زيد مظفر الحلي
الحوار المتمدن-العدد: 4320 - 2013 / 12 / 29 - 18:05
المحور:
الادب والفن
يمثل التناص الديني المرجعية الثقافية والمخزون الثر الذي يرجع إليه الشاعر , وتتعدد المرجعيات الثقافية للنص الديني قد يكون إسلامي أو مسيحي أو يهودي . ويكون التناص الديني أما مباشر كالاقتباس اللفظي , أو غير مباشر كالاقتباس المعنوي .
إذ كان طبيعيا أن يرتد الشعراء إلى المصادر الدينية بوصفها مقوما لازماً لمواجهة المحتل الذي يستند لوجوده لمبررات دينية . فقد حاول هؤلاء نفي تلك المبررات عبر الثقافة الدينية , هذا بالإضافة أن الموضوعات الدينية تغني الفكرة لما تمتاز به من الثراء في مدلولاتها الرامزة (7). فالكتب السماوية وغيرها من المصادر الدينية تعد من أهم روافد القصيدة الحديثة من ناحيتي الشكل والمضمون , لما تمتاز به من خصوبة في هذين الجانبين . ودرويش شاعر استند إلى مصادر إلى جوانب متفرقة من تلك المصادر بحيث أثرت في شعره فنياً ومضموناً (8).
وقد يستمد درويش بعض المعاني القرآنية أو التوراتية أو الشخصيات الدينية . من ذلك قوله :
نحن الثاني ـــ الأرض والأرض ـــ السماء وحولنا سور وسور
ماذا وراء السور ؟ علم آدم الأسماء كي يتفتح السر الكبير
والسر رحلتنا إلى السراب . إنّ الناس طيراً لا تطير(9)
يستمد درويش قوله تعالى : -;-وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ-;-(سورة البقرة : 31) ويحاول الاستفادة من هذا النص في إثبات الهوية , واثبات الوجود عن طريق تسمية الأشياء مرة أخرى , عن طريق إعادة معارف الإنسان الفلسطيني الجديد وإدراكه للواقع بعينه الباصرة وتسنين أهدافه وإدراكه لها . الشاعر هنا إعاد تركيب الآية بما يتناسب مع رؤيته هو وبما يتوافق مع تجربته .
وقد يعتمد على التراث المسيحي من ذلك قوله : (( ما دامت رحلتنا اقصر من خطبة الكاهن في كنيسة مهجورة , في يوم أحد , لم يسلم فيه أحد من غضب الإلهة ؟ ))(10) .
في هذا النص أعاد صياغة النتاج المسيحي القولي من جديد وجعله ينبئ , عن قصر رحلة الإنسان الفلسطيني في هذه الحياة , لأن الآلهة هي من تقرر حياته وذلك سرعان ما تقضي عليه . وهذه الآلهة هي الإسرائيلي , فالرحلة التي سلكها هو ــ ضمير الغائب الذي يتكئ عليه كثيرا في النص ــ والسبب الذي جعله يغيّب صوت المجموع هو طغيان العدو وقبضته على حياة الناس فمثلما هو مشاهد على الواقع جعله في النص . وترمز الرحلة إلى عذاب وآلام الشعب الفلسطيني .
وتتنوع الإشارات التناصية الدينية إلى ذكر بعض الرموز المقدسة في الديانات الكبرى قوله : (( وحياة تحيا على حصة العاشق من سخاء المودة بين المعشوق والعاشق . فلا جنة معلنة بالحواس وبالحدس سوى العاشقة , ولا جحيم إلا خيبة العاشق )) (11) .
لم يشر إلى قضية الجنة والجحيم , وإنما يرى انفصام عرى العشاق هو الجحيم وسخاء المودة هو الجنة . وكأنما حياة الفلسطيني هي الجنة وموتهم وحصادهم المشاهد يوميا هو الجحيم . وهنا لم يستخدم درويش تناص مباشر , وإنما غير مباشر بإعادة صياغتها من جديد وليكن واحد من الأصوات .
وقد يستخدم من القص القرآني محاولاً أغناء تجربته وتكثيف الرؤية ليه يقول :
من أكون غداً ؟ هل سأولد من
ضلعك امرأة لا هموم لها غير زينة
دنياك , أم سوف أبكي هناك على
حجر كان يرشد غيمي إلى ماء بئرك(12) .
هذه التناصية تعطي دلالة الالتحام والألفة , فكأنما الولادة من الضلع تعبير عن قوة الالتحام بعيداً عن التعددية التي تقسم المجتمع إلى طبقات , هنا صورة الالتحام الذي يتسم بها الشعب في مواجهة العدو .
