|
الحب على كرسي متحرك
فؤاد قنديل
الحوار المتمدن-العدد: 4295 - 2013 / 12 / 4 - 17:15
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة
لم أستبشر خيرا عندما صدم عينيّ مشهد الجنود المدججين بكل ما يلزم لسحق المتظاهرين .. كنت قد تأخرت لحظات ، ولمّا دخلت المسجد كان الخطيب قد صعد المنبر والمؤذن يؤذن للصلاة ، لم أجد الشيخ عبد الرشيد ابن عمي ،بل شخصا آخر طويل القامة ذا شارب كث وعينين واسعتين ، وله فم واسع وأسنان لامعة وصوت عال حاد النبرات ، لا يشعر المستمع بأنه يتحدث من القلب . بدا كإنسان آلي . إذن فالأمن استبدل هذا الشخص بالشيخ عبد الرشيد اليوم بالذات . عندما بدأ خطبته: بقول الله تعالي «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم« أدرك الحضور ونحن في ثورة أن هذا الرجل البديل جاء ليرد المتظاهرين عن أهدافهم مستخدما النصوص الدينية كدروع في غير موضعها أي أنه مثل الجنود الذين يحتشدون بالمئات خارج المسجد ، وقال فيما قال : لابد للجميع أن يستمعوا لصوت الحكمة ، وسندنا في هذا ما ورد بالذكر الحكيم "ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " ، وهو صوت مطلوب في هذه المرحلة الملتبسة التي يختلط بها الحق بالباطل ، الصواب بالخطأ .. علينا جميعا علي الأقل وإلي أن تنجلي حقيقة الأمور أن نرفض من أعماقنا العنف ولا نشجع الانفلات ، لأنهما سيؤديان لزيادة الاحتقان وأحذركم ونفسي من النار المشتعلة التي ستلتهم الكل وسوف تغرق السفينة التي تحملنا إلي بر الأمان . تحمل المصلون كلام الخطيب العجيب والمستفز علي مضض . لم يبدر من بعضهم إلا الهمهمة ونفثات الغضب المكتوم .. كانت كلماته تخبط مشاعرهم وتصفع أعصابهم الملتهبة وهو يحاول صب المياه الباردة علي النار مقتنعا أنه لجهله المفرط يقدم خدمة جليلة للوطن . أخيرا أعلن عن قيام الصلاة فتنهد الجميع تنهدات الخلاص وارتفعت عن صدورهم صخرة الغباء والتملق ، وما إن انتهت الصلاة حتي هتف المصلون داخل المسجد حتي كادت الجدران أن تتهاوي والسقف أن يسقط من زلزلة الصوت الهادر : حرية .. حرية. . وتشكل بسرعة كيان ضخم متحد ومتماسك من البشر . مضي يتدفق حتي امتلأ بهم الميدان عن آخره وتمدد في الشوارع المفتوحة عليه ، وسرعان ما انضم إلي المسلمين مئات المسيحيين الذين كانوا قد تجمعوا أمام كنيسة شارع مراد .. صدرت الأوامر لجنود الأمن المركزي بالتصدي للمظاهرة حتي لا تأخذ طريقها إلي ميدان التحرير .. دمدم الجنود المحمية رؤوسهم بالخوذات ذات الدروع الصغيرة التي تحمي الوجوه بالإضافة إلي الدروع المحمولة علي السواعد وتكاد تحمي الجسد كله ، وبأيدي الجنود عصيّ حديثة .. هجم الجنود علي المتظاهرين .وضربوهم بعنف بالغ كأنهم يحاولون الانتقام من قتلة إخوتهم أو آبائهم . قاوم الشباب ودفعوا الجنود إلي الوراء .. زاد الضرب وبدأ التعامل مع المتظاهرين بقنابل الغاز المسيلة للدموع وكانت من أحدث ما أخرجته المصانع الأمريكية ضمن خطة تحديث آليات وزارة الداخلية ، وقال لي صديق مطلع أنها جزء من المعونة الأمريكية لمصر والتي يقبل الرئيس من أجلها أي شروط أمريكية حتي لو ضد مصالح الشعب .