|
من أدب الصعاليك الإسباني (حياة لاثاريّو دي تورمس، حظوظه السعيدة ومصائبه)
خالد سالم
أستاذ جامعي
(Khaled Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 4294 - 2013 / 12 / 3 - 20:15
المحور:
الادب والفن
من أدب الصعاليك الإسباني (حياة لاثاريّو دي تورمس، حظوظه السعيدة ومصائبه) د. خالد سالم
هذه القصة (1) من أدب الصعاليك، وهو نوع قديم من الأدب المرح، ظهر في إسبانيا، ثم إنتشر في مختلف أنحاء العالم. وهي مجهولة المؤلف وبطلها صعلوك شريد يعمل في خدمة نوعيات مختلفة من الناس… منهم الشحاذ الأعمى والقس وحامل ترس النبيل أوالسائس والشرطي والنبيل المسكين…، وكل المهن والحرف تقريباً. وعن طريق الصعلوك الصغير نستطيع أن نستشف بعض خبايا النفس البشرية ومظاهر الحياة الإجتماعية في إسبانيا في تلك الفترة. وهذا النوع من القصص ولد في إسبانيا وبقي فيها حوالي قرن من الزمان، ويطلق عليه قصص الصعاليك، وبطلها صعلوك يتنقل بين المنهن الدنيا، وبلغ أوجهه على يد الكاتب ماتيو أليمان. ثم إنتقل هذا اللون إلى بعض دول أوروبا وأمريكا اللاتينية. وقد ولد في ظروف إجتماعية وسياسية وإقتصادية مواتية لذلك في النصف الأول من القرن السادس عشر. ومن الملاحظ أن بطل هذه القصة، لاثارو، لا ينغمس في وسطه الإجتماعي من صعاليك وشحاذين وغجر ومحتالين ، ولا تحركه بواعث مثالية، فتصرفاته تسيطر عليها حقيقة واحدة تتمثل في الدفاع اليومي المستميت للإنفكاك من براثن الجوع. ولاثاريّو لا تهمه في هذا العالم سوى مصلحته الشخصية الممثلة في الفرار من الجوع، دون أن تفارقه روح السخرية والتهكم من النماذج البشرية التي تمثل طبقة بعينها، وعلى وجه الخصوص رجال الدين والكنيسة. غير أننا نجهل تاريخ تأليف هذا الكتاب وإسم مؤلفه، وكل ما هنالك بهذا الصدد إفتراضات إقترحها الباحثون منذ ثلاثة قرون دون أن يصل أحدهم إلى الجزم بهذا الصدد. ورغم هذا فإن أقدم طبعة من هذا الكتاب تعود إلى عام 1554، وهي طبعة القلعة التي تشير إلى أنها طبعة ثانية مزيدة ومصححة. أي أن هناك طبعة سابقة عليها.وهناك تضارب في آراء المختصين بدراسة الأدب الإسباني فيما يتعلق بتاريخ التأليف الدقيق، وكلها تقوم على أساس معلومات مستقاة من أحداث هذا الكتاب. والأمر نفسه كان بخصوص المؤلف المجهول الهوية حتى اليوم، إلا أن العلامة الإسباني أميركو كاسترو إفترض أن يكون مؤلف الكتاب يهودي من أولئك الذين أجبروا على إعتناق المسيحية فامتلأت نفسه مرارة ضد الكنيسة والمسيحية، وهو أمر نلمسه في الكتاب.وهذه المرارة والنقد، حسب أميركو كاسترو، نجده في كتاب "قزمان دي ألفارتشي، لليهودي المتنصر ماتيو أليمان. ونظراً لما يتضمنه الكتاب من نقد للكنيسة والمسيحية قام الفاتيكان في 1559 بمنعه وتحريم تداوله ووضع في قائمة الكتب المحرمة لما فيه من سخرية من رجال الدين ومفاسدهم ومسالبهم. ويعني تاريخ ظهور هذه الطبعة أن الكتاب ظهر في العصر الذهبي للأدب الإسباني، القرنان السادس عشر والسابع عشر. ثم صدرت منه طبعة منتقاة ظلت تصدر حتى نهاية القرن الثامن عشر، إلى أن انتهت محاكم التفتيش تماماً من إسبانيا. إلا أن النص الأصلي ظل يطبع خارج إسبانيا، وحتى في البلاد التي كانت تحت مظلة الإمبراطورية الإسبانية. ونظراً لقيمة الكتاب الرفيعة صدرت له ترجمات إلى العديد من لغات العالم، وذلك منذ القرن السادس عشر إلى اليوم.