|
المأزق الراهن... كيف صرنا إلى ما صرنا إليه؟!
حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)
الحوار المتمدن-العدد: 4319 - 2013 / 12 / 28 - 15:11
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
تشهد مصر الآن مذبحة بحق جماعة الإخوان المسلمين على المستويين التنظيمي والفكري، وهي المذبحة التي ربما لم تتعرض الجماعة لمثلها منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بل ربما كانت السجون الناصرية — التي وُصِفَت بأنها الأسوأ في تاريخ التعامل مع التيارات الإسلامية في مصر — كانت أكثر رحمة بالإخوان المسلمين مما يحدث حاليًا لأنصار التيار الإسلامي على يد العسكر الحاكمين في مصر. وقبل أن يتهمني أحد بالمبالغة في استخدام تعبير "المذبحة"، أود أن أؤكد أن هذا التعبير هو الأخف وطأة بين كل التعبيرات، التي يمكن استخدامها وصف الإجراءات المتخذة بحق الجماعة أفرادًا وتنظيمًا وروافدَ وفكرًا، وهي الحملة التي وصلت إلى ذروتها بإعلان الجماعة تنظيمًا إرهابيًّا، والتوعد بإعدام من يشارك بأنشطة بعينها يقوم بها الإخوان المسلمون، ومن بين هذه الأنشطة قيادة المظاهرات المؤيدة للجماعة. ولكنني قبل البدء أود التأكيد على أن ما يلي ليس دفاعًا عن الإخوان المسلمين ولا اصطفافًا وراءهم؛ فقد برهنوا على غباء سياسي كفيل بإرسالهم إلى أظلم أعماق بحر السياسة، ولكنه سعيًا وراء الحقيقة أيًا كانت تجلياتها.
حكومة الهراء لا أجد ما أصف به حكومة الدكتور حازم الببلاوي سوى أنها "حكومة الهراء"؛ فهذه الحكومة لم تبذل أي جهد يُذكر في سبيل تسوية الأمور في البلاد، بل إن الإجراءات التي تتخذها ربما تزيد الوضع سوءًا على المستويين المعيشي والاقتصادي. كما أنها تتلقى الأوامر في كل شيء يتعلق بإدارة الأمور في البلاد من منطقة كوبري القبة؛ حيث مقري المخابرات العامة ووزارة الدفاع. ولكي لا يكون الكلام بالمطلق، فقد برهنت هذه الحكومة على فشل ذريع في تقديم حلول سريعة للمشكلات العاجلة التي تؤرق المواطن المصري، واكتفت بتقديم المسكنات وإغراق الشعب في الحرب على الإرهاب؛ تلك الحرب التي يدفع الشعب كلفتها ماديًا ومعنويًا، لأن من يُقْتَلُ على الجانبين هو من أبناء الشعب المصري. إذن، كل الإنجاز الذي قامت به الحكومة الحالية هو أنها وضعت الشعب المصري في أنوت الهرب على الإرهاب، وتجاهلت كل أزماته المعيشية الملحة وأبرزها أنبوبة البوتاجاز وانقطاع التيار الكهربي. حقًا، إنها حكومة الهراء!! فإذا انتقلنا إلى الملف الأمني الذي قالت الحكومة عنه إنه واحد من الأولويات لديها إلى جانب الملف الاقتصادي وخريطة الطريق، يمكننا القول إن حكومة الببلاوي لا تعرف شيئًا عن هذا الملف؛ لأن إدارته من مهام أجهزة المخابرات سواءً جهاز المخابرات العامة الذي تحظر لوائحه الداخلية عليه العمل داخل البلاد، أو المخابرات العسكرية، مما أعاد البلاد لقبضة العسكر، ولكن هذه المرة بتفويض من حكومة مدنية جاءت بـ"ثورة 30 يونيو" كما يقال. ولكن هنا يبرز سؤال وهو: هل خرجت البلاد من قبضة العسكر بعد إعلان الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك التنحي في فبراير 2011؟ كلا، وهذا يأتي نتيجة لخطيئة ارتكبها التيار الإسلامي بالتحالف مع المجلس العسكري الذي فوضه مبارك في بيان التنحي بإدارة شئون البلاد. إنها الخطيئة التي مهدت الطريق لإعادة البلاد لقبضة الحكم العسكري الذي ظن المصريون أنهم تخلصوا منه في أعقاب ثورة يناير.
