممارسات فاسدة في داخل البيت الحرام، من تلك التي لا تليق به وبقدره ومكانته عند الله ورسوله والمؤمنين، وهذا البيت وُضِعَ للناس لإخلاص العبادة لله وحده فلا يجوز أن يُعبد فيه غيره معه. والنبي مكلف من ربه بأن يطهره من الشرك والدنس، وأن يكون خالصاً لعبادة الله كما كان في سابق عهده ما قبل أنبياء الله إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام. فهو قبلة المسلمين. بل كان المشركون يطوفون بالبيت عراةً مما يجعل المسلمين والمسلمات في حرج عند الطواف بالبيت الحرام الذي هو بالنسبة لهم "ركن من اركان الإسلام". وقد أراد النبي أن يؤدي فريضة الحج والطواف بالبيت ولكنه كره أن يطوف به وبه عراة. إذاً كان لا بد أن يُحسم هذا الأمر بأن تُوضع له ضوابط خاليةً من الأهواء البشرية لذلك جاءت هذه الضوابط بتشريع من الله تعالى بذاته، فكانت سورة براءة. وقد رأيت أن أطلق عليها "سورة تحديد الهوية"، كما أنَّ الكثيرون قد أطلقوا عليها إسم "الفاضحة"، لأنها كشفت خفايا وخبايا النفوس، فالآن هلم بنا إلى رحاب هذه السورة الكريمة لنقف معاً على روعة هذا التشريع بهذه السورة الرائعة العادلة الرحيمة.

البراءة من الله ورسوله:
أولاً: وقبل أي شيء، مهم جداً أن تعرف جيداً، غايات هذه السورة ومدلولاتها وأهدافها، مثلاً:
(1) لمن كانت البراءة في الأساس، ومن المستفيد منها؟
(2) ومِمَّنْ جاءت هذه البراءة، ولماذا؟
(3) وما غايتها وحدودها وتداعياتها وفضلها؟
(4) ولماذا لم تُذكَرُ فيها البسمة من دون سور القرآن الكريم كلها؟
(5) وما هي أصناف البشر من حيث الهوية، وما هي المعايير المتبعة في تحديد كل هوية؟
(6) هل سورة "براءة" مع السيف، أم أنها ضد السيف, وما الدليل على ذلك؟؟؟

يقول الله تعالى للمؤمنين في هذه السورة الكريمة، إن الله تعالى قد أعطى بَراءةً (مهلةً) كريمةً "تَفَضُّلَاً مِنْهُ" و"مِنْ رسولِهِ" الكريم، قال فيها: (بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...), إلى "المشركين الذين لهم عهودٌ معقودةٌ معهم" على إختلاف فتراتها وشروطها. البراءةُ هذه ممنوحةً: (... إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ 1), فلتعلموا أيها المسلمون، وليعلم هؤلاء المشركين المتعاهدين معكم أنَّهُم خلال فترة المهلة التي أعطاها الله لهم بموجب هذه البراءة ستكون لهم كامل الحرية في البقاء في الديار، والحركة الحرة مكفولةً لهم ومؤمنةً دون خوف أو مضايقات عليهم منكم، وأنَّ النبيَّ والمؤمنينَ سيصبرون عليهم خلالها ويتحملون أذاهم ومؤامراتهم وعُرِيَّهُم عند طوافهم بالبيت الحرام حتى تنقضي تماماً هذه المهلة كما حددها الله تعالى، فليسيحوا في الأرض مطمئنين كيف يشاءون، فقال لهم في هذه الرخصة الكريمة: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ ...), بحرية تامة كما تريدون، ولكن ستكون هذه المهلة محددة بقيد زمني معلوم هو (... أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ...) حرم, تكونون خلالها في أمان تام، ولكن عليكم أن تلتزموا عهودكم وتحترموها ولا تمثلوا خطراً على المسلمين بأي حال وتقابلوا الأمان بالأمان، ولكن أقتضى إحتمال عدم إلتزامهم بهذا الشرط، وهو إحتمال ليس متوقع فقط، بل مؤكد بأنهم لا ولن يلتزموا بأي عهود ولا مواثيق "تاريخهم مع أنبائهم ورسلهم يؤكد ذلك"، لذا حذرهم قال: (... وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ...), إذ أنَّ هذه البراءة ليست خوفاً من بأسكم أيها المشركون "ناقضوا العهد، تحديداً" أو تعظيماً لقوتكم أو مهابتكم أو مداهنة لكم، وإنما هي فرصة طيبة إقتضاها العدل الإلهي وقد مَنَّ الله بها عليكم لمراجعة أنفسكم وإتخاذ القرار الذي تريدونه مناسباً لكم من جملة الخيارات المتاحة ولكن عليكم تحمل تبعة إختياركم وما قد يؤدي إليه نقض العهد من جانبكم فتقع العاقبة عليكم، وستكونون حينئذ قد بددتم وأضعتم فرصة المهلة التي منحت لكم بإعلان البراءة من الله ورسوله إليكم: (... وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ 2)، والذين يستهينون بهذا التحذير والنذير.
إذن الآيتين الأولى والثانية من هذه السورة قد كفلت للمشركين المعاهدين حرية الإختيار لما يناسبهم من ثلاث خيارات:
(1) إما البقاء على أديانهم والإستمرار في عدوانهم، وفي هذه الحالية عليهم مغادرة البلاد إلى حيث يشاؤون خلال فترة المهلة بأمن وأمان،
(2) أو التعايش مع أهل الديار والبقاء على أديانهم كما يشاءون ولكن دون التعرض للمسلمين بأي أذى مادي أو معنوي، بالتطاول على الدين بما لا يليق به أو الإساءة إلى معتنقيه،
(3) أو أن يتوبوا من الشرك ويعبدوا رب البيت، وبالتالي يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، دون أي ملاحقة أو مساءلة عن الأعمال العدائية التي صدرت منهم قبل الإيمان حتى إن كان صورياً في ظاهره ونفاقاً في باطنه، فالنبي والذين معه عليهم بالظاهر، أما الباطن فإستأثر الله تعالى به نفسه ولم يوكله إلى أحد وحدد له يوم القيامة.

ماذا بعد فترة الإنذار هذه، وما الذي سيترتب عليها، وما خياراتها؟
هذه البراءة سيصاحبها بلاغ (إعلان) من الله ورسوله وإعلان لكل الناس بأن تشريعاً جديداً مفصلاً تفصيلاً دقيقاً سيُعْلَنُ ويُزاع عليهم، غايته هي تنظيم علاقة المجتمع بعضه بعضاً، وحفظ الحقوق كاملةً للجميع كلٌ وفق إختياره مساره لنفسه بنفسه، بحيث يعرف كل فرد فيه حقوقه وواجباته وتبعة تصرفاته في الدنيا والآخرة، يقول تعالى في ذلك: (وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...), سيُبَلَّغُ إلى كل أفراد المجتمع وجماعاته بشتى طوائفهم،، بتكتلاتهم ومعتقداتهم، فالبلاغ: (... إِلَى النَّاسِ ...), جميعاً، والذي سيكون موعده وتوقيت إزاعته عليهم تحديداً: (... يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ...), مُعْلِنَاً صراحةً وجهرةً: (... أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ...).
فبعد أن كانت البراءة لهم من الله ورسوله في الآية الأولى لمدة أربعة أشهر، ستصبح البراءة منهم بعد أن تنقضيَ فترة هذا الإنذار، لذا,, على المشركين أن يكونوا قد إسْتَغَلُّوْا هذه الفترة جيداً بالتفكير في أمرهم ومستقبلهم بين المسلمين ومعهم، والخيارات كلها وضعت مفتوحةً ومتاحةً أمامهم فقال لهم "مُخَيِّرَاً": (... فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ...), لأنَّه هو الخيار هو الأفضل لكم، لأنكم سترتاحون من المواجهة وعواقبها الوخيمة عليكم وستكونون أصحاب حق في البيت الحرام تماماً مثل غيركم من المسلمين: (... وَإِن تَوَلَّيْتُمْ ...), وإخترتم الخيار الأصعب والأعقد لكم، بالإستمراركم في عدوانكم وإعتداءاتكم السابقة المستمرة والمتصاعدة وتحديكم وإستفذذكم لمشاعر المسلمين، فإنكم ستكونون أنتم الخاسروين بلا شك لأن هؤلاء المسلمين لن يقفوا حيال ذلك مكتوفي الأيدي في إنتظار قتلهم وإهلاكهم وذهاب دينهم، ولن لن يتركهم غنيمة لكم بل هو قادر على الرد عليكم بما يتناسب وعملكم: (... فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ...), فهو قادر عليكم، ومن ثم، ستتحملون أنتم نتيجة إختياركم في الدنيا ثم العقاب عليه في الآخرة،، فقال في ذلك: (... وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 3). هذا يشمل كل أصحاب العهود الذين لم يلتزموا بها ولم يحترموها "تحديداً"، الذين كانوا يمثلون مصدر قلقٍ أمنيٍّ وضيقٍ نفسيٍّ على المؤمنين بصورة مستمرة،، بل وخطرٌ دائمٌ يتنامى ويتعاظم أكثر فأكثر. فهذه الآية واضحة تماماً ولا يمكن لعاقل أن يحاول تحميلها أكثر مما تحتمل، فمعناها أنَّ إنقضاء المهلة لا يقود فقط إلى خيار واحد، وإنما هناك كل الخيارات مفتوحة أمام المنذرين، فإما أن يتراجعوا عن عدوانهم ومحارتبهم للمسلمين، وهذا خير لهم، وإما أن يختاروا الإستمرار في المواجهة والعدائيات، وفي هذه الحالة لن يعجزوا الله في شيء وسيكونون هم الخاسرين، أو أنْ يختاروا الحياد ويبقوا على دينهم دون أن يمثلوا خطراً على غيرهم من أهل البلاد وهذا أيضاً خيار ثالث لا يخرجهم منها، بل ويكفل لهم حق المواطنة وهم على دينهم الذي أرتضوه لأنفسهم ما داموا لا يمثلون خطراً على غيرهم.

ماذا سيكون حال المشركين الذين إلتزموا بالعهد وتقيدوا بشروطه؟
أما الذين عاهدتم منهم وإلتزموا عهدهم واحترموه فهولاء مستثنون ولهم ترتيب آخر في هذا الأذان، يقول تعالى في ذلك مستثنياً: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ...), وقد تقيدوا ببنود وشروط عهدهم معكم كاملة دون نقض أو نقصان: (... ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا ...), ولم يسببوا لكم قلقاً نفسياً وهاجساً أمنياً بمظاهرة أعدائكم الآخرين عليكم والتآمر معهم ضدكم: (... وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا ...), فإن هؤلاء عليكم أيها المؤمنون الوفاء بإلتزاماتكم نحوهم بموجب ذلك العهد حتى تمام مدتهم: (... فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ-;- مُدَّتِهِمْ ...), ولا خيار لكم في ذلك لأنه أمر من الله إليكم، فأتقوا الله فيهم، وإلتزموا ضماناته لهم، (... إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ 4).
فهذه الآية واضحة كل الوضوح، إذ أنَّ الله تعالى مع علمه بمعاناة المسلمين من كيد أعدائهم، ولكنه يُجَمِّلَهُمْ بالصَّبر ويحثهم على كظم الغيظ، بل ويلزمهم بضبط النفس والتَقْوَىْ وعدم تحكيم الهوى أو التعجل، لأن الله تعالى يحب المتقين له، العاملين بأمره والراضين بحكمه والمحسنين الظن به.

