|
جبال الألب
مجاهد الطيب
(Megahed Al-taieb)
الحوار المتمدن-العدد: 4310 - 2013 / 12 / 19 - 13:59
المحور:
الادب والفن
جبال الألب هاتفتْهُ . التقيا في مقهى صغير ، يصبح كبيرا في المساء . ينصت بكل جوارحه ، معظمها. الصداقة ليست لعبة ، إلا أنه كعادة كل الناس انصرف جزئيا . كانت مسألة الأسانسير تلح عليه . حاضرا كان بالنظرات وهزة الرأس وبتعاطف يتصاعد ، لكنه انصرف جزئيا :
(( وعزة جلال الله ، لن يحدث هذا مرة أخرى ، على جثتي . في الأسانسير الكبير الواسع الملحق بالبرج الطبي ، الذي يُنتظَر من قبل العشرات ، ثم يُقِلُّ عددا منهم . ظل طوال وقفته مصوِّبا مسدسه الشخصي على من اختاروا الدور السابع ، الدور به عشرة دكاترة على الأقل ، هو – بالخبرة والغيظ - يعتبرهم جميعا ذاهبين إلى طبيبه ، كلهم منافسون ، كلهم خصوم . حدث أكثر من مرة أن التحق أحدهم - بعده - في طابور الانتظار أمام المصعد ، لكنه – الجبان - يخرج مسرعا إلى باب العيادة ويُعتبَر هو الأول ، وصاحبنا بعده ، وكثيرا بعدهم . صحيح أن مساعد الطبيب ليس له أن يبعث مندوبا ليسجل أسبقية الحضور أمام الأسانسير في الدور الأرضي ،غير أن هذا الأمر بدا له مسألة حياة أو موت ، ويجدر بالحقوقين أن يجدوا حلا ناجزًا . سلَّم – مرحليا – بالأمر الواقع ، و راح يتسلى ، يحزر وجوه منْ جاروا عليه : ده كشف ! / استشارة! / كشف !.....استشارة إن شاء الله ! ))
عاد ؛ لينظر إلى وجهها الرائق ، الرائق لها ، وله ، لكن في مرات غير هذه المرة ، يُحسن رفقتها بإشارات الرأس و" أيوه ، و هه ، وبعدين " التي قد تقنع صاحبته بأنه سائر معها في دهاليز الكلام ، تتكلم بصدق ، باهتمام ، يُعتبر بالغا . غالبا هي تعرف أنه ذهب إلى ذلك الأسانسير – آلة الظلم .أو إلى أي أسانسير ، لكنها ، مثله ومثل كثيرين ، لا توغر كثيرا في غير المعلن ، أو توغر بشكل غير معلن . غير المعلن صعب ؛ لذا فهي تتحاشى ، لأن ما عدا ذلك سيعطلها عن القيادة ، وهي في عز الرحلة . بسرعة غير مذهلة سَنَتْ قاعدة : من يسمع سبعين في المائة من الكلام يستحق اللقب ، سُئلتْ : ومنْ يسمع أقل قليلا ؟ تقول : " لا أعرف ، على حسب" . هي تعاني من هذه المشكلة ، وعانت كثيرا في واقعة الأسانسير هذه . أثناء حديثها ، وانفطار قلبها ، انشغل بعمل بحث صغير عن " الإنصات - مظاهره وعلله !! " ، عمَّن يُصغي وفي عينه وسنً ، لكن لا ضرر ولا ضرار ، عن العفاريت الزرق التي تكون في المجال. مرةً هاتفهَا ، التقط موعدا سريعا ، لأنه – صادقا – يريد أن يشكو من الأيام ، هو لا يستخدم كلمة الشكوى نهائيا ، يقول : " حابب أفضفض معاكي شوية " . لن يستخدم كلمة الشكوى ؛ لأنها تذكره بحادثة قديمة ، بإصابة ميدانية . لم يسلك مسلك البعض " أما الشكوى فقصة أخرى !" هاربا أو مؤسْلِبًا للمعنى ؛ ليكون معه لا عليه ، أو ليصير المراد في أرض الأعراف .أما هو فيقول – لنفسه - : " أنا لا أشكو " ، لا الآن ، ولا مستقبلا . لكنه .
