|
نـظـرة قـانـونيــة: الاســتفـتاء و مـحاولــة تـبـريــر الأخـطاء الـتـأريـخـيــة
فلاح اسماعيل حاجم
الحوار المتمدن-العدد: 1229 - 2005 / 6 / 15 - 12:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تثير قضية صياغة الدستور الدائم للدولة العراقية اهتماماً متزايداً من قبل العراقيين على اختلاف مشاربهم السياسية مما يؤكد الاهمية الاستثنائية التي تمتلكها قضية كتابة القانون الاساسي لدولتنا والتي قدر لها ان تعيش ؛ ومنذ ولادتها في بدايات القرن الماضي؛ في ظل دساتير مؤقتة وبالغة المرونة مما جعل قواعدها قابلة للتجاوز في حين والاستخدام في احيان اخرى. من هنا يبدو واضحاً سبب تدني منزلة الدستور في سلم المصادر المؤلفة لمنظومة التشريع في الدولة. ومن هنا ايضاً يبدو جلياً غياب اي تصور عن الدستور ليس في الوعي الشعبي فحسب؛ بل وفي ذهنية الكثير من النخب السياسية الناشطة في الساحة العراقية؛ وذلك ما يمكن تلمسه ببساطة في نقاشات ممثلي بعض الكيانات السياسية في الوقت الراهن. بخلاف الانتخابات لم يكن الاستفتاء ممارسة دورية في دول الديمقراطيات الحقيقية؛ فاجراؤه مرتبط ؛ في اغلب الاحيان؛ باحداث سياسية مصيرية. في حين يعتبر اجراء الاستفتاء ممارسة واسعة الانتشار في دول الاستبداد والانظمة الشمولية؛ ذلك لانه يمنح قرارات تلك الانظمة مشروعية اكبر ويحيل لسلطاتها اختصاصات اضافية باعتبارها المخولة رسمياً من قبل الشعب لادارة شوؤنه والتعبير عن ارادته بالشكل الذي تراه مناسبا. بمعنى آخر يقوم الاستفتاء بشرعنة التنازل الطوعي للشعب عن حقوقه للحاكم الفرد او للطليعة السياسية (اي الحزب القائد). واذا كانت الدوّل الديمقراطية تلجأ الى الشعب لاستفتاءه في مسائل هي في الصميم من حاضره ومستقبله؛ تعتمد الانظمة الشمولية على الاستفتاء لتكريس سلطة الفرد (المادة 84 -1- من الدستور السوري والمادة 76 من الدستور المصري والتي لا يغير تعديلها الاخير شيئا ما لم تحدد فترة وجود الرئيس في هذا المنصب). ولا تجد تلك الانظمة صعوبة في الرجوع الى الموروث الديني لتأكيد (بيعة الرعية ) لقائدها. على انه سيكون من الاجحاف الاكتفاء بالدول العربية كامثلة لتشويه الاستفتاء كممارسة اريد لها ان تكون شكلا من اشكال الديمقراطية المباشرة. فالاستفتاء اوصل الفاشية الالمانية الى السلطة وكان اجراؤه في الاعوام 1933 و 1934 و1938 سبباً في تعزيز سلطتها وتبرير جرائمها المعروفة للجميع. وكان الاستفتاء الشعبي سبباً رئيسيا ايضاً في نشوء ما يمكن ان نطلق عليه الرئاسية المطلقة( السوبررئاسيه) كشكل من اشكل الحكم في امريكا الجنوبية؛ وخصوصاً خلال سنوات السبعينيات من القرن الماضي. ان لجوء البعض من سياسيينا لتصوير الاستفتاء على انه اكثر الاساليب ديمقراطية لاقرار الدستور الدائم ما هوالا مغالطة كبيرة او جهل باصول ومميزات الديمقراطية المباشرة؛ والتي ربما يكون من بين اهم شروطها توفر المستوى المناسب من الوعي السياسي و القانوني لدى المواطن؛ بالاضافة الى ارساء المقدمات اللازمة لنجاح هكذا عملية كبيرة؛ بما في ذلك توفير الفرص المتكافئة للتأثير على قناعات الناس وتحديد خياراتهم. على أن الأهم من كل ما تقدم هو تضمين القواعد الدستورية جملة من الثوابت التي لا يمكن تجاوزها تحت اية ذريعة كانت؛ والتي ينبغي ان تكون من الصلابة بحيث لا تتمكن الاكثرية البرلمانية؛ مهما عظمت ؛ من تعديلها. لقد صنف علماء القانون الدستوري الاستفتاء من منطلقات مختلفة؛ وربما كان تصنيف الايطالي بيسكارتي دي روفاي٭ الاكثر منطقية؛ حيث ذهب الى تقسيم الاستفتاء بالاستناد الى فروع القانون المختلفة واضعا الاستفتاء الدستوري في المرتبة الاولى مما يؤكد اهميته قياساً بانواع الاستفتاء الاخرى مثل الاداري والتشريعي والدولي...