لاحظ أن هذا الإستثناء دليل واضح على أن قتل المشركين لم يكن بسبب شركهم، ولكن بسبب عدوانهم وخطرهم على المؤمنين وتصديرهم للمشاكل والمخاطر والقلق، هذا بجانب عدم الإلتزام بأي عهد أو ميثاق، وبجانب هذا وذاك لم يخرجوا من بين المسلمين إلى حال سبيلهم بعد إنقضاء المهلة التي أعطيت لهم، وآثروا التحدي والقتال. وقد رأينا هنا أنَّ المستثنين من المشركين الذين إلتزموا بالميثاق ولم يشكلوا تهديداً أمنياً، قد إختلفت معاملتهم على الرغم من أنهم لم يغيروا دينهم لا إختياراً ولا إكراهاً بل بقوا على شركهم الذي إختاروه لأنفسهم شريطة ألَّا يؤدي ذلك الشرك إلى إكراه أحد آخر غيرهم على تغيير دينه أو تنقيص حريته في إختيار دينه الذي إرتضاه لنفسه بعد أن خيره الله تعالى في ذلك وهداه حق الإختيار بحرية تامة. قال تعالى في سورة الإنسان: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا 3). فإنْ إختار سبيل الشرك أو سبيل الإيمان فلا يحق لأحد جبره على إختيار غيره دون قناعته ورضاه وبدون أدنى ضغوط عليه أو إكراه له. فإن كان الله يريد أن يعبده خلقه قهراً لما خلق فيه القدرة على المعصية أو أعطاه حق الإختيار إبتداءاً. ولكن أكثر الناس لا يعلمون،،، (فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا)؟؟؟

وماذا سيكون حال المشركين الذين لم يلتزموا بالعهد ولم يتقيدوا بشروطه؟
أما المشركون الذين بقوا على حالتهم السابقة كمصدر للإزعاج والقلق والخطر حتى نهاية فترة الإنذار بإنقضاء الأشهر الحرم، فهؤلاء قد بدأ بهم التشريع، حيث قال تعالى: (فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ...)، مؤذناً بإنتهاء المهلة التي أعطيت للمشركين "ناقضي العهد"، الذين قد جعلوا خيارهم المواجهة بالعدوان دون تغيير موقفهم السابق، لذا أيها المؤمنون لا تعرِّضُوا أنفسكم للخطر والتهلكة، وخذوا حذركم، لأن هؤلاء المشركين، إتضح أنهم، يضمرون لكم الشر ويصرون عليه، وقد قرروا البقاء بينكم لتنفيذ أجندتهم بتحدٍ واضحٍ وقد بدأوا بالفعل الدخول في حرب مفتوحة ضدكم، وأنهم قد عزموا بألَّاْ يتركونكم وشأنكم، بل سيعملون جاهدين على إيذائكم إما بقتلكم أو بتغيير دينكم إن إستطاعوا لذلك سبيلاً، فإذا ما بقيوا معكم بنفس المكان، ولم يخرجوا من بينكم خلال فترة المهلة، فهؤلاء لا تنفع معهم إلا القوة الرادعة حيث أصبح لا خيار أمامكم غيرها، لذا: (... فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ...)، في دياركم "مكة حصرياً"، وإصرارهم على بقائهم بينكم للنيل منكم عن قرب، فهؤلاء محاربون و متآمرون وخطرون، وإنها الحرب التي فرضوها عليكم ولا يد لكم فيها، ولم تكونوا من بين مسببيها: (... وَخُذُوهُمْ ...)، إن بقوا على قيد الحياة أسرى، (... وَاحْصُرُوهُمْ ...), ليمتازوا عنكم ولا يندسوا بينكم أو يُوَسِّعُوْا من دائرة خطرهم عليكم ، (... وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ...)، بالمصابرة والمرابطة حتى لا تغفلوا عنهم فيعودوا للتسلل مرة أخرى، وهم قوم متربصون بكم بلا هوادة وقد يَنْقَضُّوْا عليكم في أي لحظة وبأن وسيلة، إنها الحرب.
إذن لم يكن القتل بسبب العقيدة ولا بسبب إختيارهم الكفر أو البقاء على الشرك، وإنما بسبب الإصرار على العدوان والسعي الحثيث منهم للقضاء على الإسلام والمسلمين ونبيه الكريم. وقد نَفِدَتْ معهم كل الوسائل إلى إقناعهم بوقف عدوانهم أو الخروج من أرض الإسلام والمسلمين إلى حيث يشاؤون، آمنين على أنفسهم وأموالهم وأهليهم، ولكنهم أصروا وإستكبروا إستكباراً بل وأشعلوا نار الحرب وأعلنوها وحملوا السلاح وتوجهوا به نحو المسلمين، فليس هناك خيار آخر سوى الخلاص منهم بالقوة "بقتالهم" دفاعاً عن النفس حتى لو أدى ذلك إلى قتلهم "في الميدان" كخيار أخير ليس هو غايةٌ في ذاته. فالآية تتعامل مع هؤلاء الأعداء بتصنيفهم إلى ثلاث أصناف:
(1) إما محاربين في قتال مباشر معكم، فهؤلاء أَذِنَ اللهُ لكم بقتلهم إن أفضى القتال إلى ذلك،
(2) أو أسرهم، إن قدرتم على الإمساك بهم دون القتل،
(3) أو أنهم يُعِدُّوْنَ العُدَّةَ إلى الدخول في حربكم مباشرة،،، فهؤلاء أحصروهم وأقعدوا لهم كل مرصد حتى لا يباغتونكم وأنتم غافلون عنهم.
فإن كانت الغاية هي قتل المشركين وإستئصالهم، فما الداعي للأسر أو الحصر إذاً،، وما جدواه ؟؟ فواضح تماماً أن الغاية هي صد العدوان المباشر المسلح، ومع ذلك فقد راعى الشرع تفادي القتل بقدر المستطاع إن أمكن الأسر أو الإحصار. هذه هي أخلاق الإسلام حتى مع أعدائه المحاربين داخل ميدان المعركة.
على الرغم من أن هذا الصنف من المشركين المعنيين أساساً في هذه السورة هم "ناقضي العهد من المشركين الذين كانوا في المجتمع الإسلامي كمقاتلين بمكة والخطاب موجه مباشرة للرسول وللمؤمنين الذين كانوا معه،، إلَّا أنَّ هذا لا ينتهي فقط عند هذا الحد، بل هو تشريع للمؤمنين إلى أن تقوم الساعة بأن يراعوا توصيف كل الذين يتعاملون معهم من البشر وفق ما جاء بهذه السورة المباركة التي تعتبر دستوراً للتعامل مع الآخر.
من كان على غير الإسلام من أهل الكتاب والمشركين والكافرين من المنافقين والمجوس والملحدين "بإختياره" ولم يقهره أحد على ذلك تكون معاملة المسلمين معه "وفقاً لتفصيل هذه السورة" كما يلي:
1. إما أن يلتزم المشرك دينه الذي إرتضاه دون أن يتدخل في شئون الآخرين أو يحاربهم أو يجاهرهم العداء أو يعلن عليهم الحرب ليس للمسلمين حياله إلَّا حقه عليهم وهو (النذارة والبشارة)، فقط لا غير، فإن إرتضاها أنقذ نفسه أمام ربه، وإن تولى عنها يكون المسلمون قد أدوا ما عليهم من مهمة موكلة لهم وذلك بإقامة الحجة عليه وهذه غاية الشرع القصوى حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، وعندها لا يلومن إلا نفسه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
2. أو أن يتخطى حدود حريته في إختياره لنفسه ما شاء من دين وعقيدة بتدخله في حريات الآخيرين بمحاولة قهرهم أو خداعهم بتغيير معتقداتهم دون إقتناع منهم، وإستخدام وسائل الضغط بالقوة المادية أو المعنوية،،، الخ فعلى المؤمنين حيال هذا محاولة (مجاهدته) لصده عن هذا الإعتداء أولاً (بالنذارة والبشارة)، ثم يليها التحذير من مغبة الإعتداء على البشر والتعدي على خياراتهم، فإن لم يرتدع وجب قتاله حتى يرفع بأسه عن الآخرين.
3. أو أن ينافق بإدعاء الإيمان في الظاهر وإبطان الكفر "نفاقاً"، فهؤلاء تولى الله أمرهم وفضحهم ولكن لم يأمر بقتلهم ولا بقتالهم ما لم يتَخَطَّىْ أثر نفاقهم أنفسهم وأضر بحقوق وحريات الآخرين، فهؤلاء يعتبرون معتدين على غيرهم، فإما أن يرتدعوا بالنصيحة والبشارة والنذار أو بالتحذير، فيكفوا بأسهم عن الناس، وإما أن يتمادوا في غيهم ويصروا على ما هم عليه من ظلم للآخرين فهؤلاء "محاربون" وفي هذه الحالة "يقاتلوا" حتى يكفوا بأسهم عن غيرهم ولو كانت النتيجة الحتمية لهذا القتال هو الموت أو إقامة الحد الشرعي عليهم.
إذن هو منهج الدين الإسلامي الذي أرساه القرآن الكريم وأَطَّرَتْ حدوده ومواصفاته سورة التوبة هذه. فالإسلام لا يأمر بالقتل "مطلقاً"، فهناك أكثر من آية تؤكد على مدى فداحة القتل بطريق مباشر أو غير مباشر ولو بالتحريض ولو بكلمة أو إيحاءة،،، الخ وكيف أن الله حرم قتل النفس عموماً إلَّا بحق الآخرين عليها، وأعتبره من الموبقات (المهلكات) السبع، منها ما جاء في حق أول قاتل من بني آدم وهو هابيل الذي قتل آخاه حقداً وحسداً وظلماً، بقوله تعالى في سورة المائدة: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ 30)، ثم يشرع لكل الأنبياء والمرسلين بعد آدم وبكل الكتب السماوية بدءاً من التوراة وحتى القرآن مغبة جريمة القتل بغير حق بصفة عامة حتى مع الحيوانات والحشرات والهوام،، بقوله في نفس السورة: (مِنْ أَجْلِ ذَٰ-;-لِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ-;- بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰ-;-لِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ 32)،، فهذا الإسراف متمثل "تحديداً" في قتل الأنفس بدون تورع أو حدود أو حق، وقد شدد العقوبة عليهم.
بل،، ولا يسمح حتى "بالقتال" إعتداءاً تحت أي من الظروف، ولكن المسموح به فقط هو "قتال المعتدي عليهم"، شريطة ألَّاْ تكون لهم يد فيه ففي هذه الحالة يسمح للمؤمنين "بالقتال" دفاعاً عن النفس ومع ذلك أيضا عليهم ضوابط كثيرة لصالح المعتدي نفسه. إذاً، لو فرض القتال على المؤمنين في أي زمان أو مكان بأي إعتداء من أي جهة كانت قصد فيه أمنهم وسلامتهم وسلامة دينهم وحرياتهم وجب عليهم مقاتلة ذلك المعتدي أيَّاً كان ومهما كان الثمن. وفي نفس الوقت مأمورون من الله بأن يجنحوا للسلم إن جنح عدوهم لها بغض النظر عن المكاسب أو الخسائر. يقول تعالى في سورة الأنفال: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ - فَاجْنَحْ لَهَا - وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ - إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 61)، فيطمئنهم بأن الله لن يضيعهم إن أحسنوا الظن به وأطاعوه فيما أمر، لأنه يسمع ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فيقول لهم لا تخشوا شيئاً ما دام الله تعالى معكم: (وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ 62). وهناك الكثير من الضوابط التي تجعل مساحة حرية الحركة حتى في "قتال الأعداء" ضيقة جداً ومقيدة للغاية، فما بالك بالقتل؟؟؟
وفي معاملة أهل الكتاب والمخالفين للمسلمين في دينهم يقول الله تعالى – على سبيل المثال لا الحصر – في سورة الممتحنة: (عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 7)، وزيادةً على ذلك فسحةً ومرونةً قوله تعالى سراحةً: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 8)، وهذا يؤطر التعامل الإنساني والإجتماعي بالسمولية والعمومية المطلقة مع بعض الإستثناءات فقط حددها الله في قوله: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ - الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ - وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ - وَظَاهَرُوا عَلَىٰ-;- إِخْرَاجِكُمْ ... أَن تَوَلَّوْهُمْ ... وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰ-;-ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 9). هذا هو القرآن الكريم وهذا هو الإسلام،، لا يجعل العلاقة الإنسانية وقفاً على المعتقد أياً كان،، لأنه يعتبر علاقة خاصة بين العبد وربه لا يجوز لأحد من البشر التدخل فيها إلا في حدود (التناصح "ترغيباً وترهيباً" المبلغ من الله تعالى مباشرة، حيث لا إلزام فيه ولا قهر ولا تضييق من أحد كما يقول دعاة "السيف" والنسخ. أما تغليظ النبي الكريم على قاتل الذمي أو المعاهد فهو مخيف للغاية، وله في ذلك الكثير من الأحاديث نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر: (عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « مَنْ قَتَلَ نَفْسَاً مُعَاْهِدَاً لَمْ يُرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ وَإنَّ رِيْحَهَاْ لَيُوْجَدُ مِنْ مَسِيْرَةِ أرْبَعِيْنَ عَامَاً»)، (وعن رفاعة بن شدّاد قال: كنتُ أقوم على رأس المختار بن أبي عبيد الكذّابِ مُدَّعِيَ النُّبوَّةَ، فلمّا تبيّنتُ كَذِبَهُ هَمَمْتُ ـ واللهِ أنْ أسُلَّ سَيْفِيَ فأضْرِبُ بِهِ عُنُقَهُ، فأمْشِي بَيْنَ رَأسِهِ وجَسَدِهِ، حَتَّىْ ذَكَرْتُ حَدِيْثَاً حَدَّثَنَا بِهِ عَمْرُو ابن الحمِقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: « مَنْ أمَّنَ رَجُلَاً عَلَىْ نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ،، أُعْطِيَ لِوَاءَ الْغَدْرِ يَوْمَ القِيَامَةِ » - وفي لفظ: » مَنْ ائْتَمَنَهُ رَجُلٌ عَلَىْ دَمِهِ فَقَتَلَهُ فَأنَاْ مِنْهُ بَرِيءٌ وَإنْ كَانَ المَقْتُوْلُ كَاْفِرَاً « - وفي لفظ: « أيَّمَاْ رَجُلٌ أمَّنَ رَجُلَاً عَلَىْ دَمِهِ فَقَتَلَهُ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْ القَاْتِلِ ذِمَّةُ اللهِ وإنْ كَاْنَ المَقْتُوْلُ كَاْفِرَاً »)، صدق الر
الكريم صلى الله عليه وسلم.

