|
احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (9)
وديع العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 4323 - 2014 / 1 / 1 - 18:54
المحور:
الادب والفن
وديع العبيدي احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (9)
المثال (2) قصيدة (جِلسة اللوتس).. النص... مثلَ بوذا ، أُزمزِمُ ، منتظراً لحظةً لا مثيلَ لها : لحظةَ أن يسقطَ الثلجُ أوّلَ ! لستُ أنعَمُ في جِلسةِ اللوتْسِ جِلسةِ بوذا ، تيبّسَ عَظمي سأختارُ نافذةً من ثلاثٍ ، وأجلسُ ؛ لكنني ، مثل بوذا ، أُزمزِمُ ، منتظراً ، مثلَـهُ أن أرى الثلجَ أوّلَ . قد هدأَ الدّغْلُ والريحُ واقفةٌ مثل شُرْطيّ سَـيرٍ ، وآخرُ طيرٍ توارى ... و لا رفّةٌ في الغصونِ التي عَرِيَتْ منذُ دهرٍ . سماءٌ رصاصيّةٌ تتبدّلُ بيضاءَ ، هل نصُعَ الكونُ ؟ هل ألقت الأرضُ أوزارَها ؟ ثَـمَّ في الـهُـدْبِ مُرتجَفٌ . في العيونِ بريقٌ . وفي نقطةٍ من أديمِ الزجاجِ الفُجاءةُ : قد سقطَ الثلج ... لندن 12.01.2013 ربما كانت (جلسة اللوتس) أكثر وضوحا من قصيدة (الناطور) وأكثر بساطة.. منذ السطر الأول يكشف الشاعر تماهيه مع (بوذا)، فهما الآن واحد متحد (مثل بوذا)، وليس اثنين منفصلين.. فبلفظة (مثل) ألغى المسافة والفارق.. وهو لا يجذب الرمز إليه كما في القصيدة السابقة، وانما هو الشاعر الذاهب اليه ليكون مثله. وبعد أداة التشبيه والمطابقة (مثل) تسود القصيدة صيغة المتكلم (أنا) والعبارات الفعلية بامتياز.. [أزمزم، أنعم، سأختار، أجلس، أزمزم، أرى،..]..لكن حضور (ذات) الشاعر المكثف ليس الغرض منه ابراز الذات، فقد اختزل نفسه مبتدأ في معطف (بوذا) لتحقيق حالة من الاتحاد [نفسفكري] للدخول في اللحظة الصوفية (العتمة الباهرة) بتعبير الطاهر بن جلون. هذه العتمة الداخلية/ الصوفية هي عتمة بيضاء، نوارنية، يعبر عنها الشاعر بالثلج، وهو المهيمنة الفكرية الثانية الى جانب مهيمنة (الأنا) في النصف الأول للنص. يقول الشاعر- بوذا.. ان الغرض من جلوسه هو انتظار هطول الثلج، رؤية أول هطول الثلج. ولهذه اللقطة الأولية متعة ماتعة وحبور نفسي عميق.. في النصف الثاني تسود حالة من (هدوء) أيضا .. [قد هدأَ الدّغْلُ والريحُ واقفةٌ مثل شُرْطيّ سَـيرٍ ، وآخرُ طيرٍ توارى ...و لا رفّةٌ في الغصونِ التي عَرِيَتْ منذُ دهرٍ .] يقتنص الشاعر مراحل الهدأة الكونية تلك.. وكأن الطبيعة كلّها تتحضر لتشهد هطول أولى ذرات الثلج. والثلج ابيض. البياض يحتل مساحة شاسعة من شعرية سعدي، ويمكن تخصيص باب خاص بها. أفُقٌ أبيضُ .الساحةُ الدائريّةُ بيضاءُ . سقفُ البناياتِ أبيضُ. والشجرُ المتضائلُ أبيضُ .