وليد الشيخ
الحوار المتمدن-العدد: 4312 - 2013 / 12 / 21 - 06:13
المحور:
الادب والفن
بعد أن أطلت في سنواتها الأخيرة، بمطالع شعرية تتغنى بها، فيما أنفاسها تخفت، وذاكرتها السحيقة تصحو على أمنيات بعيدة، يلتفُّ أحفادُها حولها ليستمعوا إلى همهمات الجدة وذكرياتها ورغباتها ربما، في لقاء حبيب غامض عند تل زكريا قرب نبع ماء مؤقت كان يظهر كل ربيع.
لم تر البحر ولا مرة، ولم نفطن لتعديل مزاج التاريخ السمج، ونأخذها هناك، الى يافا، المدينة الوحيدة التي زارتها وانتظرت أقاربها على درجات قريبة من عيادة الدكتور، دون أن تلف وجهها لترى البحر كي لا يقولوا أن جميلة تتلفت يميناً ويساراً وهي ما زالت عروساً ..
ظلت على يقين أن على الإنسان "أن يحفظ لسانه عند مخالفة الدول"، هذه الحكمة التي رفضها الأشقاء والأبناء والأحفاد فخالفوا كل الدول تباعاً، وظلت جميلة تحاول معهم أن يخفضوا أصواتهم وهم يتصايحون في نقاشاتهم حول المد الثوري ورأي لينين في الثورة الزراعية، وظنت ربما أن لينين هذا الذي شغل الأولاد والبنات وتتوزع صوره في بيوتاتهم الهالكة في المخيم أحد أصدقاء العائلة الضالين.
ستخرج جميلة من زكريا وعمرها ثلاثون عاماً، وتقضي خمسة وستين عاماً في المخيم، لكنها تبدو طوال تلك السنوات وكأنها خرجت بالأمس، تتكئ على صور لم تنجح الأمم المتحدة ومخيمها في مسحها، صور تتزاحم في ذاكرة تعيد تركيبها وتفكيكها عند كل حديث.
سيصر حفيدها على مناداتها بالرفيقة جميلة، وسيعجبها الأمر كثيراً، وستستجيب لندائه بابتسامة صافية، وحين يتناثر الأحفاد في قارات العالم، تنزوي الرفيقة جميلة إلى غرفتها في سنواتها الأخيرة، لتقرض الشعر، وتنتظر غلق الباب خلفها للمرة الأخيرة.
وحين أدرت الكفن على وجهها تذكرتُ ابتساماتها الحزينة وهي تتأسّى على زمن مر كخبر عاجل على شاشة الحياة لكن بالأبيض والأسود.
#وليد_الشيخ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