المذبحة... لماذا الآن؟! كان لا بد من هذا التمهيد في البداية لتوضيح مستوى الفشل الذي وصلت إليه حكومة الببلاوي، دون الدخول في تفاصيل هذا الفشل، لأن هذا موضوع آخر. وكذلك كان التمهيد مطلوبًا لتوضيح حجم تنفذ الأجهزة الأمنية في إدارة البلاد في ظل حكومة الببلاوي بما يعيدنا إلى عصر مبارك. وفي هذه الفقرة، يطرح العنوان سؤالًا يشغل بال الكثيرين من غير المنتمين ولا المؤيدين لجماعة الإخوان، وكذلك الرافضين لما جرى في 30 يونيو على اختلاف مستويات الرفض. لماذا هذه الحملة الساحقة ضد الجماعة، التي وصلت إلى رئاسة البلاد وحققت الأغلبية النسبية في مجلسي الشعب والشورى (قبل إلغائه)، وكذلك سار استفتاءان إلى الوجهة التي أرادتها الجماعة؟ الردود التي يتلقاها المرء على هذه الأسئلة تعبر عن الخواء الفكري لمن يطلقونها؛ لأنها تدور حول أن الإخوان المسلمين كانوا سوف "يحرقون" البلاد، وذلك إذا جرت محاولات لاستئصالهم من المشهد المصري في أعقاب ثورة يناير. ولكن هذا السؤال يغفل جانبًا مهمًا وهو أن الإطاحة بالإخوان المسلمين وهم خارج الحكم كانت أسهل كثيرا من الإطاحة بهم وهم في الحكم، وقد ترسخت أقدامهم في مؤسسات الدولة. فلماذا إذن تم الاصطبار على الإخوان إلى ما بعد وصولهم للحكم؟ الإجابة هي لتشويههم أثناء حكمهم بما يساهم في حشد الشارع ضدهم كما حدث في 30 يونيو، وهو المخطط الذي لم يلتفت إليه الإخوان المسلمين فمارسوا كافة أنماط الغباء السياسي في التعامل مع الواقع المصري، وقدموا أعناقهم للعسكر على أطباق بلاتينية لا مجرد أطباق ذهبية. وهذا خطأ تأسيسي آخر وقع فيه الإخوان بعد تحالفهم مع المجلس العسكري عقب تنحي مبارك. يقولون إن الأجهزة الأمنية رصدت "أفعالًا إرهابية" قام بها الإخوان المسلمون أثناء تولي الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي للحكم، وهو المبرر الذي كان من الممكن أن يكون كافيًا للصمت على الجماعة التي وصلت إلى أن وصلت للحكم، ولكن هذا المبرر يصطدم بعقبة أن الاتهامات الموجهة إلى الجماعة تتضمن اتهامات ترجع إلى مرحلة ثورة يناير؛ أي قبل وصول الإخوان للحكم. ويتم تبرير الصمت عن التعامل مع هذه الاتهامات في حينها بـ"عدم ملاءمة المناخ السياسي". فهل بات المناخ السياسي مؤهلًا الآن؟ هل الشارع المصري بات قادرًا فجأة على دفع الكلفة الاقتصادية والمعيشية لكل هذه التطورات والفوضى السياسية؟ واقع الأمر يقول إن الإجابة على كل هذه الأسئلة هي النفي. كذلك فإن هناك نقطة شديدة الأهمية ننطلق إليها من كلمات الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع الذي يؤكد — في كل كلمة يلقيها أمام عدد من قادة أو ضباط الجيش — على أن الجيش المصري لن يسمح بترويع المصريين على الإطلاق. فهل كان الجيش المصري في السابق عاجزًا عن التصدي لـ"إرهاب الجماعة" وبات الآن قادرًا؟! ألا يستطيع الجيش المصري حماية المواطن في أي وقت وأي مكان وزمان وفق تعبيرات السيسي؟! فلماذا إذن هذا التأجيل؟ أم أنه الفخ السياسي الذي انقاد إليه الإخوان المسلمون والتيار الإسلامي من ورائهم؛ إنه الفخ الذي نُصِبَ لتصفية الثورة المصرية.