القصيدة مجموعة من العناصر المترابطة والمتداخلة التي تصوغها بصيرة الشاعر وخبرته اتجاه حدث نفسي أو كوني , اتجاه حدث لا تزال نفسه تنفعل به , مما يجعل الإحساسات تتدفق في تلك النفس (13).
وكذلك إشارته إلى حقيقة النسوة الذين أيديهن عندما مر يوسف , لكنه أعاد تشكيل القصة بصياغة ودلالة أخرى . وصوت القصة لا زال في إيقاعه وحركيته الدرامية . يقول : (( وعلى سبابة يدك اليسرى ندبة أخرى . جلست وبنتاً صغيرة كيمامتين على حجرين في كرم زيتون . سأقاسمك هذه التفاحة , قلت لها , وأنت تنظر في عينيها وتمرر السكين الصدئة على إصبعك بدلاً من التفاحة . خافت من الدم وهربت وأنت تناديها : خذي التفاحة كلها))(14) .
في النص ترد الإشارة إلى قصة النسوة وامرأة العزيز (بوتيفار) . قوله تعالى : -;- فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰ-;-ذَا بَشَرًا إِنْ هَٰ-;-ذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ -;- (سورة يوسف : 31) الإشارة التناصية التي وردت في النص وخصوصا في الجزء من المشهد التصويري لدخول النبي يوسف وقطع الأيدي يعطي دلالتين : الأوّلى : الإغفال الذي كان به . الثاني : الإغفال المصحوب بالجمال فهو من شدة انبهاره بجمال الطفلة قطع يده ولم يقطع التفاحة . والندبة في اليد اليسرى تمثل دور اللاوعي . وهنا جزء من مراحل طفولة درويش .
وقد يعتمد على شخصيات أنبياء بني إسرائيل لتعزيز الفضاء الكوني للقصيدة وتوسيع مدركات القارئ , فالاعتماد الدرويشي على هذه الشخصيات يعني استنطاقهم وتبرير الأفعال التي يمارسها العدو . ومن ذلك عقده للحوار مع النبي الإسرائيلي حبقوق وبراءته وحزنه على ما يفعل بالشعب الفلسطيني :
كفى يا أبني ؟
على قلبي حكايتكم
على قلبي سكاكين (15) .
الهوامش
1- لسان العرب : ابن منظور , دار صادر , بيروت , (د ــــــ ت) : مادة نصّ
2- قضايا الحداثة عند عبد القاهر الجرجاني : محمد عبد المطلب , الشركة المصرية العالمية , الجيزة , مصر , 1975: 173.
3- علم النص : جوليا كريستيفيا , ترجمة : فريد الزاهي , مراجعة عبد الجليل كاظم , دار توبقال للنشر , الدار البيضاء , المغرب , 1991: 79
4- نظرية النص : رولان بارت , ترجمة د_ محمد خير البقاعي , مجلة العرب والفكر العالمي , بيروت , 1988: 3/73 من هامش شعرية النص عند الجواهري : د- علي عي صالح , دار الكتب العلمية , بيروت , 2011: 333
5- مدخل لجامع النص :جيرار جينيت, ترجمة :عبد الرحمن ايوب , دار الشؤون الثقافية , بغداد , دار توبقال المغرب :94
6- المقدمة : ابن خلدون , دار الفكر , بيروت , لبنان , ط1, 1998 :592
7- ينظر :الحركة الشعرية في فلسطين المحتلة منذ عام 1948حتى عام 1975, دراسة نقدية : 137, 138, هامش التناص الديني والتاريخي في شعر محمود درويش : ابتسام موسى عبد الكريم أبو شرار , رسالة ماجستير , جامعة الخليل , 2007 : 24 .
8- التناص الديني والتاريخي في شعر محمود درويش : ابتسام موسى عبد الكريم أبو شرار , رسالة ماجستير , جامعة الخليل , 2007 : 24
9- الإعمال الشعرية الكاملة: محمود درويش , دار العودة , بيروت , لبنان , ط1, 1994 :2/454
10- في حضرة الغياب : محمود درويش , دار الريس , بيروت , لبنان ,2006 :11
11- م ــــ ن :12
12- سرير الغربة : محمود درويش , رياض الريس, بيروت , لبنان , ط1, 1999: 66
13- ينظر: في النقد الادبي : شوقي ضيف , دار المعارف , مصر :153
14- في حضرة الغياب :22
15- الأعمال الشعرية الكاملة: محمود درويش , دار العودة , بيروت , لبنان ,(د ــــ ط) , (د ـــــ ت) :1/152
#زيد_مظفر_الحلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