أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامي عطا - بحث في معنى التأويل















المزيد.....



بحث في معنى التأويل


سامي عطا

الحوار المتمدن-العدد: 4337 - 2014 / 1 / 18 - 04:35
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لقد تأسـسـت الاتجاهات والتصـورات الفلسفية على قاعدة عريضة مــــن المفاهيــم، وهذه المفاهيم إما مفاهيـم مصدرهـا العـقـل ومستمـــدة أساسـاَ مـن الواقـــــــع أو مفاهيــم مصــدرها العـقـــل الخالـــص. ومع ذلك تظل حركة تطـور المفاهيـم والمصطلحات تتجه صعــودا مـن المحســوس إلى المجـرد. وقـد شـهــد الفـكــر الإنسـانـي مفاهيـم مثــل ( المادة- الصــورة، الحـركـة - السكـون، الوجــود- العـــدم، التكـــويّن- الفســاد، القــوة- الفعــل... إلخ)، غـير أن تــــلك المفاهيـــم تأسســت علــى قاعــدة المحســـوس أو مستوحــاة منـه، مــن أجــل محـاولــة تفسـير الوجــود والكــون بغيـــة بنــاء نــظرة كلــية لــه. وعلــــى ذلــك الأســاس تأسســت التصــورات والنظريات، لكنها اختلفت بسبب المدخل المنهجي لكل منها. وعليه تميزت نظرة هذا الفيلسوف عن ذاك .

ما التأويــل؟ وما التأويليــة؟
أن الهيرمنيوطيقا Hermeneutics اشتقاق لغوي للفعل الإغريقي Hermeneueinوهو فعل يدل على عملية كشف غموض يكتنف شيئاَ ما، أو هـــــــــو عمليـــــــة إعــــلان رسالـــة وكشف النقاب عنها . ولقد اشتــــق الفعـل من اسم الآله الإغريقـــي هرمـس Hermes , الذي يعـــد إلها َمتعدد المواهب، حيث يعــد رسولاَ للآلهــة، وآلــه الحــــدود، وآلـــــه التجارة، وصانـــــــع القيثارة والمصفار. ولمواهب هــرمس تلك سمتين أساسيتين هما:
الوساطة بين حرفين والقدرة على استخدام الحيل في الوصـــــول إلــــــى الغاية القصوى. كلا السمتان ضروريتان في عملية الكشف عن الغمـوض. ومن اللـــــفظ ذاك اشتق اللفظ الإنجليزي Hermeneutics الذي ترجمه الباحثون العرب بالهيرمنيوطيقا. وجاء تعريف الهيرمنيوطيقا في المعاجم الفلسفية مختلفاً , ففي معجم كمبريدج الفلسفي عرفت الهيرمنيوطيقا Hermeneutics، بوصفها " فَنّ أَو نظرية التفسيرِ، بالإضافة إلى نوع الفلسفةِ الذي يَبْدأُ بأسئلةِ التفسيرِ. وتتَعلّق أصلاً بدقّة ترجمة النصوصِ المقدّسةِ ، التعبير اكتسب أهمية أوسع في تطويرِه التاريخي وأصبح أخيراً موقف فلسفي في فلسفةِ القرن العشرينِ الألمانيةِ"(1) . بينما عرفتها موسوعة روتليدج الفلسفية Concise Routledge encyclopedia of philosophy , بأنها " فَنّ التفسيرِ كَانَ أصلاً نظريةَ وطريقةَ ترجمة التوراةِ والنصوصِ الصعبةِ الأخرى "(2) .
