|
رأسمالية الذهب والدم
محمد عادل زكى
الحوار المتمدن-العدد: 4334 - 2014 / 1 / 14 - 01:38
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
رأسمالية الذهب والدم فى أمريكا اللاتينية لقد تكونت السوق العالمية القائمة على الرأسمال كظاهرة تاريخية، على مدى تاريخ طويل نسبياً يرجع إلى أوائل القرن السادس عشر، إذ كانت المستعمرات مصدراً أساسياً للتراكم الأولى للرأسمال من خلال عملية منظمة ومستمرة من نهب وسلب البلدان التى تم اكتشافها. ويمكننا أن نحدد الخطوط العريضة التى تحدد ملامح هذه الفترة من تاريخ الرأسمال، فى القارة اللاتينية على وجه التحديد، فى الأتى: 1- الوعى بالعدوانية المباشرة للرأسمال الأوروبى الاستعمارى على مجتمعات الاقتصاد المعاشى (بكل خصوصيته، وحضارته المدهشة: الإنكا، والأزتك) فى أمريكا اللاتينية، وبحصول الصراع الجدلى بين أسلوب الإنتاج الرأسمالى، الناشىء بمنتهى العنفوان، ومجابهة المنتج الوطنى فى المستعمرة، الذى كان فى الأصل مالكاً لشروط تجديد إنتاجه، تبدأ العمليـة التاريخية (الدامجة) المتزامنة مع ضخ المزيد من قـوة العمل (المستورَدة، المقتَنَصة) من خـلال تجارة سَيطر عليها أنذاك التاج الإسبانى والتاج البرتغالى، وتبعهما فى ذلك في ما بعد باقى القوى الاستعمارية الأوروبية. 2- لا بد إذاً، مِن البحث فى دور الغزو الاستعمارى الأوروبى(الإسبانى والبرتغالى تحديداً، فى مرحلة أولى) فى دَمج الاقتصادات المستعمَرة ذات الاكتفاء الذاتى، أى الإنتاج خارج فكرة التداول المعمم، فى إقتصاداتها المستعمِرة كأحد الأجزاء التابعة. فلقد ظل الإسبان، عقب استقرارهم فى جُزر الهند الغربية، يُرسلون البُعوث الاستعمارية لاستكشاف شواطىء أمريكا الوسطى، حينما سمعوا عن بلاد فى الغرب، يكثر فيها الذهب، والفضة بكميات لا تُحصى؛ فعَهدوا إلى حملة صغيرة بقيادة كورتيز لغزو هذه البلاد، المكسيك حالياً، التى كانت موطن قبائل ذات كُنوز وحضارة وفنون وديانات. إنها حضارة الأزتك، التى أُبِيدَت ومُسحت مِن على خريطة العالم. ومِن هنا فقد سَمع الإسبان عن بيرو، موطن قبائل أخرى، وهى ذات كنوز وحضارة لا تَقل فى روعتها عن الأزتك، إنها حضارة الإنكا؛ فأعدوا حملة بقيادة بيزارو للاستيلاء عليها، وتَحكى المراجع المختلفة فى هذا الشأن أن أهل تلك البلاد أهل سلام وسلم وسكينة، يَملكون مِن الذهب مالم يَخطر على بال أوروبى واحد؛ حتى أن مَلِك الإنكا، أتاهوالبا، افتدى نفسه لما أُسر، كما يُروى، بملء الحجرة التى كان فيها ذهباً، فأخذه بيزارو، ثم قتله! وذلك عام 1533. ودخلت بيرو ضمن أملاك إسبانيا، ولم يمض وقت طويل حتى أصبحت مُعظم بلاد أمريكا اللاتينية فى قبضتها. 3- فرض الزراعة الأحادية على أغنى أراضى قارة أمريكا اللاتينية وأخصبها وأوفرها إنتاجاً: البرازيل وباربادوس وجزر سوتابنتو وترينداد وتوباجو وكوبا وبورتوريكو والدومينيكان وهاييتى، الأمر الذى كَون، تاريخياً، بلداناً كالإكوادور، على سبيل المثال، يَتوقف مصير سُكانِها على تقلبات الأسعار العالمية للبن أوالكاكاو، أوالموز! هنا يجب الوعى بالكيفية التى تمت مِن خلالها عملية تعميق هذا الشكل مِن الزراعة مِن خلال هيكلة اقتصادات بُلدان القارة على نحو يَخدم، بإخلاص، اقتصادات الأجزاء الاستعمارية بجعل بلدان القارة مورداً دائماً للمواد الأولية، الحال الذى أفضى، بعد استنزاف التربة، إلى استيراد المواد الغذائية؛ فالأرض آلت ألا تُنتِج سوى المحصول الواحد، المحصول الاستعمارى: سكر، كاكاو، مطاط، بن، قطن. 4- السؤال: مَن الذى كان (ولم يزل) يستورد هذه المواد الغذائية؟ ومِن مَن؟ ولمن؟ الإجابة ستكون يسيرة؛ إذ كان الواقع يشير إلى طبقتين: المالكة والمملوكة. المالكة: تملك الأرض ومحصولها(المعد أساساً للتصدير، للسوق العالمى، ومن ثم للسعر العالمى) والمملوكة: لا تملك سوى قوة عملها المنهكة والمأجورة غالباً عيناً، والمهددة فى بقائها حية من جراء سوء التغذية والعمل العبودى فى أراضى المحصول الواحد! 5- كما يَتعين التقدم خطوة إلى الأمام، تاريخياً ومِن ثم منهجياً، بالبحث الواعى فى دور الشركات الأجنبية العملاقة ورساميلها القومية فى تعميق الدور الذى يقوم به مختلف أجزاء القارة المختلفة كمورِد رئيسى للمواد الأولية، من دون أى مشاركة مِن هذه الأجزاء فى عملية التجارة فى أى مرحلة مِن مراحلها (الإنتاج، التسويق، التوزيع، التخزين،...)، مع الحفاظ دائماً على إثارة القلق فى أسواق تلك المنتجات، حفاظاً على التحكم فى أسعارها العالمية وإمكانية التلاعب بها. وتُعتبر شركات النفط العالمية الكبرى مِن أقدم الشركات دولية النشاط فى هذا الشأن. 6- يتعين الاستمرار فى البحث وصولاً للكيفية التى مِن خلالها تظهر اقتصادات بلدان القارة مُركَب مِن قطاعات مُنعزلة أو شبه مُنعزلة، لا تُقيم فيما بينها إلا مُبادلات هامشية، بينما يتم الجزء المهم والجوهرى مِن مبادلاتها مع الخارج، وبينما يَعكس قطاع الزراعة (الذى يقع تحت وطأة إعادة الهيكلة العالمية) مظاهر الاندماج كافة فى السوق الدولية، بمعنى الإنتاج ابتداءً مِن السوق وتبعاً لقوانين السوق، أى الاندماج فى منظومة الفائض والهدر الاجتماعى، لكن ابتداءً مِن سيادة قوى إنتاجية متخلفة (تَركُز ملكية، تخلف أساليب الاستغلال، الاحتفاظ ببعض مظاهر الاقتصاد المعاشى، الانفصال التاريخى للريف عن المدينة)، وعلاقات إنتاج شفافة (أقرب إلى القُنونة أو العبودية) لم تسمحا بعد، أى قوى الإنتاج وعلاقاته، بتطورات جدلية ملحوظة على صعيد رد الفعل الاجتماعى، فإن القطاع الصناعى يَتكون، إضافة إلى الشركة الأم، مِن منشأت عملاقة (أجنبية أو فروعاً مِن وحدات محليّة) تقع مراكزُها المحركة فى الخارج حيث الأجزاء المتقدمة، وعلى حين تقوم تلك الوحدات الضخمة بإستخراج الثروة المنجمية (فحم، حديد، نفط) فإنها تَستخرجها لا لكى تغذى بها صناعات وطنية وليدة، بل تُصدرها من أجل تغذية مجموعات صناعية مُعقدة فى الأجزاء المتقدمة وبخاصة بداخل الاقتصاد الأمريكى؛ الوريث التاريخى للهيّمنة الاستعمارية الأوروبية. 