أي بعد ظهوره بقليل في إسبانيا، إذ ظهرت أول ترجمة إلى اللغة الإنجليزية في عام 1568. هذا فضلاً عن صدور جزء ثانٍ منها، مجهول المؤلف أيضاً، وقلدها آخرون إلى أن ألف على منوالها كيبيدو كتابه "البوسكون" الذي نشر عام 1602. كما كانت هناك تكملات، أشهرها طبعت أمبير ببلجيكا سنة 1555 وصدرت بدون إسم للمؤلف، والثانيىة طبعت في باريس عام 1620 وكتبها خوان دي لونا. غير أن هذه التكملات لا ترقى إلى مستوى الأصل، وهو أمر وارد في جل التكملات التي أضيفت لأعمال كلاسيكية. وقد إتفق الباحثون، وعلى رأسهم منينديث بيدال، على أن هذه القصة هي أول نموذج في الأدب العالمي للقصة الواقعية الحديثة ذات المضمون الإجتماعي (2). وذهب بعض الباحثين العرب والإسبان إلى الإستدلال على أن هذه القصة ذات أصول عربية ، من بينهم المستعرب الإسباني فرناندو دي لا غرانخا والدكتور علي البمبي (3). وقد أقام الإسبان أطروحاتهم في هذا الصدد على أساس أننا يمكننا أن نتلمس بعض أحداث الكتاب في مصادر عربية على غرار ما حدث بالنسبة إلى كثير من الحكايات الإسبانية في أواخر العصور الوسطى والقرنين السادس عشر والسابع عشر. ويرى بعضهم أن هناك في القصة الإسبانية تشابه مع حكاية وردت في كتاب "المحاسن والمساوئ" للبيهقي (4). ويؤكد فرناندو ديلا غرانخا أن هذه الحكاية أوردها مؤلف أندلسي هو أبو بكر محمد بن عاصم (1359-1426م) في كتابه "حدائق الأزاهر في مستحسن الأجوبة والمضحكات والحكم والأمثال والحكايات والنوادر". وهناك مصدر ثالث يفترض أن مؤلف هذه القصة الإسبانية إستقى منه بعض حكاياته وهو كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. أما المصدر العربي الرابع فهو "المستطرف للأشبهي (1388-1446م). إلا أن هذه الآراء أو الطروحات تستحق التوقف بعد، إذ تطرح تساؤلات حول كيفية إنتقال هذه الحكايات أو الأصول العربية إلى الإسبانية. وهنا أورد الدكتور عبد الرحمن بدوي ثلاثة إحتمالات بهذا الصدد حول كيفية إنتقال النص العربي: فهل كان المؤلف الإسباني المجهول يعرف العربية، أم أن النصوص العربية ترجمت إلى الإسبانية، أم أن تكون الحكاية قد وصلت إلى المؤلف شفاهياً إذ يرجح أن تكون قد تناقلها الناس في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر، ومنها إستقاها مؤلف "يوميات صعلوك".ويرى الدكتور عبد الرحمن بدوي أن الإحتمالين الأولين ضعيفان، ويعتد بالإحتمال الثالث فقط (4). ويتخذ كاتب القصة في القص ضمير المتكلم، كما لو كانت ترجمة ذاتية له. ويرى البعض أن السبب في ذلك هي طبيعة الحكاية التي حملت المؤلف على سردها في هذه الصيغة لكونها سيرة ذاتية. إلا أن آخرين يرون أن هذا الرأي مغاير للحقيقة فالكثير من الحكايات التي كتبت في إسبانيا في منتصف القرن السادس عشر كانت بصيغة المُخاطِب رغم إختلاف أنواعها. ومن هنا نجد أن هناك أوجه شبه بين هذه القصة وأسلوب "المقامات" لدى الهمذاني والحريري. على أية حال لا يجب أن يكون هذا موضع غرابة في أدب كالأدب الإسباني الذين يدين بالكثير للأدب ولثقافة العربيين. غير أن هذا لا يمنع من أن تكون أوجه الشبه مجرد صدفة، ولا يجب المبالغة في التأثير العربي في هذا الصدد، فمن المؤكد أنه أكبر وأوضح في أعمال أخرى. هذا دون أن