عبد الله مهتدي
الحوار المتمدن-العدد: 4320 - 2013 / 12 / 29 - 19:48
المحور:
الادب والفن
"تازمارة234"....
أو حين يصبح للأمكنة ذاكرات مثقلة بالموت.
1--
"إنني عدت من الموت لأحيا,لأغني
فدعيني أستعر صوتي من جرح توهج..."
محمد مصدق بن خضراء,واحد من الذين عبروا نحو نفق الرعب,لكنه عاد من غياهبه مغسولا بالوجع,وها هو يستعير صوت محمود درويش,لا ليغني,ولكن ليمارس فعل البوح,ليعزف تقاسيم جراح آتية من زمن الخوف,ليجرح شفاه الصمت بمشرط حكي الألم.
كان على هذا السفر المؤلم أن يبدأ من "قرطاج",وينتهي بإحدى الأقبية السرية التي سيثار حولها الكثير من الجدل,وستحكى عنها الحكايات المعمدة بالدم والألم.من "قرطاج" إلى معتقل تمارة,رحلة خوف كان فيها الزمن جزءا من الألم,وكان الألم هو الزمن المعاش, الحقيقي,المساحة الرحبة للذاكرة والهواجس المغموسة باليتم و التيه,هواجس التحول إلى"قضية معلقة",ثم النفي إلى إحدى"المدافن السرية"كما حدث مع الكثير من العابرين هذي المسالك المرعبة
2-
"تازمارة234"سيرة ذاتية من أدب السجون,رواها كاتبها كما عاشها,أوكما أسعفته ذاكرة الرماد,لكن بطلها الحقيقي لم يكن سوى الوطن الذي لازال يحضن بين تضاريسه أمكنة ليس لها من وظيفة سوى اقتلاع الإنسان من آدميته,التدمير الممنهج للكرامة,سلخ الحلم,تعطيل الحواس,وتهشيم الحواجز بين الألم واللاألم,كتم أنفاس الأمل.
تبدأ السيرة برحلة ما,لاكرحلة الأبطال المخدوعين في رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني,وهم يبحثون عن الهروب من الجحيم,إنها رحلة عن اختيار,ستتحول إلى سفر جريح نحو العتمة.ومن منفى إلى منفي,سيكون قدر هذا الفلسطيني أن يعبر إلى مدارج العتمة واليتم والتيه,سيكون قدره أن يكون حمال أمكنة وأزمنة باكية,حيث تتشابه التفاصيل,وينكس الحلم راياته خارج فلسطين القصيدة والأرض.هكذا ستصبح لبن خضراء وهو يعيش تجربته الخاصة مع الاعتقال,حساسية خاصة مع الأمكنة,وذاكرة زمنية دقيقة ككل فلسطيني يشحذ المنفى منذ عام النكبة حواسه كي تقيس الأمكنة والأزمنة بفلسطين,وكأنه في سفر دائم نحو المنفلت ,الهارب والمستحيل.كان بن خضراء يحسب الزمن بدقة متناهية,ويصف الأمكنة والأشخاص,والأشياء,وهو يحول الأذن إلى آلة رصد رهيبة تعوض العينين المعصوبتين.
3-
الرواية السير ذاتية,تبدأ أحداتها من مطار "قرطاج",وتنتهي بمعتقل تمارة السري,مرورا بالمطار,كوميسارية المعاريف,ثم الادارة القديمة لdst,لم يبق بن خضراء ملتصقا بهذه الأمكنة,بل حلق بالذاكرة إلى الأجواء الرحبة,حيث الزوجة "فاطمة",والطفلة "راوية" بنت الثلاث سنوات,ثم دمشق بحاراتها وعاداتها وكل مفاتنها الجميلة. لكن نوبات التعذيب وطقوسه, كانت كفيلة بان تعيده إلى الأرض, حيث لا يعرف الجلاد سوى اللغة الهمجية التي يدمنها.
"عاش" بن خضراء ما يفوق الأربع سنوات, مكبلا بثلاث سلاسل وستة أقفال, وأصفاد حديدية, وذاق طعم "الطيارة"و"الفروج", وفسح الاستنطاق, ووحشة العزلة.لم يكن يدري هل كان في المكان الخطاء حين وطئت قدماه المطار,كي ينقل عنوة إلى حيث سيصبح الجسد مستباحا لكافة أنواع البطش.
حين كتب بن خضراء أن"لاشيء يمتص الألم كالزمن",كان ربما يعلم أنه لابد من ملء هذا الزمن كي لا يصبح جرحا منقوعا بالقيح والدم.هكذا "راحت النفس تتدرب على النسيان",نسيان "راوية"الابنة,ثم التسلية بالحشرات وأصوات الحيوانات.وحين كتب أيضا "لاشيء يريحني هنا كرؤية البشر",كان ربما يعلم أنه سار مهووسا برؤية البشر ,أي بشر ,حتى لو تعلق الأمر بالجلادين أو الحراس,وهو الذي تحول إلى جسد نافذته اللأدن,وأجزاؤه العصابة,والسلاسل والأقفال,والأصفاد.
