يتلقى الإنسان الأفكار المختلفة فى شكل منظومات متنوعة من الأفكار المترابطة أو غير المترابطة: الأديان، والإيديولوجيات، والمذاهب المختلفة. إلا أن الأديان بطبيعتها ليست أفكارا مترابطة داخليا، أو بالأدق مترابطة ترابطا خارجيا ناتجا عن وحدة السلطة التى تنبع منها، فليس هناك ترابط فكرى بين الصلاة والصوم، أو بينهما وبين حد الردة، أو آداب التبول فى الخلاء.. وإنما هى متراصة تراصا منتظما بجانب بعضها البعض، بوصفها مجموعة الأوامر أو مدونة الأوامر الإلهية. أما المذاهب النظرية والفلسفية، فعناصرها تتواجد على مستويات مختلفة، ولا يؤدى الطعن فى جزء منها بالضرورة إلى سقوطها فأنت تستطيع أن تنقد تمييز كانط بين الجميل والجليل دون أن تسقط فلسفته الأساسية، ولكنك إذا نقدت مفهوم "الشيء فى ذاته" (*) عرضت النظرية لخطر كبير، وكذلك الأمر بالنسبة لماركس، فأنت تستطيع أن تعترض - على - مثلا - تقسيم الرأسمال إلى قطاع أ وقطاع ب دون مشاكل كبيرة، ولكن الطعن فى فكرة الصراع الطبقى - يضع النظرية كلها محلا للتساؤل.
تتبنى الطريقة النقلية إحدى المنظومات الفكرية المنقولة إليها ككتلة جامدة لا تمتزج ولا تتأثر بغيرها من المنظومات، ولا تقبل هذه المنظومات بالتخلى عن أحد أجزائها، ويصبح الانحراف عـــن أى فكرة فى هذه المنظومة هو خروج عــلى الدين أو الأيديولوجية أو المــذهب، فإذا كــان الإسلام - مثلا- يقوم عــلى الإيمان بالله وكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر، فإن الشك فى أى منها يخرج الإنسان من الإسلام، ومن يمتنع عن القيام بأحد فرائضه عامدا مع القدرة على القيام بها يصبح إما عاصيا أو كافرا أو بين المنزلتين، وفقا لمذاهب أهل السنة أو الخوارج أو المعتزلة على التوالى.
والخلاصة أن الدين كما يفهمه الإسلام السياسى ليس منظومة مترابطة، وإنما مدونة قانونية تفتقر إلى التماسك الداخلى - كما يتضح من الفقرة الأولى - ومسألة عرضها كمنظومة مترابطة منطقيا ليس فى الواقع سوى خدعة تقوم بها بعض أجنحة الإسلام السياسى نفسه، أو بالأدق : الذين يحاولون تفسيره تفسيرا عقلانيا.
وغالبا ما تبدأ الأديان والأيديولوجيات والمذاهب المختلفة كحركة نقدية لمنظومة ما أو جزءا من منظومة أفكار، فالمسيحية هى حركة نقد بصورة معينة لليهودية، والبروتستانتية كمذهب دينى قد قامت على أساس نقد مذهب آخر داخل نفس الدين المسيحى وهو الكاثوليكية، ولذلك فالبروتستانتية ليست مجرد مذهب أيضا فى المسيحية، إذ إنها فتحت باب التأويل على مصراعيه، ولذلك يوجد المئات من المذاهب البروتستانتية ، فى حين لا توجد سوى كنيسة كاثوليكية واحدة.
وسرعان ما تتحول حركة النقد الأولية إلى منظومة جامدة من الأفكار : إما أن يؤمن بها ككل أو يكفر بها ككل، و أى نقد من داخلها يتحول - إن آجلا أو عاجلا - إلى منظومة جديدة متميزة، فالماركسية نفسها قد بدأت كحركة نقدية كبرى للاقتصاد السياسى الإنجليزى، والفلسفة الألمانية، والاشتراكية الخيالية الفرنسية، ولكنها تحولت على يد الكثير من معتنقيها إلى نوع من المنظومة الجامدة شبه الدينية، لها نصوصها المقدسة التى يرجع إليها دائما، ولا يجوز لماركسى الخروج عنها رغم أنف ماركس نفسه.
الطريقة النقلية تسجن نفسها داخل منظومتها السلفية، وترفض النظر للمنظومات الأخرى، التى تنظر لها نظرة عدائية، وتعتبرها جميعها - وبكل ما فيها - الخطأ بعينه ؛ فهى تنفيها بنفى حقها فى الوجود، وتنزع عنها رداء الحقيقة التى تدعى أنها ترتديه وحدها وتصمها بعار الزيف والكذب، فالنقليون لا يرون إلا نوعين من المنظومات، منظومة واحدة صحيحة تعبر عن الحقيقة التى هى تراثهم المنقول، ومنظومات أخرى هى الخطأ بعينه.
وعلى النقيض من هذا فإن الطريقة النقدية لا تتلقى الأفكار والمنظومات الفكرية بإذعان تام، وإنما بروح النقد العلمى ؛ ولذلك فهى تفتح كل حواسها وكامل قدرات عقلها، لكل ما تتلقاه من الخارج، بل إنها لا تكل ولا تمل من البحث عن الحقيقة التى لا يمكن لها أن تصل إليها، إذا ما تعاملت مع الآخر بمنطق النفى المطلق، بل ونظرا لحيويتها فإنها تصبح قادرة على تناول ما تجده من مظاهر و أفكار محيطة بها ،وتهضمها وفق مناهجالعلم : بالتحليل والتركيب والتجربة المنضبطة الموضوعية… الخ ، و تمتص ما يتوافق مع هذه المناهج، وتلفظ ما لا يتوافق معها، وبما تمتصه وتستوعبه وباختباره فى الواقع ينمو أفقها ويتسع، وتدرك العالم كما هو فى الواقع لا كما هو فى الخيال أو فى الأسطورة.
إن المنهج النقلى النافى للآخر لا يدرك أن للحقيقة دائما أوجه متعددة ، وأحيانا متناقضة . وأننا لا يمكن أن نصل إليها إلا بالنظر إلى كافة وجوهها.يذكرنا هذا بمجموعة من العميان فى الهند_هكذا تحكى القصص- أتوا إليهم بفيل دون أن يخبروهم بحقيقته ،وطلبوا منهم أن يعرفوا طبيعته،فمن لمس قدمه قال أنها جزع شجرة،ومن لمس الأذن قال أنها ورقة شجرة كبيرة،ومن لمس الناب قال أنه قوس ،ومن لمس البطن قال إنها صخرة ضخمة،وهكذا لم يصل أحدهم إلى حقيقة الفيل .لأن كل منهم كان يلمس جانبا واحدا منه، إلا أن هذا لا يعنى عدم وجود الفيل كحقيقة موضوعية يدركها المبصرون الذين يرون الفيل دفعة واحدة من كافة وجوهه . وعلى العكس من هذا نرى النافين للآخر،الذين لا يعترفون بالتنوع فى الأسباب والنتائج،فى كل الأشياء ومظاهرها المختلفة بالوجوه المتعددة للحقائق أي أنهم أحاديوا الجانب.
تميزت الكثير من نظريات العلم فى القرن التاسع عشر وما قبله بأنها أحادية الجانب إلى حد كبير(راجع الفصل الأول فيما يتعلق بتفسير الضوء). ففى علم الجريمة مثلا نجد نظرية لومبروزو التى ترجع الجريمة إلى ارتداد المجرم جسمانيا ونفسيا إلى ما كان عليه أسلافنا المتوحشين من أشباه القردة.ولذلك فالمجرم لابد وأن يتميز بصفاتهم الجسمانية كالفك البارز و الجبهة المنحدرة والملامح المتنافرة . ثم النظريات التى ترجع الجريمة لأسباب نفسية، فالمجرم لديها هو شخص مريض نفسيا بالأساس ،ثم النظريات التى تفسر الجريمة بأسباب اقتصادية فقط،أو اجتماعية فحسب،وأخيرا النظريات التى ترجع الجريمة لأسباب وراثية أو فسيولوجية أو لكيمياء الجسم لا أكثر..الخ . ولاشك أن كل هذه النظريات تحدد سبب واحد فقط لتفسير الظاهرة إلا أنة وبالرغم من إمكانية صحته فى حد ذاته ليس كافيا وحده لتفسيرها.فالجريمة شانها شأن أى ظاهرة فى الوجود هى محصلة تفاعل أسباب متنوعة.وتفاعل الأسباب يؤدى إلى عالم من الاحتمالات لا يقين فيها و لاحتمية . فأسباب تعطل أسباب أخرى وأسباب تتضايف مع أسباب فتحدث النتيجة ،فالتربية قد تتدخل فى تقويم الأسباب الوراثية.والأمراض النفسية قد تصبح عاملا فى ارتكاب الجرائم أحيانا إلا أنها لا تسبب الجرائم أحيانا أخرى،ذلك لأن تأثير المرض النفسى فى ارتكاب الجريمة على سبيل المثال مشروط بتوافر شروط أخرى فتمنعه من التأثير أو تجعله مؤثر ، وأسباب تضاف إلى أسباب أخرى فتضاعف التأثير ،أو تغير من النتائج وهكذا فالأسباب الاقتصادية قد تسبب الجريمة إلا أن التنشئة الاجتماعية قد تساعد على ارتكاب الجريمة أو تحبط إمكانيتها.
كثيرا ما أسأل نفسى لماذا يشجع الناس فريق لكرة القدم ويتعصبون له بل ويذوبون فى نشاطه دون أن يشاركوه اللعب ولا المجهود قل أم كثر، وليس لهم أى مصلحة من أى نوع فيما قد يحققه من نصر أو هزيمة،و لا توجد أى حكمة فى أن يستنزفوا وقتهم وطاقتهم وأعصابهم فى الاهتمام المرضى بمعاركه .والسؤال الأهم لماذا يتعصبون ضد فريق آخر ولا يشجعوه بل ويكرهونه.وخصوصا أن كلا الفريقين قد يتبادلا الانتصارات والهزائم ،واللعب الجميل والردىْ.إذا كان ما فى هذا ما يبرر بشكل كافى تشجيع فريق دون آخر.
لماذا نستنكر ونرفض ونسخر بل ونندهش إزاء ما لم نعتاد عليه من أساليب للحياه من طعام وملبس وعادات وتقاليد بل ،ونندهش من ممارسة الآخرين لها ،وكأنها أمور تدل على خلل ما فى الطبيعة والعقل والذوق غير ملتفتين أنهم أيضا ينظرون إلى ما نمارسه بنفس الرفض والسخرية والاستنكار؟.
والإجابة هى فى طريقة نفى الآخر التى تضخم هذا الميل فى أن يتشابه البشر فى كل شىء ،وأن تتماثل أشكال الحياة ،فهناك دائما قالب واحد للحياة لا يجب الخروج عنه ،وهو ميل يرفض التنوع الذى ينبع من الميول المختلفة للبشر،هذا التنوع الذى يثرى الحياة الإنسانية، ويعنى إمكانية الإبداع.
ولا يعنى هذا قبول كل ما نراه من أساليب للحياة فهناك من السلوكيات وطرق التفكير ما يستوجب الرفض والإدانة والمقاومة وما لا يمكن قبوله اجتماعيا ،ومن ثم يجب نفيه.ومن ثم فنفى أو استيعاب الآخر لابد وأن يكون مشروطا بالضرورة الاجتماعية.وهى التى تحدد متى نتسامح مع المختلف، ومتى لا نتسامح.وهى أمور تتحدد وفقا للموقف من الصراعات الاجتماعية الجارية فى المجتمع حيث يتمترس الناس على جوانب الصراع وفقا لمصالحهم الاجتماعية فيمارسون نفى الآخر أو استيعابه.
النفى المطلق للآخر :
نستطيع أن نرصد ما تتميز به أى جماعة نقلية من نفى مطلق للآخر من خلال تقسيم سيد قطب - المفكر الأول للحركة الإسلامية الحديثة - للمجتمعات، وبالتالى ما تسودها من أفكار ونظم، إلى جاهلية وإسلامية، ولا شئ سواهما : فملة الكفر واحدة فى مواجهة ملة الإيمان الواحدة، فيكتب "ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلى، ولا ندين له بالولاء ؛ فهو بهذه الصفة - صفة الجاهلية - غير قابل لأن نتصالح معه. إن مهمتنا أن نغير من أنفسنا أولا لنغير هذا المجتمع أخيرا. إن أولى الخطوات فى طريقنا هى أن نستعلى على هذا المجتمع الجاهلى وقيمه وتصوراته، ولا نعتزل نحن عن قيمنا وتصوراتنا قليلا أو كثيرا لنلتقى معه فى منتصف الطريق.. كلا، إننا وإياه على مفرق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة، فإننا نفقد المنهج ونفقد الطريق (1).
و لكى يؤسس سيد قطب الفكرة التى يقوم عليها رفض الآخر بالكامل، فى حين أن على هذا الآخر أن يتخلى عن مجمل أفكاره ، ويتبنى بالكامل أيضا وبلا قيد أو شرط منظومته هو الفكرية، فأنه يحيل كل هذا الكم الهائل والمتنوع من الأفكار التى أنجزتها البشرية إلى أنها "إحدى مصايد اليهود العالمية (2)، وبالرغم من خطأ هذا الادعاء، ومدى سخافته وتفاهته، إلا أنه الحجة الأكثر شيوعا لرفض أكثر الأفكار رقيا وعلمية، سواء أكانت لغير اليهود مثل دارون أو لليهود مثل فرويد، وبهذا تتحول الكراهية الهستيرية لليهود إلى تأليه لهذه الأقلية الضئيلة من البشر (17 مليون من ستة مليارات)، التى أسهم عدد من أفرادها فى منجزات الحضارة العالمية، كغيرهم من البشر، لعدة أسباب منها تواجدهم بشكل مكثف(95% من يهود العالم) فى مركز هذه الحضارة فى العصر الحديث ولذلك كانت لإبداعاتهم ومساهماتهم كل هذا الوضوح بفضل هذا التواجد، بالإضافة إلى خروجهم من الجيتو فى القرن التاسع عشر،عندما تحرروا من الاضطهاد ،وبفضل الرغبة فى التحرر من الاضطهاد أيضا التى جعلتهم يحاولون إثبات الذات وإثبات الجدارة بالتحرر،وذلك بالمشاركة الإيجابية فى صنع الحضارة الإنسانية.وأخيرا والأهم أنهم شكلوا وما يزالون قطاعا هاما ومؤثرا فى الطبقة الرأسمالية السائدة اجتماعيا على اعتبار احتكارهم مهنة الصيرفة ثم أعمال البنوك فى المدن الحرة التى نشأت فيها البورجوازية. وهكذا يتم من زاوية التأكيد على العداء ، الإدعاء أن هذه الأقلية أنتجت للبشرية كل إنجازاتها المادية والفكرية، بينما بقيت الأغلبية خامدة وغبية : فهى إما أن تنتظر ما يمن به عليها اليهود من الإنجازات الفكرية الشريرة بطبيعتها، أو تقبل الإسلام كما يفهمه سيد قطب، باعتباره المنهج الإلهى الموجه للبشر.وهو بهذا يؤله العدو من حيث لا يدرى، أليس من الواجب وفقا لإدعاء سيد قطب نفسه. أن تتسيد تلك الأقلية العبقرية باقى البشر الأغبياء ،ماداموا على هذا النحو الذى يدعيه من العبقرية؟ .وبهذا تتحقق ادعاءاتهم العنصرية بأنهم شعب الله المختار ،وبأن لهم الحق الإلهي فى استعباد الأغيار.
ولأن عقلية نفى الآخر تتعامل بمنطق إما - أو، أو بمعنى آخر : اللونين الأبيض والأسود، الخطأ المطلق والصواب المطلق، فإن عادل حسين يبرر رفضه لكل النظريات ذات الأصول الغربية بشكل عام "بإذا كان ديننا يخالف دينهم- أى إذا كانت حضارتنا الإسلامية لها أصول تختلف تماما عن أصول الحضارة الغربية - فإن ما يتفرع عن أصولنا من نظريات يختلف بالضرورة عن نظريات أهل الغرب فى أمور الاقتصاد والاجتماع "(3).. وهكذا يتم رفض أرقى ما وصلت إليه البشرية من إنتاج فكرى ومن علوم اجتماعية، لا لخطأ فيها أو صواب، وأنما لمجرد إنها صادرة من الآخر، الذى يختلف عنا بالضرورة. ما أغرب هذا المنطق، فكأن الأوربيين نوع آخر من الكائنات الحية تختلف عقولهم عن عقولنا هكذا بالطبيعة البيولوجية المغروزة فيهم وفينا! والصحيح أن نقول الأوربيون وليس الغربيون لتوخى الدقة فنحن فى مصر وشمال أفريقيا غرب بالنسبة لأسيا كلها بما فيها روسيا وشرق أوروبا -وهكذا يتم تسوية كل ما يأتى من أوروبا أرقى ما فيه من إنتاج فكرى. بأحط ما فيه من إنتاج فكرى.
وبالنسبة لتأصيل عادل حسين لفكرة نفى الآخر، فهى محاولة لتطوير منظومة أرقى، حيث تحل فكرة الحضارة محل فكرة الله ، باعتبارها تنتج كل الظواهر الاجتماعية "بالمعنى الواسع للكلمة" أى ليس فقط النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل الفنون والآداب والأخلاق والقانون والفلسفة.. الخ ، وهى تنطوى على فكرة وجود جوهر حضارى تنبعث منه كل هذه المظاهر هذا الجوهر الواحد الذى يجعل كل هذه المظاهر مترابطة بشكل ما، إلا أن المضمون السياسى للفكرة يشبه تماما المضمون السياسى لفكرة سيد قطب، من حيث استبعاد ما لا يروق لعادل حسين من الأفكار والمؤسسات والقيم الغربية، وقبول ما يتفق مع "ديننا". وهكذا يمتزج الدين بالجوهر الحضارى - فى تقديره- دون أدنى تمييز بينهما ؛ فيتغافل عن أن الدين أحد مظاهر الحضارة المتعددة بطبيعتها فأفكار ابن الراوندى و زكريا الرازى الإلحادية، وأشعار أبى نواس ومسلم بن الوليد الماجنة، والاستبداد الشرقى للخلافة الإسلامية طوال العصور الأموية والعباسية والفاطمية والعثمانية.. تنتمى بلا شك إلى الحضارة الإسلامية، إلا أنه لا يعقل اعتبارها مظاهر ذات جذور فى الدين الإسلامى، كما أن الدين الإسلامى ذو خطاب عالمى يتجاوز القوميات والأعراق واللغات والأجناس بل والحضارات ويعتقد أتباعه أنه خالد إلى أن يرث الله الأرض وما عليها؛ ولذلك فإنه لا يصح ربطه – بشكل متعسف – بحضارة بعينها، أو قومية بذاتها إلا إذا رغبنا فى أن تقتصر رسالته على المنطقة الإسلامية فقط دون باقى البشر.
يرتبط فكر الإسلام السياسى عموما بفكر التحرر من التبعية للغرب، وهو يربط بين التبعية الثقافية والحضارية، وبين التبعية الاقتصادية والسياسية، فيكتب د. محمد مورو "فهنا يلعب نشاطه الثقافى -أى الغرب- دوره الحاسم فى تغيير العقول والقلوب، وأن يلحقنا به سياسيا واقتصاديا، وعليه لاستدامة ذلك أن يلحقنا به حضاريا وفكريا، وهذا ما يعبر عنه بالاستعمار الفكرى والحضارى(4).. والحقيقة التى لا يمكن أن ينكرها أحد، هى وجود تبعية حتمية للأمم المتقدمة التى تشكل فى عصرنا هذا "الشمال" من الأمم المتخلفة والتى تشمل الجنوب بما فيه منطقتنا إلا أن التحرر من التبعية لا يأتى من خلال رفض مظاهر التقدم المادية والفكرية للشمال، بل من خلال استيعابها، وبالتالى التقدم بتجاوزها بخطوات أكثر تقدما إن أمكن أو بالمشاركة فى رحلة تقدمها إنتاجا و استهلاكا، وهذا أضعف الإيمان.. هذا هو الطريق الوحيد للتحرر من التبعية، لا التمسك بمظاهر التخلف الذى يكرس التبعية ولا يقضى عليها.
فالحضارة الإسلامية قد بنيت على أساس من حركة الترجمة الواسعة فى العصر العباسى لتراث الروم والفرس والإغريق والهنود، وليس برفض هذا التراث، بحجة أنه أتى من الآخر المختلف عنا، وهم لم يقتصروا فى ترجماتهم على التراث الإنسانى فى العلوم الطبيعة فحسب، بل ترجموا الفلسفة والآداب، وتأثروا بالفنون والعادات والتقاليد.
وقد نشأت الحضارة الرأسمالية فى غرب ووسط أوروبا بتجاوز تراث القرون الوسطى الإقطاعية، معتمدة ومستفيدة من تراث الحضارة الإسلامية الأكثر تقدما، إلا أنها تجاوزته بعد أن أدى دوره بالنسبة لها، مع ملاحظة أن الحضارة الرأسمالية المسماة خطأ بالغربية - شكلت قطيعة نسبية مع ما كان قبلها من حضارات على شتى المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، بدءا من عصر النهضة والتنوير والثورة الصناعية والعلمية.وهى عملية استغرقت عدة قرون من أجل إنجاز تلك القطيعة.
نفى الآخر وتمثيل الحقيقة
نفى الآخر يؤدى بلا شك إلى تكفيره، والتكفير ونفى الآخر ليس خاصية عقلية لبعض البشر ولا المتدينين فحسب ولا الجماعات المتطرفة فقط،، فالدولة تستخدمه فى تبرير سياستها تجاه خصومها الجذريين، وتؤسس نفسها على أساس أيديولوجية تعتبرها وحدها الصحيحة وكل من يخالفها فهو خائن أو كافر : ألا تتهم الدولة المصرية الجماعات الإسلامية بالخروج عن صحيح الدين، كما يتهمها هؤلاء بالكفر والخروج عنه.
ومن منطلق نفى الآخر ومن ثم تكفيره - الذى هو إعدامه أدبيا - لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية حقيقية، ولا حرية فعلية، حتى على المستوى الضيق للديمقراطية كما هى موجودة ببلاد الشمال المتقدم.
ذكر الكسى جيلوخوفتسيف فى كتابه الثورة الثقافية من قرب هذا الحوار الذى دار بينه وبين أحد أفراد الحرس الأحمر الصينى:"لكن لماذا تهينون كرامتهم الإنسانية وتضربونهم وتبصقون عليهم؟وفكر الحارس قليلا قبل أن يقول:
إنه صراع طبقى وهؤلاء هم أعداؤنا الطبقين .وهل لدى العدو الطبقى كرامة إنسانية ؟إنه من المضحك أن تقول ذلك ! إننا لا نعتبرهم بشرا.إنه يجب علينا أن نسحقهم.حيث أن المجتمع القديم قد قدس معارف لا شأن لها .أن واجبنا اليوم يقضى بأن نقتلع من نفوس الجماهير كل احترام للمعارف الجدباء عند طبقة المثقفين القدامى.لذلك فنحن نطوف بهم على دقات الطبول ونلبسهم الأردية المزرية فلير الجميع كيف أن هؤلاء مضحكون وعديمو الحيلة . أن معارفهم لتساوى ملاليم .كيف كان هؤلاء فى الماضي ؟كيف رفضوا دراسة مؤلفات الرئيس ماو بمنتهى الوقاحة ؟ لقد تطاولوا علينا نحن جيل الثورة الناشئ ،ولم يفهموا أن مؤلفات ماوتسى تونج هى قمة الفكر الإنسانى"(5).
ويذكر ما كانت شبيبة الحرس الأحمر تردده فترة الثورة الثقافية "من أن الانتهازيين اليمينيين هم فقط الذين يسلكون طريقا يخالف أفكار الرئيس ماو!"(6).
وفى كتاب موجز تاريخ الحزب الشيوعى السوفيتى يكتب المؤلفون"وقد تعقد الوضع فى الحزب وفى هيئته القيادية فآي نعوت لم يلصقها الشيوعيون اليساريون بأنصار عقد الصلح لينين ورفاقه بالفكر فقد نعتوهم بالانتهازيين اليمينيين وبأنصار الاتفاق مع الإمبرياليين وبخونة مصالح البروليتاريا العالمية أما هم الثوريون فائقو الثورية فقد ذهبوا إلى حد التصريح بأنه من الصائب والعقلانى لما فيه من مصلحة الثورة العالمية الاقدام حتى على فقدان السلطة السوفيتية ،وقد وصف لينين تصريحهم بأنه فظيع وغريب.وكشف فى مؤلفاته وخطاباته العديدة خطوة فخطوة مغامرة اليساريين وجوهرهم البورجوازى الصغير"(7).
"وهب عضوا اللجنة المركزية كامينيف وزينوفيف إلى مساعدة تروتسكى وقبل ذلك كانا يعارضان تروتسكى ولكنهما شكلا ما سمى بالمعارضة الجديدة وشرعا مع تروتسكى يناضلان ضد الحزب وضد اللينينية هذا مع العلم انهما مثلهما مثل تروتسكى كانا يتستران باللينينية ويقسمان يمين الإخلاص لها ويستشهدان بأقوال لينين ويشوهان جوهرها "(8).
وعلى الجانب الليبرالى فى مصر فأن سعد زغلول "لم يشأ أن يمثل التيار اليسارى فى الوفد بل كان متشددا غاية التشدد فى موقفه تجاه اليسار ليس فقط فى مصر بل وحتى فى الخارج عندما ذهب إلى فرنسا ولم يجد من يستمع إليه غير الحزب الاشتراكى الفرنسى"(9).
"وقد دار نقاش هام حول قيام حزب شيوعى مصرى فى العهد الليبرالى الجديد وكان الدكتور وحيد رأفت قد أبدى رأيه فى حديث صحفى بأنه كان لا يمكن الحجز على حريات الأفراد والجماعات فى تكوين الأحزاب السياسية التى تلائمهم لتعبر عن مقاصدهم وبرامجهم ،إلا أنه يجب أن لا يسمح بقيام حزب شيوعى .لماذا ؟ لأن مصر ليست دولة شيوعية"(10).وهل كانت البلاد التى تسمح بنشاط الأحزاب الشيوعية. شيوعية؟.
وقد يتفهم المرء أن ينفى الماركسيون بعضهم البعض أو ينفون غيرهم ذلك لأن الماركسية منظومة فكرية مركبة من فلسفة ونظريات علمية وأيديولوجية، ومن ثم فقد يختلف الماركسيون فيما بينهم فى التفسير والتأويل والتحليل. كما يختلف الإسلاميون فيما بينهم كون الإسلام دين قائم على نص مقدس خاضع للتفسير والتأويل وفق القدرات والمصالح المتنوعة للمفسرين والمؤولين.أما أن يفعلها القوميون العرب والذين يستندون إلى فكرة سياسية بسيطة هى أن السكان ما بين الخليج العربى والمحيط الأطلنطى، أمة واحدة مقسمة بفعل الاستعمار إلى أقطار مختلفة، وأن على هذه الأمة أن تتوحد.وبرغم ذلك فأن حزب البعث العربى الاشتراكى الذى يعتبر نفسه حزبا قوميا واحدا على نطاق العالم العربى بأسره منقسم إلى العديد من القيادات القومية والقطرية، كما أن مؤسسه ميشيل عفلق قد أنتقد الوحدة مع مصر بعد الانفصال على أساس الاختلافات الإقليمية بين مصر وسوريا ،وبسبب سيطرة المصريين على دولة الوحدة متناسيا شعاره الشهير "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" وبسبب استبداد جمال عبد الناصر ،متناسيا أنه هو الذى كان المفكر الأول والمؤسس لاستبداد البعث فى سوريا والعراق
والغريب أن حزب البعث العربى الاشتراكى يحكم كل من سوريا والعراق منذ ثلاثين عام، ولم نسمع عن أى تحرك وحدوى جاد بين البلدين .وأن كنا نسمع فقط عن الصراع بينهما .وأن كان العراق قد حارب إيران لثمان سنوات، وغزا بعدها الكويت ،إلا انه لم يهاجم إسرائيل التى تحتل الأرض العربية منذ نصف قرن .والأرض السورية منذ ما يزيد عن ثلاثين عام.
وقد أتهم ساطع الحصرى ميشيل عفلق بالعقوق بالقومية العربية عندما هاجم جمال عبد الناصر بعد الانفصال ،إلا أنه علل ذلك بأن عفلق كان يرفع شعاره القومى حبا فى الزعامة لا حبا فى القومية(11). والحقيقة أن تفسير المسألة أعمق من ذلك بكثير،إذ تجدها فى فكرة التمثيل الوحيد للحقيقة .فالعقل النافى للآخر يظن أنه وحده الذى يمتلك الحقيقة،وأنه ممثلها الشرعى الوحيد، وأنه لا يقبل أن يشاركه آخر هذا التمثيل.فكما كان الوفد ليس حزبا من الأحزاب ,إنما هو إرادة الأمة، فالبعث ليس حزبا من الأحزاب وإنما هو ممثل الأمة الذى لا يجوز لأحد دونه التحدث باسمها أو تحقيق أمانيها.ويتدرج التمثيل من الحزب لأحد الزعماء المتنافسين على التمثيل دون سواه.عبد الناصر أو عفلق ، صدام أو الأسد .
فقد دافع مكرم عبيد عن التصرفات المنافية للديمقراطية لقيادة الوفد بقوله: "إن ما قيل عن استبداد سعد أو النحاس واستئثارهم بالرأي كل هذا كلام لا طائل تحته ولا معنى له لأن محور الوفد هو إرادة الأمة وليس إرادة سعد أو مصطفى"(12). ولأن إرادة الأمة تقديرية ومفترضة فأن من تمثلها هى إرادة الفرد الزعيم وهى إرادة حقيقية .
كيف ينظر المتعصبون دينيا إلى الآخرين؟
عندما يصبح الاختلاف فى الرأى مبررا مشروعا للكراهية والرفض والتكفير، لدى طريقة نفى الآخر، فإنها تنظر للآخر ليس كما هو فى الواقع، بل بما تحب هى أن تراه عليه من سوء ، وبالتالى فإن المتعصبين للمذاهب المتباينة لا يرون الآخرين إلا من منظورهم هم – وسأعطى القارئ بعض الأمثلة الصارخة فى جهلها ومفارقتها للواقع، والبالغة فى عماها.. إلا أنها تعبر وبعمق عن مدى ما يمكن أن تصل إليه العقليات النافية للآخر -: كيف كان يرى المسيحيون فى أوروبا فى العصور الوسطى النبى محمد والمسلمين ؟ إنهم كانوا يرون أن "محمدا ساحر دمر الكنيسة فى أفريقيا والشرق بالسحر والخداع وبإباحة الاختلاط الجنسى العام"(13)!!، و"تعزى للمسلمين عبادة أصنام.....و كان هؤلاء - المسلمون - يصفون المسيحيين "بالشرك"، معبودهم الرئيسى هو محمد إله المسلمين الرئيسى"14)!! ولا شك أن أى ملم بالإسلام وتاريخه ولو بشكل سطحى، سيعرف مدى سخف كل هذه الأقاويل، ومفارقتها للحقيقة.
وينظر أصحاب هذه العقلية إلى كل المخالفين لهم على أنهم كيان واحد لا تمايز بينهم، "فالكاثوليك الفرنسيون - مثلا - يفضحون المؤامرة ضد التقدم والحقيقة اللذين تمثلهما الكنيسة.."المؤامرة الصادرة عن جبهة يمثل فيها، مع المسلمين، البروتستانت والبريطانيون والماسونيون واليهود.. المصطفون بالتساوى تحت إمرة إبليس"(15). وبالمثل ينظر البروتستانت إلى الكاثوليك على أنهم "أصحاب العبادات المتعددة المشبوهة"(16). وهكذا أما المسلمون - من أصحاب طريقة نفى الآخر - فإنهم يرون دينهم.. على خلاف الأديان الأخرى، فإن الإسلام لا يسمح بالغنى إلا بعد توفير حد الكفاية - "الكفاف". للفقراء" (17). والسؤال الآن : هل أصدر كاتب هذه العبارة حكمه هذا عن دراسة مقارنة لكافة الأديان على الأرض عبر التاريخ البشرى ليعرف ما إذا كانت الأديان الأخرى لا ترى مثل ما يراه الإسلام فى هذه المسألة ! والحقيقة أنه مثل كل أصحاب العقليات النافية للآخر لا يهمه أن يرى الآخرين كما هم فى الواقع، كما لا يحب أن يرى نفسه كما هو فى الواقع، وإنما يحب أن يرى نفسه والآخرين كما هم فى خياله.
الشرق الروحانى يستعلى على الغرب المادى !!
لاحظت فى أحيان كثيرة أن بعض من أعرفهم من أصحاب العقليات النافية للآخر يرفضون الاطلاع على ما يقوله الغير وما يكتبه الآخرون مما يختلف مع ما يعتقدون، وأن بعضهم يتساءل عندما يعرض عليه كتاب أو مقال ليقرأه : هل سيفسد هذا عقلى ؟ فهم يخشون على أنفسهم من التأثر بما يكتبه الآخرون، حيث إنهم مكتفون بما هم به مؤمنون، وهذه الظاهرة تحمل وجهين متناقضين : الأول هو الخوف من التأثر بالآخر، وهو أمر لا يمكن أن ينشأ إلا من شعور قوى بهشاشة ما يؤمن به، لأنه لو كان يشعر بقوة حجته ما خاف الاطلاع على فكر الآخر، الوجه الآخر المتناقض هو الاستعلاء على الآخر، والاكتفاء بما تحمله "الأنا" من منظومة أفكار، وما تقدسه من نصوص، وما ترجع إليه من مصادر معتمدة.
وقد كان الأكثر صراحة فى الدعوة المتطرفة لهذه الطريقة ومنظرها الأكبر هو سيد قطب الذى كتب عن نفسه.. "فإنما عرفت الجاهلية على حقيقتها، وعلى انحرافها وعلى ضآلتها وعلى قزامتها وعلى جعجعتها وانتفاشها وعلى غرورها وادعاءها كذلك وعلمت علم اليقين أنه لا يمكن أن يجمع المسلم بين هذين المصدرين فى التلقى"(18) وهكذا محى سيد قطب كل ما تعبت البشرية فى إنجازه عبر آلاف من السنين فى شتى مجالات الفكر والإبداع بجرة قلم، وحوله إلى شئ كالعدم ، فى لغة خطابية عاطفية تميز الفكر الدينى، لمجرد أن يعبر عن شديد إيمانه بالإسلام، وليس نتيجة مقارنة موضوعية بين ما يسميه جاهلية، وبين يعتبره هو إسلاما !!
"ويكتب سيد قطب أيضا أن.. "المؤمن هو الأعلى.. الأعلى سندا ومصدرا، فما تكون الأرض كلها.. وما يكون الناس.. وما تكون القيم السائدة فى الأرض.. والاعتبارات الشائعة عند الناس.. وهو من الله يتلقى، وإلى الله يرجع، وعلى منهجه يسير (19)؟!وبالطبع فأن الآخرين يعتبرون أنفسهم الأعلى هم أيضا لما يستندون إليه من مرجعيات مختلفة يرونها الأكثر اقترابا من الحقيقة.
واستمرارا لهذا الاستعلاء يكتب د. محمد عمارة "فعلى حين لا نجد "للنقل" مكانا مع "العقل" فى الحضارة اليونانية، ولا نجد "للعقل" مكانا مع "النقل" فى الجانب الدينى بالحضارات التى انطبعت بالمسيحية.. نجد الحضارة العربية الإسلامية، انطلاقا من الجوهر الأصيل والنقى للفكر الإسلامى، تقيم توازنا دائما بين هذين السبيلين من سبل الاستدلال والهداية والرشاد"(19).
ولأن الاستعلاء على الآخر يقوم غالبا على المغالطة، فان الدكتور محمد عمارة يتناسى أن محور الفلسفة المسيحية من القديس أوغسطين إلى توما الأكوينى وغيرهما.. ما كانت سوى الطبعة المسيحية لعلم الكلام الإسلامى، وأن فلسفة أوروبا فى العصور الوسطى، هى امتداد بشكل ما للفلسفة الإسلامية فى نفس العصور، وأن محور هذه وتلك هو العقل والنقل والتوفيق بينهما.. وأن كلتا الفلسفتين تم تجاوزهما من قرون عديدة فى الفلسفات الحية، وإن كانتا ما تزالان تدرسان كجزء من التاريخ الفلسفى فى الجامعات.. فالاستعلاء على الآخر يعنى أيضا وكما يكتب د. محمد عمارة "أن الخلافة لابد أن تكون عربية قرشية - والقرشية كانت دائما رمزا لرفض حكم غير العرب للعرب" (20). ومعنى هذا أنه لابد أن لا يحكم العرب غير العرب فقط وإنما أن يخضع الجميع للقريشيين، وغير مسموح بالعكس، رغم أن الإسلام دين عالمى يتجاوز القومية والعصبية القبلية.
لعل من أبرز الأساطير فى بلادنا التى تنبع من هذه النظرة الاستعلائية هى أسطورة "الشرق الروحانى والغرب المادى" وهى أسطورة أدنى بكثير، وأقل منطقية، من أشد الأساطير بدائية وسذاجة و مع ذلك فهى "الاسطوانة المشروخة" التى يرددها الجميع دون تفكير - كتابة وشفاهه – و ولذلك فإن التفسير الجاهز (كالختم) لكل ما يظهر فى مجتمعنا من ظواهر غريبة لم تكن سائدة من قبل هو أن هذه الظواهر تنبع من التقليد الأعمى للغرب المادى، والمتمرد على تراثنا الروحى، فالإنسان الغربى لا يفهم سوى إشباع غرائزه مستبعدا الإشباع الروحى، أما نحن فكائنات روحية تعلى من شأن رغبات الروح بالنسبة لرغبات الجسد. والحقيقة التى يتغافل عنها هؤلاء هى أن أى مجتمع بشرى من أكثر التجمعات البشرية بدائية إلى أكثرها رقيا، وفى أى مكان على الأرض، وفى أى فترة من التاريخ البشرى.. لا يقوم إلا على نوعين من الإنتاج : إنتاج مادى يلبى احتياجاته المادية، وإنتاج فكرى من أفكار سياسية وقانونية واجتماعية وفنون وآداب وعلوم وفلسفات، وعادات وتقاليد ومعايير أخلاقية وسلوكية.
وإن تلك الحضارة الرأسمالية المسماة بالغربية والموصوفة بالفساد والمادية والانحلال - والمبشر بسبب ذلك بانهيارها الوشيك - أعطت الإنسانية مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ومفاهيم المساواة والحرية والإخاء والعدالة الاجتماعية، ولا يمكن أن تكون مجرد حضارة مادية فقط، فى حين أن ما وصلت إليه تلك الحضارة من فكر وفلسفة وآداب وقيم أخلاقية أرقى بما لا يقاس من كل ما أنتجته الحضارات الأسبق تاريخيا.. ليس لأن صانعيها أفضل أو أرقى من بقية البشر، ولكن فحسب لأنهم قد توافرت لهم الظروف الموضوعية، ليبدءوا صنع أحدث حضارة بشرية بنيت على إنجازات ما قبلها من حضارات بما فيها الحضارة الإسلامية ولأن طبيعة العلاقات الإنتاجية السائدة فيها وما يرتبط بها من قوى إنتاج كان لابد وأن يفرز تلك المنتجات الفكرية الأرقى.
و ها هى الآن قد خرجت من حدودها الجغرافية الضيقة لتصبح حضارة عالمية، رأسمالية كما يصفها سمير أمين، يشارك فى إنجازاتها كل البشر من كل مكان فمحمد عبد السلام المسلم الباكستانى يعمل مع ستيفن واينبرج المسيحى البريطانى، ويحصلان معا عن جائزة نوبل فى الفيزياء على عملهما المشترك، ويكافح الملايين من البشر من أجل حقوق الإنسان التى أعلنتها الثورة الفرنسية، والمنتشرين فى كل بلاد العالم بلا استثناء، وتصبح الألعاب الأوليمبية وحماية البيئة ومكافحة المخدرات مثار اهتمام كل سكان الأرض.
والحضارة المسماة الغربية ككل حضارة بشرية وجدت بها شتى الاتجاهات والمدارس، فمن هيجل المثالى إلى فيورباخ المادى، ومن نيتشة اللاعقلانى إلى كونت الوضعى، و من ميل الليبرالى إلى هتلر الفاشى.. وإن شئنا أن نقرأ أروع الانتقادات لمجتمع الاستهلاك وقيمه، فسنجدها عند فلاسفة مدرسة فرانكفورت واليسار الجديد، وإذا كانت الرأسمالية قد نشأت فى الغرب فإن أقوى منتقديها والمناضلين فى سبيل القضاء عليها أتوا أيضا من الغرب، الخرافة الشائعة ترفض أن ترى فى الغرب وحضارته ما تنطوى عليه من مثل عليا وأخلاق ،ومن نهضة روحية وأدبية وفنية وفلسفية،والواقع أن فكر الإسلام السياسى يرى فى مفهوم الفرد الحر الذى أسسته تلك الحضارة العدو الأساسى:فهو يرفض الحرية الفردية ويخاف من مظاهرها المختلفة وهو الأمر الذى يشترك فيه مع الأصوليات المسيحية واليهودية.
فكل ما يستفز هؤلاء من مظاهر الحضارة المسماة بـ "الغربية" فى الحقيقة، إنما هو : الحرية الفردية، وخصوصا الجنسية، التى ما عرفها الغرب إلا منذ عقود قليلة، تلك الحرية التى تمارس هناك علنا، وتمارس فى أشد البلاد انغلاقا ومحافظة سرا، ثم الفصل بين العلم والغيبيات تماما، فكل العلوم من طبيعية واجتماعية وإنسانية، تدرس الواقع كما هو بصرف النظر عن أى غيبيات، وهو ما يعبر عنه عادل حسين بقوله : "إن آفة عصرنا هى انهيار الروحانيات مع سيادة النزعة المادية والدنيوية، فهذه النزعة هى أساس الحضارة الغربية المهيمنة…"تلك الحضارة المادية التى تفتك بها ميكروبات الفساد وأوبئة الهلاك"(21)،والسؤال الآن هل كان من الممكن أن تنطلق الحضارة الغربية بكل ما أنجزته من قفزات هائلة للغاية- بالقياس لما قبلها-لولا هذا الفصل الضرورى بين العلم والغيبيات ..ليدرس عالم الطبيعيات الطبيعة بكل مظاهرها ،وعالم الاجتماعيات المجتمع بكل مظاهره، وعالم الإنسانيات الإنسان بكل مظاهره، كما هم فى الواقع، دون قيد عليهم من أفكار وعقائد مقدسة مسبقة، وعلى أى منهم أن يثبت لنا صدق ما اكتشفه بالتجربة والممارسة العملية، فإن أخطأ فإنه لا يتردد فى التراجع عما كان يعتقد، وإن أصاب فإن من حقه علينا أن نصدقه، وحتى يستطيع أن ينجز ما ينجزه فإننا يجب علينا أن نمنحه كامل الحرية فى البحث العلمى ؟! هذا هو ما فعلته البرجوازية الأوروبية، وهو ما أحدثت به ثورتها، وهو أعظم ما أعطته هذه الحضارة للإنسانية.. وإن كان فى نفس الوقت العار الأكبر الذى يلوث شرف هذه الحضارة من وجهة نظر الأصولية الإسلامية والدينية عموما.
وعلى نفس هذه الحرية قامت النهضة الفنية والأدبية، فمن خلال هذه الحرية فضح لنا ديكنز مساوئ الثورة الصناعية التى عرفها البعض من خلال أوليفر تويست وأوراق بيكويك وأيام عصيبة.
فالأصولية - إذن - تتباكى على العبودية والقهر والاستبداد الذى كان يرزح فيهم الإنسان فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية، وتريد أن تدفع الإنسانية بأسرها إلى هذا الماضى البغيض.. بدلا من أن تدفع الإنسانية إلى مزيد من الحرية والإخاء والمساواة، وبدلا من تجاوز القبح الرأسمالى بكل بشاعته، وهو الأكثر جمالا من القبح الإقطاعى وما قبل الرأسمالى، إلى ما هو أكثر جمالا من الاثنين. فالاشتراكية بكل ألوانها - كحركات ذات تاريخ طويل فى نقد الرأسمالية بكل مظاهرها - هى نفسها وليدة نفس الحضارة، ولادة نقيض الشيء منه، إلا أن هذا لم يكن بمنطق الردة إلى الماضى الذهبى، ولكن بمنطق المزيد من التقدم والتجاوز لكل ما هو سلبى فى هذه الحضارة.
ومع ذلك فالعودة إلى الماضى كما تعلن الأصولية هو ذاته خدعة، حيث لم تعد الثورة الإيرانية بالشعب الإيرانى إلى الماضى فيما هو أساسى، وينتمى إلى الماضى، فكل من قوى وعلاقات الإنتاج تنتمى للرأسمالية، وبلا شك فإن جهاز الدولة الإيرانى جهاز عصرى يشبه غيره من الأجهزة فى الدول المختلفة، وفيما عدا المظاهر الشكلية التى تنتمى للماضى - كأزياء النساء، وولاية الفقيه وغيرها... - تظل إيران الإسلامية تنتمى للعصر الحديث وللحضارة الرأسمالية بالرغم من القناع الذى ينتمى للماضى.
نتيجة :
مسألة نفى الآخر هى أولا :- نتيجة للتفكير السلفى،و النقلى بشكل عام. وثانيا :- هى باعث ودافع لمسألة البناء السلطوى القائم على فكرة التمثيل الوحيد للحقيقة سواء أكانت الدين كما فى الحركات السياسية القائمة على أساسه.أو القومية كما فى الحركات القومية أيا ما كانت القومية التى يتحدثون باسمها.أو الطبقة العاملة كما فى الحركات الماركسية اللينينية. فالأيديولوجية الإسلامية التى لا يوجدها سوى مبدأ الخضوع للسلطة الإلهية، حيث كل مخالفة للأوامر كفر، وكل نظام آخر يخرج عن ما تراه جماعات الإسلام السياسى للإسلام كفر.. حيث يأتى التكفير والنفى أساسا من وجود تفسير وحيد صحيح للنص وللمنقول، وبالتالى فإن كل ما يخالفه، هو فى صف العدو. ومن هنا فلا حرية لفكر أو رأى آخر.. ومن هنا يأتى الطابع الاستبدادي لكل حركات الإسلام السياسى، وكل حركة سياسية تعتمد على قداسة نص ما أو منقول بعينه سواء أكانت دينية أم علمانية من الحركة الإسلامية إلى الحركة الشيوعية التقليدية مرورا بالناصرية و البعثية وأي حركة فاشية أخرى.
فالماركسيون اللينينيون يضعون كل من يخالفهم الرأى والتحليل فى صف البرجوازية الكبيرة أو الصغيرة، ومن ثم لا يمنحونه شرف الانتماء للطبقة العاملة، حيث يعتبرون أنفسهم وحدهم المعبرين عن مصالح ومفاهيم الطبقة العاملة، مهما كانت ممارستهم أو أفكارهم، ولا تنشأ هذه الطريقة بين الماركسيين اللينينين تجاه غيرهم فحسب بل وبين الماركسيين اللينينين أنفسهم أحزابا وأفرادا حينما ينشب بينهم الخلاف فى الرأى.. وكأنما للبورجوازية آلاف الاتجاهات أما الطبقة العاملة فلها اتجاه واحد صحيح.. فيتشابهون مع سيد قطب صاحب فكرة "ملة الكفر الواحدة ضد ملة الإيمان الواحدة".