|
تزوير مسيحية يسوع – 17 – الجزء الأول
حسن محسن رمضان
الحوار المتمدن-العدد: 4330 - 2014 / 1 / 9 - 14:54
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ملاحظة: هذه المقالة تُعتبر كتكملة لسلسلة المقالات السابقة تحت عنوان (تزوير مسيحية يسوع – 1 إلى 16)، ويجب أن تُقرأ المقالات السابقة كمقدمة أساسية وضرورية لهذه المقالة.
نظراً لطول هذه المقالة من السلسلة، فقد وضعتها في جزئين حتى يسهل قراءتها.
"الذبيحة التكفيرية في شكلها الأكثر إثارة للاشمئزاز، الأكثر بربرية، بالبريء لغفران خطايا المذنبين. أية وثنية هائلة؟!!". الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه، كتاب: عدو المسيح، ترجمة جورج ميخائيل ديب، دار الحوار، الطبعة الثانية، ص 115
تعتبر المشكلة الأخلاقية المسيحية من أكثر التناقضات رسوخاً في التاريخ وأكثرها ضحايا. إذ أن تلك المشكلة ذات شقين من التناقضات، تناقض شخصية الإله [يهوه في العهد القديم مع يسوع في العهد الجديد من جهة، وتناقض يسوع مع نفسه في العهد الجديد من جهة ثانية]، وأيضاً تناقض "قيم مسيحية" مستحدثة وهمية مع حقائق ممارسات التاريخ المسيحي التي امتدت حتى منتصف القرن العشرين ونتج في بعض حالاتها إبادة شعوب بكاملها من على الأرض وضحايا فاق أعدادهم كل ضحايا الحروب الدينية للعالم أجمع. فالمشكلة الأخلاقية المسيحية، على عكس ما تروّج له الدعاية الدينية المسيحية اليوم، هي مشكلة من الممكن إثباتها بسهولة إما من خلال النص المقدس نفسه وكتابات قديسيها أو من خلال وقائع التاريخ. هذا التناقض الممنهج بين "الدعاية المسيحية" لهذا الدين وبين وقائع التاريخ وحقيقة النصوص المقدسة هو الذي دفع الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه لأن يكتب: "لقد استمر [إله المسيحية = يسوع] يهودياً، وإله زوايا، إله كل القراني المعتمة والأماكن المظلمة والأحياء الوخيمة للعالم الكامل. مملكته العالمية بقيت معدودة، كما كانت سابقاً، مملكة للعالم السفلي (...) في كل العهد الجديد تصادف شخصية واحدة جديرة بأن تُشرَّف [تُحتَرَم]. إنه بيلاطس [البنطي] الوالي الروماني". بل إن مترجم كتاب نيتشه (عدو المسيح) إلى العربية، جورج ميخائيل ديب، وهو مسيحي المولد والمنشأ، كتب عن تناقضات صورة يسوع الدينية الأخلاقية مع حقيقته التاريخية المبطنة في ذات النص الإنجيلي في مقدمته للكتاب: "لقد اقتضاني البحث عن حقيقة يسوع سنوات، وفي يدي الآن مخطوط على ذلك. يسوع داعية يهودي بامتياز، وحتى وصفه الكنعانيين بأنهم كلاب، ولو عددته منحولاً عليه، فإنه يُعبّر عنه. بينما المناقض بإرسالهم إلى الأمم هو معاً [كذا، والمقصود تلامذته] منحول ولا يُعبّر عنه. ولا ننسى طلبه من تلاميذه اقتناء السيوف وتأكده من وجود بعضها معهم، وكذلك يأسه المريع على الصليب، وإدراكه أنه قد انتهى وأن الله قد تركه. وقبله، تخفيه الدائم الذي هو علامة مميزة كخط أحمر في