الهيرمنيوطيقا اصطلاح مدرسي لاهـوتي دخل حقل الفكر من بابrе-;-tuipScr أو النصوص الدينيـة isе-;-sxе-;-gE مستعينـاَ بمجموعـة قواعـد ومبادئ تحقق غايته المتمثلة في رفـع الغمـوض والإشكال في المعنى، لا ليكون ذلك المعنى في لحظة انكشاف ووضوح وحسـب، بل يصير ذلك المعنى في حالة قبول وانسجام مع العقائد الإيمانيـة.(3)
أمـا الموسوعـــــة الفلسفيــة الروسيـــة، فقـد عرفت الهيرمنيوطيقا ((Г-;-е-;-м-;-е-;-н-;-е-;-в-;-т-;-и-;-к-;-а-;- علــى أنهـا " فــن ونظريـــة شـــرح أو تفســـير تهــدف إلــــى إيضــاح معنــى نــص بالانطــلاق من مسوغات، إما موضوعيــة ( معنـى الكلمات وشروط تغــيرها التاريخــي) أو ذاتيــة ( مقاصــد المؤلفــين)". (4) بينـما موسوعـة لالاند الفلسفــيـة عرفت الهيرمنيوطيقا (5) بوصـفـها " تفسير نصوص فلسفية أو دينية، بنحو خاص الكتاب (شرح مقدس). تــقال هذه الكلمة خصوصا على ما هو رمزي".(6)
إن هـذه التـــــعاريف التي أوردنــــاهـا أنفــــاَ يبـدو جليـا، بأن مصـطلــــح هيرمنيوطيـقا يكتســب ثلاث معانـي مختلفــــة باختلاف اتجاهـات التفكــير التي تنطلــق منها تلك المدارس، فتارةً يحمل المصطلح معنـا إجرائــــــــيا ومنهجـــــيا غايته البحــــث عـــــن الأدوات التـي تعــيـن علـى التفســـــير , وتارةً أخرى يحمـل معنـى منهجــــــي باعتبـاره طريٍقـــة أو أسلــوب معالجــة النـص، وتارةً ثالثةً, يحمل معنــــــى غائـي ؛ أي أن غايـــــة الهيرمنيوطيقا فــي نـهـايـة المـطاف، تفســــــير النصـــــــوص سـواء كانـت فلسفــية أم دينيـة.
بالرغــــم مـن هـذه الاختلافات البسـيطـــة إلاّ أن الشيء الذي يكـــاد يتفـق حولـه الباحثــون، أن الهيرمنيوطيقا تأسسـت على أساس اعتبارات ومســــوغات دينيــة بحته ألاّ وهـي فهم الـدين المسيحــي.(7)
يعـد العامـل الفيلولوجــي عاملاَ مـن عوامـــل نشـــــأة الهيرمنيوطيقا ، إذً أنَّ التباعـــــد اللغــوي ومعنــى الكلمــة في أصـل وضعـــهـا، ومـا كانت تُشـير إليـه فـي حقبـة زمنيـة مـا ؛ بالإضافــة إلـــى الاعتقــــاد بوجـــــود معنــى مضمـر وراء المعنـــى الظاهــري الـذي يحملـه النــص، وانعـدام الثقــة فــي القراءة الواحـــــدة؛ أي التفســـــير الواحــد للنــص. هـذه العوامــل جميعها تعـد مسوغــات نشـأة المصطلــح.
لقــد مـثـلت دعــوة مـاتـن لوثـــر (1661-1725) فـــــــي مرحلـــــة الإصـــــلاح الديــني، الــــذي طالـــب فيـهــا إلــى تأصــــيل مفهـــوم الحريـــــــة غــير المنقوصـة فــي قـراءة الإنجـيل، وعــدم الاقتــصار علــى القــراءة الواحــدة، أي عـــدم اعتــماد التفســـير الأحــادي للنصــوص، دوائــر أكـثر اتساعـا، شمـل كافــة العلــوم الإنسانيــة "(8)
مـع ذلـك نستـطيـع أن نـرجـع جـذور الهـيرمنيوطيـقا فـي الفكـر الـغـربـي إلـى زمـن أبـعـد غوراً، وتـحديدا فـي الفـر اليوناني المبكر، إذً ظهـرت تـأويـلات مختلفة فـي النصـوص الكلاسيـكـية، وعلى سبيل المثال نصـوص هــومـر. ومـــــن هنـا فإن المتتبـــــــع لجذور الهـيرمنيوطيـقا الأولـى فـي الفكـــــــــر الغـربي، يجـــدها متمـثلـــة بمجمــوعــــــة مـــن الأمـثـلــة متـــعددة الـــدلالات الـتي ترجــع إليـهـا. وقــد اكتســـبت الهـيرمنيوطيــــــقا في الفـكـــر الغـربي فـي عصــر اليونانـي المبكـــــر ثلاثـــــة معانٍ مختلفــة يمكـن تلخيصـها بالآتي:
1- الهيرمنيوطيـقا بوصفها ترجمة أو نقـل"تعـويض ألفاظ أو استبدالها" فقــد كـــان التـأويـل والترجمـة إغريقيا، يتطابقــان أو يحملان نفــس المعنى تقـــــريبا، وقــد ترســـخ هـــذا التطابــق بفـعــل الاعتقــــاد السائـد بأن الترجمــة ليست إلا استبـدال ألفـاظ ومنطـوقــات مــن لـغـة مـا إلــى لغــــة أخـــرى، أي إنهــا تــأويـــــل المضامـيـن وإيضــاح المعــانـي، فالمترجـم يـؤدي مهمــة الموضـح ويقـوم بدور الكاشــف للمعــنى. بمعـــنى أخــر أنـه يوضــح ويبيـن الألفـــــاظ الأجنبيـة والغريبــــة في لغـــة مـا عـــــــن طريــق نقلهـا إلــى لغة أخـــرى كــي تكـــون ممكنــــة الفهــم, لهــذا كان نشــاط المؤول يشبــه إلــى حـــد مــا نشـــــاط المـتـرجـم، إلا أنَّ خلافــا للمترجم الــذي يستبــدل الألفاظ الغامضــة والمبهمــة من نســق لّغْــوي إلــى ألفــاظ مفهـــــومـة وواضحــــة المعــنى نســق لّغْـــوي أخـــر، يــرمـي مــن وراء ذلـك التوضـيـح والإفهــام ,أي أنَّ المــّؤول يقوم باستبـــدال الألفـاظ المبهــمـة والغامضـــة بألفــاظ واضـحــة وبيّنــه فـي نفـس اللّـغْــــــوي.
2- الهيرمنيوطيـقا بوصفهــــا تعــــبيراً.إن بــدايــــة ظهــــور التعبــــــير الـرمـزي فـي الفكــر الأسطــوري ومحـاولـة إظهــار معانيـــه ودلالاتـــه، يعـــد تأسيـسا أولاً للهيرمنيوطيـقا، منـذ أن وجــد النــــص الأسطـوري الـذي كان يخفي خلف سطــوره دلالاتٍ رمــــزيةٍ مبهــــمةٍ شـتى، الأمــر الــذي أفـضـى فــي نهايـة المطاف إلـى ضرورة تأسيـس فــن لاكتشـــاف تلـك المعـانـي، ومع الوقـت أخـــذ ذلـك الفـن أو الهيرمنيوطيـقا تـأصيـــل نشـــؤه وتطــــويـر أدواتـــه.
أن تقنــيات وأدوات هـــذا الفـــن عـبرت عـن نفســها فــي مجمـــل منـطــــــــق الـيونان الـــذي نسقـــه وجمعـــه ورتبــــه ووضــع أسـسـه ارسطو طاليس (384-322ق م) فــي مجموعــــة كتبـــه المنطقيــة" الإرغـانــون"Organon لقد جعـل ارسطو من العبارة مادةً للفكــر وصــورةً لــه، لقـد أراد أن يجعــل من العبارة أن تؤدي دور الحـــامــل للفكـــــــــرة والكاشـــف لأعـماقـــه ومضامينـــــه أيضــا، أي أنــه جعلــهـا الشكـــل والصـــورة المعــــــبرة عــن المعــاني التي بواسطتــها يتحقــق الفهــم والتفاهـــــم بيــن النــاس. مـنــــذٌ ظـهــــــــور منطــــق الـيونان على يـــد ارسطو طاليس، أضـــحى ذلــك المنـطـق هـيرمنيوطيـــقا للفكــــر، لـذا فــأن تـلـك الهـيرمنيوطيـقا بما تمـتـلكــه مــن أدوات وتقنيـــــات أخـــــذت تحفـــر وتغــوص في طبـــقـات اللّــغــة كـاشفـــة عـــن المدلولات والـمعـانــي المختـلفة الـمـتـواريـة، إذً نجـــــد فيـه ارسطو طاليس كتب مبحـثاً خاصاً فـي التأويـل – المبـحث الثانـــي فــي الارغانـــــــون - عنــونـــهُ بـperi hermeneias الــــــذي يقـــرٌّ فيــــه أنَّ علــــم الدلالة هـــو " قـــــــول شـئ مـا بخصــــوص شــــئ مـا هـــو بالمعنــى الكامـــل والقــوي للكلمـــــة تأويـل"(9) هــــــذا جــاء منسجمــــــا مـــــع المقاصــــد الكليــة لفكـــــر ارسطو حـــين أراد مــن وضعــــــه لمنطـــــق العبـــــارة أن يكــــون حـــامـــلاً لمضامـــين الهيرمنيوطيقا .