في البُعْدِ تبدو البحيرةُ بيضاءَ بيضاءَ . حتى السياجُ الذي فقدَ اللونَ قد صار أبيضَ . ممشايَ أبيضُ. شَعري الذي طالَ دهراً لأضفِرَهُ ... أبيضُ . الغـيمُ فوقَ الـمَراكبِ أبيضُ . والورَقُ المتناثرُ في غرفتي أبيضُ . الضوءُ أبيضُ. ذاكرتي تأفُلُ الآنَ ، بيضاءَ . لا نخلَ فيها ولا نهرَ ... كلُّ النساءِ اللواتي مررْنَ على شرشفي، يرتدِينَ العباءاتِ بيضاَ. سأبسِطُ كفّيَ بيضاءَ من غيرِ ســوءٍ . دمي أتخَـيّـلُُهُ أبيضَ. القِطُّ ، هذا الذي يتربّصُ بالطيرِ ، أبيضُ . والطيرُ أبيضُ . أغمضتُ عينيَّ حتى أرى ، مثلَ ما أنتَ ، دوماً ، ترى ... قصيدة (سـيمفونيّةٌ مَـرْئِـيّـةٌ) / 15- 1- 2013
[سماءٌ رصاصيّةٌ تتبدّلُ بيضاءَ ، هل نصُعَ الكونُ ؟].. الطبيعة كلّها تعيش حالة تحوّل، حالة ولادة جديدة، نوروز آخر.. فكلّ الألوان تتحول للأبيض. اللون الأبيض غني بالدلالات، ووظيفته رمزية في القصيدة. دلالتها الأهم عند سعدي ارتباطها باحتفالات عيد الميلاد (رأس السنة الميلادية). ويساعد التاريخ الذي يذيل القصيدة في تعيين هوية الرمز غالبا. الدالة الثانية للبياض هي الاشارة للموت، - حسب تشخيص الدكتور صلاح نيازي لوظيفة البياض في مسرح شيكسبير-. والبياض يمكن أن تكون له دالة الصفاء الذهني والحياة الروحية في حالة الصوفية كذلك. لكن سعدي يوسف يضيف دالة جديدة للبياض ولفكرة التحول السنوي ممثلة بقوله [هل ألقت الأرضُ أوزارَها ؟] والدالة على فكرة/ طقس.. التطهير. والتطهير حاجة انسانية ملحة، احتلت مساحة مرموقة من فكر أرسطو، وانعكست في الفكر المسيحي، المذهب الكاثوليكي تحديدا. التطهير في البوذية والديانات اليونانية والكاثوليكية يحصل من خلال احتمال الآلام، والسيطرة على الغرائز والمشاعر الجسدية. وهناك جماعات غالت في الممارسة والعقيدة هذه إلى حد ايذاء الجسد كالرهبان الفرنشسكان أو الطائفة المورافية التي تغالي في البكاء وتبكيت النفس [كما لدى بعض اليهود الأرثوذكس]. وتوجد جماعات وطقوس بوذية مغالية في شرق آسيا، وكذلك السيخ وبعض الشيعة في العراق. أما فكرة التطهير في الاسلام فتتم بمجرد أداء مراسيم زيارة (الكعبة). لكن المضمون الأعمق وراء فكرة التطهير تتمثل بالولادة الجديدة، والتخلص من الانسان (العتيق) وأفضل من وصفها وعبّر عنها هو بولس الرسول. نصاعة الكون وهطول الثلج وسيادة البياض في الطبيعة هو دالة اجتماع السماء والأرض لمباركة بداية جديدة في حياة الطبيعة.. الـمرْجُ زهورٌ بِيضٌ درْبُ الحيّ السّكنيّ الموحشِ ( حيثُ أُقِيمُ ) زهورٌ بيضٌ سقفُ دفيئةِ جاري الأسكتلنديّ زهورٌ بيض ساحتُنا الخـلْـفـيّةُ والبستان زهورٌ بيض مَرقَى البيتِ زهورٌ بيض فوق قميصي الورديّ زهورٌ بيض وحذائي في الممشى ملأتْـهُ زهورٌ بيض وعلى السيّاراتِ ( كأنّ زواجَ الإسكندرِ حَلَّ ) زهورٌ بيض بابُ الحانةِ غطّـتْـهُ زهورٌ بيض وعلى شَعري تاجٌ ضفَرَتْهُ زهورٌ بيض وصديقتيَ النمساويّةُ تصنعُ ( في