أي تبديد القرار المصري في مقابل قنابل يضرب بها الشعب المصري .. كنت أجلس علي الكرسي علي الرصيف تحت عمارة الشهر العقاري عازما علي الاشتراك في المظاهرة ولو في الصفوف الخلفية .. لم أشترك في مظاهرة منذ كنت طالبا في مدرسة الصنايع الثانوية حيث تخصصت في الزخرفة .. كان عمري 17 سنة وطلعت في مظاهرات 68 محتجا ومغتاظا من الأحكام التي صدرت ضد قادة الطيران بعد هزيمة 67 ، و لم أشارك في مظاهرات 71 ، 72 لأن الجيش طلبني للخدمة العسكرية ، ولم أشارك في مظاهرات يناير 77، لأني كنت قد أصبت في الحرب .. كان نفسي جدا أخرج في 77 لكني لم أعرف بها إلا متأخرا وكانت يومين فقط ولم تكن منظمة مثل تظاهرات هذه الأيام... أوشكت علي البكاء ، لكني كبحت الدموع . كنت أتمني في هذه اللحظة بالذات أن أكون بعافيتي . قادرا علي تقدم الصفوف وقيادة المظاهرة ، بل ساورتني أحاسيس جياشة تدفعني للنهوض . نصفي العلوي ينهض بينما السفلي قعيد . عادت غدد الدموع تتأهب لإفراز مخزونها . لكني كبحتها بعد أن رأيت سحب الدخان الكثيف تهاجم الجميع . تعالت مع الهتافات أصوات السعال بسبب خلو الفضاء من الأوكسيجين وبسبب التأثير المدمر للغازات علي الجهاز التنفسي من الأنف إلي الرئتين .. سقطت بعض البنات .. زادت القنابل وغطي الدخان الجميع .. ألقي سكان العمارات من الشرفات زجاجات الخل .. التقطها الشباب وصبوا منها علي المناديل والكوفيات وصبوا للبنات علي أطراف الطرح وأغطية الرؤوس واستخدموها كمامات . .. رمي آخرون يسكنون الأدوار الأرضية البصل والثوم ، وناول أصحاب المحلات الشباب زجاجات المياه الغازية التي وزعوها علي المتظاهرين ليتجرع كل منهم جرعة ، وبعضهم احتفن واكتفي بغسل وجهه وعينيه بالمياه الغازية. خرج د . صليب من الصيدلية المجاورة التي كنت أرتكن إلي جوارها ونادي عددا من الشباب كي يأخذوا منه ما يحمل من بخاخات الهواء وزجاجات قطرة العين . رغم السعال والتهاب العيون كانت الجموع تهتف : مش ح نسلم .. مش ح نطاطي . احنا كرهنا الصوت الواطي .تكرر الهتاف عدة مرات ، ولما زاد الضرب لمحت عجوزا يمسك بكم جندي منع نفسه من دفعه في لحظة استثنائية ويصرخ في وجهه رغم قرب المسافة فقد كان يحاول توصيل رسالة : يا عسكري يا غلبان قول والنبي بتقبض كام . ردد الآلاف وراء العجوز كلماته البسيطة .. كررها العجوز عدة مرّات ، لكن الجنود لم تكن تسمع غير الأوامر ، ولا تري غير وجوه الضباط .. الضرب يتوالي بلا رحمة وعدد المصابين بالاختناق والإغماء والجروح يتزايدون ، وبينما الشباب يسرع بنقل المصابين خارج ميدان المعركة داخل الصيدليات والعيادات وفي مداخل العمارات للإسعاف كنت أري الدم المراق يرسم علي ملابس المصابين وعلي مساحات صغيرة من الأرض ملامح الوطن الذي يمسح دموعه ويرفع رأسه ويتطهر بالدم ويكتب به أيضا أهدافه بخط واضح ومشرق وصارخ. عروقي تنبض بشدة داخل جسدي وعبر أذرعي المتحفزة .. ما أبشع العجز ؟؟ .. لكني لن أبقي عاجزاًً إلي الأبد .. اليوم فرصتي لأشارك المتظاهرين طلعة الوطن.. طلعة واحدة من أجل الوطن . . قوّيني يا رب . تعودت منذ عشرين عاما أن أصلي الجمعة في مسجد الاستقامة بميدان الجيزة ، لأني أقيم علي بعد خطوات منه وبالتحديد في شارع الصناديلي ، كما أن الخطيب الدائم للمسجد هو الشيخ عبد الرشيد ابن عمي ، وكثيرون يحرصون علي الحضور استمتاعا بخطبته البليغة والجريئة التي تمزج الماضي بالحاضر وتصحح الكثير من المفاهيم وتدعو إلي الدين المعتدل و المستنير وتعلو فوق السفاسف والمواقف المتصلبة . سكنت الدور الأرضي بعد حرب 1973.. كنت قد تلقيت دفعة رشاش في ساقيّ من جندي إسرائيلي كان مختبئا تحت دبابة بعد أن دمرنا عدة دبابات وأسرنا معظم جنودها .. أصبت إصابة شديدة أعجزتني .سلمتني القوات المسلحة كرسيا متحركا أتنقل به وكان لابد أن أظل به من الصباح إلي المساء . استعنت بأولاد الحلال حتي استأجرت الشقة التي أقيم فيها وكان شرطي الوحيد أن تكون بالدور الأرضي حتي أستطيع أن أذهب إلي دكاني القريب فأنا لا أحتمل القيود ولا الحبسة . فتحت الدكان لممارسة هوايتي في الرسم والزخرفة وكتابة اللافتات بخطي الجميل و كذلك بيع اللوحات .. رسمت الكثير من أغلفة الكتب ، كما كتبت مئات اللافتات للمحلات في القاهرة والفيوم وبني سويف وشبرا الخيمة .. يأتي أصحاب المحلات والشركات إلي بالذات كي يطلبوا تنفيذ خطوطهم ورسومهم ومعي في المحل مساعدي الوحيد جوزيف ابن فهيم صاحب العمارة. في يوم جمعة الغضب سبقني ولداي تامر وهيثم إلي المسجد . طلبت الصغيرة التي لم تتجاوز الخامسة عشرة أن تدفعني . حاولت منعها علي أساس أني لا أدير عجلات الكرسي بيديّ ولستُ بحاجة لخدماتها ، قالت إنها ذاهبة للصلاة في المسجد قلت لها : ابقي مع والدتك لتساعديها في تجهيز الغداء قالت علي الفور كأنها تنهي النقاش : أمي ستلحق بنا بعد دقائق شملتني البهجة برد ابنتي ومضينا إلي المسجد .. نحن جميعا نصلي لله لنشكره علي أفضاله وندعوه كي يزيح الغمة . أسفت لأن ولدي الأكبر الذي تزوج منذ سنوات ويعيش بعيدا عني يدخن ولا يحرص علي الصلاة .. لماذا يتهرب الكثير من الشباب من الصلاة وكأنها تدعو إلي الانحراف أو تدفع للكراهية .. الصلاة متعة وحوار مع الله وتصفية للنفس وتخفيف للآلام ودعوة متجددة للتمسك بالفضيلة وغسل الروح ..أنا حزين لأن الكثيرين لا يدركون ذلك ، بل ويقاومون إذا حاول من أكرمهم الله بالهدي أن يبينوا أثرها وجدواها علي الناس والحياة .. الصلاة بالذات إذا تمت بإخلاص كانت صمام الأمان الذي يدفع المشكلات . علي أية حال له في خلقه شئون . فوجئت بمن يضع يده علي كتفي بحنان : يا عم باز .. لماذا تخرج من بيتك يوم القيامة ؟ هذا الصوت أعرفه . ليس معقولا أن يكون هو . صوت مميز وخشن وكأنه سكين يمر علي زجاج مشروخ . هذا الصوت لا يكون لأحد إلا لجاري الغبي ذي الشخصية اللزجة. اسمه كامل .. الاسم لطوبة والفعل لأمشير . شخص لا أطيقه وأكرهه كره العمي . إنسان مزعج لغاية الغاية . لا عمل له طول اليوم إلا تجاوز الحدود وسب كل العابرين ، ومن يستند إلي جدار بيته يلعن أهله . يغسل سيارته التي تشبه القنفذ وتسير كالسلحفاة وتخرج عادما يسود وجوه مليون إنسان ، وتظل تعطس وتسعل طوال الطريق . يعرفها كل سكان مدينة الجيزة من نزلة السمان حتي أرض اللوا والبحر الأعظم والمنيب والمنيل