لأجـــل ذلـك يمكـننـــا أن نعـــد الهـيرمنيوطيـقا أو التـأويـل لُّغـــة ثانيـــة تكشــــف عــن مــــا وراء الـلغــة الأُولـــــــى أو هـــي بحســـــب التعـبـــير الوضعـــــي المنطقــــي Meta-Language أي لّغـــــة شـارحــــة تكشــــــــف المعـانـــي وترفعــها عــــن وضعيــــة الإضمـار. ويمكننا أن نرجـع التأويل الفلسفي أيضــا إلى أواخــر القــرن الخـامـس قبــل الميــلاد، وتحديــدا إلــى افلاطون ، وذلـك حيـنمـا مـيـز بيـن مـدلــولـيـن فـي العـبـارة: المــدلــول الــبـاطـني والمـدلــول الـظـاهــري. لـقــد أدرك افلاطون أهـمـيــة ذلــك، لأنـه بواسطتــه يستطيـــع إظهــار إشـكـاليــة تجسيــــد الإلهـــام والإيحــــاء، مــن هنـــا حـــول افلاطون التـــأويـــل مبكــــرا مـــن سمتــه الأسطــوريــة والرمـــزيـــة إلـــى خاصيـة فلسفيـــة عقليــــة خالصــــة. وعليــه أخـــذت الهيرمنيوطيقا تكـتســب مـعـنـى فلسفيــا مجـردا. فلم يعد المؤول كما كان في الأدب الإغريقي القديم وسيطا بين نص من جهة وآلـــه مـن جهـة أخــرى، أي وسيطا بين نصوص مبهمة غامضة بوصفها خطابا ألهيا وترجمـــة يكــــون المؤول واضعها.(10) الهيرمنيوطيقا بوصفـــــها تفســـــيراً وإيضـــاحاً ، اتسـعت دلالات الهيرمنيوطيـقا بحجم اتســـاع الحاجــة إليها ,إذ أخــذت تعنــى بتفسـير مختلف الظواهـــــر التي تتطلب ذلك ، فلم يعد غمــوض النــص الديني والحاجـــة إلــى فهمــه أساســاً وحيــــداً للتــأويــل، بــل كل ظاهـــرة يستشعرها أو يواجــهها العقــل ولا تكــــون في حالــة توافــق وانسجــام مــع عالمنــا أو مندمجــة فيــه، كــأن يقــف فــي لحظــة حـــوار أو محادثـــــــة مـا أو يواجــــه عمــلا فنيــا أو يتأمــل أحداثــا تاريخيــة؛ كل هذا أضحـــى ميدانـــاً خصبــاً للتــأويــل. مـن هنـا يمكـن أن نقول أنّ غاية التأويل هو الوصول إلــى الأسبـاب النهائيــة للمشكلات التي تواجه العقـل، أي تتطلب تفسيرا محـددا ودقيقا، وكل هذا لا يمكن بلوغه إلا من خلال استخدام الهيرمنيوطيقا التي تتكفل بمهمة"عبور الهوة بين العالم المألوف الذي نمكث فيه والمعنى الغريب الذي يرفض أنْ يُستوعب في أفاق عالمنا . (11) وبالرغم مـن هــذه البدايات المبكـرة لنشـأة الهيرمنيوطيقا ودور الأسطـورة فيـها .إلا أن الكـثير مـن الأبحـاث أرجـعت سبب نشــوء الهيرمنيوطيـقا إلى ضـرورة فهـم النص والنص الدينـي تحديدا. لقـد عــدَ الباحثون مسألــة الفهـم تلك نقطــة انطـــلاق نشـأة التأويـل أو زمن أول " فقد كان لعامل التباعد اللغوي ومعنـى الكلمـة في أصل وضعها، وما كانت تشـير إليه في القديم وكـذا الاعتقــاد بوجــود معنـى خفـي وراء هذا المعنـى السطحـي الظاهر، وانـعدام الثــقة فــي الـقـراءة الواحــدة ... لــقد كان لكـل هــذه العوامـل دورها في نشــأة الهيرمنيوطيقا هذه النشــأة الدينيــة".(12) تعـد البروتستنتيــة ممثلـــة بزعيمها وأبيهـا الروحــي مارتن لوثـــــر (1625-1695م) الذي دعـــا إلـى حريـة غـير منقوصـة في قراءة الإنجيل، وعدم الاقتصار علـى قراءة واحــدة أًحاديــه Gadamer(1900-....) يقـدم لنـا وظيفـة المؤول على أساس أنها " الكشف عن دلالة أصلية تماماَ متوارية في المكتوب المراد معالجته "(13) منذاك انفتح الباب أمام الهيرمنيوطيقا وأتسع مفهومها (14) بمعنى أخر الهيرمنيوطيقا والحاجة إليها شرعت إلى أضخـم انشقــاق داخــــل الكنيســـة الكاثوليكية ومنذئذ عرفت المسيحية البروتستنتية كاتجاه جديد. يدعو إلــى عدم حصــر مهمـة تفسـير النصــوص الدينيــة فــي سلطــة البابا.
