|
( روادع الحنين / أقنعة الغناء في - غاية النشوة - ) بقلم : محمود الحلواني
مؤمن سمير
شاعر وكاتب مصري
(Moemen Samir)
الحوار المتمدن-العدد: 4308 - 2013 / 12 / 17 - 02:48
المحور:
الادب والفن
( روادع الحنين / أقنعة الغناء في " غاية النشوة " ) بقلم : محمود الحلواني
تتعدد العلامات الخافتة ولكنك تظل غير متأكد ، وتظل تدور حول القلعة أو ما تظنه أنت " قلعة " ، تتحسس بعينيك مصادر النور ، الاضاءات الخافتة والسريعة ، ربما تكشف لك بقعة جانبية من سور متآكل ، أو برج شاهق ، أو مدرج ، أو نافذة مواربة . كل هذا لا يجعلك متأكداً ، مطمئناً تماماً تقول في نفسك " إنه النقص الذي يشبه أي نقص في أي مكان آخر ، دون أن يعني شيئاً ، أين قانونه ؟ " وسرعان ما يموت الضوء لتحيا من جديد حيرتك ، هكذا تلف وتدور خارج الأسوار ، تجرب أن ترى عبر زوايا مختلفة ، حتى تعثر عليه ، وذلك الضوء الأكثر سطوعاً- من وجهة نظرك - والذي يكشف أمامك في " ضربة واحدة " خريطة المكان ، ويقودك إلى دهاليزها ، يسلمك الدهليز إلى آخر والعلامة إلى علامة ، وبينما تسير تستيقظ تحت خطواتك روح المكان ، وتدب الحياة مرة أخرى في كل ما تسقط عليه عيناك ، هنا ستعود لتتذكر بُعْد العلامات الخافتة التي مررت عليها من قبل ، وستعرف أنك لم تهملها رغم عدم تأكدك ، احتفظت بها في الذاكرة إلى أن عثرت عليها ، تلك العلامة البازغة ، التي أكَدَت لك صحة ما كنت تحس به من قبل وتنكره ، تلك العلامة التي ربما تكون معتمة في ذاتها ، والتي انعكس عليها الضوء من علامات أخرى كنت تختزنها في ذاكرتك ، والتي ربما لا تزيد في أهميتها عن علاماتٍ أخرى ، ولكنها اللحظة جاءت ، ليقول " التراكم " كلمته ، وينحل غموضه وإبهامه إلى معانٍ وقوانين ورؤى يقود بعضها إلى بعض ، عبر مسالك هينة وتقول أيضاً " إني أرى الآن ! " .. أهو ديوان شعر أم قلعة حصينة ؟! ولماذا كل هذه المتاهة السميكة والأقنعة ؟ وما الرسالة إن كانت ثمة رسالة ؟ إنها الحيرة التي شعرتُ بها وأنا أواجه ديوان "غاية النشوة " للشاعر " مؤمن سمير" ، تلك التي دفعتني لخوض هذه القراءة . * دروع العزلة : يهدي الشاعر ديوانه إلى نفسه يقول .. " إلى مؤمن .. درع حقيقي من دروع العزلة " هكذا نستطيع بداية من الإهداء أن نتلمس شيئاً من واقع التجربة التي سيطرحها الديوان ( الدرع - الشاعر- العزلة ) فنعرف بدايةًً أننا بصدد تجربة اغتراب وخوف وتَحَوُّط يعانيها الشاعر ، هو خائفٌ لابد ، ولكن هذا الدرع هل هو مضاد للعزلة ، يحاول به درء العزلة عنه ؟ أم أنه درعٌ من نفس نسيج العزلة ، صنعته على مقاسه وحملَهُ هو اتقاءً لشرها وحتى لا تلقي به في خانة " المغضوب عليهم " ، وإن كان ذلك صحيحاً فلماذا لا يتمرد الشاعر ويخرج على عزلته شاهراً ذاته الحقيقية ، لماذا يحاول الظهور بمظهر ليس له في الحقيقة ... يقول في قصيدة " سَمْت " : " بيدٍ باردة أجري فحصاً إكلينيكياً على القلب لأكتشف حفريات الحنين " وكأنه يُصِرُّ على عدم التورط والافتضاح ، متحصناً خلف " يده الباردة " ، ذلك