|
الطفل المشاغب وشجرة الطاعة (قصة قصيرة)
رمسيس حنا
الحوار المتمدن-العدد: 4326 - 2014 / 1 / 5 - 10:45
المحور:
الادب والفن
الطفل المشاغب وشجرة الطاعة (قصة قصيرة)
بعد الصلاة الجماعية داخل الكنيسة حيث يحتل كل صف من فصول مدارس الأحد ركن معين يتوجه تلاميذ كل فرقة وعلى رأسهم مدرس الفصل الى مقرات فصولهم حيث يقوم المدرس بقيادة الأطفال وهم يرنمون بعض الترانيم التى سبق لهم حفظها. وبعد ذلك يقوم المدرس بتحفيظ بعض أبيات من ترنيمة جديدة وطريقة أداءئها. ثم يقدم المدرس أية من الكتاب المقدس تتناسب مع درس الأسبوع. وكانت اَية ذلك الأسبوع "أولاد الطاعة تحل عليهم البركة." لتتناسب مع عنوان الدرس "شجرة الطاعة".
و"شجرة الطاعة" هى قصة تراثية عن شخص أراد أن ينخرط فى سلك الرهبنة ، فذهب الى دير لينضم اليه فلم يُقبل فى بادئ الأمر ولكن بسبب إصراره وتمسكه سُمح له بالدخول. بيد أن قبوله النهائى فى سلك الرهبنة لم يُقرر بعد بل يتخذه رئيس الدير لاحقاً بعد فترة إختبار لا أحد يعلم مدتها إلا رئيس الدير فقط. وأُعُطى الرجل عصا يابسة من جريد النخيل واُمر أن يغرس هذه العصا اليابسة من جريد النخيل فى مكان ما فى الصحراء يبعد عن الدير بمسافة بعيدة قدرها المدرس بمسافة بين القرية ومكان اَخر يعرفه التلاميذ ويذهبون إليه بالسيارة. كما لم ينس المدرس أن يٌرِي التلاميذ عصا يابسة من جريد النخيل ليمثل بها العصا التى أٌعطيت للرجل لكى يغرسها فى قلب الصحراء. وأخيراً اُمِر الرجل أن يقوم بحمل الماء من بئر فى الدير فى دلوين معلقين بنير من الخشب ويذهب بهما يومياً الى مكان غرس العصا ليرويها. واستمر الرجل يقوم بهذا العمل حتى إخضرت العصا ورعرعرت وأصبحت شجرة عظيمة ولذلك سُميت ب"شجرة الطاعة".
جميع الأطفال يسمعون ويكررون أو يكملون بعض العبارات التى يريد المدرس أن يسمعها منهم. وكان الطفل "فكرى" يصغى بانتباه شديد وتركيز عال الى القصة لدرجة أن عينيه وجسده يدوران حيث يكون المدرس ، ولكن كان واضحاً أن نظراته وحركات جسده تتعدى المدرس الى ما وراء الأخير ، وكأن الطفل يريد أن ينزاح المدرس عن مكانه قليلاً كيما يرى ما وراءه. وهو دائم الحركة ، غير مستقر ولا يكرر ولا يكمل العبارات التى يريدها المدرس ، ولكنه كان يتمتم بكلمات غير مسموعة تبدو من شفتيه الرقيفتين أن هذه الكلمات أو التمتمات مختلفة عن الموقف تماماً.
وفى نهاية الدرس كما هى العادة سأل المدرس الأطفال عما تعلموه من الدرس. وأنبرى الطفل "فكرى" برفع يده ليأذن له المدرس بالكلام. فأشار المدرس الى "فكرى" ليتكلم.
فنهض "فكرى" ليسأل للإيضاح: "أتقصد الغرض من وراء القصة يا أستاذ؟" فرد المدرس: "سمها ما تشاء". فقال "فكرى" فى محاولة منه للمصالحة والتوفيق بين الغرض الرسمى للقصة وبين ما يراه هو بأم عينيه: "هناك فرق بين ما تعلمته من الدرس وغرض الدرس".
وهنا خشى المدرس أن شطحات خيال الطفل "فكرى" قد تؤثر على أقرانه وتضيع وقت الدرس ، فأوقفه عن الكلام وطلب منه أن يلتقى به على إنفراد فى حجرة المكتب. وحتى ذلك الحين أمره المدرس أن يظل صامتاً ولا ينبث ببنت شفة حتى ينتهى الدرس على خير.
وفى حجرة المكتب وكما يحدث دائما من المدرس تجاه "فكرى" من التهكم والسخرية سأل المدرس: "وما هو الفرق يا فالح يا متحذلق بين الغرض الرسمى من القصة وبين ما تراه أنت ؟"
فرد الطفل ببساطة وطلاقة لم يعهدها المدرس فى أحد من الأطفال من قبل: "الغرض الرسمى من الدرس هو الطاعة كما قلت حضرتك ، وأما ما أراَه أنا هو رحمة وراَفة الله على الشخص الذى أراد أن يترهبن."
وكظم المدرس غيظه هذه المرة وأراد أن يذهب مع الطفل حيثما إرتأى ، فسأل الطفل فكرى بإبتسامة ماكرة: "إشرح لى يا متفذلك ما تراه من رحمة الرب ورأفته على الراهب الجديد."
وعلى الفور أجاب "فكرى": "إنها رحمة الله ورأفته على البسطاء التى جعلت العصا الجريد اليابسة تتحول الى شجرة خضراء لكى ينقذ الله هذا الرجل من يد رئيس الدير الذى أراد أن يسيطر على عقل الرجل الذى يريد الرهبنة مستغلاً حبه وإصراره وتمسكه بالرهبنة لكى يؤدى عملاً جسدانياً يؤهل عقله لأن يتقبل أى فكرة من الاَخرين بعد أن سلب عقله. وهذا هو الإبتزاز بعينه."