وماذا عن هؤلاء المشركين الذين قرر بعضهم التوبة والإقلاع عن عدوانهم؟
هذا إحتمال وارد، ومرحب به، ومُشَجَّعٌ عليه، إذ أن قتلهم أو إبعادهم لم يكن بسبب الشرك وإنما بسبب العدوان والتآمر، فإن زالت هذه الأسباب فهناك تشريع آخر من الله تعالى في ذلك الموقف منهم، حيث قال: (... فَإِن تَابُوا ...)، وعادوا إلى رشدهم وكفاكم الله شرهم وتخلوا عن غيهم: (... وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ...)، كمسلمين بمحض إختيارهم وقناعتهم دون قهر أو إجبار منكم، (... فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ...)، ولا سلطان لكم حينئذ عليهم، بل عليكم أن تقبلوا توبتهم تلك، فأنتم لا تعلمون السرائر ولا خفايا النفوس، فعليكم الإستجابة، والتوكل على الله، (... إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 5).
هنا لنا ملاحظات هَامَّةِ على الجزئية من الآية الكريمة، عند قوله تعالى: (... فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ...):
(1) الأول: خيار التوبة، هذا منهم إنما يكون بمراجعة النفس والتبصرة، وقبول منطق العقل وإيقاف العدوان على المؤمنين غير المبرر، ووقف تصدير الخطر والمشاكل لبلادهم وأهلهم ورعيتهم، بعد أن أدركوا حسن نية الإسلام في محاولة لحل مشكلة هذا العدوان بإعطائهم فرصة كافية للتفكر ومراجعة النفس جيداً.
(2) الثاني: إقامتهم الصلاة وإيتاءهم الزكاة، يعني "عملياً" أنهم قبلوا الرجوع إلى الله وإنخرطوا في عبادته "طواعية" دون إكراه أو إلزام أو مساومة من أحد، فإنَّ هذه الأفعال في الغالب تكون كافية لأن تزيل خطر العدوان على المؤمنين وإبدال الشك والتوجس إلى ثقةٍ وإطمئنانِ ورضىً، لأنهم سيصبحون مسلمين مثلهم،، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
(3) الثالث: هو أن أخذهم بهذا الخيار يُسْقِطُ عنهم أي محاسبة على ألأعمال التي إرتكبوها قبل ذلك، فالإيمان في الشرع يَجُبُّ ما قبله، وبالتالي لن يكونوا عرضةً للمحاكمة أو المحاسبة عَمَّا صدر منهم قبل التوبة، لأمره تعالى صراحةً بقوله لهم: "... فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ...".
إذن، ما دام ذلك كذلك، فلا سلطان لأحد منكم أيها المؤمنون عليهم، بل قد أمر الله تعالى المؤمنين بأن يرتضوا منهم ذلك التوجه ويخَلُّوا سَبِيلَهُمْ. لا حظ أنه لا توجد أي مطالب أخرى منهم أو تبعات، أو شروط تضيق على هؤلاء التائبين، فقط يكفي منهم إصلاح أنفسهم وعدم الإعتداء على غيرهم. وبالطبع فإنَّ هذا عائده سيكون عليهم هم أنفسهم خيراً، والمستفيد الأول والأخير "في الأساس" هم وحدهم، في الدارين الدنيا والآخرة بلا أدنى شك.
ومزيد من التأكيد على هذه الحقيقة والغاية هي قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ...), وإحتمى بك وطلب منك الأمان "بعد أن كان محارباً يقاتل بالفعل مع المشركين، ومتربصاً بكم" مثلهم ومعهم: (... فَأَجِرْهُ ...), رغم كل ذلك، بل ووفر له ذلك الأمان دون تردد أو تباطؤ، فهذا أمر من الله وليس لك فيه أي خيار آخر غيره، ليس بصفة دائمة، ولكن (... حَتَّىٰ-;- يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ...), ويعرف أن دعوة الإسلام هي معه ولصالحه وليست ضده كما يعتقد أو كما خدعه وغرر به المضلون المغرضون الذين أفهموه هذه الحقيقة مقلوبة ومعكوسة، وحتى يعرف أنه كان يحارب ويعادي ويقاتل من لا يحمل له أي ضغينة أو عداوة، بل لا يرجوا له إلا الخير والسعادة، ولا يلزمه بتغيير دينه الذي هو عليه "قهراً"، وإنما فقط عَرْضَهُ عليه عبر التبليغ بالنذارة والبشارة، ثم يترك له حرية الإختيار المبني على القناعة التامة الكاملة، وبعد أن يفهم جيداً كلام الله دَعْهُ وشأنه سواءً أبَقِيَ على دينه أو أراد أن يغيره بمحض إرادته، (... ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ...), بأن تجعله تحت رعايتك وحراستك ولا تتركه لمصيره حتى لا يعتدي عليه أحد بغير علم، (... ذَٰ-;-لِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ 6)، وهذا سبب كافٍ لتبرير قتالهم لكم بغير علم. فكثير من المحاربين والمعادين لكم هم مُضَلَّلُوْنَ ومُغَرَّرُ بهم ومُحَرَّضُوْنَ عن جهل بالحق والحقيقة، من أُنَاسٍ ضَلُّوْا، وأضَلَّوْا، وضَلَّوْا عن سواء السبيل، وليس لهم أجندة خاصة أو قناعات في الأساس تدفعهم لقتالكم غير هذا. لاحظ أن هذه الآية تكفي لتكذيب كل من قال بأن الآيات التي قبلها تأمر بقتل الكفار والمشركين مطلقاً، وإلا لماذا لا يُقْتَلُ المشرك الذي إستجار بالرسول؟ وما فائدة أن يسمع كلام الله إن كان مصيره في النهاية القتل إن عاجلاً أم أجلاً؟، ولماذا لا يكون الخيار أمامه إما أن يُسْلِم "قهراً" أو أن يُقْتَلْ على الفور؟؟؟ بدلاً من أن يأمر الله تعالى نبيه بقوله "ثم أبلغه مأمنه"؟ تصور،،، ماذا سيكون مصيره إن تركه الرسول الكريم بعد إخلاء سبيله ليواجه مصيره، "وهو معروف للمسلمين بأنه عدو محارب" وبالطبع سيكون مطلوباً عندهم إن لم يبلعه القائد مأمنه حماية له من أي إحتمال لخطر "أدناه الأسر" إن سلم من القتل؟