القفاز السميك الذي يحافظ به على مسافة مأمونة بينه وبين " الحالة " وإن كانت " قلبه " هو ، فهي " حالة " وإن كان موضوعها " الحنين " .. هي " حالة " هكذا .. وكأن الأمر لا يعنيه يجري " بيدٍ باردة " فحصه " الإكلينيكي " ، لذلك جاءت الإشارة إلى قلبه هو ممعنة في التحوط والرغبة في عدم التورط ، هو يشير إلى " حفريات الحنين " وكأنها لشخص آخر ، وكأنها أشياء بعيدة ، مجرد آثار ميتة لأشواق مندثرة في طي النسيان ، لا تعني له شيئاً . يقول في نفس القصيدة : " ثم أَتخِذُ سَمْتَ الحكمة لأقول إن القدر يفعل كل الأمور مسوغاً لنفسي الحكم على مواسم التكاثر تكاثر المشاعر بأنها فاشلة لدرجة تثير الرثاء " هذا السمت " الحكيم " الذي يتخذه الشاعر ليؤكد من خلاله " توافقه التام " مع الأمر الواقع ، مبرراً ذلك ب " إيمانه بالقَدَر الذي يفعل كل الأشياء " ، وبهذا يسوغ لنفسه أن تسخر من المشاعر الشخصية والرغبات الخاصة ، حتى أنه يصفها بأنها فاشلة وتثير الرثاء ! هذا السمت ، هو الإجراء الذي اصطنعه الشاعر لنفسه ك " درع " أو " قناع " يحاول به طوال الوقت الإيحاء باستقامته وحسن سيره وسلوكه .. يقول في قصيدة " وهكذا تجلبين الموت .." مؤكداً على هذا الملمح : " لكنَّ ما حدث كان لابد أن يحدث صدقني ولا تغضب " وفي قصيدة " ما سُمِحَ به من سورة الصقر " : " اختار بهدوء بعد أن فكر بعمق الحكماء وهيبتهم أن يصمت أربعين عاماً كاملة " وفي " الحكمة تتمشى من هنا لهناك " ولنلحظ الاسم : " كانت تسير على مهل تحمل تاريخها في صندوقٍ عليه صَدَف تاريخها كله وكلما مرت أربع ثوان تأخذ من الصندوق ابتسامة تلصقها على وجهها ..... ستمشي على خط مستقيم لن تُحوِّد هكذا أو هكذا " وكأنما تقتضي " الحكمة " في اللحظة التي يرصدها الشاعر أن تتواطأ مع " الخارج " ضد ذاتك ، أن ترتدي أقنعة ترضيه ، أن تقمع رغباتك وأشواقك وأن تنزع من داخلك كل ما يخصك من تاريخ شخصي وتحمله في صندوق ، فلا يكون لك " داخل " يؤرقك . هكذا يصطنع الشاعر عبر" تمثيلاته " العديدة أقنعة تمكنه من أداء دوره كأنه أحد أفراد جماعة الصالحين ، بل هو يراقب عبر منظوره تحول البشر من أحياء لهم أشواق وأحلام إلى آلات تتبع التعليمات والنظام ، يرصد تحول الإنسان إلى مجرد " حادث تاريخي " ولو نظرنا إليه عبر عين الشفقة ، إن وجدت ، لوجدناه صار " نصباً تذكارياً رمزياً " يقول : " نسى بغبائه الطيب أن يطلب مني ألا أشفق عليه كي لا أُشيِّدَ نصباً تذكارياً رمزياً مكان الحادث التاريخي " مما تقدم نستطيع أن نقرأ تحول " بائع الروبابكيا الصغير " في قصيدة " يا نافذتي وتضحكين ... " إلى قديم جداً جداً جداً ، ونرى كيف فقدت " مدام اعتدال " – لاحظوا الاسم ثانيةً - بيتها القديم ، بل نسيته من أجل " المجموع " : " البيت المهدم الذي يشوه المكان صار منفعة عامة ولابد أن تضحي من أجل المجموع المجموع الذي هو أحفادك البررة الذين رسموا لك حياة رائعة تناسبك " كما يمكننا أن نلمس سريان الخدر رويداً رويداً في سنوات الطائر ، ذلك لأنه " يهب نفسه بهدوء جميل ، للأنياب المشطوفة " في قصيدة ".. وهكذا تجلبين الموت " . كل هذا يصل بالكائن إلى أن يقاوم رغباته بشراسة : " لكنه الرجل الذي بزغ فجأة أمامي الرجل الذي قاومت بشراسة كل رغبتي الحقيقية في سماع عدة موشحات أو حتى طقطوقة .." .. قصيدة " ما يبقى فينا " . كما يقاوم بشراسة دموعه ، ذلك لأنه يسير مع فتاته " العصرية " : " حاول ألا تسمح لدموعكَ أن تهرب من عينيك " هكذا يتحول " الكائن " إلى " حادث تاريخي " وربما – في أحسن الأحوال- نصب تذكاري يُذَكِّر بوجود سابق حي ولم يعد كذلك الآن . * حواس معطلة : وفي نصوص " غاية النشوة " سنلتقي كثيرا بحواس معطلة دون عطب واضح ، وكأنما هي إشارة إلى قيود خارجية استجابت لها الحواس ، إذعاناً لها وشراءً لخاطرها ، وربما تحسباً من " الأشخاص " أنفسهم ، أن تفتضح سرائرهم .. عطلوا حواسهم أو خبأوها ، فإن غنت أو تكلمت ففي خفاء مأمون ... " تنفخ من قلبك من دهاليزك التي لا يحسها أحد وتحرك مشاعرك على حافة الأصابع .. صوته الحاد الذي يصعد سوف يضطرك إلى إغلاق عينيك حتى لا يشيل المارة من ترنيمتك وهم يتدافعون .. بالطبع كونك أعمى يجعل الموضوع كله في كريات دمك ذاتها .. " .. قصيدة " مثل رائحة النغمة في العيون " .. وفي قصيدة " سمت " : " وتُضحكين عيني الميتة " وهناك أيضاً " المغني الضرير" و" بائع الروبابكيا " .. " فهو ليس أطرشَ كم تظنون" ، ولدينا – أيضاً- الصقر الذي .. " لم يكن أخرس أبداً أو مصاباً بأي تشوهات في الفم والحلق ولكنه اختار بهدوء أن يصمت أربعين عاماً " ولكن ، هل بالفعل تحولت " الذات " التي يرصدها " مؤمن سمير " إلى مجرد " حادث تاريخي " أو " نصب تذكاري " واندغمت تماماً في نسيج العزلة المضروبة حولها أم هي تراوغ حتى تحتفظ بأشواقها بعيداً عن " الأعداء " .. "حتى لا تُقتنص " : " كلنا نرانا نجرب لكن بشرط ألا نُقتنص نتذوق فقط نلمس دبيب النهاية ثم نحتفظ لأنفسنا بتلك المسافة الاستعلائية .... لذلك خبأنا أعصابنا الصغيرة الثمينة في دهاليزنا " هل تفيد هذه الأسطر وغيرها في إضاءة الخوف الذي يُلجئ " هم " إلى الاختباء والمراوغة خلف مسافة استعلائية آمنة تقيهم التورط في الحياة ، تلك المغامرة التي – بالتأكيد - ستعرضهم للاقتناص ، كأنما إعلانهم عن وجودهم يجعلهم هدفاً سهلاً للقناصة ، لذلك يرضون بالكفاف خلف سواترهم . هنا يتكلم الشاعر من خلال ضمير" الجماعة " ربما ليقول إنني لا أتحدث عن ذاتي فقط ، بل أتحدث عن جماعة تحيا معي نفس العزلة تحت وطأة القهر، والفشل العام ... " فشلنا نحن وأهالينا ..." * السُلْطَة : تتعدد أشكال السلطة في الديوان والتي يشير الشاعر إلى أدوارها المتعاضدة في صناعة " نسيج العزلة " فهناك إشارات إلى " التعاليم " كسلطة وكيف تساهم في تشكيل المغترب ، مثل تعاليم الأمهات ، والأصدقاء الأكبر سناً والعجائز: " كلهم علموني أشياء والنسيان لا يصيبني أبداً " وقريباً من هذه يشير إلى سلطات " القديم " في صورة الروبابكيا التي يحملها الشاب الصغير فيصير قديماً " مثل ما يحمل " ، وهناك إشارة إلى " الاستبداد " حين فرضوا على الجد الأكبر للخيل " وكان يحب مهرةً في أحلامه " الارتباط بغيرها بعد أن طعموها " هم " بالشهوة ، هذا فضلاً عن قسوة صاحب الحنطور ورداءة الطعام ، وهناك أيضاً سلطة " الجموع " وقد طالبوا " مدام اعتدال " باسمها أن تنسى بيتها القديم تضحية من أجل " المجموع " : " الذين رسموا لكِ حياةً رائعة تناسبك " هي سلطة ذلك الصوت المداهن الماكر الناطق باسم المصلحة العامة ! ، وقريباً من هذا سلطة " المظهر العام " أو " المناخ " وهو " العصرية " التي تسوق الشاعر لأن يقاوم بشراسة رغبته الحقيقية في سماع عدة موشحات أو طقطوقة من المغني الضرير والقديم بالضرورة ، كما يقاوم أيضاً " دموعه " التي لا تتناسب أبداً مع فتاته العصرية التي يسير معها . وهاهو أيضاً يشير إلى شئ شبيه " بالمناخ العام " المستبد .. يشير إلى " الكرسي الكهربائي الذي يتمدد فيملأ الشاشة " .. قصيدة " دبيب اللعنة .. " ، فهل يشير إلى شمولية ما حين يشير إلى امتلاء الشاشة ؟ وحين يشير إلى " الشيطان الكهربائي الذي ببساطة سوف يهزم كل التخيلات " والذي " يصطاد الأعصاب النافرة " وحين يشير إلى " الكهرباء التي تتجول بعنجهية في الروح " . أهو يشير إلى كل المنظومات المستبدة التي تدعي الشمول ، التي تريد أن تخنق الخصوصيات وتتربص بها العولمة مثلاً ؟ .. وكما تشير النصوص إلى سلطات تنتمي للعالم خارج الذات فإنها تشير أيضاً إلى انعكاسات هذه السلطات داخل الذات و تجذرها فيها بحيث أصبحت السلطة تأتي - أيضاً - من الداخل ، فهناك – مثلاً- إشارة لسلطة " الاعتياد " ، اعتياد العماء والعيش في الظلام حتى " أنهم " " حين فاجأهم النور أحسوا بالعمى المؤقت " ... قصيدة " تجارب في العبث " .. وفي نفس القصيدة يشير إلى سلطة " الخوف " ، الخوف من النور/ الحرية ، ذلك الذي يجعلهم لا يقبلون بصداقة النور التي يعرضها عليهم " مقابل أمر واحد " ، وكان ردهم " لن نضحي من أعصابنا لنفعله " . إنهم بالطبع يخافون أن تكلفهم صداقة النور تواطأهم مع الظلام واستقرارهم الزائف خلفه ، لذلك استمعوا إلى كلماته التي ألقاها عليهم باستخفاف .. " ونحن ككل الشكاكين تهيبنا فسمعنا بحذر .. كان النور يجرب أن يحكي ونحن نعبث حتى إن النور فلتت أعصابه على الآخِر .." هي " اللعنة " – فيما يبدو- التي يشير إليها الشاعر في قصيدة " دبيب اللعنة ..." لعنة التسلط التي تطبع الأجساد بخاتمها وتسلسل الأرواح : " الجسد .. ابن اللعنة التي فشلنا جميعا نحن و أهالينا في ترويضها طول السنين " وكأنما يسلم الشاعر – هنا – بأزلية هذه اللعنة ، وإن كان يذكر أيضاً أنه طوال السنين تتم المحاولات لترويضها ولكنها تبوء بالفشل ، وهذا لم يثن الشاعر عن القيام بمحاولته هو لترويض " اللعنة " وهي المحاولة التي بين أيدينا . * منظور وإجراءات : هو منظور غنائي ينطلق منه الشاعر لفضح آليات العزلة وهجائها ، وإن كان قد أقام بنيانه من خلال إجراءات غير غنائية بل هي مناقضة للغنائية ، فهو قد اعتمد على