خــلال الـفــترة مـن نهايـــة القرن الثامـن عشـــر حتـى الثلـث الأول مـــــن القــرن التاسع عشــر قـام الفيلسـوف واللاهوتي الألماني شلايرماخرSchleirmacher (1768-1834م) بأول توسيع لدلالات مصطلــح الهيرمنيوطيقا فيما وراء اللاهــــوت أو المشـــكلات الجزئيــة فــي تفســـير النصـــوص الدينيـــة. حــيث امتـــد المصـطلح ليشمـل ميادين وحقول معرفية جديدة أطلق عليها علوم التفسيـر مثل الفيلولوجـــيا philology ، القانــون والتأريخ . فمنذ كتب كتابه Hermeneutic تحول التأويل من كونه أداة تفســير للنص الديني إلى كونه أحد الأدوات الجديدة في نطاق البحث الفلسـفي واللَغوي. إلا إنـه لـم يبــارح حقــل اشتغالــه الأول، أي اللاهوت وتفسير نصوصـــه. هذه الأنســـاق المعرفيـــة الأربعة مابرحت تلازم اهتمام الهيرمنيوطيقا حتـى نهاية القرن التاسع عشر. كما اتسمـت الهيرمنيوطيـقا في هذه المرحـلة بالنضــج والصرامـــة العقليــة، الأمـر الذي أكسبـها طابعا فلسفيا صرفا، ويرجع الفضــل في ذلك إلــى جهود شلايرماخر ذاتــه. وهنا نلاحظ دلتــــاي Dilthey (1833-1911م) يشـيد بشلايرماخر، إذ نجـده يقول" شلايرماخر إنسان مفكـــر بصـــورة عميقة، لقد حوّل اتجاهــه الفلســفي إلــى هذه الخبرة الكلية وإلــى صورة الفهم، لقد حاول أن يستوعب ما هو محوري بالنسبـة لكل مجال من مجالات الحياة".(15) ويقــول جودجز أيضا مشيدا بشلايرمـاخر وتأثيره علــى مفكــري عصره "ليـــس هنـــــاك شخــص بــين مــعاصري دلتـــاي كان لــه تأثــير علــى دلتــاي يمكــــن مقارنتـــــه بتأثيــر شلايرماخر ".(16)
تمـيز شلايرماخر بقــدرات فائقة في فقه اللغة، ومهارات فلسفية ذات بُعــد ونفـــس كانطــي، الأمــر الذي يسر لهيرمنيوطيـــقاه أن تتخـــذ طابعـــاَ فلسفيــاَ عميقــاَ.
فلسفــة شلايرماخر الهيرمنيوطيقية (التأويلية) هـــي بمثابـــة فــــــــن للفهـم، أي فـن إدراك المعاني المتوارية فــي ثنايا خطـاب أو نـص ما. فأي خطاب أو نـص يفصح عــن دلالتــين دلالــة فرديــة ذاتيـة من جهــة هي حصيلــة وجهـة نظـر واضعــــــها ويكــون مســؤولاَ عنــها، ودلالــة موضوعيــة من جهــة أخــرى هـــي نتــاج امتحــــــان لُّغــوي صــارم للدلالــة الذاتيــة. هـــذا الامتحــان يرمــي مــن ورائه إلــى اكتشــاف مــا هو متوارٍ ومضمر وغير واضح من المعاني. أطلق شلايرماخر علـى الأََولى التأويل التقنـي بينما أطـلق علـى الثانيــة بالتأويـل النحـوي. يبحث التأويــل التقنـي المقاصـد والغايات القصـوى، أي يفتش عن المعاني المضمرة والخفيــة خـلـف النــص؛ فـي حين يدرس التأويـل النحـوي اللغــة وفقاً لاستعمـال المجتمـع. لأجـل ذلك ، يطلق شلايرماخر على التأويل التقني فـن الفهـم، لأن التقنيــة في مفهومها الدقيق تنطــوي على مفهـوم الـفـن مـن حـيث كـون التأويــل أداة أو آليـة مقاربـة.