7- الأمر الذى تزامن مع نشوء المزرعة الاستعمارية (اللاتيفونديات) وتبلور الطبقات الاجتماعية المكونة تاريخياً فى ركاب الرأسمال الأجنبى (الإسبانى والبرتغالى والإنجليزى والهولندى والفرنسى، ثم الأمريكى كأمتداد للهيمنة والسيطرة) ومن هنا نشأت أرستقراطية السكر، وأوليجارشية الكاكاو، وبخاصة فى كاراكاس الفنزويلية مع نهاية القرن السادس عشر، كما ظهر أثرياء الغابة (المطاط) وأباطرة البن. 8- تنهض هذه الطبقات (فى حركتها الاجتماعية المتعادية والمتناقضة، بتأدية دور البطولة المطلقة من خلال الأرباح التى تجنيها بفعل القانون الموضوعى للقيمة، فى تدعيم بنية الخضوع والهيمنة، وتكريس عوامل التخلف التاريخى لدول القارة، فتلك الطبقات التى تربّت فى كنف المستعمر وتلقت تعليماً استعمارياً راقياً، وترغب فى محاكاة النموذج الاستعمارى، وبصفة خاصة فى بعده الثقافى دون وعى كبير ببعده الاقتصادى، ثم التأكيد على أن بقاءها فى السلطة مرتهن بالقمع، فإن تلك الطبقات لا توجه (ولا يمكن على هذا النحو أن توجه) هذه الأرباح إلى الحقول الاستثمارية الوطنية، بل يُعاد ضخها فى نفس العروق... إلى الخارج! تتبدى هنا دعوة منهجية لمقارنة عملية التكون التاريخى للتخلف عبر ثلاثة قرون فى عالمنا العربى، التابع كلية اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. إذ ما عقدنا مقارنة عامة بشأن الفقر بين القارات الثلاث: أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فسنجد أن جذور الفقر فى الريف الأفريقى كما الأسيوى تكمن فى التربة وعلاقة الإنسان به، وفى التأثير الهدام الذى تتركه زيادة عدد السكان وتخلف أساليب الزراعة. أما فى القارة اللاتينية، فإن أصول الفقر واللامساواة تنبع من اللاإنسانية المتأصلة والمستمرة فى استعباد البشر، فلعل من أهم ما يميز العلاقات التى تدور فى فلكها الملكية الاقطاعية فى أمريكا اللاتينية هو سحق الفلاح وإثراء صاحب الأرض الشاسعة، فالمالك هو القانون. كثيراً ما استخدم تعبيرالاقطاع لوصف السلطة التى يمارسها ملاكو الأراضى إزاء الفلاحين والمستأجرين وصغار الملاك فى أمريكا اللاتينية. كان الاقطاع فى أوروبا فى العصور الوسطى عملية تنطوى على علاقة متبادلة: كان الأقنان يقدمون للسادة العمل والإنتاج، مقابل حماية السادة لهم من الهجمات، وكانت هناك حدود شبه مُتعَارف عليها لا يستطيع الاستغلال أن يتجاوزها. أما الاقطاع فى أمريكا اللاتينية فهو عملية من طرف واحد، يتحمل فيها الفلاح كل الواجبات، فى حين يستمتع المالك بكل الحقوق. إنها عملية عطاء من جانب الفلاح وأخذ من جانب المالك، ويتم تجاهل حتى القيود القانونية التى تحكم الاستغلال، فالملاك هم القانون، كما ذكرت، ويكمن القيد الوحيد فى حاجة الملاك إلى يد عاملة رخيصة دائماً، فالعامل ينبغى أن يحصل على دخل يكفى للبقاء والإنجاب فقط، أى لتجديد إنتاج نفسه بيولوجياً، وليس شيئأ آخرا. وإذا أردنا تفسير تلك الدرجة الفريدة من اللامساواة والاستغلال فى أمريكا اللاتينية، ينبغى أن نبحث عنهما وعن جذورهما فى العصر الاستعمارى. فمن الغريب أن مجتمع الغزو لا يزال حياً حتى يومنا هذا فى معظم المناطق الريفية، بعد عصر الغزو بأكثر من أربعة قرون ونصف قرن. فقد جاء الفاتحون من أمثال كورتيز وبيزارو وأتباعهما إلى الأمريكتين بحثاً عن الثروة والمكانة المرموقة والسلطة... جاء الغزاة ليستقروا. ولكنهم، على عكس الأوروبيين المتحدرين من الطبقتين الدنيا والمتوسطة الذين استعمروا أمريكا الشمالية، لم يجيئوا ليعملوا، وإنما ليعيشوا