الخ. ويعني الاستفتاء الدستوري اجراء الاقتراع السري اما على مشروع القانون الاساسي الجديد للدولة؛ او على مقترحات التعديلات على الدستور الساري. وهنا لابد من الاشارة الى ان تشريعات بعض الدول ذهبت الى اعتبار الاستفتاء الزامياً لاقرار اي تعديل على دستور الدولة (الدنمارك؛ سويسرا؛ 49 ولاية امريكية؛ ايرلندا). فيما ذهبت اخرى الى اعتبار الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد؛ او مقترحات تعديل القانون الاساسي الساري احد خيارين الى جانب المجلس الدستوري (الفقرة الثالثة من المادة 135 من الدستور الروسي). وقررت ثالثة المزاوجة بين الاسلوبين (الفقرة الثانية من المادة 44 من الدستور النمساوي). ان تناول الاستفتاء؛ باعتباره المرحلة النهائية والاكثر شكليةً من بين مراحل العملية الدستورية؛ لابد وان يقودنا الى الحديث عن الخطوات الاكثر خطورة واهمية في صياغة واقرار القانون الاساسي للدولة؛ وربما تكون مسألة الالية التي وضعت لصاغة الدستور الدائم لدولتنا اهم تلك الخطوات على الاطلاق. حيث ذهبت المادة الواحدة الستون ( أ ) من قانون ادارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية صراحة الى اسناد مهمة كتابة الدستور للجمعية الوطنية الانتقالية؛ وذلك اسلوب مع انه واسع الانتشار؛ الا انه يتطلب تلبية شروط لا اضن ان اثنين يختلفان على مدى صعوبة؛ وربما استحالة؛ توفرها في ظروف العراق الراهنة. من هنا يبدو لي انه سيكون من اليسير الطعن بشرعية النتائج التي سيتمخض عنها الاستفتاء الشعبي؛ هذا طبعا اذا لم تنسف العملية ذاتها جراء تفعيل نص الفقرة (ج) من المادة الحادية والستين من قانون ادارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية والتي ذهبت الى اعتبار مسودة الدستور مصادقاً عليها فقط...... "اذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافضات أو اكثر". من هنا تبدو واضحة الرابطة الجدلية بين ظروف اجراء الاستفتاء ومشروعية النتائج المتربة على هذا الاجراء القانوني المهم. وهو بذلك لا يختلف؛ من حيث المبدأ؛ عن العملية الانتخابية حيث يشكل اجراؤها في ظروف استثنائية ارضية للطعن بشرعيتها ويجعل من المؤسسات المنبثقة عنها ناقصة التمثيل؛ وهذا ما يمكن تلمسه بوضوح في الجدل الدائر حول كيفية تشكيل لجنة صياغة مشروع الدستور العراقي الدائم. وما زلنا بصدد الحديث عن تأثير الظروف السياسية على شرعية نتائج الاستفتاء الشعبي؛ ارى من المناسب الرجوع الى تجربة الدوّل الديمقراطية في معالجة اشكالية العلاقة بين الظرف الاستثنائي والضرورة القانونية. فقد ذهب البعض منها الى تضمين تشريعها الوطني جملة من الثوابت التي لا يمكن ان تكون موضوعات للاستفتاء الشعبي؛ حيث ادرجت المادة الثالثة من التشريع (القانون) الفيدرالي الدستوري٭ الروسي حول الاستفتاء لعام 1995 جملة من الموضوعات التي لا يمكن اجراء الاستفتاء بصددها ومنها على سبيل المثال ( تغيير الوضع القانوني للاطراف الفيدرالية؛ تمديد فترة صلاحيات رئيس الدولة والمجلس الفيدرالي ومجلس الدوما او تقليصها؛ تقديم او تأجيل موعد الانتخابات للاجهزة المذكورة؛ اقرار وتغيير ميزانية الدولة؛ اضافة الضرائب او تغييرها؛ العفو العام؛ تنفيذ التزامات الدولة تجاه المواطنين.....الخ ). فيما ذهب البعض الآخر الى تحديد فترات زمنية يمنع خلالها اجراء الاستفتاء. فالتشريع الاسباني ؛على سبيل المثال؛ يحرم اجراء الاستفتاء خلال حالات الطوارئ والحرب وخلال 90 يوما بعد الاعلان عن انتهائهما؛ وكذلك قبل 90 يوما وبعد 90 يوما من تأريخ اجراء الانتخابات (اي كان نوعها)؛ أو اجراء استفتاء حول موضوع آخر. اما في جمهورية سلوفاكيا فقد ذهب المشرع الى منع اعادة اجراء الاستفتاء حول نفس الموضوع قبل مضي ثلاثة سنوات على تأريخ اجراء الاستفتاء الأول (الجزء 2 من المادة 99 من الدستور). انني اعتقد ان مسوؤلية تأريخية تقع الآن على عاتق صاغة دستور دولتنا الجديد؛ وامانة كبيرة وبالغة الثقل في اعناقهم تجاه الاصوات التي اوصلتهم الى الجمعية الوطنية ولجنة كتابة الدستور والتي تتطلع بأمل كبير الى دستور يصون وحدة الشعب العراقي بكل مكوناته ويجعل من المواطن – الانسان القيمة الاسمى قولاً وفعلاً. الأنسان الذي لا ينبغي أن يستثمر صوته الثمين لتبير الاخطاء التأريخية.