لماذا البراءة من المشركين، وما دواعيها؟
كان واقع المجتمع في مكة "قبل البراءة" متردياً للغاية، وكان الإنتماء غير مقيد بمعايير وضوابط تكفل للأفراد والجماعات حقوقهم وتلزمهم بواجباتهم حتى لا يحدث أن تصادم وتشاكس يخل بالأمن والسلامة والحرية للجميع.
هذا الواقع أراد الله تعالى أن يغيره بنفسه، وفق معايير دقيقة تحقق هذه الغاية فكانت سورة "التوبة" لتمنهج هذا التغيير بعلم الله وعدله وكرمه ورحمته، فكان لهذا المنهج ثلاث محاور:
1. وضع معايير مفصلة لتحديد هوية شرائح المجتمع المكي بحيث كل فرد يختار شريحته بمحض إختياره ،
2. تحمل كل فرد تبعة ذلك الإختيار وفق الضوابط والمعايير والشروط والتوصيف لكل هوية، بتفصيل كل ما لها وكل ما عليها،
3. وضع قيد زمني "كمهلة" كافية للتفكير العميق لكل فرد قبل أن يقرر إختياره ما يناسبه ويريده من كل الخيارات المتاحة التي وفرتها سورة براءة.
هذه الضوابط والقيود والمنهج بكل محاوره ينبغي أن يتبلور عنه "بعد المهلة" مجتمعاً جديداً منظماً ومنضبطاً بحيث كل فرد فيه يكون قد حدد شريحته التي إرتضاها لنفسه وفق هويته التي فصلتها سورة التوبة. وكما ذكرنا آنفاً أن هويات المشركين أفرزت منهم ثلاث شرائح، (مشركون مقاتلون، ومشركون مسالمون، ومشركون تائبون). وقد مر علينا تفاصيل كل من هذه الشرائح الثلاثة.
فالآن يتناول الله تعالى المشركين المتربصين المقاتلين قائلاً لنبيه الكريم في ذلك "إستنكاراً": (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ ...)؟ وقد علمتم أن غايتهم في الأساس هي القضاء على دينكم ونبيكم وكتابكم، ثم القضاء التام عليكم بإستئصالكم وإبادتكم تماماً، حقداً وحسداً من عند أنفسهم؟ فهولاء لا ولن يدخلوا في عهدٍ مع أحدٍ إنْ لَّم يحقق لهم ذلك العهد غاياتهم ومساعيهم الخبيثة الماكرة، ليس كل المشركين بالطبع، ولكن هناك إستثناء لعضهم،،، قال: (... إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...), فهؤلاء التعامل معهم مختلف تماما،،، إنْ إلتزموا بعهدهم ولم يخرقوه أو يتحايلوا عليه، (... فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ...), وأقبلوا منهم تلك الإستقامة "هذا أمر مباشر من الله، وليس لكم فيه هوى"، كما أنه لم يجعل لكم عليهم سلطاناً، فاتقوا الله تعالى فيهم، والتزموا أمره وتوكلوا عليه، (... إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ 7). لاحظ أن الله تعالى قد كرر خاتمة الآية رقم 4 بنفس خاتمة هذه الآية مذكراً المؤمنين أن يتقوا الله في الناس فكرر قوله (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ 4) هنا أيضاً،، أليس ذلك بعجيب؟.

أما أولئك المشركون الذين جبلوا على نقض العهود والمواثيق، ومردوا على الإعتداء والعدوان فلا تأمنوا جانبهم، فيقول في ذلك: (كَيْفَ ...) أيها المؤمنون تأمنونهم، وتتهاونوا في ضرورة الحرص والإحتراز منهم؟ وهم يتربصون بكم الدوائر، ويقلبون لكم المواضع: (... وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ...), بأن تكون لهم الغلبة عليكم وهزيمتكم، ويتمكنوا منكم (... لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ...), ثم لن يرحموا كبيركم ولا صغيركم، ولا قويكم ولا ضعيفكم، لذا حرِّصوا منهم، وأحذروا من مراوغتهم وألاعيبهم وخداعهم ومكرهم، فإنهم: (... يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ ...), خداعاً ومداهنة وملاينة ماكرة ليأمنوا جانبكم، محاولةً منهم إقناعكم بحسن نيتهم، وصدقهم معكم: (... وَتَأْبَىٰ-;- قُلُوبُهُمْ ...) ذلك الود الزائف الماكر غِلَّاً وحقداً وكراهية: (... وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ 8), والمبرر، لذلك هو لأنهم (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ...)، لتحقيق منافع ومكاسب دنيوية قليلة تافهة ضيقة: (... فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ ...)، كل من إختار لنفسه طريق الهداية والحق والإيمان وسعوا في إضلاله وخداعه، فتعرضوا له بالغواية تارةً أو بالقهر أو بالإغراء تارات، وتارات أخرى، فهذا حالهم دائماً وأبدا:،،، (... إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 9).

ثم ينبه المؤمنين قائلاً لهم، اعلموا أنَّ هؤلاء المشركين الفاسدين المفسدين هم أعداءٌ لكل واحد منكم, وكراهيتهم لكم ظاهرة ومعلنة وما خفي كان أعظم وأظلم وأنكى، فهم مع ذلك: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ...), هَمُّهُمْ في الأساس هو إعْنَاْتُ هؤلاء المؤمنين وخلق وتصدير الأزمات والمعضلات والمخاطر لهم: (... وَأُولَٰ-;-ئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ 10), ولكن مع كل هذا لن يوصد الله الباب أمامهم إن أعادوا النظر في موقفهم غير المبرر بعد أن عرفوا أنهم كانوا خاطئين ومغالين، ورجعوا عن غيهم الذي كانوا فيه، فهناك تشريع آخر يتناسب مع هذا الموقف الجديد المعتدل: (فَإِن تَابُوا ...), عن عدوانهم وأوقفوا مكائدهم الظالمة: (... وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ...) "بإختيارهم وقناعتهم"، كتطبيق عملي يؤكد ويؤيد هذه التوبة, وإستحضار قدرة الله وسلطانه ومخافته ورجائه: (... فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ...) بلا شك، فلا تعاملوهم بما فعلوه قبل ذلك، فقد جَبَّتْهُ تلك التوبة منهم. فالإنسان عادةً عندما تكون أمامه الخيارات متعددةً، يكثر التفكير قبل الإختيار، وبالتالي إحتمال أن يهتدي المختار إلى أحد الخيارات وارد، لذا فلابد من أن يُشَرَّعَ لكل خيارٍ، ويكون التشريع ظاهراً للمُتَخَيَّرِ حتى يكون ملماً بما له وما عليه وعواقبه القريبة والبعيدة.

ولكن، لِمَ كُلُّ هذا التفصيل الدقيق من الله تعالى؟
كل هذا التفصيل للآيات السابقات هو لتحديد مقاصد الشرع بمنتهى الدقة في أمور حساسة ومعقدة ومفصلية، لا تحتمل أي أخطاء أو سوءَ فهمٍ لأن النتيجة ستكون كارثيَّة إمَّا بظلم برئٍ أو بتبرئة ظالم، أو تحميل الأمور أكثر مِمَّا تحتمل، فتضيع الحقوق بسبب الجهل، وربما لقدرات الإنسان المحدودة وعلمه القليل، لذا لم يتركها الله تعالى للإجتهادات الشخصية التي تحتمل الخطأ والصواب والهوى والنقيصة والزيادة والمبالغة،، فلزم التفصيل في ذلك بهذا الإسهاب وتولى الله سبحانه وتعالى ذلك بنفسه لأنه يحتاج علماً فوق علم البشر وإدارة وسلطان لا يشوبه هوىً ولا تضعفه مصلحة ذاتية، لذا قال سبحانه: (... وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 11)، فالجَهْلُ والجُهَالَةُ والجُهَلَاءُ هنا لا مكان لهم ولا دور. فهل الذين قالوا بإنَّ سورة براءة فيها سيف مسلط على رقاب كل من خيره الله فاختار لنفسه الكفر أو الشرك أو الإلحاد بأن يُقْتَلَ بسبب دينه؟،، هل هؤلاء من الذين يعلمون؟ وهل الآيات السابقة في هذه السورة نسخت كل الآيات التي تدعوا للرحمة أم أنها أكدتها وثبتتها وأضفت عليها مزيداً من التفاصيل المعجز والإنسجام التَّام معها ؟؟؟
ليت شعري،، فهل مَنْ أساء فهم هذه السورة الكريمة التي تزخر بالرحمة والعدل والحكمة، ووصمها "ظلماً" بالسيف، هل هذا الجاهل يعتبر من القوم الذين يعلمون؟ والذين فَصَّلَ الله تعالى لهم هذه الآيات البينات المبينات النيرات؟ أم من غيرهم؟
أين السيف الذي قال عنه هؤلاء المتحاملين على سورة التوبة؟ ولا يزال هناك المزيد المفيد العجيب من التفاصيل التي تحدد الهوية وما يترتب عليها من حقوق كاملة وواجبات عادلة وتبعات منصفة. والقرآن الكريم يتحدى أيَّاً كان من المدعين بأن يأتيَ بأيِّ آية من القرآن الكريم "جاء فيها ذكر السيف صراحةً أو توريةً أو تلميحاً" !!! فعلى المدعي أن يشير إلى تلك الآية إن كان من الصادقين، فإن لم يجد "ولن يجد"، يكون قد شهد على نفسه إما بالجهل والجهالة، إن أحسنا به الظن وصدقنا في ذلك، أو بالسفه والتدليس بل والتحريف، إن كان من الذين لا يكادون يفقهون حديثاً،،، وهم كغثاء السيل.

ما الذي يترتب على توبة هؤلاء المشركين؟
هناك ثلاث إحتمالات حَتْمِيَّةٍ:
(1) الإحتمال الأول: أن يثبتوا على التوبة ويصدقوا الله فيها، ويسعوا إلى إرضائه وقبول دينه ومنهجه، فينصلح حالهم ويصبحوا أخواناً في الدين، لهم ما على المؤمنين وعليهم ما عليهم ساواءً بسواءٍ،
(2) الإحتمال الثاني: أن ينكثوا أيمانهم ويتراجعوا عن عهدهم فيعودوا أو إلى ملة الكفر مرة أخرى أو يبقوا عليها، "عقيدةً"، ولكن دون إلحاق الأذى بالمؤمنين أو مزاولة المكائد وخلق المصائب لهم أو مظاهرة أعدائهم عليهم وعلى إخراجهم،،،
(3) الإحتمال الثالث: أن ينكثوا أيمانهم ويتراجعوا عن عهدهم فيعودوا إلى ملة الشرك مرة أخرى، "عقيدةً"،، ثم يقوموا بـِـ "الطعن في دينكم" عدواناً، والعودة إلى إلحاق الأذى بالمؤمنين أو إضمار وإعلان المكائد لهم ومظاهرة أعدائهم عليهم خبثاً ومكراً وتجنياً،،،
فالإحتمالين الأولين قد فصلهما الله تعالى في الآيات السابقة حتى قوله تعالى (... وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 11).
أما الإحتمال الثالث، يقول تعالى فيه "مشترطاً": (وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ ...), ليس ذلك فحسب، بل: (... وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ...), هنا وجب قتالهم لا "قتلهم" إنتبه جيداً للنص، وذلك بمقاومتهم ومناجزتهم والتصدي لعدوانهم بالقدر الذي يَصُدَّهُ ويقضي على خطره: (... فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ...), الذين جاءوا لقتالكم "معتدين"، لأنهم مصرون على الإعتداء والظلم والقتال والقتل، فقال في تبرير ضرورة قتالهم: (... إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ ...), فلا بد من الأخذ على أيديهم ومنعهم من تحقيق مآربهم الخبيثة المعتدية الظالمة: (... لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ 12), ويتراجعون حتى لا يضطروكم إلى الإستمرار في مقاتلتهم وقتلهم وقد وعدكم الله النصر عليهم فبات قتلهم مؤكداً، إن صدقتم الله تعالى العمل. ولكن كثير من الناس قد يخلطون ما بين القتال، والمقاتلة، والقتل، جهلاً وغباءً كما يخلطون ما بين الجهاد والقتال، والقتل.