عيشة النبلاء على حساب جهود الآخرين. كان النهب المكشوف أول الاستراتيجيات التى تم اتباعها، فبعد أن استولوا على جميع ثروات الأزتك والانكا والتشيبسا، انصرفوا إلى مغامرات طويلة الأجل، فبدأوا ينقبون عن الذهب والفضة، ويقتطعون لأنفسهم ضياعاً شاسعة من أفضل أراضى الهنود. وعادة ما كانت مثل تلك العمليات تكتسب شرعيتها المفرطة وصيغتها القانونية من هبات الملوك الإسبان. إلا أن الأرض تفقد قيمتها فى غياب عنصر العمل. إن تاريخ ريف أمريكا اللاتينية هو، فى معظمه، تاريخ قهر العمل واستغلال قوة العمل، ففى الكاريبى والمناطق الساحلية، قُضى على السكان الأصليين من خلال مذابح الفتح والأوبئة التى جلبها الغزاة، ومن ثم اقتضى الأمر استيراد العبيد من أفريقيا للعمل فى المزارع، وفى المناطق الداخلية وخاصة الأنديز، حيث كُتب البقاء للسكان الهنود الأصليين، تلخصت المشكلة فى كيفية تحويل مجتمعات الفلاحين المستقلة التى تعيش فى مجتمعات شبه شيوعية إلى طبقة من عمال السخرة. وكانت أول مؤسسة أنشئت لهذا الغرض تسمى"الوديعة" حيث كان يخصص لكل فاتح كبير حصته من الهنود يطالبها بالعمل والاتاوات. ومقابل ذلك كان من المفروض أن يعلم أفراد المجموعة قواعد الدين المسيحى وفضائل الحضارة الأوروبية المتفوقة. وابتدعت ملكة إسبانيا إيزابيلا نظام الوديعة فى مرسوم ملكى عام 1503، يلخص تاريخ القارة. وقد ورد فى ذلك المرسوم:"أما وقد بلغنا أنه نظراً للحرية المفرطة التى يتمتع بها الهنود، فهم يتجنبون الاحتكاك أو الاختلاط بالإسبان، لدرجة أنهم يأبون العمل لديهم لقاء أجر، ويفضلون أن يهيموا بلا شاغل، وأن المسيحيين يعجزون على تحويلهم إلى العقيدة الكاثوليكية... إننى آمرك يا أيها الحاكم أن... تجبر الهنود وترغمهم على الإختلاط بالمسيحيين، وعلى العمل فى بناياتهم، وعلى جمع الذهب والمعادن الاخرى وتعدينها، وفلاحة الاراضى، وإنتاج الغذاء للسكان المسيحيين" وهكذا تم جمع الهنود، حيث تعرضوا للتعذيب والقتل، لإرغامهم على طاعة الأمر. وبسبب هذه الإساءات، ألغى تشارلز الخامس ملك إسبانيا نظام الوديعة فى عام 1520. ولكن النظام ثبت ولا يزال مستمراً حتى وقتنا هذا، ومتستراً بعشرات الأشكال، وكانت أكثر الوسائل انتشاراً إنكار حق الهنود فى الحصول على أرض تكفى لبقائهم ومن ثم إرغامهم على العمل لدى الأيبريين. وفى أميركا الإسبانية، تم تركيز الهنود فى تجمعات، وفى البرازيل تم تركيزهم فى القرى. وكان الغرض الظاهرى من هذا جمعهم فى مكان واحد يمكن القساوسة من هدى أرواحهم. أما الغرض الحقيقى فكان إعطاء البيض الفرصة للاستيلاء على أراضيهم. وفى المناطق الداخلية كان نظام السخرة الزراعية مرادف العبودية، حيث كان يُسمح للهنود بزراعة قطعة أرض صغيرة فى أسوأ المناطق، مقابل القيام بالأعمال الزراعية، وحتى المنزلية فى ضيعة الملاك، والعمل فى إنشاء الطرق والجسور وصيانتها، وما إلى ذلك. كان العمل الجماعى بلا مقابل فى إنشاء الطرق أمراً تقليدياً تحت حكم الانكا والازتك وحين تولى الفاتحون زمام الأمور، شوّهوا هذا العمل الذى كان للصالح العام وحولوه لخدمة مصالحهم الذاتية. أصدرت الحكومات الليبرالية فى القرن التاسع عشر تشريعاً يقيد