الموسمِ ) حلوى من زُبْدٍ وزهورٍ بيض قصيدة (بَـيــاضٌ) / 11-5-2012 تبقى العلاقة مع رموزية بوذا في شعر سعدي هي علاقة نفسذهنية داخلية، تمتد عبر مشاعر الوحدة ووحشة الوجود ومعاناة الألم، وهي علاقة مستمرة حاضرة كلما حضرت عواملها، وبشكل يمكن معه القول: أنها احد شواطئ الصوفية في شعر سعدي يوسف، اذا اتفقنا مع أدونيس.. أن الشعر - بحدّ ذاته- تجربة صوفية!. في المقارنة بين بوذا (الناطور) وبوذا (جلسة اللوتس) يلحظ ارتباط الأولى بحالة التشاؤم، والكناية عن الألم والمرض والوحشة واللاجدوى (دالة التين)، بينما تكشف الثانية عن حالة الامتلاء والتفاؤل (دالة اللوتس) واستقبال عام جديد في دورة من دورات الطبيعة تتوجها حالة تطهر الطبيعة من (أوزارها) وأشنات الماضي. في القصيدة الثانية تتحقق حالة الاتحاد والانسجام بين الشاعر والنبي القديس (بوذا). يصبح الاثنان واحدا. ويلعب البياض الشمولي الذي - يتوّج رأس- السنة الجديدة، دالة انطلاقة وعنفوان ولادة وبداية جديدة مباركة في احتفالية تشترك فيها السماء والأرض والبشر.. وهو ما يقودنا للمرموز الآخر في هذا المبحث.. مراميز مسيحية.. أطْبِقْ جَفنَيكَ لتســمعَ . أطبِقْ جفنَيكَ لتفتحَ باباً سِــرِّيّـاً في القلعةِ . أطبِقْ جفنَيكَ لتدخلَ بستانَ الخشخاشِ البـرّيّ ... الليلةَ لن تَـتَـنَزَّلَ روحٌ لن تأتيكَ ملائكةٌ في هيأةِ طَـيرٍ لن تسمعَ قيثاراً أو أجراسَ لُـجَـينٍ في الماءِ ولن تلمحَ غزلانَ الرنّــةِ في السهْبِ الأبيضِ ... هذي الليلةَ تُطْـبِـقُ جفنَيكَ لِـتُـبْـصِــرَ . أطبِقْ جفنَيكَ ولا تستيقظْ إلاّ عندَ صياحِ الديكِ الذهبيّ ! قصيدة (ترنيمة للميلاد) / لندن 24.12.2010
#وديع_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (8)
-
احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (7)
-
احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (6)
-
احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (5)
-
احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (4)
-
انحطاط الأمة.. والخوف من الكلمة
-
احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (3)
-
احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (2)
-
احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (1)
-
اتجاهات الرأي.. والرؤية العراقية
-
الكراهية.. الأكثر كراهية!..
-
في علم الاجتماع القبلي (10)
-
في علم الاجتماع القبلي (9)
-
في علم الاجتماع القبلي (8)
-
في علم الاجتماع القبلي (7)
-
في علم الاجتماع القبلي (6)
-
في علم الاجتماع القبلي (5)
-
في علم الاجتماع القبلي (4)
-
في علم الاجتماع القبلي (3)
-
في علم الاجتماع القبلي (2)
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|