وماذا إذا تقاعس المؤمنون عن قتال المشركين إذا أضطروهم إلى ذلك؟
إنَّ إلتزام المشركين خيار "التوبة" للخروج من المأذق ليس هو نهاية المطاف، وليس معناه أنَّ خطر المتربصين منهم قد زال عن المؤمنين لأن خيار "التوبة" قد يكون مداهنة ومسايرة من بعض هؤلاء المشركين في الظاهر فقط "نفاقاً" ولكنهم يضمرون الذي لا يقل خطره عن خطر "الشرك"، ومع ذلك، ورغم هذه الحقيقة التي لم تغب لا عن الشرع ولا عن الرسول الكريم ولا عن المؤمنين، فقد ألزم الله رسوله والذين معه بأن يقبلوا منهم هذا الخيار على علاته بقوله: "فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ"، ويتركوا أمر سريرتهم وخفايا نفوسهم الخبيثة إلى ربهم فهو كفيل بهم.

هل الخطر محصور فقط في المشركين، أم أنَّ هناك خطر آخر بين المسلمين أنفسهم؟
لم تقف السورة الكريمة عند حدود المشركين والكفار، في تحديد الهوية والتشريع لها وإنما تناولت تحديد هوية المسلمين وشرائحهم المختلفة وعديدة أيضاً، حتى يتميز المؤمن منهم من المنافق ومن الكافر المدعي الإسلام تمويهاً. يخاطب اللهُ تعالى هنا ألمتقاعسين عن القتال من المدعين الإيمان وما هم بمؤمنين، مستنكراً عليهم مثل هذا الموقف الشاذ الذي لا يليق بالمؤمنين الصادقين، فيقول لهم: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا ...)؟ مشركين بالله وظالمين لكم، ومصرين على الإعتداء عليكم وإلحاق الأذى والضرر بكم وبرسولكم وبدينكم؟ ألا تقاتلون قوماً (... نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ ...)، وعهدهم ليتحرروا من أيِّ مانع أو قيد قد يتعارض أو يعترض مسارهم نحو تحقيق وإنجاز تلك الأهداف الإستراتيجية عندهم؟ بل: (... وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ...)، بكل الوسائل والطرق؟: (... وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ...)، بإعتدائهم عليكم، وإصرارهم بالبقاء بداركم ومسجدكم الحرام عنوةً وتحدياً وإستفذاذاً، رغم أنكم لم تعتدوا عليهم أو تجبروهم على قتالكم وعداوتهم لكم؟ خاصة وأنكم كمتم كريمين معهم بإعطائهم مهلة أربعة اشهر كانت كافية لتغيير أو تليين موقفهم فلم يجد ذلك معهم نفعاً،،، فما هو سبب ذلك السلوك الشاذ منكم؟ (... أَتَخْشَوْنَهُمْ ...)؟ رغم أنكم موعودون بالنصر عليهم إن كنتم صادقين محتسبين؟ لا، هذا لا يليق بالمؤمنين حقاً: (... فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 13).

فما دام أنهم مصرون على قتالكم دون تراجع، إذاً، لا مفر لكم من القتال في مثل هذه الحالات المفروضة عليكم وذلك دفاعاً مشروعاً عن النفس والمال والعرض والدين والهوية والكرامة، لذا،،،: (قَاتِلُوهُمْ ...), بإذن الله دفاعاً عن أنفسكم وأموالكم وأعراضكم، والنتيجة محسومة لصالحكم إن صدقتم مع الله: (... يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ...). وإعلموا! انكم إن تألموا فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون.. ليس فقط العذاب بأيديكم هو الذي ينتظرهم، بل (... وَيُخْزِهِمْ ...), في الدنيا والآخرة: (... وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ...), كما وعدكم، وما النصر إلا من عند الله تعالى: (... وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ 14), قد كَتَمُوْا فيها معاناتهم من ظلم هؤلاء المعتدين، وهم في إنتظار أن يأذن الله لهم بالقتال: (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ...), لأنهم على حق، ورغم ذلك يتعرضون إلى كل هذه الإستفذاذات المهينة، خاصة وأنهم قادرون على الرد على القوة بمثلها وأشد، ولكن ذلك كان مقيداً بإذن صريح لهم من الله تعالى بالقتال، فإن لم يأذن لهم إلتزموا الصبر والإحتساب، راضين ومسلمين ويكظمون غيظهم ويعفون عن الناس إلى ما شاء الله تعالى لهم، فعندما يأذن لهم - يُذْهِب غيظ قلوبهم - ويعطهم الفرصة للرد على المعتدين بالمثل إنتصاراً للحق وليس لأنفسهم، أو تشفياً أو إنتقاماً من عدو الله وعدوهم: (... وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ-;- مَن يَشَاءُ ...), من هؤلاء المعتدين أيضاً رغم ذلك، فالله له طلاقة التصرف في خلقه لا معقب لكلماته ولا يراجعه أحد في حكمه ومشيئته فرحمته لا ينضب معينها أبداً، وهو أعلم بخلقه ويدبر شئونهم بحكمته وعدله وفضله وكرمه وإحسانه ورأفته (... وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 15).

هنا نجد عدة ملاحظ ولفتاتٍ كريمات، ينبغي الوقوف عندها:
رغم أن الله تعالى إستنكر على المؤمنين عدم الإقبال على قتال ألمشركين بقوله (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا ...)؟ وفند لهم كل دواعي ومقتضيات ومبررات ضرورة هذه المقاتلة، إلا أنه في مقطع من الآيات التالية لها يقول: (... وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ-;- مَن يَشَاءُ ...) من هؤلاء المشركين المعتدين. فهذا كرم فياض من الله تعالى حتى على أعدائه وأعداء رسوله والمؤمنين به معه. أليست هذه السورة رائعة حقاً؟؟؟
لاحظ الربط الرائع ما بين الآيتين 13 و16 حيث يقول مستنكراً على المؤمنين تقاعسهم عن القتال رغم كل تلك الدواعي والمقتضيات المحفذة لذلك تفادياً للفتنة التي هي أكبر من القتل: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا ...)؟، ثم في الآية التالية كأنما يقول لهم، "أم أنكم حسبتم أن قولكم بأفواهكم أنكم آمنتم كافياً ومقبولاً دون إختبار" ستصبحون مؤمنين كما تزعمون؟
لذا قال لهم محذراً: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا ...)؟ مدعين الإيمان بالله قولاً فقط، دون تمحيص منه لهذا الإيمان، ولَمَّاْ يختبركم بَعْدُ ليعلم الذين جاهدوا منكم حقاً وحقيقةً، (... وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ ...), من الذين أكدوا ذلك الإيمان "عملياً"، ليس ذلك فحسب، بل، ويعلم أنهم لم يتخذوا عدو الله وعدو رسوله وعدوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة (... وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ...), من المشركين يدخلونهم بينهم ويتعاملون معهم بِوُدٍّ وثقةٍ وهم في الحقيقة ليسوا منهم بل هم غرباء عنهم ودخلاء عليهم ليعلموا أخبارهم وأسرارهم ويتجسسوا عليهم لنقل أخبارهم إلى أعدائهم، بدلاً من أن تكون هذه المعاملة الصادقة الودودة فقط مع الله ورسوله وإخوانهم المؤمنين الذين هم أولى بهذا الود من أولئك الذين إتخذوهم وليجة وبطانةً من دونهم، ظًانِّيْنَ أنَّ ذلك يُخْفَىْ على الله: (... وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ 16). إذن الإسلام والإيمان ليس بالقول والإدعاء، وإنما بالعمل والسلوك الذي يقبله الله تعالى "وفقاً لمواصفات هوية المؤمن"، لذا تجد كثير من المنتمين للإسلام لا علاقة لهم به في واقع الأمر، لأنهم قد إكتفوا بالإسلام ولما يدخل الإيمان في قلوبهم بعد. قال تعالى: (قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم).

لماذا حُرِّمّتْ عمارة المساجد على المشركين؟
ما كان ينبغي أن يُسْمَحَ للمشركين "من الأساس" في السابق أن يَدَّعُوْا "بشركهم" عِمَارَةَ مَسَاجَدَ الله عموماً والمَسْجِدَ الحَرَاْمَ بصفة خاصة، وأنَّ ذلك السماح يُعْتَبَرُ تجاوزاً وخَطَأً كبيراً: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ ...)، لأن هذه المساجد حصرياً وضعت وخصصت فقط لعبادة الله الواحد القهار وتوحيده وتنزيهه عن الشرك، ولكن المشركين على غير ذلك لأنهم أعتدوا عليها ثم أصبحوا يعبدون غيره فيها ويشركون معه شركاءهم بظلمهم وإعتدائهم: (... شَاهِدِينَ عَلَىٰ-;- أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ...)، لعلمهم أن هذه التجاوزات غير صحيحة ولا مقبولة ولا عادلة فمن البديهي أن يعاقبهم الله على ذلك الإعتداء بعد أن جعل أعمالهم هباءاً منثوراً لا قيمة له عنده: (... أُولَٰ-;-ئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ...)، فهي مرفوضة ومردودة عليهم، لا يقبلها الله منهم ولا يرضى بدخولهم بيوته الطاهرة المطهرة لأنهم نجس، بل ومحكوم عليهم بالجحيم والعذاب المقيم سلفاً: (... وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ 17)، لأن هذه المساجد إختصها الله تعالى فقط للموحدين له، المؤمنين به وبملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فهي للمُتَّقِيْنَ، وهم فقط دون سواهم الذين لهم الحق في عمارتها وليس لأحد غيرهم الحق في ذلك، لذا يقول الله تعالى قاطعا جازماً:
1. (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...), وليس مجرد الإيمان فقط كما يظن البعض، لا،،، بل
2. (... وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ...), كركنين أساسين متلازمين بعد ركن الشهادة،،، ليس ذلك فحسب، بل
3. (... وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ...), فأولئك فقط هم الذين يعمروا مساجد الله، ويقبلهم ربهم ويرحب بهم وينظر في أعمالهم ويجازيهم بها وعليها، ويزيدهم من فضله ورحمته.
لذا قال: (... فَعَسَىٰ-;- أُولَٰ-;-ئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ 18). فهل إذا أصر هؤلاء المعتدين المتطفلين على التعدي على بيت الله تعالى عنوةً، وتدنيسه بأباطيلهم وأوثانهم وطوافهم عرياً بمكائهم وتصديتهم (كما يفعل الصهاينة الآن في بيت المقدس بفلسطين المحتلة).
فهل يرضى الله تعالى أن يترك المسلمون هؤلاء المعتدين المدنسين لبيته يفعلون كل تلك الأعمال التي تغضبه،، ثم يَدَّعُوْنَ بعد ذلك أنهم مؤمنون؟؟؟ أيعقل هذا؟