4-
ضمن حكاية بن خضراء,حكايات صغيرة لشخوص عابرة,حكايات الحراس بأسمائهم المستعارة,"نينو","البابا","القحطاني"و"الخياري","الزعري","بوزريبة"وآخرون,حيث يرسم الكاتب لهؤلاء بورتريهات تمزج بين الوصف الخارجي والعمق النفسي,حكاية "ياسين" العراقي,الذي ما أن علم بقرب اللافراج عنه حتى"أصيب بشيء يشبه الهستيريا,كان طوال الليل يتكلم مع الحراس,ويبكي ويضحك,ويقبل الحراس بين الفينة والأخرى بشكل مفاجئ",نفسها الهستيريا التي سيحسها حين سيصله الخبر الخادع بقرب إطلاق السراح,حينها سيكتب "أحسست بفرحة لا تعادلها إلا فرحة أم أعيد لها طفلها الذي اختطف,واعتقدت أنه ضاع إلى الأبد",لكن هذا الفرح المسروق لم يصمد أمام السؤال الصاعقة :"لماذا لم يزيلوا السلاسل والأغلال؟".حكاية محمد علي بهلول,حكاية حميد المكناسي,حكاية الرجل الكهل من الصحراء,حكاية جماعة الهواري وخديجة التي جاءها المخاض بالمعتقل,فأعادت صرخة مولودها الحياة إلى السجن,حيث "ارتفع على الفور ذاك السكون القاتل المعشش في الدهليز,وحضر إلينا "العالم الخارجي" المفقود".
كان محمد بن خضراء وسط منفاه مجبرا على نسج حكايا مع الأشياء والأمكنة,و الحشرات,والحيوانات,كي يقاوم العزلة والسحق,حتى القمل أصبح له حضوره الخاص في تفاصيل "المشاغل" اليومية الصغيرة,حتى يستقيم له زمن الزنزانة,أما المرحاض,فقد أصبح الفسحة الوحيدة لشم عبق الحرية .
5-
يحكي بن خضراء فيقول :"كنت أعلم مسبقا أنني أول معتقل يدشن هذا السجن,بل وأول معتقل يدخل باب الإدارة الجديدة,إنها "ليلة القدر",أمسكت بالقفل النحاسي الصغير الذي يتدلى من يدي وحفرت به على الجدار وراء الباب:"بن خضراء محمد 27رمضان1986-أول من دشن هذا المكان "
لم يكن المكان المرعب سوى المعتقل السري "تمارة",يؤكد بن خضراء في استجواب مع جريدة"الأيام" – عدد483بتاريخ 8يوليوز2011مايلي :"لقد أمضيت ثماني سنوات في "معتقل تمارة ",ولم أمض ثمانية أيام أو ثمانية شهور.... وهو ما أتاح لي معرفة موقع "سجن تمارة "وأسماء الضباط الذين يعملون آنذاك في الجهاز..."ثم يشير إلى الفيديو الذي نشر على الفايسبوك للمعتقل سيء الذكر بواسطة "غوغل ارث",والمطابق لنفس التقسيم البنائي الذي يتذكره,والذي سبق أن رسمه من الداخل.ويضيف بن خضراء :"لقد عشت في هذا المكان ثمان سنوات وأعرفه شبرا شبرا,وأعرف من خلال النوافذ بعض أقسام الإدارة,ومنها السور الخارجي,وكنت أعلم يقينا أنني في تمارة بشهادة أصدقائي الحراس...."
هذه الرواية الشهادة كبوح جارح,على ليل التيه,تواجه إصرارا رسميا مستميتا على إنكار وجود "المعتقل السري تمارة",سليل أماكن الاختفاء والاعتقال الأخرى,تازمامارت,قلعة مكونة,درب مولاي الشريف,الكوربيس,النقطة التابثة الثالثة,أكدز.....فلقد سبق لمنظمة العفو الدولية أن اتهمت مديرية مراقبة التراب الوطني بممارسة التعذيب وسوء المعاملة بالمعتقل السري تمارة,كمكان اعتقال غير مصرح به لوضع المتهمين فيه,قبل مثولهم أمام العدالة,وهو ما يعد خرقا للقانون المغربي وللمواثيق الدولية لحقوق الانسان.
6 –
اعتقل محمد مصدق بن خضراء في7نونبر 1985,وأطلق سراحه بتاريخ23يوليوز1993,بعد أن نقل سنة 1986إلى معتقل تمارة,من أب مغربي وأم فلسطينية,ارتبط اسمه بقضية الباخرة الايطالية المختطفة "أكيلي لاورو"بتاريخ 7أكتوبر1985.ولأن اسمه كان مطلوبا لدى الأنتربول,فقد تم اعتقاله فور وصوله إلى مطار "محمد الخامس",قادما من تونس حيث فاطمة زوجته وابنته راوية.أما "تازمارة234",فهي رواية سير ذاتية من أدب السجون,صرخة وألم ويتم موزع على 166صفحة من الحجم المتوسط.العنوان باللون الأسود البارز,فوق صورة لماحة للحرية,على صدر الصفحة الثالثة,جزء من قصيدة "مغني الدم" للشاعر محمود درويش,ثم بعده تقديمين لكل من المناضل احمد وايحمان,وأحمد المرزوقي, أحد الناجين من قلعة الموت "تازمامارت",و "تازمارة" كما يقول التقديم الأول :"هو اسم مركب من "تازمامارت" و"تمارة",وتركيب هذا الاسم يتوخى التنبيه إلى "الاستمرارية"في منطق سنوات الرصاص",ويقال في المثل أن التاريخ يعلم,لكنه لا يختار من يريد أن يتعلم,فمتى سنختار أن نتعلم كيف نشعل فتيلة الضوء كي نضيء ذاكرات الوجع و الرماد؟....
#عبد_الله_مهتدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