٭- Biscaretti Di ruffia. P. Derecho Constituzional. – Barcelona, 1973.
٭- يأتي القانون الفيدرالي الدستوري في روسيا في المرتبة الثانية بعد الدستور من ناحية القوة القانونية.
#فلاح_اسماعيل_حاجم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظرة قانونيــة: لجنــة صياغــة الدستور بين الاستحقاقــات الا
...
-
نــظرة قــانونيــة: اللجــان البـرلمانيــة
-
نظــرة قانونيــة: الدستــور الدائــم ومهمــة الاصــلاح السيا
...
-
نظرة قانونيــة: المعالجــة القانونيــة لمسؤوليــة الجهاز الت
...
-
نظرة قانونية: المعالجة القانونية لتنظيم العمل داخل الجهاز ال
...
-
نظــرة قانونيــة:المعالجــة القانونيــة لثنائيــة الجنسيــة
-
نظرة قانونية:المعالجــة القانونيــة لتفعيــل الحــق الانتخاب
...
-
الفيـدرالـيــة وضـمانــات وحــدة العــراق
-
اي الاهداف يبرر الوسائل
-
نظرة قانونية: السلطــة العراقيــة القادمــة ومهمــة التأسيــ
...
-
نظرة قانونيــة: السلطــات العراقيــة القادمــة ومهمـة صيانــ
...
-
نظــرة قانونيــة: المعالجــة القانونيــة لعــد اصــوات الناخ
...
-
نـظرة قـانونيــة: وحـدة السلطــة ومبــدأ الفصــل بيــن السـل
...
-
نظرة قانونيـة: المعالجة القانونية للقيام بالدعاية الانتخابية
-
الانتـخابات وشـرعية السـلطـة القـادمـة فـي العـراق
-
نظرة قانونية: المعالجة القانونية لمراقبة العملية الانتخابية
-
نظرة قانونية: الوطني والدولي في التنظيم القانوني للعملية الا
...
-
ســيــنـتـفــض جــدُ نا حــمـورابــي
-
الـناخــبـون العـراقـيـون فـي الـخارج بيـن مـبدأ الاقتراع ال
...
-
نــظــرة قــانــونــيــة : الـتـــصــويــت
المزيد.....
-
بالصور..هكذا يبدو حفل زفاف سعودي من منظور -عين الطائر-
-
فيديو يرصد السرعة الفائقة لحظة ضرب صاروخ MIRV الروسي بأوكران
...
-
مسؤول يكشف المقابل الروسي المقدّم لكوريا الشمالية لإرسال جنو
...
-
دعوى قضائية ضد الروائي كمال داود.. ماذا جاء فيها؟
-
البنتاغون: مركبة صينية متعددة الاستخدام تثير القلق
-
ماذا قدمت روسيا لكوريا الشمالية مقابل انخراطها في القتال ضد
...
-
بوتين يحيّد القيادة البريطانية بصاروخه الجديد
-
مصر.. إصابة العشرات بحادث سير
-
مراسل RT: غارات عنيفة تستهدف مدينة صور في جنوب لبنان (فيديو)
...
-
الإمارات.. اكتشاف نص سري مخفي تحت طبقة زخرفية ذهيبة في -المص
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|