ما قيمة تقديم الخدمات للحجاج والعناية بهم عند الله بغير إيمان مقبول لديه؟
عبادة الله تعالى في المسجد الحرام ليست مجرد خدمات تُقَدَّمُ للحجاج بتوفير وتقديم المساعدة والسقيا لهم، كما يتوهم الناس، بل هي عبادة وتوحيد وإيمان يتفرد بها الله وحده، لذا يقول تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ...), ليس إيماناً وتقرباً لله تعالى وإنما مجرد تقديم مساعدات وسقيا للحجاج كافية؟ و مجرد زيارة للمسجد الحرام، بقلوب مشركة خاويةٍ، خاليةٍ من التوحيد (... وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...), كافيةً؟ حتى إن كانت بالأعداد الغفيرة من الحجَّاجِ، والطُّوَّافِ حول بيته الحرام، عراةً،، بالمكاء والتصدية، وكل هذه الأعمال المرفوضة يمكن أن تقارن أو ينظر الله إليها تماماً مثل أعمال من آمن بالله واليوم الآخر، وقام بما قام به حباً لله وفيه،، هل ذلك المُدَّعِي العبادة والتقرب إلى الله يمكن أن يكون بأي حالٍ (... كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...)؟ بل (... وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...)؟ فإن ظننتم وتوهمتم بأن أولئك مثل هؤلاء، يستوون في نظركم، فإنهم حقاً وحقيقةً: (... لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ...), فلا يعقل أن يستوي الشرك بالإيمان على الإطلاق، (... وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 19). إذنْ، يجب عليكم عدم خلط الأوراق، وذلك بالنظر إلى الناس بدون فهم ودراية، وعدم التمييز بينهم وفق المعايير الصحيحة التي يقبلها الله تعالى وليس وفق الهوى المحض أو التقييم الشخصي المبني على القدرات المحدودة والعلم المتواضع، فهناك إختلاف كبير وبون شاسع ما بين المؤمنين بالله حقاً وبين المشركين والكافرين به سبحانه، لأنَّ: (الَّذِينَ آمَنُوا ...), بالله حقاً: (... وَهَاجَرُوا ...), في سبيله، فراراً بدينهم، تاركين وراءهم ديارهم وأموالهم وعشيرتهم، ولم يبالوا: (... وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ...), فباعوا لله أموالهم وأنفسهم برضىً وقناعةٍ تامةٍ فأشترى منهم بيعهم الرابح وأُعِدَّتْ لهم بها وبفضله عليهم (... أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ...), هي جنَّاتُ عدنٍ مفتحةً لهم الأبوابُ (... وَأُولَٰ-;-ئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ 20), دون سواهم من المدعين والمتنطعين والمترهبنين، فقد ربح بيعهم وتضاعف أضعافاً كثيرةً، والله يضاعف لمن يشاء، ومن ثم، (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ ...)، يحقق لهم بها كل ما يشتهون ويخطر على بالهم من نعيم، (... وَرِضْوَانٍ ...)، منه لهم وعليهم، يفوق كل ما يرجونه ويتطلعون إليه، هي: (... وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ 21)، لا يفوتونه بالموت ولا يفوتهم بالنفاد، وأنهم سيكونون: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا...), بل الأكثر من كل ذلك، يجب أن يتذكر الناس قوله تعالى: (... إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ 22)،،، ترى ما هو مبلغ هذا الأجر العظيم من الغني الكريم؟

ما هي الولاية المحظورة على المؤمنين حيال الكفار؟
في فاتحة هذه السورة الكريمة كان الأذان بالبراءة من الله ورسوله، إلى الناس، في قوله تعالى: (وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ...), كلهم،، الآنَ جاء الأمر بتحذير المؤمنين من مغبة وخطر إتخاذ الكفار (المنافقين) أولياء، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...), إن كنتم صادقين في إيمانكم بالله تعالى وتأتمرون بأمره وتجتنبون نواهيه: (... لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ ...), مهما كانت علاقتهم بكم وعلاقتكم بهم، وذلك (... إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ...), فولايتهم ظلم ولا وجود للإيمان الحقيقي بالله تعالى مع هذه الولاية المريضة، فالأمر محسوم ولا يقبل التأويل أو يحتمل المماحكة والإدعاء، (... وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰ-;-ئِكَ هُمُ الظَّالِمونَ 23) وإن ظن في نفسه غير ذلك أو إدعاه فهو خادع لنفسه وموبقها.
الأمر ليس فيه فصال، فإما إخلاص الحب لله تعالى وحده ونبذ الكفر والكافرين والزهد في ما عندهم وكل ما يترتب على ذلك من تداعيات، أو إختيار أهواءكم ومصالحكم الدنيوية القليلة الفانية، فقال تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ ...), أصولكم وفروعكم: (... وَإِخْوَانُكُمْ ...), وهم أقرب الأقربين إليكم: (... وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ ...), وهم أهلكم وأحِبَّاءُكُم وبِطَانتكم وبنوا أبائكم، وقبيلتكم،،، (... وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ...), فأصبتموها كسباً أو إكتساباً وحرصتم عليها وسعيتم لزيادتها: (... وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ...), إن أنتم إلتزمتم بأمر الله هذا وتبرأتم من هؤلاء الأصناف من الكفار، فيقل الطلب على تجارتكم من غيرهم فيصيبها الكساد جرَّاء ذلك، وهذا أمر متوقع، ومقلق بالنسبة لكم في نفس الوقت، لا فصال في ذلك، فهذا واقع: (... وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ...), ولا تريدون فراقها إن إضطركم نبذ تولي هؤلاء الأصناف من الكفار المرتبطة مصالحكم معهم إلى تركها بالهجرة فراراً بدينكم،،، فلو كانت كل هذه المنافع الدنيوية: (... أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...), بإتباع أمرهم وإجتناب نهيهم القاضي بترك ولاية هؤلاء الكفار: (... وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ ...), لإحقاق الحق وإبطال الباطل وإنصاف المظلوم وإقامة العدل والقسط،،، إذن أنتم قد أدخلتم أنفسكم في دائرة الخطر ومحاذير الفسوق والعصيان، لذا: (... فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ-;- يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ...), فيكم، وستخسرون أكثر، بكفركم وفسقكم وولايتكم المريضة: (... وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ 24).

إذن،، كيف التغلب على التداعيات المتوقعة من نبذ تولي الكافرين؟
عليكم "أولاً" أيها الذين آمنوا أن تتذكروا فضل الله عليكم من قبل بنصره إياكم أكثر من مرة، فذكرهم سبحانه ببعضٍ من فضله عليهم وإحسانه إليهم ونصره المؤزر لهم على أعدائهم بصفة عامة، فقال لهم تذكروا !!!: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ...)، ليس من قوةٍ أو كثرةٍ رجال أو عتادٍ، ولكنه النصر منه عنده يؤتيه من يشاء من عباده، وقد خص بالذكر واقعة هي شاهد على أن كثرة العدد والعدة والعتاد ليست هي التي تحقق لهم النصر من دون الله تعالى فقال لهم مذكراً: (... وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ...)، كيف كان حالكم وأنتم كُثرٌ؟ وقد ظننتم أن الكَثَرَةَ هذه هي التي ستضمن لكم النصر، وقد أعجبتكم كثيراً، وإعتمدتم عليها فأغْفَلَتْكُمْ عن المُسَبِّبِ أسبابُهُ ولكن جاءت الأمور على غير ما توقعتم وظننتم: (... فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا ...)، وكانت النتيجة الحتمية عكس ما كنتم تظنون تماماً، هزيمةً نكراءَ مؤلمةً لكم: (... وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ...)، من شدة البأس الذي وقع بكم، فكانت عقاباً لكم لإعتمادكم على الأسباب أكثر من إعتمادكم على المسبب: (... ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ 25)، من وطأة البأس، فكان درساً قاسياً لكم حتى لا تقعوا في مثل هذه الغفلة مرة أخرى، ولكنها لم تكن تَخَلِّيَاً من الله عنكم وإنما كانت مجرد لفت نظر لكم: (ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ-;- رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ...), بعد أن وعيتم الدرس وأدركتم أن النصر ليس بالغلبة بالعدد والعدة والعتاد، ولكنه يأتي فضلاً من عند الله تعالى، بل: (... وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ...), من الملائكة الكرام تقاتل معكم جنباً إلى جنب: (... وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...), وجعل الدائرة عليهم بأيديكم وقد كانت معكم أيضاً ملائكة الرحمن تشارككم في عذابهم: (... وَذَٰ-;-لِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ 26), الذي يستحقونه على إختيارهم طريق الضلال والكفر.

هذا ما يتعلق بالميدان والقتال، ولكن بعد أن تضع الحرب أوزارها، فإنَّ هناك من بينكم من يستحق التوبة من الله على ما إقترف من ذنب وغفلةٍ عن الإعتماد على الله وحده دون سواه، وهناك من لا يستحق هذه التوبة، لذا قال تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَٰ-;-لِكَ عَلَىٰ-;- مَن يَشَاءُ ...), فالله تعالى يحب التوبة والمغفرة والرحمة، ويُحَرِّضُ الناس أكثر فأكثر حتى يتعرضوا لها ويستفيدوا منها وهو يرحم بلا مقابل فيغفر لمن شاء ولا يبالي: (... وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 27)، هذه صفة مطلقة فيه لا يَحْرِمُ منها إلا من حرم نفسه بنفسه.