وللاعتبارات التي يفرضها التأويل كاستحالة أو عدم الفهم، نحى شلايرماخر إلى تفضيل التأويــل المـوضـوعـي، لأنه كان يسعى إلـى إعادة تركيب المعنى في النص الأصلـي، خلافاً للتأويــل الذاتـي الذي يضفي على النص دلالة أو قصّديه لم يعبر عنها الكاتب. ولكـــي يكون التأويــل موضوعيــاً ويحقق أقصــى درجات الموضوعية، فأن شلايرماخر يدعو إلــى التموضع فـي موقـع الكاتب وعصـره، حتى نستطيع استنطاق كافة المعاني التي أراد قولها. لذا التأويل ـ وفقاً لفلسفة شلايرماخر ـ أكتسب معنى أخر أرتبط بمفهوم الفهم , فعده "فن الفهم الصحيح " لخطاب الآخر خصوصــــاً الخطـــــاب المكتوب، ولا يمكن للتأويــل أن يحقق غايته وينجز مهمته بوصفه فـن الفهم الصحيح للآخـر إلا من خلال الحوار أو جدل السؤال والجواب بين طرفين، المؤوِّل من جهة ( أي الذات التي تقوم بالتأويل) والمؤوُّل أو النص الإشكالي من الجهة المقابلة. وأخيراَ إنّ تـأويل النص ليس إلاّ إشاعة جو خلاق للحوار يمكــن طــرح مشكلات وتساؤلات حول الحقيقة التاريخية والوجودية للذات. بمعنـى أخر أن فتح وحـــــــل الإشكاليات المنغلقة في النص وكشف معاني النص المضمرة، لا يمكن بلوغه دون آلية حوار، ولأجل ذلك فأن العملية التأويليــة تتطلب توفر شرطين أساسيين أو بمعنى أدق طرفين هما:
1- نص إشكالــي رمزي مغلق أو عصي على الفهم، قد يكون هذا النص إمـا مكتوباً أو منطوقاً، وقد يكو ن واقعاً صرفاً، هذا هو طرف العملية التأويليــة الأول.
2- أمــا طرفها الثاني يتطلب ضرورة وجود قارئ نقدي حصيف مسلح بالأدوات والوسائل الضرورية التي تمكنه من تحــقيق غايته المتمثلـــة باستكنــاه وإظهار المعاني واستخراج المدلولات المتوارية خلف النص.
وإذا كان شلايرماخر مثلاً يقصي التأويل , حين يضع الفهم في مركز الممارسة الهيرمنيوطيقية . تحت ذريعة أن التأويل يبحث في المعنى الحرفي أو المجازي , في حين أن المطلوب هو " فهم " خطاب الآخر في غيريته , أي في تفرده. فإن دلتاي
جعل " التأويل " شكلاً خاصاً من أشكال "الفهم" وحالة جزئية منه , ويميّز بينهما وبين " التفسير" تمييزاً كاملاً بحيث يناقض كل طرف منهما الآخر ويستبعده كليةً. يغدو التفسير ـ وفقاً لوجهة نظر دلتاي ـ منهج علمي تتميّز به المدارس والعلوم الوضعية , أما الفهم أو التأويل يشكل " المنهج العلمي" المناسب لحقل الفكر والعلوم الإنسانية . العالم الطبيعي " يفسّر" مادته , أما مادة علوم الفكر تحتاج إلى "فهم" أو" تأويل" , ويستحيل تبادل تطبيق منهج من المنهجين على الحقل المقابل(17).