الأناجيل، واختباؤه في جبل الزيتون قبيل القبض عليه، مع طَلَبه من تلاميذه أن يبقوا مستقيظين ويحرسوه. كل ذلك مُحوّر طبعاً ومُبطّن بدلالة دينية مجتلبة" [المصدر السابق، مقدمة المترجم، ص 12]. فهذا الفيلسوف الألماني يرى بأنه "لا الأخلاق ولا الدين في المسيحية يلامسان الواقع في أية نقطة". فدوافعها خيالية، وقيمها خيالية محضة (الخطيئة الأولى والفداء)، وعلوم الطبيعة فيها خيالية، وعلم النفس فيها خيالي، والأهداف فيها خيالية (مملكة الرب)، ومن ثم يستنتج بأن "كل عالم الخيال هذا يمد جذوره في الكراهية لكل ما هو طبيعي وحقيقي"، وهذا هو في الحقيقة منبع التوحش التاريخي المسيحي لكل ما هو مختلف. إذ ليس مفهوماً عند نيتشه إطلاقاً أن "يتطور" إله شعب ذو عِرق محدد (يهوه إله اليهود حصراً وتحديداً)، بكل صفاته القبلية العِرقية الضيقة المتوحشة، إلى إله "مسيحي" أممي من دون أن يتعرض ذلك الإله إلى التشويه المُخل بكل صفاته، وهذا ما نراه في الحقيقة واضحاً في نصوص العهد الجديد، ولا يخفى إلا في عيون أصحاب التبريرات اللاهوتية التي تخاطب "الإيمان" وتتعمد إلغاء العقل والمقارنة والمنطق السليم. فـ (يهوه)، كما يلاحظ نيتشه بحق، هو إله للقضاء، بكل ما يمثله من هيمنة ورهبة وسطوة واستفراد واستحواذ شامل، وذلك ناتج عن إدراك شعبه بقوتهم في حينها. أما إله المسيحية فعلى العكس تماماً، مات على الصليب يائساً، بعد أن أمرهم أن يعطوا ما لقيصر لقيصر وقضى حياته هارباً من مكان إلى آخر، يطارده مَن يريدون القبض عليه بعد أن يحاولوا أن يرجموه بالحجارة فيفر منهم، مات مهاناً يسخرون منه بين لصين وينادي ربه لماذا تركه، ولا يجيبه هذا الإله بشيء، فكأنه ترفّع عنه. هذا التشوه في الإله لابد أن ينتج عنه (عقدة نفسية) من نوع ما في صلب العقيدة المسيحية، وهكذا كان، (عقدة ضعف) تجلت مع محاولة تعويضها بتاريخ للتوحش لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، ولم تتراجع عنه إلا تحت ضربات الضغط العلماني لتعود إلى داخل أسوار الكنيسة و (تهذب عقائدها وتحاول التعايش مع عقدة نقصها)، وهكذا كان بعد منتصف القرن العشرين. فنيتشه كان يعيش المسيحية بصورتها الحقيقية كما هي في زمنه وليس كما يراها أصحاب الصورة النمطية الدعائية الواهمة عنها اليوم، ولذلك كتب عنها: "وُجِدَت في المسيحية حاجة لمفاهيم وقيم بربرية لتصير سائدة على البرابرة: كما هي الحال مع التضحية بالبِكر [يقصد عقيدة الفداء البشري]، شرب الدم في المناولة [يقصد طقس الأفخارستيا]، احتقار النباهة الذهنية والثقافة، العذاب في كل أشكاله الجسدية والعقلية [...] المسيحية تبتغي التحكم في حيوانات القطيع. ووساطتها لأجل بلوغ ذلك أن تحولهم إلى مرضى". هذا (التحوُّل للأتباع إلى مرضى) تُثبته نصوص التاريخ لمدة ألف وتسعمئة سنة على الأقل، وهذا التشوه الأخلاقي عند الإله المسيحي، في جزئية صغيرة محددة منه فقط، هو موضوع هذه المقالة في جزئيها.