تحريم المسجد الحرام على المشركين نهائياً:
أولاً: يجب أن يفرق الناس بين قولين للهِ تعالى:
1. بين قوله تعالى "يا أيها النبي..."،
2. وبين قوله "يا أيها الذين آمنوا..."،
فالأولى أمرٌ للنبي بذاته ثم يتبعه المؤمنون بالطاعة والتأسي،، أما في الثانية فالأمر موجه إلى المؤمنين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعده إلى يوم القيامة.
ففي أمر الله للمؤمنين بعدم إتخاذ الكافرين أولياءَ قال لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...), لأن هذا الأمر سيستمر "شرعاً" على كل مؤمن ومؤمنةٍ،، "واجب النفاذِ" إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بدءاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته الشريفة. لذا جاء الأمر في هذه الآية بمنع المشركين - ليس فقط من دخول المسجد الحرام - ، وإنَّمَا منعهم من مجرد الإقتراب منه فقال في هذا الأمر جل شأنه وعظم ثناؤه مخاطباً المؤمنين إلى أن تقوم الساعة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...), ربكم يأمركم، مؤكداً جازماً فيقول لكم: (... إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ...), فهو لا يريدهم، لأنهم أشركوا معه غيره ظلماً وعدواناً، خبيثٌ طبعهم ودنيس، ذميمٌ خلقهم، ولا يليق بنجس أن يقترب من بيت الله الحرام، فضلاً عن الدخول فيه، ومن ثم: (... فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰ-;-ذَا ...).
فهذا الأمر واجب النفاذ، على الرغم من أنكم تعتمدون على هؤلاء المشركين في تعاملاتكم التجارية وقضاء حاجاتكم الحياتية الضرورية، بالإضافة إلى أنهم يمثلون مورداً إقتصادياً اساسياً لكم خاصةً حين كانوا يحجون إلى البيت الحرام، فتغدق عليكم الأموال والمنافع من المتاجرة معهم وتبادل المنافع ،،، وبالطبع فإنَّ الله يعلم أن عدم إقترابهم من المسجد الحرام سيقلقكم من هذا الجانب ويخيفكم من الفقر والفاقة وشح الموارد الغنية هذه وكساد بضائعكم،،، الخ، لذا، يطمئنهم تعالى ويقول لكم: (... وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ...), بسبب هذا الأمر الواجب النفاذ ولا خيار لكم فيه: فلا تجزعوا أو تحملوا هماً: (... فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ...), ولكن ليس لكم سلطان في أن تُلْزِمُوهُ بشيء، فهو قادر على أن يوجد لكم البدائل الأفضل ومخير في أن يمنعها، فهو يغنيكم من فضله وليس لأنه حق لكم عليه، فسيغنيكم من عنده: (... إِن شَاءَ ...), تفضلاً منه ليس إلا، فهو لا يجبر على شيء، وهو أعلم بحالكم وإحتياجاتكم أكثر منكم، ورؤوف ورحيم بكم، وعنده الحكمة المطلقة في تصريف أمور خلقه وعباده، ألم يفجر الله ماء زمزم تحت قدمي عبده ونبيه إسماعيل وهو وليد رضيع، وفي بيئة جافة قاحلة؟ ألم يحدث ذلك؟؟؟ (... إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 28).

لدينا هنا بعض الملاحظات والتعليقات:
1. الله تعالى بذاته هو الذي قال عن المشركين بأنهم "نجس"، وأنهم يعبدون غيره وبالتالي لا يريدهم أن يقفوا أمامه بشركهم وكفرهم، بل لم يسمح لهم بمجرد الإقتراب من بيته الحرام مطلقاً إلى يوم القيامة، وليس لأحد من المسلمين أي حق في أن يسمح لهم بذلك،
2. لم يفرض الله تعالى عليهم الشرك، ولكنهم إختاروه من بين خيارات عديدة بمحض إرادتهم، وقد أعلمهم مسبقاً أن صاحب هذا الإختيار "عنده" يعتبر "نجس"، فمن أزعجه هذا المسمى العادل فعليه أن يختار لنفسه خياراً آخر خالياً من هذه الصفة، إن شاء ليكون من الأطهار،
3. عدم إلتزام النهي عن إتخاذ المشركين أولياء من دون المؤمنين يعتبر خيانة كبرى لله ولرسوله وللمؤمنين، لأن العلاقة عند الله تعالى ليست علاقة نسب بل هي علاقة ملة وتوجه وإيمان، فالعلاقة الحقيقية والأخوة والبنوة هي العلاقة في الله، وقد قال الله تعالى لسيدنا نوح عليه السلام في إبنه الكافر "إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح"، ولاحظ أن كلمة "عمل" تدل على أن الإبن من ظهره حقيقةً ولكن عبارة "غير صالح"، تفيد إنقطاع علاقة الأبوة والبنوة بينهما لأنها لم تعد تنتهي عند الله تعالى.
4. هذا النهي يترتب عليه أشياء غير محببة للمؤمنين لتأثر معاملاتهم الإقتصادية والتجارية، ومصالحهم الإجتماعية كثيراً، وبالتالي هم ملزمون بتنفيذ هذا النهي الإلهي المفروض عليهم، لذا طمأنهم الله تعالى بقوله لهم صراحة: (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ).

عظمة هذه السورة الكريمة أنها تفرق ما بين الموحدين من أهل الكتاب والمشركين منهم:
معلوم أن الموحدين من أهل الكتاب من يهود أو نصارى لا يقبلون بالمشركين بالله تعالى سوءاً أكانوا يهوداً أو نصارى من ملتهم أو من غيرهم تماماً مثل المسلمين في ذلك، وينتقدونهم كثيراً بل الأكثر من ذلك أنهم يحاربونهم في كثير من الأحيان ليس لصد عدوانهم (كما يفعل المسلمين)، وإنما إعتداءً عليهم لتغيير دينهم بالقوة، وقد رأينا في أدبياتهم عدد من التعابير التي يعبرون بها عن آرائهم في غيرهم من نفس المِلَّةِ إنْ كانت يهودية أم نصرانية. فمثلاً نجدهم يستعملون كلمة "جَدَّفَ" لوصف من صدر منه ما يدل على كفره Blasphemy بِنِعَمِ الله، أو شَتَمَهُ أو إدَّعَى الألوهية دونه، وهذا المُجَدِّفُ قد تصل عقوبته عندهم في الغالب إلى الرجم بالحجارة. وهناك كلمة "هرطقة" ويقصد بها "الزندقة"، والتي تتبادل طوائف أهل الكتاب خاصة النصارى الإتهامات فيما بينها، فمثلاً، نجد أن من يُعَدُّون هراطقةً لا يَصفُون آراءَهم على أنها هرطقات، إذ يرى المسيحيون الكثوليك أنَّ البروتسنتية أنها هي هرطقة، بينما ترى جماعات غير كاثوليكية أن الكاثوليكية هي ردة كبرى. وفي المقابل نرى أن من يُوصفون بأنهم هراطقة يرون أنفسهم أنهم إصلاحيون أو مجددون أو أنهم يُنَقُّون العقيدة و يخلصونها مما شابها، أو أنَّ فهمهم لها هو الفهم الأصلي الذي انحرفت عنه الجماعة التي تصف ذاتها بأنها أرثودكسية. ولكن لا تجد لديهم كلهم أي ضوابط ولا معايير ثابتة ودقيقة ومقننة يمكن الإحتكام إليها في وصفهم وتقييمهم لبعضهم البعض وبالتالي يصبح الأمر بالنسبة لهم محرِّكُهُ الأساسي هو التعصب أو الأصولية في أحسن أحواله، وهذا أحد الأسباب الجوهرية وراء إنقساماتهم إلمتكررة إلى طوائف وتشظي تلك الطوائف إلى جماعات مختلفة ومتخالفة ومتنافرة ومتقاتلة، والتاريخ القديم والحديث شاهد على ذلك. ولكن القرآن الكريم بصفة عامة، وهذه الآية الكريمة بصفة خاصة تضع المعايير الدقيقة المبررة أولاً قبل أن تصدر الأحكام على الطوائف المختلفة من البشر وبحيادية تامة لأنها من رب العالمين للبشر كلهم جميعاً، لأنهم عيال الله وهو خالقهم وإليه مصيرهم ومعادهم لا محالة، ولا يحكم بينهم فيما إختلفوا فيه إلَّا هو سبحانه وتعالى،،، ملك يوم الدين.
خلاصة القول، إنَّ أهل الكتاب ليسوا على قلب رجل واحد كما يدعون، بل هم طوائف وكنائس ومدارس مختلفة ومتخالفة، بل ومتشاكسة ومتناحرة. فبعضهم يصف البعض الآخر إما "بالهرطقة/ الزندقة"، أو "التجديف/ الكفر"، أو الإبتداع في الدين، بصورة قد تصل في كثير من الأحيان إلى العداوات المتأصلة والحروب الدائمة الطاحنة والإبادات الجماعية الظالمة، التي لن تنتهي بينهم أبداً ما دامت السموات والأرض، لقوله تعالى (... وأغرينا بينهم العداوة والبغضاء أبداً ...).
فما دام أنهم هم أنفسهم يصفون بعضهم بعضاً بالكفر والزندقة والإبتداع في الدين، وهم لا ينكرونه بل يجادلون فيه وبه ويرونه أمراً واقعاً لا مراء فيه، فهذا يعتبر إعتراف منهم "صريحاً" ودليلاً مادياً قاطعاً بأنَّ من بينهم كفار وزنادقة ومشركين. وبالتالي يكون القرآن قد أثبت وأكد حالهم وقناعاتهم بكل دقة، بل قد أوجد لهم ما هو مفقود عندهم وهو تفصيل حال كل فئة من هؤلاء الكافرين وصور هويته تماماً.

فحين يتحدث القرآن عن أهل الكتاب، لا يشملهم جميعاً بحكم واحد، بل يصنفهم حسب إختيارهم لسلوكهم ومعتقدهم بأنفسهم ومن واقعهم الذي إرتضوه دون أن يغير في ذلك الواقع شيئاً. لذا على المتأمل في الآية التالية مراعاة دقة التمييز بين الذين آمنوا بالله واليوم الآخر من أهل الكتاب، وبين الذين أشركوا منهم أو كفروا، فقد بينت الآية تماماً وحددت للمؤمنين بدقة أنه ليس المطلوب منهم أن يقاتلوا كل أهل الكتاب على إختلاف معتقداتهم أو درجة إيمانهم بالله وتوحيده، وإنما المشركين والكفار منهم وهو عدو مشترك بين كل المؤمنين بالكتب السماوية غير أنَّ الإسلام يمتاز عنهم بأنه لا يقاتل أحد على دينه أو عقيدته التي إختارها لنفسه بإرادته، بل يحصر القتال في الذين إعتدوا وبدأوا القتال لتغيير دين الآخرين بالقوة، لذا، قال لهم،، فقط: 1(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...)، إيماناً لا يشوبه شرك: 2(... وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ...)، وهذا هو إيمان أهل الكتاب "في الأصل" قبل التحريف والتجديف والتأليه، وهم قد قاتلوا الذين لم يؤمنوا باليوم الآخر علماً بأن أهل الكتاب المعتدلين قد قاتلوا هؤلاء الكافرين ونبذوهم وقتلوا منهم أعداداً كثيرة على مدى التاريخ، 3(... وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ...)، ليس كلهم ولكن فقط الذين تنطبق عليهم هذه المواصفات بدقة (... مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ...)، لأن المؤمنين حقاً من أهل الكتاب يعلمون تماماً أنَّ الذي أحله الله ورسوله في الإسلام هو نفسه الذي فعله موسى وكذلك عيسى عليهم الصلاة والسلام، فهؤلاء المشركون من أهل الكتاب هم المقصودون (بالمقاتلة "لا القتل" !!! إنتبه)، ليس بصفة مستمرة ودائمة، ولكن: (... حَتَّىٰ-;- يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ ...)، إذا ما فضلوا وقرروا البقاء معكم (كمواطنين)، بعد إنقضاء المهلة ولم يخرجوا من بينكم إلى حال سبيلهم، ولم يسالموكم في داركم، ففي هذه الحالة عليهم أن يدفعوها إلزاماً وليس إختياراً: (... وَهُمْ صَاغِرُونَ 29)، منقادون أذلاء لحكم الله ورسوله دون نشوذ أو إعراض أو تمرد، ضماناً للطاعة والإلتزام بالضوابط العامة والأمن وعدم الخروج عن السلطان. ولا ينسى الناس أنَّ دافعي الضرائب في كل أنحاء العالم "دون إستثناء" يدفعونها ليس بإختيارهم، وإنما "عن يدٍ "إلزاماً"، لأنهم إن لم يدفعوها طواعيةً أجبروا على دفعها "بالقانون السيادي" وقد يتحملوا غرامات أو سجن أو العقوبتان معاً أو المصادرة، إذن فهم "يدفعونها عن يدٍ وهم صاغرون". وهذا الصغار ليس بالضرورة أنه يتضمن إمتهان لكرامة الإنسان "الذي يحترم إنسانيته"، وحقوقه. بل ما يلحق به نتيجة حتمية لإنتزاع الحق العام منه إنتزاعاً إن تمرد في دفعه طواعية وإنصياعاً وعمل على إحترام نفسه وتجنبيها الصغار.