خلاصــة/
إن المتتبع لسيل الإنتاج الفلسفي المعاصر,خصوصا في سنواتـــه الثلاثــــين من أواخر القرن العشرين، يجد طغـيان مفهـوم التأويــل والتبشير بضرورة سيـادة التأويلية في كثير من الكتابات الفلسفية، لقد أضحت التأويلية موضة نهايـــة العصــر، أصبـــح ذلك المفهـــوم جـــرف معظم المفاهيم والتعابير الفلسفية التي كانت سائـــــــدة واعتــبرها النقـــاد موضــــة نهايـــة العصــر كالبنيوية والتفكيكية وغيرها لأجـــــل ذلك يمـكـــننا القـــول بـــأن التأويل والتأويلية كاتجاه فلسفي، يعد أحد التجليات الثقافيـــــــة لعقلانيـــة مختلفـــة فـــي الحضـــارة الأوربيـــة خصوصـــا والإنسانية عموما تتســــــم بعمـــق واتســــاع الأزمـــة فيها. لقد اتجه فكر هذه الحضارة وفلسفتها نحو التعلــــــــق بقشـــور الفكــر، وانسحـــب مــن ميــدان البحث الأصيل عن المشكلات الحقيقيـــــــــة لهذه الحضارة، وهذا لا يعني أننا نبخس وننتقـــص من المشكــــــلات التـــي أثارهــــــا هذا الاتجاه الفلسفي. وأزمــــة الحضارة الإنسانيــة المعاصـــرة، دللـــت بما لا يــــــدع مجــــالاَ للشـــك بأنَ الأزمة المستفحلــــة الــــيوم ليســت أزمــة فكـر، بل أزمــــــة فـي توظيــــف هـــذا الفكـر نحـــو ملامســة المشكـــلات الاصيلة التي يتوجب عليه إيجــــاد مفاهيــــم والتبــــاري فـي نحـت الألفـــاظ أو يمـــكن أن نطلــق عليــها حرب المفاهيم والتعابــــير المنحوتــه التـــي أخـــذت تتوالى تبعا، شهدنا ما يمكن تسميته بسفسطائية معاصـــرة، لكـــن بلبــــوس جـــديده ومختلفـــة في ظل غياب سقراط معاصر يدافع عن الفلسفــــة وتصـــورات فلسفيــــة شتـــى ارتكـــزت علـــى مفاهيم أو مصطلحات جاءت حصيلــــة النظــــر والتـــــأمل المستفيـــض للكـون عموما وواقع الإنسان على وجه الخصـــوص، فلــم تكـــن مفاهيــــم ك ( المــــادة-الصـــورة، الــحركة- السكــون، الوجـــــود-العــــــــدم،



فلسفيــــة وتمـــايزت بأسلــــوب معالجتــــها لتـــلك المفاهيـــم، هذا هو حال الفلسفــــة وفعــــل التفلســـف .لقــــد شهـــدت الفلسفـــة انقلاب على التقاليد الفلسفية، ولـــم ترى منـــذو رحيــــل أخــــر أفضـــل المخلصــين لـــها الفيلســـوف الألمـــاني ايمانويل كانت (1727-1804م) إلاّ غـــثاء مـــن التـــعابـــير الفضفاضـــة وفقـــدت الشيء الكثير مـــــن بريقـــها والقــــها .ويمــــكن أن نشبــــه الفعـــل الفلسفـــي أي التفلســـف راهنا بالانكـــفاء علـــى الـــذات، لقــــد حــوّلـــت الفلسفـــة مـن قبــل دهاقنتـــــها المعاصرين أميــبيا تخـــاف أن يمســــها الضـــــوء مـــن الحـــالات المشكـلات الفلسفيـة الحقيقيــة ونحـى تجـاه اختـلاق مشكـلات بعيـــدة كــــل البعـــد عـــن المعنــــى الحقيقــــي للتفلــــسف لا بالمعنـــى الوضعي للكلمة,بل بمعنــى خلـــق أسئلــــة وهميــــة لا تمــــت لحقــــل الفلسفـــة فـــي شئ. أي اختلاق أسئلـة وهميـــــة تهــــرب مـــن ملامســـة حاضــــر الإنســــان ومستقبلـــه.لـــذا فأن مهمــة الفلاسفــــة اليـــــوم تكـمــــن فــــي إعــــادة الاعتــبار للفلسفـة مما لحق بها وإعـــادة الاعتبار للعقل الإنساني.