عندما وصل كانت بملابسها البيتية ، الأقل من العادية ، شعرها كيفما اتفق كما يقولون ، قاصدة أن تكون خالية الذهن تماما ، أو أن يكون الانشغال زينة ، أو هو نوع من التضحية ! آذانها المنتظرة منذ أن رن التليفون ، آذانها الصاغية – تعتقد - تكفي وزيادة . كان نِعْمَ المستهدَف ، لم يلاحظ حضورها العادي ، ولا اختفاء حتى النذر اليسير من المكياج . لم يلحظ ذلك إلا لدواعي الكتابة . كان يرى الفارق بوضوح بين ماكانت عليه ، وما تكون . بالمناسبة هو أيضًا كان ذاهلا عن نفسه ، لا أقصد غير متأنق . الحزن لا يقوِّي القلب فقط ، الحزن يُذهل ، وقد يجعلك فُرْجَة – فرجة تنعم بها عيون لن تراها ، في الغالب هي عيون طيبة ، أو لها مطالب مشروعة . وهناك عيون أخرى تراك وأنت تراها ، ولا وازع . أصحاب العيون المرئية كلاب ، وإن كانوا أصدقاء العمر . هم رسل الحق ! هم أقوياء ، أقوياء الملاحظة ، بداية من لون قميصك ومنزلته بين القمصان ، وصولا إلى كل الألوان ؛ ذلك لأن الله خصهم بضمير لا يحب العوج! يجترئون على ما يعيش في أرض الخوف ، أو في نواحٍ صارت مُشفّرة بالتراضي ، وما هي بمشفرة .آه ، كنا نتكلم عن الحزن ، الحزن - أيضا - يضع لمسات سريعة ومؤثرة على الوجه والشعر والملابس ، يرتقي بالهيئة ( ما الهيئة ؟! ) ، يضعك في قلب الدور مباشرة . كدأبها ، قالت : " هاعمل شاي الأول " ، انتظار الشاي جعله يدبدب بقدميه . يخرب بيت أم الشاي . لكن ، تفاءلوا بالخير تجدوه ! جاء الشاي وجاءت ، اجتازت بسهولة كل الأحداث الجِسام التي حدثت خلال الثلاث دقائق المنصرمة . وضعت يدا على خدٍ . اليمنى أم اليسرى ؟ وضعت يدا وقالت : أيوه . لم يقل : أيوه ؟! شرب الشاي كاملا دون أن ينبس ببنت شفة – حلوة دي . قديمة ، بس حلوة . رأى المكان ساحة لأسانسيرات مختلفٍ أنواعها . الإنصات أبو الفنون . هو لا يلاحظ نفسه . هُوَّ في إيه ولّا في إيه ؟ لكنه يراها جيدا ، تبدلت كثيرا ، سارت مع الكلام كلَّ سير ، من فرط إعجابه بصمتها . صمتها ليس من النوع الصامت . من فرط الإعجاب وشدة التـأثر اعتمد واقعة الشاي . صار من آن لآخر يستطعم الشاي الذي مضى من ساعات .يبدي – لنفسه - إعجابه بالنكهة ، انشغل ، ونجح في استجلاء فروق دقيقة بين رشفة ، وأخرى تماثلها تماما واللهِ ! . هي لا تفهم ، وهو لن يقول . يبدو مجنونا ؟ يشرب الشاي مرتين ؟! ما الذي يطربه في حصة الصمت هذه ؟! يظهر أنها قررت بعد تردد ألا تسأله ؟ التقط هذه الاستجابة كهدية لن يفض شريطها الملوّن ، وإن قامت الدنيا . قال لنفسه من باب الهزار والجد : لولا الشاي ما احتملت هذه الحياة . رغم كل ماجرى ، الصراحة ، كان تركيزها يفوق الثمانين في المائة . في فقرة الأسانسير الخاص بها اكتشف أنه أننا - في عز التعاطف - بحاجة إلى من يتخلَّى . المتخلي ليس من أبطال الأبيض والأسود - قساة القلوب . فقط ضع نفسك مكانه ، هو يملك نفسا مثل التي تملك . كن متفهما ، دعه يركب الأسانسير ، على ألا يزيد عن ثلاثين في المائة .