الحكم المحايد في سردية دائماً ما تعمل على وضع قشرة سميكة ، قناع تمثيلي ، هما بمثابة الدرع الواقي الذي يرفعه لشاعر حتى لا يغرق في دموع الخيل وحفريات الحنين وسلاسل الشجن ، فتنقلب الكتابة إلى بكائية لم يكن ليستطيع الفكاك منها لولا هذه اليد الباردة التي يعالج بها مادته المسرودة ، خاصة وهو يعالج ذاتاً تعاني اغتربا وهزيمة ويأكلها الحنين ، وهو الشاعر الحديث الذي يعرف تماماً ما ينتظره على يد ( السلطة النقدية ) إن هو فكر أن يغني وترك نفسه يسقط في " حفريات الحنين " . سبب آخر ، هو أن يحافظ على " صورت ه" التي تعبت الجماعة / السلطة في تربيتها وتثبيتها ، وجاهد هو معها في ألا يكسرها – على الأقل أمامها- كنوع من إثبات حسن السير والسلوك " الباب اللي يجيلك منه الريح ..." وحتى لا يُقتنص . اعتمد الشاعر في بناء قصائده على الكثير من الصيغ الكابحة للغناء ، والتي يمكن أن نطلق عليها اسم " ستائر سردية سميكة " مهمتها تغليف الذات الهشة لحمايتها من خطرين محققين هما : 1- الكرسي الكهربائي الذي يصطاد الأعصاب النافرة ، والستائر تخفي هذه الأعصاب " طبعاً " . 2 – كي لا يأخذ ( عليها ) الشجن بأذرعه الطويلة " فيقتلها " يوماً ما .. قصيدة " ما يبقى ما " .. والستائر السردية السميكة تعطيها مظهراً موحياً بالتماسك والصلابة فلا يطمع فيها الشجن وفيه هلاكها . ومن الصيغ / الستائر : أ. التمثيل : فالشاعر طوال الوقت يحاول إيهام قارئه أنه يتحدث عن شخصيات وأشياء ، ليست هو .. ومن خلالها يقوم بإسقاط معاناته هو عليها وتحميلها مهمة القول بدلاً عنه ، فهناك الطائر في قصيدتين ، فيهما يرصد الشاعر إمكانات التحليق المقموعة لدى الطائر ، وهناك " بائع الروبابكيا " و" الجد الأكبر للخيل " و " الغريب " الذي يحكي عن عجزه ، والنار التي تغني دون أن يتفوه الشاعر بكلمة ، وهناك أيضاً " الصقر" الذي صمت أربعين عاما ، مع أنه لم يكن أخرس أبداً ، و" مدام اعتدال " التي تمشي على خط مستقيم ، وهناك أيضاً " المغني الضرير" ، و "البحار " .. هذه كلها – في ظني- أقنعة مجازية وتمثيلية ، ينطق من ورائها الشاعر . ب. ضمير المخاطب وصيغ الجموع : ومن خلالها يُسقط الشاعر معاناته ووجهات نظره على الآخر أو آخرين ، تمويها وتوسيعا لدائرة العزلة والاغتراب التي يرصدها . ج. اللعب : يلعب الشاعر في قصيدة " حديث الجميع .. " مع لعبة الاحتمالات متعمداً ، حتى تتحول المسألة كلها – عبر الصياغة – إلى لعبة تحجب خلفها حقيقة الأمر .. وفي هذه القصيد تُتهم الذات بأنها ألِفَت حياة الموتى لدرجة أنها تسكن بجوار قتيلة ، ولا تحزن ولا تغضب .. في موقف كهذا تكون لعبة الاحتمالات هي الستارة التي تختبئ خلفها الذات ، وكذا تفويت الفرصة على من يتهمونها . د. صيغ النفي والإثبات : في الكثير من القصائد يقوم الشاعر بنفي أشياء مؤكدة من خلال السياق - دموع الخيل مثلاً- وفي قصائد أخرى يقوم بإثبات أشياء ينفيها السياق مستخدما آلية المفارقة .. قصيدة "غاية النشوة " .. ه. العناوين : لا تشف عناوين القصائد -غالباً- عن محتواها إلا بعد جهد تأويلي ، وبعضها يأتي مفارقاً لمعناها ، مثلا " ما يتبقى فينا – غاية النشوة- الحكمة تتمشى من هنا لهناك " . لكن على الرغم من هذه الإجراءات الكابحة لطاقات الغناء والمموهة على الذات فان هناك ما يمكننا – أيضاً- من اكتشاف ما وراء هذه الإجراءات / الستائر، من حقائق الذات وأعني : أ. المفارقة : وهي على الرغم من حسبانها صيغة من صيغ التمويه والستر والمراوغة إلا أنها – في نفس الوقت – وعند الاحتكام إلى سياقاتها الكلية ، تقول ما أوحت هي بعكسه .. قصيدة " غاية النشوة ".. ب. بؤر الاهتمام والقصد : يتأكد المعنى عندما تتكرر وتنتشر علامات أو رموز بعينها عبر قصائد أو نصوص عديدة ، ويمكننا أن نشير هنا إلى " الحواس المعطلة " و" قناع الطائر" و التأكيد الدائم على المسافة الاستعلائية واليد الباردة ، وسمت الحكمة،بالإضافة إلى الشجن والحنين والدموع والمحاولات الدائمة لردعهم . ج. السخرية : ملمح بارز ومنتشر في الديوان ، أحياناً تعكسه " المفارقة " وأحياناً أخرى نلمحه عبر توصيفات عادية تبدو محايدة في نسيج السياق نفسه . * حَوَاس السرد : وأقصد بها تلك الفتوق التي تقطع جسد السرد الصلب على فترات متباعدة ، فنشعرعندها أنها تقول أشياء أكثر مما يوحي بها السياق ، وهي جمل مكتنزة لا بالدلالة وحدها بل بمكنون السياق كله من مشاعر وأشواق وحسرات ، وظيفتها تفجير الشعرية في السياق كله ، ذلك الذي كان قبلها نثراً خالصاً وعادياً ، وهي الدالة على المسكوت عنه في السياقات الكتومة . هكذا وكأن قصائد " غاية النشوة " تجمع بين في آنٍ واحد بين الرغبة في الاستتار والتكتم والرغبة في فضح هذا الاستتار والسخرية منه ، تغازل العزلة ، حين تدعي التسليم بأن " ما حدث كان لابد أن يحدث " وحين تسخر من المشاعر الذاتية وتتمترس خلف " أياديها الباردة " أو ستائرها الصلبة ، ثم – وفي نفس الوقت ، وعبر إجراءات موازية - تغازل الغناء وتبث أشواقها المقموعة وأحلامها المجهضة وحنينها الذي يأكلها : " وتعود في العام التالي والحنين يكاد يقتلك .." .. قصيدة "غاية النشوة " " حيث يأكلني كالمعتاد .." .. قصيدة " سمت " " كي لا يأخذ عليك الشجن بأذرعه الطويلة فيقتلك يوماً ما .." .. قصيدة " ما يبقى فينا " ذلك هو صخب " الداخل " وغناؤه الذي يغلفه الهدوء كما يقول في قصيدة " جمرات " : " ونجوم ترقب الهدوء الصاخب ورجلٌ يحكي ببساطة عن عجزه الجنسي .. ليلة كاملة ، لم أتفوه بكلمة لأن النار كانت تغني .." هكذا تجتمع لنا في إطلالة واحدة ، " اليد الباردة " و " المسافة الاستعلائية " اللتان يرقب من خلالهما الشاعر صورته عن بعد و تمثلهما هنا " النجوم " ، ولدينا أيضاً " الهدوء " الذي ترصده النجوم ، وهو من إجراءات الشكل ، أو هو " السمت " الذي تتخذه الذات الشاعرة عبر "الديوان" ، وهناك أيضاً إشارة إلى صخب الداخل الذي يستتر خلف هذا الهدوء المزعوم ، والبساطة التي يحكي بها الرجل وصمت الشاعر ، ولكن النار بالرغم من ذلك كانت تغني .. هي الأشواق الإنسانية التي