تُعتبر مناقشات المبادئ الأخلاقية للعقيدة المسيحية من أهم التجاذبات الفلسفية بين المسيحيين وبين خصومهم، وعلى الأخص بين اليهود وأصحاب النزعات العلمانية من جهة وبين المدافعين عن تلك العقيدة من جهة أخرى. وتتركز تلك المناقشات على محاور متعددة منها تناقضات أقوال مع أفعال يسوع في الإنجيل، وقد تطرقنا لبعضها ضمن هذه السلسلة، والتشكيك بأصالة تعاليم يسوع وخصوصاً من وجود أدلة دامغة على أن تعاليمه لم تكن إلا اقتباسات من مصادر أخرى متعددة سبقته في الزمان وتفتقد للأصالة والتميز في زمنها، وأن بعض تعاليم يسوع، كموقفه من العبيد ومِن غير اليهود وموقفه مِن العلاقات العائلية وترويجه لطقس "الأفخارستيا" على المعنى المتجسد الحسي كوسيلة للخلاص وموقفه السلبي من السلام [لتفاصيل بعض هذه التعاليم انظر مقالتَي: "تزوير مسيحية يسوع – 14" و " مقالة في طقس الإفخارستيا – أكل الله"] مضافاً لها تعاليم بولس وغيره من رسل المسيحية في العهد الجديد المناهضة للمرأة وللمخالفين، هذه كلها تبدو وكأنها مضادة ومعاكسة للمبادئ الأخلاقية التي تسمو على الاختلاف العِرقي أو الجنسي أو الديني. فالمبادئ الأخلاقية المسيحية هي مبادئ (غير متجردة)، وإنما هي (مبادئ أخلاقية قبلية) في لبها وأصلها. فيسوع عندما يقول لأتباعه: (أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم) [متى 5: 44] هو بالتأكيد لم يكن يقصد المعنى الأخلاقي العام المتجرد من التبعية الدينية والعِرقية والخِلافية، أي المعيار الأخلاقي القِيَمي المتجرد، بدليل أنه عندما عارضه اليهود لم يُحسن إليهم وبالتأكيد لم يكن يحبهم بل قال لهم (أيها الحيات أولاد الأفاعي) [متى 23: 33]، و (أنتم من أب هو إبليس) [يوحنا 8: 44]، وهذه الكلمات هي بالتأكيد لم تكن "صلاة للذين أساؤا إليه". وعندما قال (من قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم) [متى 5: 22] فإنه لم يكن يقصد (مبدأ عام يتعالى على الظرف والزمان)، شأنه شأن كل قيمة أخلاقية متعالية مجردة، بدليل أنه عند خصومته مع اليهود قال لهم مرتين: (أيها الجهال والعميان) [متى 23: 17 و19]، وهي ترجمة مزورة من جانب المترجم العربي وإنما الترجمة الصحيحة (أيها الحمقى والعميان) [انظر مقالة: تزوير مسيحية يسوع - 15]. فالتعاليم المسيحية، على عكس ما تروّج له الدعاية الدينية والعامة من أبناء هذا الدين، هي ليست (معايير أخلاقية مجردة) وليست (قيم متعالية أرادها إلهها أن تكون كذلك) ولكنها (مُخصصة بفئة دون أخرى) وهذا هو بالضبط ما يُفقدها تعاليها ويصمها بالقصور والفساد، والدليل هو (نفس النص الإنجيلي التي تُقتَبس منها هذه الاقتباسات معزولة عن سياقها وأحداثها) مضافاً لها تاريخ المسيحية ذاته، وكتابات اللاهوتيين وممارسات الكنيسة حتى وقت قريب. فالمعيار الأخلاقي عند يسوع هو (معيار قبلي)، بمعنى أن مَنْ يدخل ضمنه هو (صاحب الولاء له شخصياً) فقط دون غيره المخالفين له. فيسوع صريح جداً في (نفي الآخر المختلف) من مناطق النفوذ والمصالح، تماماً كما هو "النظام" في العُرف القبلي، فهو يقول بوضوح: (مَنْ ليس معي فهو عليَّ) [متى 12: 30]. وهذا المعيار، أي المعيار