والمماليك والروضة ، ويعرفها السائحون الذين يترددون علي الحي.. إذا غسلها في الشارع أغرقه بالماء واستمر يدلك صاجها الكالح عدة ساعاتحتي تتوقف الحركة وتصل المياه أحيانا إلي مداخل البيوت ، وإذا حدث أن اغتاظ منه أحد السكان ونبهه إلي سوء ما يفعل يقول علي الفور ببروده النادر : -أنا حر .. هذا شارع الحكومة وليس شارعك ، وإذا زاد اللجاج يقول : مادام كلامي لا يعجبك أبلغ الشرطة . كان إذا خطر علي بالي تذكرت المثل الذي يقول : إذا افتكرت الديب حضر له القضيب ، لذلك قررت منذ نحو عشر سنين ألاّ أحييه ولا أرد تحيته حتي لو في المسجد.. وكنت أمني نفسي كل يوم بالصبر علي الجار السو يا يرحل يا تيجي له داهية تاخده. قال وهو يحاول أن يكون رقيقا فازداد سخافة : - اليوم يوم الحشر ولازم أعرف لماذا تقف مني هذا الموقف ؟ لم أهتم .. .. واصل محاولته الثقيلة مثله : إذا كنت أخطأت في حقك أرجو أن تقبل اعتذاري أمسك برأسي محاولا تقبيلها ، أبعدتها عنه فهجم عليها بذراعيه وأوسعها تقبيلا .. شعرت كأنه يبصق عليها .. تخلصت منه أخيرا وأنا أقول : هل هذا وقته ؟ .. اندفع يقول : وقته وعز وقته.. بصراحة شعرت أني لا أستطيع الاستغناء عنك .. الحي كله لا يستطيع .. أنت بيننا البركة .. عفا الله عما سلف ، ولو أني لا أعرف ما الذي سلف. قلت من بين أسناني : مادمت لا تعرف فلا تعتذر قال : أرجو أن توضح لي خطأى قلت بقرف : في وقت آخر .. حاول من جديد بإلحاحه اللزج فصرخت فيه بحدة لفتت الأنظار. أخيرا سكت ، وأخيرا تغلب المتظاهرون علي الجنود واكتسحوهم وتحركوا .. عزمت علي المضي خلفهم .. سألني الجار التعس : هل تود أن أعيدك إلي البيت ؟ - شكرا أدرت العجلات في اتجاه المظاهرة . قطارها الآن يمضي بثقة .. عدت أتذكر جاري الذي تمنيت أن يكون قد ذهب وغار ، حتي لا يصاحبني في رحلتي إلي ميدان التحرير .. لو سمحت له بمصاحبتي سأكون كمن يتبع البوم لن يجني إلا الخراب ... هذا الجار الذي أجّر دكانا في بيته لسمكري سيارات . الدكان مساحته لا تتسع إلا للكرسي المتحرك الذي أجلس عليه . تمكن السمكري خلال أيام من جذب زبائن كثيرين فوقفت خمس سيارات مهشمة أمام الدكان وأمامنا وسدت الشارع وأخذ يطرقها بدون توقف ليصلح جسمها الصاج .. كان معظمها متخرجا من حوادث قاتلة. .. كان أغلب الدق موجها إلي نافوخي ونافذا فيه . وقد خرجت عدة مرات وزعقت وشتمت ، ولا حياة لمن تنادي إذ لم يرد عليّ أحد .. أحس الآن أن الكرسي يجري . بطرف عيني لمحت كفين تقبضان علي المسندين اللذين أضع عليهما ساعديّ .. كان هو الملعون . سألت نفسي : أين كان منذ عشر سنوات وقد جعل حياتنا جحيما ... سمعت رجلا يتحدث إلي آخر : - طلعت للدنيا وجدته يحكمنا ، وتعلمت وتخرجت وتزوجت وهو يحكمنا .. الآن عندي أولاد ثلاثة وهو ما يزال يحكمنا .. بلغت الأربعين وهو مازال إلي اليوم يحكمنا رد عليه صديقه : خلاص .. الشعب قرر أنه ما يحكمش ضحك الاثنان وهما يقولان معا : ما يحكمش هتفت المظاهرة الضخمة التي تضم عشرات الآلاف في نفس واحد يبلغ عنان السماء : ما يحكمش.. ما يحكمش تسلل من جديد شعوري بالألم بسبب الإعاقة . أريد أن أقف في هذه الأيام