*****************************
الخروج المبكر لتلاميذ " الصباحي " في تلك المدرسة يفاجئهم على الدوام ، رغم كونه يوميا ؛ ربما لأنه في رائعة النهار ! ربما لأنه مؤقت يتبدل في النصف الثاني من العام ؛ ليصير في المغارب . البارزون من تلاميذ خامسة وساتَّة ابتدائي ، بعد خروجهم المباغت ، قبل الظهر ، يلعبون لعبة الموت ، أكثر ألعاب زمانهم خطرا . شوارعهم الترابية حيث بيوتهم جعلهم يضعون الأسفلت في منزلة عزيزة . يُريحون حقائبهم على الرصيف في موضع معلوم ، يقوم على حراستها فريق منهم ، يحرس الخطر ، ويتفنن في تقديم كل ما هو لوجيستي . فريق الحراس لا يُقَارن في عدده باللاعبين الأساسيين . فريق الحراس بمثابة ظهير شعبي للأشقياء . في الشارع الأسفلت الكبير يقف الأساسيون في نهر الشارع ، بعضهم ينام على الأسفلت فداءً للبهجة ! ، وآخرون يرقصون أمام السيارات ؛ ليرعبوا السائقين ، إلا أن الصبية يفتحون الطريق في اللحظة الأخيرة مع وابل من الشتائم ، تنهمر عليهم جزاءً وفاقًا للعبتهم السخيفة . كلما كانت الشتائم بذيئة ، كلما كانت من القلب يطرب الصبية . في لحظة تسلمهم الجائزة ينتحون جانبا ، يحتمون بالـ ظهير ؛ ليعبر المارون بسياراتهم ، هنا تنفلت الصفة من الصبية وتصير لقائدي السسيارات ، وإلا فبِمَ تفسر صياح الكبار ، وجري بعضهم حاملا العصا أو ماسورة حديد ؛ محاولا اللحاق بالفريق والظهير ." المجنون آهو ! ". ثم يتجدد الأمل في جولة ثانية أسخن. *************************
أثناء الكلام – كلامه ، أخذ جولة هو الآخر!! دون أن يتوقف عن البث للحظة واحدة . تخلِّي المتكلمِ أروق كثيرا من تخلي السامعين . نعم ، الإنصات يوفر براحا للتسكع ، للاستهبال : المطبوخ ، والنيِّئ . لكن الحرفنة أن تلعب بلا أرض : (( ينهج واقفا . فقط عشر درجاتِ سلمٍ بينه وبين شقته ، يتطلع إلى غاية الغايات ، إلى جبال الألب . وقف ساندا كوعه الأيسر على درابزين السلم ، ساندا كفا مضمومة على خده . جرب وصعد درجتين ، وكان ماكان ، فوقف في تواضع أو استسلام أو تفهم أو قلة حيلة ، كأنه ينتظر أبًا ، أو المطافي ! ينظر بحسرة إلى جبال الألب البعيدة ، حيث محله المختار . ينهج واقفا والصبية - أشقياء خمسة وساتَّة - يرقصون في شريانه الأهم . في نهر الشريان . الدم لا يقوى على المناورة ، لن يجرب الاقتحام ، الصبية ليسوا فرادى . " يا دم ، تشجَّعْ ، خلِّي عندك دم " . ينهج واقفا ، إلا أنه يعلم أنهم يلعبون ، كل ما هنالك أن اللعبة سخيفة ؛ وبناءً عليه هدأ باله إلا قليلا ، القليل يتعلق بكونه على حافة أن يصير هو المجنون في أية لحظة ! جربَ أن يهجم بنفسه – بلا دم - على السلم ؛ ليجبر العيال على التراجع ويصل إلى القمم !. الأطفال لم يتراجعوا قيد أنملة ، " وسعوا شوية . يا ولاد الجزمة ، وسعوا .. الموضوع مختلف ! " . يظهر أن سبابه لم يكن نافذا ولا مخدوما كما يجب ، ربما هذا ما جعله يسلم نفسه لكريزة ضحك مجهولة المصدر . ضحك وبكى وغنّى ، وتكلم بالألسن السبعة . لكن ، لكن خللا ما في الهواء الطلق ، في مكوناته . الهواء لا يعمل . ضحكه أفسد الموقف ؟ صارت نقطة الطرب عند الصبية " نقطة الفرج " بعيدة . لا ، معدومة . شر البلية لم يرُق للصبية ! ، كل حصيلته من مشاهد الضحك والبكاء تجُول على مقربة من القلب . فكر أن يسلي نفسه بعمل هتافات مؤثرة تجتذب من يهمه الأمر . فورَ ورود الفكرة زاد النَّهَجَان . انتبه أن لديه يدا حرة ، ضم قبضتها وأخذ يعليها ويدنيها كأنه في أول المظاهرة . مَنْ وراءه ؟! واصل متمسكا بالإيقاع مطورا له ، أوشك أن يعتذر عن هذا الفيلم الصامت رغم مساحة الدور . فكر أن يفتح الـ " شِير " ، لكنه أدرك : رغم أن الحالة ج ، إلا أنها " مِتْركِّبَة " وأي انفتاح لها سيجعلها " تُفْرُط " . السلامة في الكمال ، وإن كان في أسوأ حالته عزيزي القارئ. بعد أن أنهى مظاهرته التي أنجزها من الألف إلى الياء. نظر إلى السُّلمات وجدها قد طورت من نفسها ! جبال الألب بعيدة مازالت ، أبعد . تسلَّمه الدوار ، وحدث بعد ذلك ما حدث ))
رجع مرة أخرى - كاملا - لحديثه وشكواه . إحقاقًا للحق ، عندما عاد كان كل شيء على مايرام التعاطف على أشده ، كل اللغات تعمل .الإنصات على قدم وساق . لكن بأي نسبة كان ؟!
#مجاهد_الطيب (هاشتاغ)
Megahed_Al-taieb#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محمود ونوجة وصفية
-
النادي الفرنساوي
-
بأثر رجعي
-
شارع الحب
-
مصر الجديدة - الرابع والخامس من ديسمبر 2012
-
ليلي نهارك
-
نُؤْنُؤ
-
حراس الفكرة
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|