الأخلاقي القبلي، نراه مكرراً في نصوص العهد الجديد، فيسوع يقول في مَثَل ضربه (أما أعدائي، أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم، فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) [لوقا 19: 27]، وبولس يصف غير المسيحيين بـ "النَجَس": (اخرجوا من وسطهم واعتزلوا، يقول الرب: ولا تمسوا نجسا فأقبلكم) [رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 6: 17]، ويوحنا يرفض أن يبدأ المسيحيون غيرهم بالسلام فضلاً أن يقبلونهم في بيوتهم: (إن كان أحد يأتيكم، ولا يجيء بهذا التعليم، فلا تقبلوه في البيت، ولا تقولوا له سلام) [رسالة يوحنا الثانية 1: 10-11]، وكتابات القديسين والآباء الأوائل مليئة بهذا الشذوذ في رفض الآخر والترفع عن التعايش معه أو القبول باختلافه. بل إن (ثنائية تقسيم الوجود)، الصفة المميزة لكل تعليم ذو أصل قبلي، أي (الأنا المتفوقة صاحبة الحق المطلق في مقابل الآخر الأدنى مرتبة)، نراه بوضوح في التقسيم المسيحي في العهد الجديد على لسان يوحنا الرسول: (نعلم أننا نحن من الله، والعالم كله قد وضع في الشرير) [رسالة يوحنا الأولى 5: 19]، ولهذا السبب بالذات فإن التاريخ المسيحي كان متميزاً بـ (استباحة الآخر إلى حدود التوحش)، لأن الآخر "مِنَ الشيطان" كما يقول يوحنا، بينما (نحن – الأنا المتفوقة) من الله. فالمعيار الأخلاقي المسيحي هو معيار غير مجرد في ذاته، ونصوص تأصيله تملك إشكالية أخلاقية خطيرة. بل إن أحدى أساسيات العقيدة المسيحية، عقيدة الفداء، كما سوف نرى في هذه المقالة، هي في ذاتها (عقيدة غير أخلاقية) كما يثبتها النقد اليهودي من جهة والنقد العلماني من جهة ثانية.
... يتبع
#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تزوير مسيحية يسوع - 16
-
تزوير مسيحية يسوع - 15
-
تزوير مسيحية يسوع - 14
-
تزوير مسيحية يسوع - 13
-
تزوير مسيحية يسوع - 12
-
تزوير مسيحية يسوع - 11
-
تزوير مسيحية يسوع - 10
-
تزوير مسيحية يسوع - 9
-
تزوير مسيحية يسوع - 8
-
تزوير مسيحية يسوع - 7
-
تزوير مسيحية يسوع - 6
-
تزوير مسيحية يسوع - 5
-
تزوير مسيحية يسوع - 4
-
تزوير مسيحية يسوع - 3
-
تزوير مسيحية يسوع - 2
-
تزوير مسيحية يسوع -1
-
العلم الطاهر
-
الرواية الإباضية للإسلام - 2
-
الرواية الإباضية للإسلام - 1
-
ابن خلدون يقول لكم - أنتم أمة وحشية
المزيد.....
-
المتطرف الصهيوني بن غفير يقتحم المسجد الأقصى
-
اكتشافات مثيرة في موقع دفن المسيح تعيد كتابة الفهم التاريخي
...
-
سياسات الترحيل في الولايات المتحدة تهدد المجتمعات المسيحية
-
مفتي البراميل والإعدامات.. قصة أحمد حسون من الإفتاء إلى السج
...
-
إسرائيل تكثف غاراتها على غزة وتقصف المسجد الإندونيسي
-
استقبلها الآن بأعلى جودة .. تردد قناة طيور الجنة TOYOUR EL-J
...
-
منظمة: 4 من كل 5 مهاجرين مهددين بالترحيل من أميركا مسيحيون
-
جدل حول اعتقال تونسي يهودي في جربة: هل شارك في حرب غزة؟
-
عيد الفطر في مدن عربية وإسلامية
-
العاهل المغربي يصدر عفوا عن عبد القادر بلعيرج المدان بتهمة ق
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|