يعني هذا أننا ننكر هذا التأثير، فليس محض صدفة أن يولد هذا النوع من القصص في إسبانيا البلد الأوروبي الوحيد الذي عاش فيه العرب طوال ثمانية قرون، مخلفين وراءهم ما خلفوه من أثر وتأثير في إسبانيا الماضي والحاضر. وختاماً يلاحظ أن القصة تبدأ حيث تنتهي، فالجملة الأخيرة هي نواتها الأولى، إذ قال لاثارو في نهاية الكتاب"سأبلغكم بكل ما يحدث من الآن فصاعداً"، (5) الأمر الذي لا يترك مجالاً للشك في أنها تضمنت إضافات وتكملات شاركت في نسج خيوط القصة شيئاً فشيئاً. هوامش:
1- أود أن أشير إلى أن ترجمة هذا الكتاب التي بين يدينا كنت قد قمت بها ونشرنها تحت عنوان "يوميات صعلوك" -وهي الترجمة التي نحتفظ بها في هذا السياق- في جريدة "المساء" القاهرية بين عامي 1978 و1979 حيث نشر على حلقات. وكان هذا الجهد المتواضع ثمرة منحة دراسية صيفية حصلت عليها في 1978، عدت منها محملاً بالكتب وكان بينها هذه القصة التي راقت لي في ذوقها فقمت بترجمتها ونشرتها بعد ذلك بقليل. وبعدها بعام قام الدكتور عبد الرحمن بدوي بترجمته ونشره في المعهد الإسباني-العربي للثقافة في مدريد. العنوان الأصلي للكتاب هو " La vida de Lazarillo de Tormes y de sus fortunas y adversidades" نشرت أول طبعة منه في عام 1554. سأقوم بنشر حلقات من هذه القصة الشيقة على موقع "الحوار المتمدن" إذا ما تكرمت إدارته بذلك. 2- Jose Garcia Lopez, Historia de la literatura espanola, Barcelona 1970. P. 184 3- د. علي عبد الرؤوف علي البمبي، المقامات وباكورة قصص الشطار الإسبانية، كتاب الرياض، الرياض، السعودية، 1997. 4- د. عبد الرحمن بدوي (ترجمة وتقديم وتعليق)، حياة لاثريو دي تورمس، المعهد الإسباني العربي للثقافة، مدريد، 19979. 5- Francisco Rico, La novela picaresca y el punto de vista, Seix Barral, Barcelona, 1976. Pp. 25-26
#خالد_سالم (هاشتاغ)
Khaled_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لن تتحرر المرأة إلا إذا كانت قوة ضاغطة تغير القوانين والفكر
...
-
في ذكرى رحيل خوسيه ثيلا خامس وأخر نوبل إسباني للآداب
-
حضارة الفرجة: صناعة الرموز الرخيصة وشيطنة الآخر
-
زمن الفرجة: صناعة الرموز الرخيصة وشيطة الآخر البرادعي نموذجً
...
-
نطاق خشبة المسرح بين التقليد والتجديد
-
تطور حركة الإستعراب الإسباني
-
الكاتب الإسباني أنطونيو غالا: الأندلس تتملكني، فهي الهواء ال
...
-
تأثير نوبل نجيب محفوظ على الترجمة من العربية إلى الإسبانية
-
عالم الأندلسيات محمود مكي يترجل إلى الآخرة من بلاد الأندلس
-
الغيطاني وجدلية المجرد والمحسوس في -متون الأهرام- *
-
الشاعر رفائيل ألبرتي : تأثرت بالشعر العربي الاندلسي وغارثيا
...
-
الإسلاميون والديمقراطية في مفترق طرق
-
سورية في قلب أم الدنيا
-
الرؤيا في شعر البياتي
-
لا تجبروا جيش الشعب المصري على أن يكون فاعلاً على غرار جيوش
...
-
أزمة اللغة في -المسرح الجديد- في إسبانيا
-
مشاهد بعد معركة الإخوان المسلمين
-
العرب بين الإنتحار واللهو بتطبيق الشريعة: مصر على شفا جَرف ه
...
-
من البنية إلى البلاغة في السميوطيقا البصرية
-
التأليف الموسيقي في خدمة الصورة السينمائية (الخطاب الموسيقي
...
المزيد.....
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|