الأجهزة الأمنية... اختراق ما سبق كان مجرد تشخيص لوضع وواقع يوضح أن ما يحدث الآن لا يتعلق بإرهاب من عدمه وإنما يتعلق بمحاولة تصفية جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها خصمًا سياسيًا قويًا لدولة الفساد، ليس لتأسيس دولة العدالة، ولكن لتأسيس دولة الإخوان. كان يمكن الاستمرار في النهج الذي اتبعته منذ بدء الأزمة التي قادت إلى الوضع القائم، وهو نهج الحياد والنأي بالنفس عن الصراع السياسي الدائر بين طرفين كلاهما أسوأ من الآخر، إلا أن الأمور تفاقمت في الفترة الأخيرة لتوضح أن الأمر لا يتعلق بالإخوان المسلمين كخصم سياسي، وإنما تتعلق كذلك بالمصريين ككل، بعدما بدأت الإجراءات الأمنية المتبعة في "الحرب على الإرهاب" تأخذ منحى تقييد حق المواطن حتى في التفكير. والآن، لننتقل إلى الجانب المهم المتعلق بواقع الأجهزة الأمنية المصرية في الصراع السياسي الدائر. قد يبدو العنوان صادمًا للبعض إلى حد كبير لتضمنه الإشارة إلى أن هناك اختراقًا في الأجهزة الأمنية في البلاد، ولكنني أؤكد أن هذا الاختراق موجود، إلى جانب أشياء أخرى يأتي ذكرها في مراحل تالية في مقامنا هذا، والحديث عن الأجهزة الأمنية لا يقتصر فقط على الداخلية، وإنما يمتد أيضًا إلى جهاز المخابرات العامة، وليس هذا إطلاقًا للاتهامات جزافًا بدون سند، وإنما لكل شيء دوره في هذا السياق، وقد تم هذا الاختراق على يد مجرد تنظيم داخلي هو جماعة الإخوان المسلمين. هناك الكثير من التصريحات والمواقف التي تؤكد وجود هذا الاختراق، والذي لا يعد إثباته هدفًا في ذاته، ولكنه ينقلنا إلى نقطة أخرى تتعلق بمصداقية ما يجري من أحداث في البلاد. كيف الاختراق؟! أين التصريحات؟! تعتبر جريدة المصري اليوم أحد الأبواق الناطقة بلسان القائمين على البلاد منذ حراك 30 يونيو، وإن كانت أحد الأبواق الرصينة في واقع الأمر. ورد في هذه الجريدة في أعقاب عزل مرسي أن الإخوان المسلمين اشتروا ذمم بعض الضباط في وزارة الداخلية بهدف تدمير الاسطوانات المرنة التي تحمل أدلة اتهام الإخوان المسلمين بالتورط في التخريب والتحريض على التخريب الذي وقع أثناء ثورة يناير بما يشمل الاعتداء على الاستيلاء على أسلحة أقسام الشرطة والاعتداءات على السجون. بعيدًا عن مناقشة هذه الاتهامات، أنطلق من مبدأ "من فمك أدينك" بحيث أستند إلى هذه التقارير — التي تأتي من أحد الأبواق الإعلامية المؤيدة للعسكر والرامية إلى إدانة الإخوان — لاتهام وزارة الداخلية بأنها وزارة مأجورة تعمل لحساب من يدفع أكثر، وبأنها مثل عفريت الفانوس السحري، الذي يعمل "خادمًا لحامل الفانوس" أيًّا كانت هويته!! ألم تحدث عمليات شراء الذمم هذه في عهد وزير الداخلية الحالي اللواء محمد إبراهيم، والذي كان وزيرًا في عهد مرسي، ويُنْظَر إليه الآن باعتباره بطلًا قوميًّا؟ فلماذا صمت على هذه العمليات؟! هل كان هذا في إطار عملية أمنية لـ"إسقاط الأشرار" بعد إحكام الفخ عليهم؟! يعيدنا هذا إلى السؤال السابق المتعلق بأن إسقاط الأشرار وهم خارج الحكم كان أسهل كثيرًا من إسقاطهم وهم داخله. لكنها الحسابات السياسية لا المتعلقة بمصلحة الشعب المصري، ولكنها المتعلقة بأن الإخوان المسلمين لم يسيروا على النهج الذي كان مطلوبًا منهم السير فيه وهو الحفاظ على الوضع القائم؛ حيث ظنوا أنهم وصلوا إلى مرحلة التمكين؛ فبدؤوا في محاولة التخلص من دولة العسكر لتأسيس دولة الإخوان؛ فبدأت عمليات التلفيق هذه التي لا يدفع ثمنها كبار قيادات الجماعة فحسب، ولكن أيضًا الشباب. هذا النجاح في التلفيق للجماعة أسكر قادة العسكر فبدؤوا في الانتقال إلى كافة القوى السياسية والشبابية والشعبية غير ذات المرجعية الإسلامية لإعادة إحكام قبضة العسكر على البلاد.
المخابرات... كيف هذا؟! ننتقل من وزارة الداخلية إلى جهاز المخابرات العامة الذي كان لقرب نهايات عهد مبارك لا يعرف عنه أحد شيئًا إلى أن بدأ نجم الراحل اللواء عمر سليمان مدير الجهاز الأسبق في التألق كأحد المساعدين البارزين لمبارك في الملفين الأمني والدبلوماسي بخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. لكن هذا الجهاز الذي يحمل له المصريون كل التقدير بدأت تطاله بعض الانتقادات، وبدأت صورته تتشوه بشكل ما بعد ثورة يناير. كيف ذلك؟! كان من أبرز المواقف التي قادت لانتقادات ومثلت تلوثات تصريحات اللواء مراد موافي مدير الجهاز الأسبق، والتي جاءت تعليقًا على حادث اغتيال الجنود المصريين في رفح رمضان قبل الماضي؛ حيث قال موافي إنهم في المؤسسة الأمنية لم يكونوا يتوقعون أن "يقدم مسلم على قتل أخيهع المسلم في رمضان قبل الإفطار"، في تصريحات نقلتها وكالة أنباء الأناضول، وتمثل الهزل بعينه ولا تليق حتى بربات البيوت، اللواتي يحتفظن بقدر من الوعي يمنعهن من الانزلاق إلى التصريح بمثل هذا الهراء!! لكن محور الحديث في هذا المقام لا يتعلق بمثل هذه التصريحات، ولكنه يتعلق بما قد يمس مصداقية الجهاز نفسه في التحقيقات الجارية حول قضايا الأمن القومي المتهم فيها مرسي وغيره من قيادات الجماعة. الجانب الذي يمس مصداقية الجهاز هو الاختراق الذي تعرض له الجهاز، وعلى يد من؟! على يد تنظيم داخلي هو جماعة الإخوان المسلمين. تمثل هذا الاختراق في كسب مرسي لولاء مجموعة من القيادات في الجهاز ومن بينها اللواء رأفت شحاتة الذي كان مسئولًا عن ملف الأسرى الفلسطينيين والجندي الصهيوني المختطف جلعاد شاليط، ثم عينه مرسي مديرًا للجهاز في أعقاب مذبحة رفح وتصريحات موافي الهزلية. الثابت هو أن اجتماعًا تم بين ممثلين من مؤسسة الرئاسة وبين مجموعة من البارزين في الجهاز في أحد الفنادق المطلة على نيل القاهرة، وفي هذا الاجتماع تم التوافق على تعيين اللواء رأفت شحاتة مديرًا للمخابرات، في خرق للقواعد التي تقول بضرورة تعيين عسكري في هذا المنصب لإيجاد دور للجيش في صناعة القرار المصري، إلا أن اللواء شحاتة كان مدنيًّا. يؤكد هذا أن هناك اختراقًا قامت به الجماعة في صفوف المخابرات؛ لأنه إذا كان تعيين شحاتة قد جاء بالفعل بتوافق داخل المخابرات العامة، لما كان أقيل يوم 3 يوليو بعد عزل