فقط لأشارك في المظاهرات وأقودها ثم أموت .. لن تكتمل رسالتي علي الأرض إلا إذا كان لي دور في هذا العمل الوطني المقدس. عاد الجنود بعزم جديد يهجمون من كل الاتجاهات . يضربون بالعصي والرصاص المطاطي .. كانت النية معقودة فيما يبدو علي ألا نصل إلي التحرير .. المتظاهرون يدفعونهم بصعوبة .. القنابل الدخانية ظهرت من جديد .. المنطقة بعد كوبري الجلاء وفندق شيراتون تخلو من المساكن والمحلات . متحف مختار والحديقة إلي اليمين والأوبرا إلي اليسار .. وضع الكثيرون المناديل والكوفيات علي أنوفهم .. لم يكن مع أحد بقية من زجاجات الخل أو قطرات العيون .. لكنهم بإصرار شديد يتقدمون وجاري بكل إخلاص يدفعني ، ولأنه يهوي الثرثرة ولا يملك القدرة علي الصمت فقد أخذ يغني عندما يتوقف الهتاف . غني بلادي بلادي .. ويا نسمة الحرية» . عندئذ فوجئنا بهجوم شرس من الخلف قام به عدد كبير من الجنود .. تعرضنا نحن الملازمين للصفوف الخلفية للضرب المبرح .. خامرني خاطر يجمع بين الدعابة والخبث فقد تصورت أن صوت جاري ألحق الأذي بآذان الضباط فقرروا إسكاته .أوشكت عصا غليظة أن تنزل علي وجهي تلقاها جاري بساعده ووجه لكمة إلي صدر الجندي الذي تألم وتداعي لكن زميله سند ظهره حتي اعتدل .. وضعت كفي فوق يد جاري ممتنا .. انحني وقبّل رأسي .. زاد الهجوم علينا . العساكر الأغبياء والعميان لا يرون حالتي ولا يشفقون علي عجزي .. تعرضت للضرب مجددا تلقاها جاري عني جميعا إلا واحدة سقطت علي كتفي ، وأحسست كم هي شديدة إلي درجة إحساسي بأنها نفذت إلي جنبي كله .. غبت عن الوعي لحظات .. استدارت مؤخرة صفوف المتظاهرين نحونا وتولت دفع الجنود عنا فقد كنا جميعا تقريبا من كبار السن والعجزة . اضطر بعض الشباب أن يختطفوا العصي من الجنود ويضربونهم بها وبعض الشباب قطع بعض أغصان الشجر ونزل بها علي الجنود المدرعين ، لمجرد بيان قوتهم وقدرتهم علي الصد ، ولم يقصدوا إيذاء الجنود الذين يستحقون الإيذاء وكثيرا ما قال لي البعض : هذا عملهم ، كل ما هنالك أنهم يؤدونه بإخلاص نادر وزائد عن الحد ...استطاعت المظاهرة بعد توقف لنحو نصف ساعة أن تواصل تقدمها حتي مدخل كوبري قصر النيل حيث يقف في انتظارها سعد زغلول مشيرا لها كي تتجه إلي ميدان التحرير .. تقدمت المظاهرة وهي تهتف : كرامة وحرية .. عدالة وتنمية تذكرت أغاني حرب 73 التي طالما استمعنا إليها بعد عبورنا قناة السويس باسم الله .. الله أكبر باسم الله ، وآدان ع المدنة باسم الله باسم الله.. بإيدين ولادنا باسم الله .. وأغنية "فدائي فدائي .. فدائي أهدي العروبة دمائي.. وأموت أعيش ما يهمنيش وكفاية أشوف علم العروبة باقي .. فدائي ..فدائي» انحني عليّ جاري وقال : أنا سعيد أننا معا في هذا اليوم المهم لم أرد .. انحني وقبل رأسي وكتفي .. شعرت أن جاري بالغ في استرضائي ، قلت له : يكفي .. يا كامل .. شكرا قال بصوت رقيق فعلا : يا عم باز .. صدقني أنا سعيد .. أنا عمري ما شاركت في مظاهرة واليوم تمنيت أن أشارك مع مجموعة من المنطقة يعرف بعضنا بعضا ولا أذهب وحدي .. فرحت عندما وجدتك أمامي وأنا أقف حائرا .. قلت له : يا أخ كامل لماذا لا تريد أن تفهم أني أستطيع السير وحدي ؟.. انطلق مع الناس وشارك ولا تربط نفسك بي عاد إلي جاري صوته عالي النبرات قائلا في إصرار : والله لو لم تبقني معك لأحملك أنت والكرسي فوق رأسي .. ما رأيك ؟ يستطيع بسهولة أن ينفذ وعده أو وعيده فهو في حجم البغل الاسترالي ..صحته ممتازة رغم بلوغه الخمسين تقريبا .. ظللت مندهشا من حالته .. الكيمياء تغيرت جدا انشغلت عنه بالهتاف : كرامة وحرية .. عدالة وتنمية خرج صوتي مثل صوت عنزة ، فهتف كامل ورائي بصوت بصوت عبر النيل حتي وصل ميدان التحرير.. هتف الجميع وراءه وتكرر الهتاف . فجأة هطلت علينا المياه الكبريتية التي ضختها سيارات الشرطة الضخمة .. كميات غزيرة وثقيلة من المياه . لم يحتمل الكثيرون شدة سقوطها علي الرؤوس .. تفرقت الجموع وتضررت النسوة وصرخن . كانت هناك أسر كاملة . وقع الصغار علي الأرض ووقعت بعض الأمهات وفككت أزرار البلوزات وتطايرت ذيول الجيبات وابتلت الفساتين والبنطلونات والجواكت والأحذية . طارت القبعات وكذلك الكوفيات والنظارات الطبية والشمسية وسقطت في النيل وبعضها سقط علي الإسفلت وداسته الأقدام المضطربة . كنا في المؤخرة فلم تطالنا المياه وإن تراجعت الصفوف وقع علينا بعض الشباب انفتح نهر المتظاهرين وانقسم إلي ضفتين . انطلق من في كل ضفة يجرون باتجاه الميدان ويهجمون في طريقهم علي الشرطة المستعدة لاستقبالهم بالرصاص الحي . فوجئ الشباب بالرصاص يثقب صدورهم ولمحوا في آخر اللحظات أرواحهم وهي توشك علي المغادرة . لما رأيت الممر تحمست وقلت لكامل سنعبر من هذا الممر بسرعة اندفع ينفذ ما طلبته وانطلق في الممر ، لكني رأيت يعيني عبر الممر المتسع بين ضفتي البشر والغارق بالمياه مدرعتين تندفعان باتجاه المتظاهرين وتدهسهم، ويهرب منها النساء والأطفال والعواجيز أمثالي إذا استطاعوا .حاول بعض الشباب أن يقفزوا فوق المدرعتين .. لكن المدرعة كانت مغلقة من كل الأجناب حتي السقف ، والجنود بداخلها يتابعون ما يجري عبر كوي صغيرة ، يخرجون منها مواسير البنادق ويطلقون الرصاص الحي علي من لا تدهسه المدرعة ..خلف المدرعات كان الجنود يطاردون من يحاول الهرب .. مشهد بشع لم أسمع به ولا رأيته من قبل لا في الحقيقة ولا في الأفلام . كان كامل يدفعني بسرعة قبل أن تدهمنا المدرعة ، لكنها انحرفت بسرعة نحونا . حاول كامل أن يراوغها ويبعدني عنها فانحرف يسارا بسرعة خاطفة ، لكن المدرعة انحرفت بسرعة شديدة وغريبة لتقتحمني وترفعني عاليا وتلقيني بعيدا حتي أن الكرسي بفضل الله ورحمته تعلق في عمود النور فوق سور الكوبري في آخر لحظة قبل السقوط في النيل . . كنت قد غبت عن الوعي ولم أعرف بما جري إلا بعد ذلك فقد سقط كامل هو الآخر وحاولت المدرعة أن تدهسه فلم تلحق إلا يده وكان باقي جسمه علي الرصيف .. كان الشباب قد اختطفوا الهراوات من بعض الجنود وهاجموا المدرعة التي كانت تتأهب للصعود فوق الرصيف ودهس كامل فتراجعت المدرعة وأخذت تدور حول نفسها كي تحاول بمنتهي الإخلاص والتفاني قتلهم . توجه عدد من الشباب نحوي وأنزلوني وفحصوا جسدي سريعا فوجدوا بعض الإصابات ووجهي ينزف دما من جبهتي التي ارتطمت في حديد العمود كما قالوا وتداخل الكرسي .. أما كامل فلم يستطع تحريك يده مطلقا وإن لم يحس بذلك تماما وقتها ..كنت قد أيقنت أني في الدار الآخرة وأننا بالفعل يوم الحشر .. حاول كامل بعد أن أفاق أن يطمئن عليّ وأن يلمس كل جزء بجسدي ويسألني عن إحساسي .. طمأنته بأن الضربة يبدو أنها أصابت الكرسي فقط .العجل معوج والحديد التوي . كان أحد الشباب قد مسح الدم من وجهي ولف منديلا حول رأسي قلت لكامل :علينا أن نعود فكفي ما جري لزمنا الرصيف والتصقنا بالسور حتي ينتهي كامل من محاولة ضبط الكرسي .. بعد ساعة من الجهد الكبير المتواصل ، وبسبب عدم وجود أية آلة أو حديدة فشل رغم عناده في إصلاح الكرسي .. حملني وجر الكرسي نحو عشرة أمتار إلي أن تقدم شاب فحمل الكرسي مائة متر عائدين باتجاه الأوبرا .. كان طريق العودة إلي الجيزة فارغا فالزحام كله في الطريق المتجه إلي التحرير .. استدعي كامل تاكسيا . حملني وأدخلني فيه ورفع الشاب الكرسي فوضعه فوق السيارة . لما وصلنا شارع الصناديلي حاول أن يدفع فرفضت .وقلت للسائق إذا أخذت منه فلن أغادر السيارة .. اقتنع السائق وخاف في الوقت نفسه ..حمل كامل الكرسي ووضعه أمام دكان السمكري ثم عاد وحملني إلي البيت .. انطلقت من زوجتي صرخة عفوية عالية ولطمت خديها . قلت لها : أسمعينا زغرودة من قلبك .. فرت الدموع من عينيها ، أقسمت لها أنني أقول الصدق .. وضعني كامل علي السرير. . وقال لها : فعلا يا حاجة لازم تزغردي ، شكرته شكرا جزيلا قال : صافي يالبن يا عم باز ؟ قلت : صافي يا لبن خرج وهو يقول : احنا ولاد النهاردة كنت منشرح الصدر ..مقبلا علي الحياة .. شاركت في المظاهرة ، وكل من شارك فيها حتي ببيع الأعلام والبليلة كان بطلا .. إذن أنا من الأبطال والأحرار .. لقد عشت لحظات لم أعشها من قبل أبدا .. ومادامت الثورة قامت ورأيت شبابها بعيني يفرض كلمته وأنه قادر علي تحقيق المعجزات . فلا بأس إذن إذا الموت جاء.. ولن أنتظر يوم القيامة لأعفو عن كامل الذي طالما أزعجني.. ربنا يسامحه ويهديه .. سألت عن الأولاد ..قالت الحاجة إنهم لم يعودوا بعد .. سألت عن الصغيرة أمل ،قالت : لقد لحقت بهم تنهدت وطلبت من أم العيال أن تتركني قليلا ، فأنا أشعر بتعب شديد ، وإن كنت منشرح الصدر سعيدا بما جري لي وللناس في بلادي.
#فؤاد_قنديل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حبى يمنعنى من خداعها
-
أسرار رابعة2
-
أسرار رابعة 1
-
الجوائز العربية بين الحضور والغياب
-
- سلالم النهار - رواية فوزية السالم بين السياسة والأيروتيكا
-
المثقفون أمام محكمة التاريخ
-
صبري موسى ..و - فساد الأزمنة -
-
حِصانها وحِصاني
-
لم تصنع نفسك .. لكنك تستطيع
-
زحف النمل
-
يمامة خضراء بكعب محني
-
مئوية جارودي .. المناضل الفريد
-
أجمل رجل قبيح في العالم
-
هل الأديان خطيرة ؟2
-
الساعة تدق السبعين
-
هل الأديان خطيرة ؟1
-
استرخاء
-
لا تغيير بلا ثقافة
-
المثقفون والسلطة
-
حَدثني عن البنات
المزيد.....
-
دراسة تحليلية لتحديات -العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا- في
...
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|