* استاذ فلسفة العلوم ومناهج البحث والمنطق المساعد قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة عدن
المصادر والمراجع/
1 ـ The Cambridge dictionary of philosophy second edition general editor Robert Audi . Cambridge University press, London, 1999, P377
2 ـ Concise Routledge encyclopedia of philosophy . Routledge London and New York 2000,P348
3- قامـوس مريـام ويبســتر بالإنجليزيــة ط11ص582 ماساشيوستيس أمريكا Merriam-Webster,s collegiate dictionary dictionary incorporated dictionary Springfield Massachusetts USA 11th.ed. 2003 2
4- الموسـوعة الفلسفـية الروسيـة باللغـة الروسيــة مجموعة مـن المؤلفـين طبعة، دار نشـر، موسكــو 1989 Ф-;-и-;-л-;-о-;-с-;-о-;-ф-;-с-;-к-;-и-;-й-;- э-;-н-;-ц-;-и-;-к-;-л-;-о-;-п-;-е-;-д-;-и-;-ч-;-е-;-с-;-к-;-и-;-й-;- с-;-л-;-о-;-в-;-а-;-р-;- С-;-о-;-в-;-е-;-т-;-с-;-к-;-а-;-я-;- э-;-н-;-ц-;-и-;-к-;-л-;-о-;-п-;-е-;-д-;-и-;-я-;-И-;-з-;-д-;- М-;-о-;-с-;-в-;-а-;-1983
5- موسوعـة لالانـد الفلسفيـة ترجمـة خليـل أحمـد خليـل منشـورات عـويـدات بـيروت-باريـس1996 طبعـة 1 في ثلاثة أجزاء المجلد الأول.
6- أبو زيد/ نصر حامد، الهيرمنيوطيقا ومعضلة تفسـير النص، مقال في مجلة فصول م1 ع3 1981
7- نقلا عـن نبيهـة قـارة الفلسفــة والتــأويـــل دارالطليعة بيروت ط20031
8- د.محمد المتقن مقال في مفهوم القراءة والتـأويـل عالم الفكـر اكتوبر-ديسمبر 2004 مج 33 الكويت.
9- بول ريكور البلاغة والشعرية والهيرمنيوطيقا ترجمة مصطفى النحال فكر ونقد.
10ـ بول ريكور نظرية التأويل الخطاب وفائض المعنى ترجمة سعيد الغانمي المركز الثقافي العربي, المغرب, ط1, 2003 .
11ـ بول ريكور صراع التأويلات دراسات هيومينوطيقية ترجمة د. منذر عياشي دار الكتاب الجديد بيروت , ط1 , 2005
12ـ بول ريكور فلسفة الإرادة الإنسان الخطأ ترجمة عدنان نجيب الدين المركز الثقافي العربي , المغرب, ط1, 2003
13ـ بول ريكور من النص إلى الفعل أبحاث التأويل ترجمة:محمد برادة وآخر عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية , القاهرة ,ط1, 2001
14ـ د. سعيد توفيق في ماهية اللغة وفلسفة التأويل المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع., بيروت , ط1 , 2002
15- أنظر د.نصر حامد أبوزيد الهيرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص مقال مجلة فصول م1 ع3 19 81 القاهرة.
16- محمـود سيد أحمد دلتــاي فلسفة الحياة دار الثقافة للنشر والتوزيع القاهرة 1990 .
17ـ عبد الكريم شرفي من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة الدار العربية للعلوم منشورات الاختلاف , الجزائر , ط1 , 2007



#سامي_عطا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- -غير أخلاقي للغاية-.. انتقادات لمشرع استخدم ChatGPT لصياغة ق ...
- بالأسماء.. مقاضاة إيرانيين متهمين بقضية مقتل 3 جنود أمريكيين ...
- تحليل.. أمر مهم يسعى له أحمد الشرع -الجولاني- ويلاقي نجاحا ف ...
- مكافأة أمريكا لمعلومات عن أحمد الشرع -الجولاني- لا تزال موجو ...
- تفاصيل مروعة لمقابر سوريا الجماعية.. مقطورات تنقل جثث المئات ...
- يقدم المعلومات الكثيرة ولكن لا عاطفة لديه.. مدرسة ألمانية تض ...
- الجيش الإسرائيلي يستهدف مستشفيي كمال عدوان والعودة شمال قطاع ...
- قلق من تعامل ماسك مع المعلومات الحساسة والسرية
- ساعة في حوض الاستحمام الساخن تقدم فائدة صحية رائعة
- ماكرون يزور القاعدة العسكرية الفرنسية في جيبوتي ويتوجه إلى إ ...


المزيد.....

- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامي عطا - بحث في معنى التأويل