مرسي، مما يعني اعتباره من رجال الرئاسة المعزولة. من الأمور الأخرى المتعلقة بالاختراق في صفوف المخابرات المصرية هو موضوع مدير المخابرات القطرية الراحل. أشارت الأنباء في أواخر عهد مرسي إلى وصول مدير المخابرات القطرية الراحل إلى مصر للاجتماع مع مجموعة من قيادات الإخوان المسلمين في منزل (فيلا في الواقع) أحد رجال الأعمال في الجماعة، وهو الاجتماع الذي رصدته الأجهزة الأمنية المصرية، وتأكدت أنه تم فيه اتخاذ قرارات تمس الأمن القومي المصري. الكلام عن رصد الأجهزة الأمنية للاجتماع هو كلام البلهاء؛ فمن الأعراف المتبعة في عالم المخابرات أن حضور مدير مخابرات إحدى الدول إلى دولة أخرى لا يتم إلا بالتنسيق بين جهازي المخابرات في البلدين، وهو ما يعني أن هناك فريقين في المخابرات المصرية؛ فريق سمح بدخول مدير المخابرات القطرية وساهم في التحضير للاجتماع، وفريق آخر استغل الاجتماع ليظهر الإخوان في النهاية على أنهم يتآمرون على مصر لمصلحة قطر. إذا كان الإخوان على هذا القدر من الغباء، فهل القطريون أيضًا على قدر من الغباء ليعقدوا اجتماعا مع الإخوان المسلمين في مصر للتآمر على المصريين بحضور مدير المخابرات القطرية؟!! لا ريب أن هذا الاجتماع كان بالتنسيق مع المخابرات المصرية، أو على وجه الدقة مع فريق داخل المخابرات المصرية، بينما كان يرفضه فريق آخر. فيما بعد وفي الأسبوع الأول من مايو الماضي، تعرض مدير المخابرات القطرية للاغتيال في تفجير في الصومال، وهو التفجير الذي أنحي فيه باللائمة على المخابرات المصرية. إذن، وفي إطار التحضيرات المصرية للتخلص من النفوذ القطري الذي بدأ في التنامي داخل مصر ضمن التحضيرات لإنهاء حكم الإخوان في مصر، وفي إطار محاولات الإدارة الجديدة في قطر ترتيب أوراقها بالتخلص من كل رجال النظام القديم، تم التخلص من مدير المخابرات القطرية في الانفجار في رسالة شديدة الوضوح للقطريين. وهذا التحليل ليس رجمًا بالغيب، ولكنه يستند إلى اتهامات ملموسة للمخابرات المصرية التي حاولت جعل الوضع وكأنه يتعلق بدور المخابرات القطرية في الصراع السوري بذهاب مدير المخابرات القطرية إلى الصومال لتجنيد مقاتلين للعمل في سوريا ضد النظام، فتخلص منه الإيرانيون والسوريون. ولكن... هل يذهب مدير المخابرات بنفسه ليجند المقاتلين؟!! لا شك في أن دخول مدير المخابرات القطرية الراحل لمصر كان بعلم فريق من المخابرات المصرية حلف الولاء للرئيس القائم وهو وقتها مرسي، إلا أن فريقًا آخر لم يرضه الأمر، فتحرك للخلاص من الجميع؛ مرسي والإخوان والقطريين، وهذه الفئة الأخيرة بات من السهل التخلص منها بعد قدوم الإدارة الجديدة في قطر، وإدراكها أن اللعبة أكبر من حجم الإمارة. أمر آخر استجد على الساحة وهو قضية الفساد المتفجرة في تركيا. تشير أصابع الاتهام إلى المخابرات المصرية؛ حيث دأبت الخارجية المصرية على تحذير رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من التدخل في الشأن السياسي المصري. أنا لا أحب أردوغان وأراه يحاول إعادة السلطنة