أسوأ أشكال هذه السخرة الشخصية، ويلغى العبودية. ولكن الملاك، فى القارتين، تجاهلوا القوانين، وأدخلوا نظام الاستخدام والارتهان للدين ليحل محل العبودية. فكان الفلاحون يحصلون على قروض لدفع تكاليف الغذاء والملابس التى كانوا يجبرون على شرائها بأسعار باهظة من متاجر الملاك، وكان تسديد هذه القروض يتم بالعمل. غير أن القرض لم يكن عادة يتناقص بالسداد، فكان الابن يرث ديون أبيه. إلى جانب الضيعة المترامية الأطراف لاتيفونديو ظهرت الحيازة الصغيرة مينيفونديو التى كانت عادة أصغر من أن تعيل أسرة. ولا يمكن الفصل بين هذين النقيضين فى أمريكا اللاتينية، حيث لا يكاد يوجد بينهما وسط. فالحيازة الصغيرة هى الوجه الآخر للعملة، أو الفتات الذى تبقى بعد أن ابتلعت الضياع الكبيرة الأراضى وتسخير اليد العاملة اللازمة لزراعتها. وتنشأ الحيازات الصغيرة عن أصلين، أولهما عامة الجنود الأيبريين وللمستوطنين الفقراء الآخرين الذين لم "يؤتمنوا" على جيوش من العمال الهنود، ومن ثم لم يحصلوا إلا على المساحات التى يستطيعون زراعتهما بأنفسهم. وآخرهما الأراضى المتبقية للمجتمعات الهندية. وكانت هذه الأرض فى الأصل مشاعاً تتم زراعتها بمساحات متساوية، أسوة بما كان يحدث فى أفريقيا. إن تلك الخلفية التاريخية تسعفنا كثيراً الأن كى ننتقل خطوة أخرى أبعد من أجل البحث فى الاطار العام الذى يمكن بداخله فهم ما يحدث آنياً فى مجمل أجزاء القارة اللاتينية بوجه عام منذ الاندماج فى منظومة الرأسمال والفائض والهدر الاجتماعى، وهو الاطار الذى نفترض أنه محدد بخمس أفكار رئيسية يتعين البحث فيهم بعمق وتوسع: أولاً: حقيقة التكون التاريخى لاقتصاد المبادلة النقدية المعممة ابتداء من أوروبا القرن الخامس عشر، والمعزز بالتواطؤ بين الرأسمال التجارى( عقب تبلوره الطبقى والاجتماعى) والسلطة المعبرة عن فكرة الدولة القومية الساعية إلى تحطيم الاصطفائية الناهض عليها نمط الانتاج الاقطاعى، والمتجهة نحو الانسلاخ من الجسد اللاتينى، وذلك حتى أواخر القرن السابع عشر، ثم توسع الرأسمال الصناعى حتى أوائل القرن الثامن عشر، وتزامنه مع هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالى فى طريقه إلى خلق السوق العالمية وتدويل الإنتاج من خلال أنماط مختلفة للتقسيم الدولى للعمل والتغلغل فى هياكل المجتمعات المتخلفة؛ مشكلاً بذلك أجزاء للاقتصاد الدولى بمستويات مختلفة من التطور. فأضحى هناك الأجزاء المتقدمة من الاقتصاد الرأسمالى الدولى، وكذلك أجزاء متخلفة منه. نقطة الارتكاز إذاً إنما تكمن فى إجراء الفهم الواعى بطبيعة الاقتصاد الرأسمالى كاقتصاد يتم فيه الإنتاج بقصد المبادلة النقدية. الإنتاج الذى تبدأ دورته من السوق، حيث تتحول النقود كيفياً إلى شروط لعملية الإنتاج، ويجرى الإنتاج بعيداً عن السوق وإنما من أجل السوق. من أجل الفائض. ثانياً:طبيعة الصراع الاستعمارى الدائر، فى القرن الخامس عشر، بين التاج الإسبانى(الذى هيمن على القدر الأكبر من أغنى أراضى القارة بعد إبادة حضارتى الأزتك والإنكا بديانتهما وفنونهما) والتاج البرتغالى(الذى سيطر على مجمل البرازيل)، وذلك كدولتين قوميتين، الأمر الذى قام البابا على أثره (عام 1494) بمحاولة وضع حد له، فقسم العالم من القطب إلى القطب بخط يمر فى المحيط الاطلنطى(خط طول 35) كحد فاصل بين ممتلكات كل من الدولتين. ثالثاً: فى هذه اللحظة تتبلور تاريخياً ظاهرة جديدة تفضى إلى تدويل عملية الإنتاج على الصعيد العالمى، تلك هى ظاهرة التقسيم الدولى للعمل، ليس فقط على أساس المتاح من الموارد الطبيعية والقوة العاملة فى كل مجتمع؛ وإنما على أساس حاجات الرأسمال فى الأجزاء المتبوعة، فعلى سبيل المثال اتجه الاستعمار البرتغالى إلى الاقتصاد الزراعى، لا سيما زراعة قصب السكر على السواحل البرازيلية الشمالية الشرقية، وبوجه خاص فى منطقة نورديست فى باهيا وبرنامبكو، وذلك تلبية لحاجات الاقتصاد القومى البرتغالى. ثم اندفاعه ابتداءً من القرن السابع عشر نحو الغرب، تحديداً نحو سيرامانتيكويرا على الشاطىء الغربى لحوض نهر سان فرانسيسكو الأعلى، ما وراء خط التقسيم البابوى بحثاً عن الماس والذهب وذلك بعد الاطمئنان إلى المساحات المزروعة . رابعاً: دور متطلبات الدمج المذكور أعلاه فى قلب الميزان الديموجرافى فى معظم أجزاء القارة وهو الأمر الذى يتعين معه الوعى بأمرين: أولاً : طبيعة نمط الإنتاج الذى استخدمته الاقتصادات المستعمرة فى سبيل إنهاك الاقتصادات المستعمرة وتصفيتها مادياً، وسلبها لشروط تجديد إنتاجها، ونمط الإنتاج هذا الذى استخدمته القوى الاستعمارية إنما يحتاج(لتمحوره حول السخرة والعبودية) إلى قوة عمل وفيرة، أكثر من وسائل الإنتاج(مواد العمل وأدوات العمل) ولذا سيكون من الضرورى أن تقوم قوى الاستعمار الأوروبى بضخ نحو 8 مليون عبد (إنسان) أفريقى إلى مناطق البرازيل وغرب الأنديز وجيانا فى الفترة من 1550-1850 بعد أن قضى الاستعمار على السكان الأصليين. تركز هذا الضخ فى معظم جزر الكاريبى ومناطق زراعة القصب ومناجم الذهب ومزارع البن. الأمر الذى أفضى إلى تكون طبقة (الكريوليس) والتى ستنهض بدور هام فى سبيل ترسيخ الهيمنة الاستعمارية حتى بعد تحولها شطرالقارة الأفريقية ابتداءً من النصف الثانى من القرن الثامن عشر، فلقد كرس الاستقلال فى بداية القرن التاسع عشر تحويل السلطة إلى أيدى الملاك العقاريين والبورجوازية الكمبرادورية، عقب ذلك استمر التحويل وتدعيمه على أمتداد القرن إزاء تكثف التبادلات مع المتروبول الجديد، بريطانيا العظمى. خامساً: الكيفية التاريخية التى من خلالها تبلور التاريخ النقدى لـ"الهيمنة" الأمريكية فى القرن التاسع عشر، بعد سلسلة متصلة من العلاقات الجدلية بين القوى الأوروبية المتصارعة(هولندا، إنجلترا، فرنسا، روسيا، النمسا، ألمانيا، إيطاليا، بروسيا، الدولة العثمانية) وانتهاءً بالحرب العالمية الأولى التى خرج منها الاقتصاد الأوروبى حطاماً، بينما خرجت الولايات المتحدة الأمريكية كأغنى وأقوى دولة رأسمالية فى العالم، يزيد مجموع أرصدتها الذهبية عن مجموع الأرصدة الذهبية التى تملكها روسيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وكأن الحرب لم تفعل شيئاً سوى تحريك التراكم، أى نقل ثروات أمريكا اللاتينية من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. هنا ينبغى أن نعى الظروف التاريخية التى سادت فى