لا تموت أبداً برغم حصار المظهر والمواضعات والسلطات ، برغم قسوة العالم ( الشيطان الكهربائي ) أو برغم محاولات الشاعر التمويه عليها " لكي لا يُقتنص " ، فإنها تظل هناك معلقة كلعنة لا تموت تماماً ، فيتحول الإنسان إلى " حادث تاريخي " ، ولا تحيا – أيضاً - فيتحرر الإنسان من عزلته واغترابه . المفارقة الثانية : تلعب المفارقة دوراً بارزاً في الديوان حيث تكشف باستمرار عن ذلك التناقض الذي تحياه الذات في العزلة ، بين مظهرها الصلب المزعوم الخاضع للشروط ( العامة ) حد التواطؤ معها ، وبين جوهرها الهش الذي يمور بالحسرة والأشواق وأحلام الخروج لمعانقة الحياة .. " كان دائماً يتبع التعليمات ويبتسم لهم ومع الوقت صارت ابتسامته تخرج تلقائياً بائع الروبابكيا يستقبل الفجر وقد سمع بكاء أشيائه مطفية اللون " .. قصيدة " .. يا نافذتي وتضحكين " إنها نفس مفارقة " الميناء " التجريدية : " قطعة الحديد داخلها طائر " ثم ألا يشبه هذا الطائر السجين " المغني الضرير" في قصيدة " ما يبقى فينا " والذي يبزغ فجأة مرتدياً : " عمامة وكاكولة ويحمل عوداً قديماً " فيقاومه الشاعر بشراسة ، يقاوم رغبته الحقيقية في أن يستمع منه إلى عدة موشحات أو حتى طقطوقة ، لأنه يسير مع فتاته " العصرية " ، ألم يكن الشاعر هنا هو قطعة الحديد التي تسجن طائرها . وهناك أيضاً المفارقة " اللغوية " : " بائع الروبابكيا صغير لم يَطْلُع في قلبه شَعْرٌ أبيض بائع الروبابكيا قديمٌ جداً جداً جداً " وأيضاً : "راكية النار ونجوم ترقب الهدوء الصاخب " وهناك أيضاً " المفارقة التي نستنتجها من السياق " ، والذي يقول من خلالها الشاعر عكس ما يعني تماماً ، وأبرز تجليات هذه المفارقة قصيدة " غاية النشوة " والتي سنكتشف بعد قراءتها أنه لا توجد نشوة ولا يحزنون ، لأن البَحَّار ( أسير البحر والسفينة التي أنجبه أبوه فوقها ) يصل إلى الشيخوخة دون أن يقيم أي علاقة حقيقية مع أي بنت من بنات البر اللاتي كن يراودنه كلما خرج – كل عام – مع أحد الصنادل التي تحمل البضائع إلى البر : " ترى بنتاً جميلة لفرط حرمانك تظن أنك أحببتها ثم تعود العام التالي والحنين يكاد يقتلك وترى بنتاً أخرى لفرط استمتاعك بالحالة تظن أنها هي .. وهكذا وهكذا وهكذا " فعلى الرغم من هذا " الحنين القاتل " الذي لم يرتو أبداً يختم الشاعر قصيدته بهذا البَحَّار وهو يقضي شيخوخة هانئة مع إحدى بنات خياله . .يحكي لها عن تجاربه المخزونة وكأنه قد وصل إلى غاية النشوة : " تكون حقاً قد درت حول العالم وتكون قد تذوقت كل أنواع النساء وقصتك تصلح أن تكون فيلماً مشهوراً يطلبه البحَّارة دائماً في الحانات ليقوموا بعده وقد أحَبُّوا الحياة حقاً " إنها المرارة – فيما أظن- تتحول عبر المفارقة الساخرة إلى انتصار! يمكنك بالطبع أن تسخر مع المفارقة من هذا الانتصار الكبير بعد أن تكون قد امتلأت بالحسرة على الحياة التي ضاعت هباءً . * أفعال البزوغ : ومن الصيغ التي تكشف لنا تناقضات الذات ومفارقاتها – أيضاً – صيغة أُحب أن أطلق عليها " البزوغ " أو" الانبثاق " وهي عبارة عن " انتفاضة فجائية " تحدث في " الداخل " المستتر، فتلقي به إلى " الخارج " على صورة شوق أو حلم من تلك الأحلام المقموعة هناك ..