العثمانية مرة أخرى، ولكن هذه قضية أخرى. أصابع الاتهام تشير مرة أخرى للمصريين، وهناك بعض الأصابع تشير للروس، إلا أن مواقع إنترنت كثيرة تتباهى بالترويج لمسألة مسئولية المخابرات المصرية عن فضيحة الفساد. لا مشكلة لديّ في أن تسعى المخابرات المصرية لتوجيه ضربات لدولة أخرى في إطار صراع مصالح؛ فهذا أمر مفهوم وإن كان يقبله البعض ولا يقلبه آخرون. المشكلة الحقيقية هي أنه لماذا لم تقم المخابرات المصرية بتحقيقات مثل هذه في الفساد المتجذر في البنية الإدارية والسياسية المصرية؟! لا أشك للحظة في قدرة المخابرات المصرية على الفعل والحركة والنشاط والأداء؛ فهي تحتل ترتيبا متميزا على مستوى العالم رغم نقص التمويل مقارنة بالمخابرات الأمريكية على سبيل المثال. فلماذا إذن لم يستغل القائمون على الجهاز هذه القدرات في ضرب منظومة الفساد في مصر؟! إلا إذا كان هناك ما يمنع وهو على أقل تقدير حماية للكبار في مصر مما يعني أن هذا الجهاز لا يعمل بالمطلق على حماية الأمن القومي، وأن هناك اعتبارات تحكم أداءه في هذه الحماية بشكل ما. ما سبق يشير إلى أن هناك اختراقات وانقسامات في صفوف الأجهزة الأمنية المصرية مما يؤثر سلبًا على التقارير التي تصدرها والتحريات التي تقوم بها فيما يتعلق بقضايا الأمن القومي. فكيف لي أن أصدق أن مرسي تآمر على الأمن القومي المصري، بينما هناك من جهاز المخابرات من أقسم على المصحف الشريف على الولاء له وهو اللواء رأفت شحاتة، في حركة لم تكن تمثل خداعًا إستراتيجيا لأنه أقيل بعدها ولم يتم الاحتفاظ به مثلما حدث مع السيسي وإبراهيم. لكنها القذارة السياسية وحكم أجهزة الأمن.
انتهاكات وتناقضات في هذا الجزء الأخير سوف نلقي الضوء على التناقضات والانتهاكات التي وقع فيها العسكر في حربهم ضد جماعة الإخوان المسلمين وهي الانتهاكات التي تطال باقي المصريين في تداعياتها وانعكاساتها. فعلى سبيل المثال هناك مسألة الجمعيات الأهلية وكذلك جماعة أنصار بيت المقدس. ولكن بدلا من الاقتصار على إلقاء العناوين لنذهب إلى الموضوعات نفسها. فيما يتعلق بالجمعيات الأهلية التابعة للتيار الإسلامي، تجدر الإشارة إلى أن أحد العوامل الأساسية التي كانت تدفع نظام مبارك إلى الإبقاء على جماعة الإخوان المسلمين هو شبكة الدعم الاجتماعي التي تديرها الجماعة، والتي ترفع الكثير من العبء عن كاهل الدولة في رعاية الأسر الفقيرة والمحرومة، وهذا الحديث جاء في سياق اعتراف مجموعة من قيادات الحزب الوطني السابق بخصوص تعامل النظام المخلوع مع الجماعة. كانت منظومة الفساد تسيطر على كافة مفاصل الدولة بما كان يحجب التمويل اللازم لإقامة مشروعات صحية وتعليمية في المناطق الأكثر فقرًا في مصر، فكان التيار الإسلامي يأتي ليسد هذه الثغرة كاسبًا الأنصار ومانحا النظام المصري ورقة يلاعب بها الغرب بالقول إن المارد الإسلامي قادم في حالة ذهابه هو. لكن التيار الإسلامي بات ورقة محروقة في يد العسكر لمساومة الغرب، وبدأ في محاولة القضاء على هذا الخصم السياسي ضاربًا كل قنواته بما