القرن التاسع عشر، واستطاع الذهب من خلالها من إرساء الأثمان المعبر عنها بعملات وطنية مختلفة، نظير سلع تم إنتاجها فى أماكن متفرقة من العالم، وفى ظل ظروف إنتاجية مختلفة. لم يكن من الممكن للذهب أن يؤدى هذه الوظيفة إلا ابتداءً من تداوله كنقود داخل الاقتصاد الرأسمالى القومى الأكثر تطوراً والذى كان فى سبيله للسيطرة على الجزء الأكبر من المعاملات الدولية: الاقتصاد البريطانى. وقاعدة الذهب الدولية تمكن بدورها الرأسمال البريطانى من تأكيد هيمنته داخل الاقتصاد العالمى، وهى هيمنة استمدها من تفوق الإنتاجية النسبية للعمل عمقاً ومدى،وبفضل هذه الهيمنة يصبح الاسترلينى،العملة الوطنية البريطانية، سيد العملات دولياً، ويمكن أن يحل محل الذهب لعملات بلدان أخرى تخضع لهيمنة الرأسمال البريطانى . وهكذا تحل هيمنة رأسمال أحد البلدان على الصعيد الدولى محل سلطة الدولة على الصعيد القومى، وتمكن هذه الهيمنة عملة الرأسمال المهيمن من القيام فى المعاملات الدولية بدور النقود الدولية، سواء كانت هذه العملة تستند إلى الذهب أو لا تستند، وإن كان من الضرورى أن تبدأ فترة سيطرتها التاريخية، بحكم تاريخية النقود، بالاستناد إلى الذهب. ويكون من الطبيعى عند إنتقال الهيمنة من رأسمال قومى إلى رأسمال قومى آخر أن ترث عملة المهيمن الجديد وظيفة النقود الدولية حالة بذلك محل عملة الرأسمال الذى فقد هيمنته على الاقتصاد الرأسمالى الدولى. وذلك هو ما حدث فى فترة الحربين العالميتين عندما فقد الرأسمال البريطانى هيمنته على الاقتصاد الدولى( تاركاً الاقتصاد الدولى كى يُقسَم عدة كتل نقدية) فقد ظهر الرأسمال الأمريكى كى يفرض هيمنته ، ولكى تأتى الحرب العالمية الثانية لتؤكد الهيمنة الجديدة التى تفرض كل تبعاتها فى الفترة التالية للحرب. تميزت مرحلة الرأسمالية التجارية بزيادة ملحوظة فى التبادل التجارى ونمو ملحوظ فى الإنتاج المعَد للتصدير إلى المستعمرات. وأخذ الاهتمام يتحول من البحث عن المنتجات الأجنبية إلى البحث عن منافذ للسلع المحلية. وفى مقابل توابل الشرق ومنسوجاته لأوروبا، قدمت إنجلترا وفرنسا وأمريكا المصنوعات والسفن، وقدمت أفريقيا البشر كسلع، وقدمت المزارع فى المستعمرات المواد الأولية. وكانت التجارة الأوروبية هى عصب التقسيم الدولى للعمل الذى نشأ عندئذ بين الشرق والغرب. وفى العام1600تم تأسيس شركة الهند الشرقية الإنجليزية، وبعد ذلك بسنتين قام الهولنديون بتأسيس الشركة العامة للهند الشرقية، وتمتعت بإحتكار التجارة فى المحيطين الهندى والهادى، وفى العام1621تم تأسيس شركة الهند الغربية التى أخذت تباشر أعمالها فى القارة الأمريكية. وفى الوقت نفسه كان الفرنسيون يُنشئون شركة الهند الشرقية وشركة السنغال فى أفريقيا، فى تلك المرحلة بدأ التراكم الأولى للرأسمال بالاعتماد على أعمال النهب المنظمة والمنتظمة والتى تشمل، من ضمن ما تشمل، فرض العمل العبودى والسخرة وإنتزاع الأراضى من أصحابها، وإقتطاع الجزية ونشر الإتاوات. وفى المرحلة التالية والتى امتدت حتى العام 1870 تقريباً، مرحلة الرأسمالية الصناعية، وحينما سيطر الرأسمال الصناعى قامت الرأسمالية المنتصرة بالبحث عن مصادر الخامات اللازمة لصناعاتها، بالاضافة إلى البحث عن منافذ للتسويق. ومع حركة التاريخ تبلورت مرحلة الرأسمالية المالية، وأصبحت المستعمرات احتياطياً مُندَمِجاً فى الاقتصاد الرأسمالى العالمى، وتخصصت فى تزويد الصناعة العالمية بخاماتها الأساسية، وفى هذه المرحلة من تطور الرأسمالية، مرحلة الرأسمالية المالية، أصبح لتصدير الرأسمال الأولوية على تصدير السلع. وتم ادماج اقتصادات المستعمرات بأكملها فى الاقتصاد الرأسمالى. ولم يعد الاحتكار فى صراعه على الأسواق العالمية يعتمد فحسب على الحكومة التى ينتمى إليها الرأسمال من أجل أن يتخطى عقبات ناشئة عن حركة السوق، وإنما تداخلت أيضاً سلطة الاحتكار مع سلطة الدولة. ولم يعد أى إحتكار مجرد إحتكار خاص، وإنما هو إحتكار مضمون بالدولة. ويشهد الاقتصاد الرأسمالى العالمى من بعد الحرب العالمية الثانية اتجاهاً نحو نمط آخر لتقسيم العمل الدولى، وإنما فى إتجاهه نحو سيطرة نمط جديد لتقسيم العمل الرأسمالى على الصعيد العالمى؛ إذ بعد أن شهد الاقتصاد الرأسمالى، عبر ما يقرب من أربعة قرون، إنتشار شكل تاريخى من تقسيم العمل فى داخل المشروع الرأسمالى متمثلاً فى تقسيم عملية إنتاج سلعة واحدة، أى ناتجاً كاملاً، إلى عدد من العمليات الصغيرة يتخصص فى القيام بكل منها عامل أو عدد من العمال، أصبح العالم بأسره بمثابة مشروع رأسمالى تملكه، فى الغالب، رأسمالية الأجزاء المتقدمة من الاقتصاد العالمى، وأصبح منتَج واحد، سيارة مثلاً، مكوناً من مواد وألات وقوة عمل من عدة دول، وليس نتاج مشروع واحد داخل دولة واحدة.
#محمد_عادل_زكى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فى التجريد
-
فى المنهج
-
تحالف الأضداد. فنزويلا نموذجاً
-
الاقتصاد الإيرانى
-
الفكر الاقتصادى من التجاريين حتى النيوكلاسيك
-
المختصر فى تاريخ السودان
-
الاقتصاد السودانى
-
إيران: تقاطع الجغرافية والتاريخ والاقتصاد
-
المختصر فى تاريخ الشيعة الفرس القديم والمعاصر
-
التجريد كمنهج فى التفكير
-
500 سنة من الانحطاط
-
ماركس المسكوت عنه
-
الشروح على قانون القيمة
-
الشروح على الاقتصاد السياسى الكلاسيكى
-
الهوامش على ريكاردو
-
البيان الشيوعى
-
بصدد القمع فى إيران
-
قانون الصكوك، فى مصر، بين الشريعة والاقتصاد
-
السودان: التخلف والتبعية
-
نقد قانون القيمة
المزيد.....
-
لاستعادة زبائنها.. ماكدونالدز تقوم بتغييرات هي الأكبر منذ سن
...
-
مذيع CNN لنجل شاه إيران الراحل: ما هدف زيارتك لإسرائيل؟ شاهد
...
-
لماذا يلعب منتخب إسرائيل في أوروبا رغم وقوعها في قارة آسيا؟
...
-
إسرائيل تصعّد هجماتها وتوقع قتلى وجرحى في لبنان وغزة وحزب ا
...
-
مقتل 33 شخصاً وإصابة 25 في اشتباكات طائفية شمال غرب باكستان
...
-
لبنان..11 قتيلا وأكثر من 20 جريحا جراء غارة إسرائيلية على ال
...
-
ميركل: لا يمكن لأوكرانيا التفرّد بقرار التفاوض مع روسيا
-
كيف تؤثر شخصيات الحيوانات في القصص على مهارات الطفل العقلية؟
...
-
الكويت تسحب جنسيتها من رئيس شركة -روتانا- سالم الهندي
-
مسلسل -الصومعة- : ما تبقى من البشرية بين الخضوع لحكام -الساي
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|