هل الإسلام كان بدعاً من أهل الكتاب في فرض الجزية أم سبقه إليها كل الرسل؟
وقفة مهمة جداً فيما يتعلق بالجزية وبكيفية دفعها، ليعرف الذين ينتقدون الإسلام من أهل الكتاب أو من غيرهم أنهم إما جهلاء أو منافقون مغرضون مدلسون، لأنهم يمارون في هذا السلوك الحضاري العادل الرحيم، لأنه من الواضح جلياً أن المقاتلة المطلوبة ليست موجهة ضد كل أهل الكتاب، بل طائفة محددة ومختارة وفق مواصفات ومعايير دقيقة تتسم بروح التمرد والعناد والمشاكسة، تحدد مدى خطرهم على المجتمع إن لم يتخذ ضدهم إجراءٌ حازمٌ يضمن سلامتهم وسلامة المجتمع من مفاهيمهم المريضة، وفي الحقيقة، حتى أهل الكتاب المعتدلين المؤمنين يصفون هؤلاء كما وصفهم الإسلام، ولو كانوا تحت إمرتهم لأتخذوا ضدهم إجراءً نحسبه "وفق كتابهم المقدس" أنه سيكون أقسى لأنه سيتأثر بلا شك بهوى ومزاج أولي الأمر منهم. وتأكيداً لقولنا هذا نناقش بعض الملاحظ في ضوء عقيدة أهل الكتاب، من خلال صحاح كتبهم المقدسة:
أولاً: الكتب المقدسة عندهم تتضمن بوضوح فرض الجزية والأمر بدفعها، ففي سفر صمويل ثاني: إصحاح 8 – رقم 1: يقولون عن داود: ((وضرب الموآبيين وقاسهم بالحبل، مُضْجِعَاً إياهم على الأرض. فقاس منهم حبلين للقتل وطول حبل للآستبقاء. وصار الموآبيون رعايا لداود يؤدون الجزية.)). وفي متي صحاح17 – رقم 25-27 يقول ((25.... فلما دخل البيت، بادره يسوع بقوله: ما رأيك، يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الخراج أو الجزية؟ أمِنْ بَيْنِهِمْ أم من الغرباء؟)), ((26 فقال: "من الغرباء"، فقال له يسوع: "فالبنون معفون إذا")). ((27. ولكن لا أريد أن نكون لهم حجر عثرة، فاذهب إلى البحر وألق الشص، وأمسك أول سمكة تخرج وافتح فاها تجد فيه إستارا، فخذه وأده لهم عني وعنك))، وفي سفر يشوع - إصحاح 16 يقولون ((10 ولم يطردوا الكنعانيين المقيمين بجازر، فأقام الكنعانيون بين أفرائيم إلى هذا اليوم، وكانوا خاضعين للسخرة.)) وفي قضاة - إصحاح 1 يقولون ((30 ولم يطرد زبولون سكان قطرون ونهلول، فبقي الكنعانيون في وسطهم خاضعين للسخرة.)). وفي ملوك - إصحاح 4 يقولون ((21. وكان سليمان متسلطا على جميع الممالك، من النهر إلى أرض فلسطين وإلى حدود مصر، يحملون إلى سليمان الجزية، خاضعين له كل أيام حياته.))،، وهناك المزيد،، فأين هذا كله قياساً بالجزية التي فرضها الله على أعداء محاربون،، قرروا الإقامة (كمواطنين)، تحت رعاية المسلمين الذين يقدمون خدمات عامة أساسية وحماية قومية للحدود والبنية التحتية، وإدارة شئون المجتمع بالبلاد، كل ذلك يلزمه تمويل من الرعية كلها في شكل رسوم خدمات و"ضرائب"، وحيث أن هذا التمويل بالنسبة للمسلمين قد ربطه الله تعالى كركن أساسي في العقيدة الإسلامية وهي "الزكاة"، وهذه مفروضة إلزامياً على المؤمنين ما بلغوا النصاب في مدخراتهم، هذا بجانب التطوع بالصدقة والنذور، لقوله تعالى (خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم بها وتزكيهم...)، فلم يشأ الشرع الكريم العادل أن يفرض هذه الإلتزامات على غير المسلمين بمسماها وصيغتها "التعبدية" كزكاة، فيكون بذلك قد الزمهم بجزء من مقتضيات الدين الذي لم يرتضوه ويعتنقوه بإختيارهم، لذا،،، وإحتراماً لحقوقهم في حرية إختيار الدين الذي يرغبون فيه أخذ منهم هذا الإستحقاق العام تحت مسمى "الجزية" ولكن بصورة فيها العدل والرحمة بغير تلك الصورة البشعة التي يعرفونها بها عبر الحقب الماضية التي سبقت الإسلام، ومن ناحية أخرى، ليس من العدل أن يتحمل المسلمون نفقات الخدمات العامة دون باقي الرعية الذين يشاركونهم الإستفادة من تلك الخدمات، لذلك فرضت على هؤلاء "الجزية" إجبارياً، كما هو الحال مع الضريبة في كل أنحاء العالم. كما أن المسلم ليس له خيار في أنْ يدفع الزكاة المستحقة عليه "إلزاماً"، بل ويقاتل إن إمتنع عن أدائها، كما فعل أمير المؤمنين، لأنها حق معلوم في ماله "للسائل والمحروم". والسؤال المهم،، هل إشترط أن يكون ذلك السائل أو المحروم مسلماً فقط؟؟؟
ثانياً: أما الشرك الذي وصف الله تعالى به بعض أهل الكتاب، هو ما قاله هؤلاء اليهود والنصارى، وهو مؤكد قولهم حتى إنْ أنكره المنكرون فهذا الإنكار لا يصمد أمام قول الله تعالى وتأكيده. فالمهم في الأمر أن اليهود الذين أشركوا بالله بإدعائهم أن عزير ابن الله، كما قال الله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ...), وأيضاً النصارى الذين يدَّعُون بأن المسيح إبن الله أو ثالث ثلاثة أو هو الله الخالق الديان،، (تعالى الله عن ذلك الإفك علواً كبيرا)، هم المشركون منهم، كما قال الله فيهم: (... وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ...), وينكر الله تعالى عليهم هذا القول فما هو إلا إدعاء كاذب منهم ومفترىً على الله: (... ذَٰ-;-لِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ...), وليس له رصيد من دليل أو برهان ولا حجة. ومعروف موقف اليهود من عيسى عليه السلام وإعتقادهم فيه وفي الصديقة البتول مريم العذراء رضى الله عنها وأرضاها، فهم بذلك القول تماماً مثل الذين سبقوهم إلى قول كلمة الكفر من قبل: (... يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ...), ومن أولئك الذين إدَّعُوا إفكاً أنَّ الأصنام هي آلهة: (... قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ-;- يُؤْفَكُونَ 30), وكذلك المشركين من أهل الكتاب أيضاً: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ...), من العلماء والمتفقهين في دينهم: (... وَرُهْبَانَهُمْ ...), المنقطعين للعبادة في صوامعهم وبيعهم، إتخذوهم: (... أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ...), بالإضافة إلى تأليههم وعبادتهم للمسيح عبد الله ورسوله، (... وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ...), أيضاً، علماً بأن الله أرسل رسله إليهم ولم يأمرهم أحد منهم إلا بتوحيد الله وإفراده بالعبادة دون سواه، (... وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰ-;-هًا وَاحِدًا ...), وقد أعلموهم وأقاموا عليهم الحجة وقدموا لهم البينات والأدلة القاطعة على أنْ (... لَّا إِلَٰ-;-هَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 31). ولكنهم إستمروا في كفرهم وشركهم ليشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، ولينشروا الفساد والظلم والطغيان على الناس. إذاً، لا يجرؤ أحد من المسلمين أن يصف أحد بالشرك أو بالكفر إلا وفق التوصيف الدقيق الذي حدد الله تعالى به "هوية" البشر بأنواع توجهاتهم ومعتقداتهم. فإذا جاء أحد وأنكر وجود الله تعالى فهذا شهد على نفسه بنفسه أنه ملحد، وإذا جاء آخر فذكر إلهاً أو رباً غير الله فهذا إستحق لقب كافر، وإن إدعى أحد وجود إله مع الله تعالى فهذا مشرك بالله تعالى. إذن هو الذي صنف نفسه وحدد هويته بإختياره الذي وصفه الله تعالى بذاته مسبقاً. فإن أراد أن يخدع نفسه ويسمي نفسه مسمىً آخر يروق له فليفعل،، ولكن عليه أن يتذكر أن فرعون قال (أنا ربكم الأعلى)، فما أغنى عنه ذلك شيئاً فكانت اللعنة تلاحقه عبر الحقب والأزمان إلى قيام الساعة، وقد أغرقه "ربه الأعلى" في قاع اليم، ثم أنجاه ببدنه ليكون آية.... وقد كان.
تحية للقراء الكرام،،، وإلى اللقاء في الجزء2 (تكذيب الإفتراءات المغرضة بالأدلة الدامغة).



#بشارات_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- الرئيس بزشكيان: على الدول الاسلامي التعاون ووضع الخلافات جان ...
- هل أحاديث النبي محمد عن الجيش المصري صحيحة؟.. الإفتاء ترد
- المكتبة الخُتَنيّة.. دار للعلم والفقه بالمسجد الأقصى
- “خلي أطفالك مبسوطين” شغّل المحتوي الخاص بالأولاد علي تردد قن ...
- قوات جيش الاحتلال تقتحم مدينة سلفيت في الضفة الغربية
- وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور ...
- بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
- ” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس ...
- قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل ...
- نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بشارات أحمد - براءة سورة التوبة من تهمة السيف – الجزء الأول: