|
التهميش الْمُركَّب للنساء في فيلم -صمت القصور-
عائشة خليل
الحوار المتمدن-العدد: 4314 - 2013 / 12 / 23 - 08:14
المحور:
الادب والفن
"صمت القصور" فيلم تونسي من إخراج مفيدة التلاتلي، أنتج عام ١-;-٩-;-٩-;-٤-;- إنتاجًا تونسيًا فرنسيًا مشتركًا وحاصل على جائزة السعفة الذهبية، كما تم إدراجه في المركز الخامس ضمن أفضل ١-;-٠-;-٠-;- فيلم عربي في دراسة "سينما الشغف" الصادرة الشهر الماضي (نوفمبر ٢-;-٠-;-١-;-٣-;-) عن مهرجان دبي السينمائي. ولقد برزت من خلاله النجمة اليافعة آنذاك هند صبري، فكان إطلالتها الأولى من خلال الشاشة الفضية تبعتها إطلالات كثيرة تألقت فيها. يحكى الفيلم جزءا يسيرًا من حياة نساء مهمشات في المجتمع التونسي تحت الاحتلال الفرنسي في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. فعلياء ذات الخمس وعشرين ربيعًا تعود إلى القصر الذي نشأت فيه حينما يتناهى إليها خبر وفاة سيد القصر "سيدي علي" وتجوب علياء في جنبات القصر مسترجعة جزءًا من ذكرياتها كفتاة يافعة قبل مغادرتها إياه منذ عشر سنوات. علياء الفتاة التي تجهل نسبها، مشغولة بسؤال يلح عليها عن هوية أبيها. سؤال يرافقها في سنوات صباها وشبابها الباكر، وتحمله معها حين تغادر القصر وحين تعود إليه. تطرحه مرارًا على والدتها التي تكذب مرة، وتراوغ مرة، وترفض الإجابة مرات، ثم تطرحه علياء في نهاية الفيلم على "خالة حدة" إحدى خادمات القصر الأكبر سنًا، فتجيبها الأخيرة بأنه من الأفضل ترك بعض الأسئلة بلا إجابة، فالصمت قد يكون أبلغ الإجابات في بعض الأحيان. وعنوان الفيلم "صمت القصور" يستدعي المشاهد للتأمل في المسكوت عنه داخل أسوار تلك القصور، وبتحديد أكبر صمت نساء القصور. فنساء القصر صامتات عما يجري فيه أوعما يجري في حياتهن. أم علياء "خديجة" باعها أهلها بالزهيد من المال إلى أهل القصر ووعدوها بالعودة بعد أسبوع، فانتظرتهم أسابيع ولكنهم لم يأتوا. وحين تواجهها علياء بسؤالها عن سبب عدم مغادرتها القصر، يكون جوابها وأين أذهب؟ ولمن؟ تعلم خديجة جيدًا أن في المجتمع البطريركي تكون الفتاة في حماية رجل، بينما هي لا رجل لها، ولذا تستسلم لقدرها داخل أسوار القصر. إحدى الخادمات الأخريات قضت دهرًا في انتظار عودة ابن عمها الذي جاء ليخطبها قبل أعوام ولكنه رُد من على أسوار القصر، فتواسيها الأخريات بأنه حتمًا سيعود وفي تلك المرة سيستقبل بالترحاب. وتنتظر أخرى أن يأتيها فارس الأحلام ممتطيًا جواد. إذن فجميع النساء في حالة انتظار، وأمل ويأس مُركب. ولكن الفيلم لا يغرق في تفاصيل انتظار ممل أو يأس مقيت، وإنما يتيح للمشاهد نافذة على المتع الصغيرة التي تتسلى بها تلك النسوة، في اجتماعاتهن التي يأنسن فيها بالغناء والتسلية للترويح عن النفس.كما تنتقل الكاميرا بشكل سريع بين سكان القصر: ملاكه وخدمه، لترسم صور متناقضة لحياتهم. لعل أبرزها التناقض بين تنشئة فتاتين ولدت إحداهما (سارة) لسيدة من ساكنات القصر، بينما ولدت الأخرى (علياء) لإحدى الخادمات به. تتصادق الفتاتان، ولكن الطبقة الاجتماعية تفرق بينهما دومًا. وصمت نساء القصر يتخذ بعدًا أعمق من خلال أحداث الفيلم. فيتعرف المشاهد من خلال علياء على طبيعة العلاقة بين خادمات القصر وأسياده، فللخادمات دور إضافي بجانب خدمة سادة القصر هو دور المحظيات اللواتي يخدمن الشهوات الجنسية لأسيادهن كلما عنَّ لهم سواء برضا الخادمة أو بغير رضاها. وتتواطئ الخادمات في فرض سياج من الصمت على ما يدور في الغرف المغلقة فلا يذكرنه ولا حتى عرضًا. كما لا تذكره سيدات القصر، اللواتي وإن تأففن من الانتباه الذي تلقاه الخادمات من أزواجهن، إلا أنهن لا يتحدثن عن ذلك صراحة. وحتى إن أغلظت بعض سيدات القصر القول للخادمات يطبق الصمت على الجميع. فكل نساء القصر صامتات ومتواطئات على الصمت. وحين تشهد علياء اغتصاب أحد أسياد القصر لوالدتها تعاني أزمة نفسية حادة تصمت معها عن الكلام، وتعكس غضبها على والدتها فترفض التجاوب العاطفي معها، وتبوء جميع المحاولات من طب وعطارة وزار في إخراج علياء من أزمتها النفسية، فلا تنجح إلا أنغام العود الذي شغفت بها في مساعدتها لاستعادة عافيتها. بدأت علياء في الغناء صغيرة، وأجادته، وجذب صوتها الرائع انتباه أسيادها الذين بدأوا يستدعونها للغناء في جلساتهم الخاصة والعامة. وهذا الانتباه للفتاة اليافعة أقلق والدتها التي رأت فيه تكرار علياء لمصيرها المشئوم، ولذا نبهت عليها مرارًا ألا تسمح لأحد بالاقتراب منها أو لمسها، وبعدم الذهاب إلى القصر، كما أن خديجة تنفجر في وجه أحد أسيادها حين يشيد بصوت علياء، وتحتج لآخر بمرض علياء وعدم قدرتها على الغناء. ولكن الأم التي تأمل في مصير أفضل لابنتها تعلم أن الأمر مقضي إن عاجلا أم آجلا، وما كانت محاولاتها اليائسة للتمرد إلا محاولة لتأجيل القدر المحتوم لابنتها. وحين تنزف خديجة كثيرًا أثناء محاولات إجهاض نفسها، تنقضي حياتها، بينما تغادر علياء القصر لتحترف الغناء وتخط لذاتها مصير مختلف عن أمها، وتعود وفي أحشائها جنين ينمو تتمنى أن يكون فتاة لتطلق عليها "خديجة" ولتمنح لجنينها حياة لم تعرفها والدتها. ويعرض الفيلم عدة طبقات من التهميش الذي تعاني منه النساء. فالإطار العام للفيلم هو تونس الخاضعة للاحتلال الفرنسي، حيث المواطن التونسي مواطن من الدرجة الثانية في مقابل الطبقة الاستعمارية، فسادة القصر الذكور يعون وضعهم مقابل الفرنسيين بالرغم من تواطئهم معهم. والمستوى الثاني من التهميش هو مستوى الجندر أو النوع الاجتماعي، فبالرغم من وضعهن الاجتماعي تعاني نساء الطبقة العليا من تهميش (إضافي) لكونهن نساء، ولذا فليس لهن خيار إلا التواطؤ على الصمت مما يحدث من الرجال تجاه الخادمات، وإلقاء اللوم على الخادمات ذلك أن لوم السادة الذكور غير وارد. أما المستوى الثالث فهو الطبقة الاجتماعية فالخادمات (المهمشات بفعل الاستعمار والجندر) مهمشات أيضًا بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أجبرتهن على التواجد في القصر ومنعتهن من الخروج منه. وتعاني علياء (بالإضافة إلى المستويات الثلاثة السابقة) إلى مستويين آخرين من التهميش نظرًا لصغر سنها الذي يجعلها عرض للتحرش الجنسي حتى من أولاد أسياد القصر، ولكونها مجهولة النسب مما يؤثر سلبًا على علاقتها بمن تحب. صمت القصور إذن يستدعي تهميش المرأة من الطبقات الاجتماعية الدنيا في المجتمع التونسي إبان الاستعمار. واستطاعت المخرجة المبدعة أن ترسم صور حية لتلك النسوة، مزجت فيها بين اليأس والأمل، وبين الألم والفرح، وبين الصمت والشدو لتخرج لنا فيلمًا ممتعًا يستحق التأمل والإعجاب. ويستحق فضلا عن ذلك أن يدرج كعلامة مميزة في تاريخ سينما الشغف العربية.
#عائشة_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التغني بالخضوع يتخطى حاجز المليون!!!
-
السم في -عسل أسود-
-
النكات والتحرش
-
العنف على أجساد متباينة
-
درية شفيق والحقوق السياسية للمرأة
-
الموضة والقيم الذكورية
-
النساء والطعام
-
العُصبة الوردية
-
الفطنة العاطفية
-
كاتب نسوي من الصين: لي شو-شين
-
فرنشسكا دينيز نسوية من البرازيل
-
نسوية من الهند: شريفة حامد على
-
النسوية اليابانية كشيدا توشيكو
-
الأدوار المرسومة اجتماعيًا
-
أوباما والناخبات
-
المرأة في السينما المصرية: حريم سلطان بورنجا العظمى
-
الجسد في الثقافة البطريركية
-
عن التحرش. على المزمار. في أمريكا!!!
-
تعليم المقهورين من فريري إلى بوال
-
برنامج جالز: تجربة من أفريقيا
المزيد.....
-
-بندقية أبي-.. نضال وهوية عبر أجيال
-
سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي
...
-
لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
-
مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م
...
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
-
وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث
...
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|