فالنور " ينطلق فجأة " حتى أنهم " يصابوا بالعمى المؤقت " في " تجارب في العبث " وفي " جمرات " : " عشرون عاماً لم أرَ إلاها زوجتي حتى تفجرت في مساء بنت من بنات البحر الكبير ضربتني الملعونةُ في عمقي " وفي " سَمت " تنبثق بنت أخرى من حفريات الحنين هي : " حبيبة حقيقية لها صدر وعين وساقان رَمَت معي القنابل على السلطة البطريركية القديمة ونامت على ذراعي في القطار واستطاعت أن تُضحكَ عَيْني الميتة " وهناك أيضاً " بنات البر " اللاتي يطلعن للعائش في البحر و " بنت " أخرى تراود أحلام " بائع الروبابكيا الصغير " . وقد أشرنا من قبل إلى " المغني الضرير" في " ما يتبقى فينا " : " الرجل الذي بَزَغَ فجأةً أمامي الرجل الذي قاومت بشراسة كل رغبتي الحقيقية في سماع عدة موشحات أو حتى طقطوقة منه " هكذا تبزغ ، تتفجر ، تنبثق أحلام وأشواق الداخل ، المقموعة ، لتقلق وتفضح وتعرى وتسخر من المظهر الزائف للذات ،هي سخرية الشاعر من " ذاته " وذوات أخرى ، تخون أشواقها وأحلامها وأصوات قلوبها لترتمي راضية خلف أسوار العزلة ، تلعق كَفَافها . هذه هي النار التي تغني في ليالي الأرق والحنين ، في قصائد مؤمن سمير التي استطاعت أن تُعرِّينا جميعاً نحن المتواطئين مع شروط وأقنعة وأسوار العزلة .
* مجلة " الثقافة الجديدة " ، العدد 153 الصادر في 15 فبراير2003 ، ص107
#مؤمن_سمير (هاشتاغ)
Moemen_Samir#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
( تفكيك السعادة للشاعر مؤمن سمير: تعالوا لنحكي عن السعادة قل
...
-
- الوجه الآخر للانكسار - بقلم د.عفاف عبد المعطي
-
( حركية النص واستراتيجية الاحتمال في ديوان - هواء جاف يجرح ا
...
-
- المفارقة الشعرية - بقلم / د. محمود الضبع
-
- بهجة الاحتضار والبحث عن الذات - بقلم / د.عفاف عبد المعطي
-
( ديوان -غاية النشوة - وذات تختبئ خلف الأشياء ) بقلم / عبد ا
...
-
- سِريُّونَ .. وقدماء - بقلم / محمد الأسعد
-
( جدلية الهواء .. في محاولة تضميد جرح الملامح : قراءة أولية
...
-
- غاية النشوة - بقلم / بهيج إسماعيل
-
( - ممر عميان الحروب -.. صرخة شعرية ضد تشوهات الحرب ودمارها
...
-
- ممر عميان الحروب لمؤمن سمير: اعتيادية القهر وألفة الاغتراب
...
-
- كونشرتو .. العتمة - بقلم / محمد مستجاب
-
- مؤمن سمير: قراءة في دفتر البهجة - بقلم / عيد عبد الحليم
-
- مؤمن سمير وكيمياء بهجة الاحتضار - بقلم / د.مصطفى الضبع
-
- خلفيات شعرية - بقلم د.عبد الحكم العلامي
-
- مؤمن سمير يحاصر الاحتضار بالبهجة - بقلم / يسري حسان
-
- في جَوْفِ كلِ نغَمَةٍ - شعر / مؤمن سمير
-
- في الصباح الأول ، شربتُ ماءَ اللَّعنةِ .. واَنْتَظَرْت -
-
- غابةٌ أخرى -
-
- طائرة ورقية .. تَحُطُّ على مَرَايَاكِ - شعر/ مؤمن سمير
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|