فيها قنوات الدعم الاجتماعي التي تؤمن له الأنصار، وكان البديل هو قنوات الدعم الاجتماعي التابعة للجيش المصري دون السعي لحل المشكلة من جذورها وهي الفقر، وكأن إفقار المواطن وجعله دومًا في حاجة إلى دعم جهة ما هو الرغبة الأساسية لدى العسكر الحاكمين في البلاد. جاء إذن القرار المتعلق بوضع يد الدولة على الجمعيات الخيرية التابعة للإخوان المسلمين وغيرها من قوى التيار الإسلامي، وهو القرار الذي يفتقر للدستورية لكونه لم يأت وفقًا لحكم قضائي وإنما لقرار من السلطة التنفيذية، وهو القرار الذي لم يراعِ البعد الاجتماعي المتعلق بتوقف المساعدات عن المحتاجين مع مرور وقت قبل وصول معونات الجيش لـ"المناطق المتضررة" من هذا الصراع السياسي، وهي المعونات التي قد تستمر لفترة ثم تتوقف!!! لا ضمانة لأي شيء في الوضع السياسي المصري حاليًّا!! كذلك يأتي التناقض والتضارب وتسييس الأمور في قضية فتيات 7 الصبح التابعة لجماعة الإخوان المسلمين. فهؤلاء الفتيات تلقين حكمًا بالسجن 11 عامًا وشهر بسبب إضرارهن بالأمن العام وحيازتهن أسلحة والانتماء لجماعة محظورة وغيرها من الاتهامات التي لا تتحملها ملامح الفتيات اللواتي لم يتجاوزن من العمر 21 عامًا!! لكن هذا القرار جاء بعده قرار آخر بتخفيف الحكم إلى سنة دون أي مبرر. يقول المؤيدون للعسكر إن الحكم الثاني جاء تخفيفًا لامتصاص غضبة جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما يمكن أن يعني أن القضاء يصدر أحكامًا مسيسة!! مرة أخرى نستند إلى مسألة "من فمك أدينك". هناك أمر آخر يتعلق بجماعة أنصار بيت المقدس التي نشطت في سيناء في أعقاب عزل مرسي، وهي الجماعة المحسوبة على حركات السلفية الجهادية والمقربة فكريًّا من تنظيم القاعدة. هذه الجماعة تشكلت في سيناء تحت سمع وبصر المخابرات العسكرية المصرية، نظرا لأن المصريين يعرفون مواقع الأنفاق وهو ما وضح في سرعة تدميرها في الحملة العسكرية على الجماعات المسلحة في سيناء. تشكلت الجماعة وتُرِكَت لتكبر لتحقق الأثر الإعلامي وهو أن هناك إرهابا ينبغي القضاء عليه. الأمر نفسه كان قد حدث مع اعتصامي رابعة والنهضة لأنصار مرسي؛ حيث ترك أسياد مصر الجدد هذين الاعتصامين يكبران لكي يتم استخدام ذلك فيما بعد كذريعة لاتهام الجماعة بالحشد والتعطيل وتكديس السلاح وكل الاتهامات التي وجدت آذانا صاغية صدقت وجود مدفع مضادة للطائرات في إحدى المدارس المجاورة لاعتصام رابعة!! وانساق الإخوان المسلمون من جديد وراء هذا الفخ!! ترك الأمور تتضخم لإحداث أثر إعلامي يساهم في تحقيق مكاسب سياسية فيما بعد. الظاهرة اللافتة في كل هذا تتمثل في الساسة الليبراليين الذين ينتقدون ما يفعله الإخوان المسلمون، علما بأنهم كانوا يحرضون عليه عندما كانوا في صفوف المعارضة الأمر الذي يبقيهم خارج دائرة المصداقية بامتياز. ولا يستحق هؤلاء الساسة أكثر من هذه الكلمات المحدودة لأن كلماتي أرقى من أن أخصصها للحديث عمن يمارسون التعري السياسي بامتياز بشكل أفضل من كل راقصات التعري في النوادي الليلية!
الخلاصة... ليس هذا المقال دفاعا عن الإخوان المسلمين فقد ارتكبوا الكثير من الأخطاء دون أن يحاولوا التوقف لمراجعة الأمر، فوجدوا أنفسهم خارج السياق، ووضعوا الشعب المصري معهم في مأزق شديد السوء ربما هو الأسوأ منذ حرب 1967. ولكن الفكرة الرئيسية هي وضع الأمور في نصابها بالقول إن ما يحدث حاليًا من حرب ضد جماعة الإخوان المسلمين هي حرب لتصفية الجماعة كخصم سياسي، وتستند إلى اتهامات بالإرهاب هي ليست صحيحة بالمطلق، ولكن الإخوان ربطوا أنفسهم وهم بالحكم بجماعات ذات تاريخ قريب من ممارسة العنف السياسي مما سهل تصديق بعض الشرائح للاتهامات الموجهة لهم بالإرهاب. الحل؟!! يبقى الشارع هو الحل، لأن ما يحدث للإخوان المسلمين سوف يتكرر مع كل قوة تشق عصا الطاعة للعسكر. لذا، على كافة القوى الشبابية التكاتف والتعاضد في سبيل التصدي لطغيان العسكر، مع عدم الانفضاض عن بعض في مرحلة كسب الغنائم، مثلما حدث في أعقاب ثورة يناير، وهو ما يعني ضرورة تهميش كافة القوى السياسية الرئيسية بما فيها الإخوان المسلمين أنفسهم الذين لا يريدون التخلي عن الحلم المستحيل بأن "مرسي راجع" وهو الحلم الذي ينسف الأساس العقلاني الذي يمكن البناء عليه لتصحيح الأوضاع السلبية القائمة في البلاد. ولكن السيناريو الأسوأ في رأيي هو أن يقوم بعض ضباط الجيش بالإطاحة بالقيادات الرئيسية فيه وتولي مقاليد الأمور في فترة انتقالية جديدة، فتضع القوى السياسية يدها في يد هذه القوى العسكرية الجديدة النزيهة التي أطاحت بالقوى العسكرية "غير النزيهة" مما يعيد الوضع للمربع الأول مرة أخرى. هل الشعب المصري بهذا الغباء؟! لا أعتقد ذلك، وإن كنت للأسف الشديد لا أستبعد أن يكون هناك قدر من عدم الوعي السياسي يؤدي إلى إطالة أمد الأزمة أو تحويلها إلى زاوية مماثلة للسيناريو الأسوأ. وتبقى كافة الاحتمالات مفتوحة.
#حسين_محمود_التلاوي (هاشتاغ)
Hussein_Mahmoud_Talawy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بين كنفاني وموريس... التوثيق الروائي والزيف الوثائقي!!
-
جيل النكسة وإحباطات الشباب... الحل العكاشي!!
-
التاريخ... بين ابن خلدون وسان سيمون
-
بعد حبس الفتيات وإقرار مسودة الدستور... الشارع هو الحل!!
-
وسط البلد من جديد... حكايات المصريين
-
إلى مصر مع التحية... هل عاد المد الثوري؟!
-
أبو بلال... التغربية أو ربما الشتات... هل من فارق؟!
-
محاكمة مرسي... مرسي فقط؟!
-
موشح أيها الساقي... عن التصوف والإبداع وأشياء أخرى!!
-
إنهم يفقروننا... فما الخلاص؟!
-
شبرا وعبد الباسط وبرج الكنيسة... ومصر...!
-
ملاحظات على فكر سان سيمون (3)... المجتمع المثالي
-
الوضع المصري... محاولة للفهم وربما الخلاص (4) كيف أخفق رجال
...
-
الوضع المصري... محاولة للفهم وربما الخلاص (3) الطبقة الوسطى.
...
-
الوضع المصري... محاولة للفهم وربما الخلاص (2) كيف حُشِدَ الش
...
-
الوضع المصري... محاولة للفهم وربما الخلاص (1) كيف حُشِدَ الش
...
-
ملاحظات على فكر سان سيمون (2)... الدين والطبقة الاجتماعية
-
ملاحظات على فكر سان سيمون (1)... التاريخ وتقدم المجتمعات
-
مصر... في زمن الإرهاب
-
مصر... بين ديكتاتورية اللحية وعسكرة الفساد
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|