وبعد جهد كبير للحفاظ على صبره وإتزانه سأل المدرس الطفل: "هل يمكن أن تشرح لى كيف أوعز لك شيطانك بهذه الفكرة؟"
فقال الطفل "فكرى": "لا يمكن لهذه العصا اليابسة من جريد النخيل أن تكون شجرة لأن النخيل لا يٌزرع بهذه الطريقة كما أنه لا يوجد بجريد النخيل أى براعم لكى تنموا . وبالتالى يكون تكليف الشخص بأن يفعل ذلك تكليف لا معنى له ، وإذا صدقه الشخص المٌكَلف ونفذه يعنى أن هذا الشخص لا عقل له أو أنه يرفض أن يستخدم ما أعطاه له الله من عقل."
ثم إستدرك الطفل وإستطرد فى حديثه قائلاّ: "هذا هو مفهومى عن القصة بمكوناتها تلك ، وإلا يكون هناك خطأ ما فى عناصر القصة كأن تكون عصا الجريد اليابسة فى الواقع هى غصن شجرة من النوع الذى يتكاثر بالعُقل وبها براعم هى أساس التكاثر لهذا النوع من الأشجار ، وبذلك تنتفى المعجزة عن القصة..."
وكانت عينا المدرس تدوران على وجه الطفل كأنه يبحث عن الشيطان الساكن برأس هذا الطفل والذى يُملى عليه هذا الكلام ويوحى له بهذه الأفكار وهو يمط شفتيه مرةً ويكشر عن أنيابه ثانيةً ويصر على أسنانه مرة ثالثة. ويبدو أن الطفل لم يكن قد أنهى كلامه هنا عندما قاطعه المدرس قائلاً: "المعجزة يا فالح هى عمل خارج عن المألوف والطبيعى لا يستطيع العقل إدراكه ويجب عليك أن تؤمن بها دون تفكير."
فرد الطفل "فكرى" وقال: "إذاً كيف يتعامل معنا الله بأمور يستحيل علينا إدراكها ويطلب منا ان نفهمها ونصدقها أو نتقبلها بدون تقكير؟ وأنا الاَن احاول أن أفهم لكى اصدق وأؤمن. ألم يهبنا الله وزنة العقل والتفكير ويريدنا أن نستخدم هذه الوزنة؟" فقال المدرس للطفل "فكرى": "بلا ، ولكن طرق الله بعيدة عن فحص وإستقصاء الإنسان."
فرد الطفل "فكرى": "نحن الاَن لا نفحص أو نستقصى طرق وفكر الله ، ولكننا نفحص ونستقصى سلوكيات وأفكار وطرائق اناس من البشر وهما رئبس الديروالراهب الجديد.” فقال المدرس: "وهل تعتقد فى نفسك أن تفكيرك أحسن أو أفضل من تفكير رئيس الدير؟"
فرد "فكرى": "أنا لم أقل أن تفكيرى أفضل أو أحسن من تفكير رئيس الدير أو تفكير الشخص الذى أراد الرهبنة ، ولكن كل شخص له طريقة تفكيره الخاصة به يا استاذ."
وهنا لم يستطع المدرس أن يسمع من "فكرى" أى كلمة أكثر من ذلك فأنتهره قائلاً: "يا إبنى لا تدع الشيطان يضربك بالغرور والكبرياء التى أصابت بعض الملائكة فأصبحوا شياطين. يجب أن تتوقف عن هذا التفكير ، أو لا تأتى الى هنا أبداً وتصير محروماً أيها الشيطان."
وهنا خرج الطفل "فكرى" والدموع فى عينيه وود لو إستطاع أن يرى شيطانه ليتناقش معه أو يقتله أو على الأقل يتجنبه ويهرب منه. ولكنه كان يفكر كيف يمكن له أن يدفن ويخبئ الوزنة التى إإتمنه عليها الله. ثم جفف دموعه وهو يسأل نفسه: "هل يمكن للعين السليمة المفتوحة ألا ترى؟؟ هل يمكن لأى عضو سليم فى جسد الأنسان أن يتوقف عن أداء وظيفته التى خلقه الله من اجلها ويظل الإنسان عائشاً حياةً طبيعيةً؟؟ هل يمكن لعقل الإنسان أن يتوقف عن وظيفة التفكير؟؟ وإذا توقف عقل الإنسان عن التفكير هل يظل الإنسان إنساناً؟؟"
وبات "فكرى" ليالى طوال لا تؤرقه الأسئلة التى طرحها على نفسه بل يؤرقه الخيار الذى طرحه عليه مدرسه.
"رمسيس حنا"
#رمسيس_حنا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الى أمى -شجرة السنديان المسافرة- (شِعر)
-
طفل مشاغب فى أعياد الميلاد (قصة قصيرة)
-
إنهم لا يفقهون – الى مينا دانيال (شعر)
-
عندما تموت الجذور (قصة قصيرة)
-
أحلام يقظة (شعر)
-
خرجت لتزرع (شِعر)
-
بداية وتوجس (شِعر)
-
بعض من صور حبيبتى (شعر)
-
الظهور - شعر -
-
أنا و هى - (قصه قصيره) -
-
قصيدة مجنونة -شعر- الى مايكل نبيل سند
-
إيزيس وبلقيس وممفيس
-
عربدة كاذبة - شعر -
-
راحيل - شعر -
-
عربدة السكون والصمت - شعر -
-
خرجت ولم تعد - شعر -
-
إختناق
-
قبس من نور (إلي شهيد الكلمة د . فرج فوده )
-
التابو -شعر-
-
ثورة حلم -- شعر-
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|