عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4293 - 2013 / 12 / 2 - 23:45
المحور:
الادب والفن
حكاية ريما وصباح رائق
استيقظت ريما متأخرة عن موعدها المعتاد لقد قضيت ليلة متفردة ليس ككل الليالي وهي تقلب أوراق ماضي ضاع منها دون رجعة ولا تريد ان تتكرر نفس الخطيئة الأولى حينما رفضت وبقوة مناشدات والدتها العجوز الحكيمة التي طويلا ما رددت عبارتها الشهيرة الحب يأتي بعد الزواج ,قررت أن تعطي الحكمة مساحة وان تمنح ثقتها للمقولة التقليدية ,كانت تردد وهي تحتسي فنجان قهوتها الصباحي مطلة من خلال الشباك على فضاء ممتد ينقلها إلى خارج المدينة حيث مزارع الزيتون تمتد صفوف مترامية ومتموجة كأنها موجات ماء خضراء تعلو وتهبط ... الشمس قريبا من الزوال.
كان القرار الاخير الذي ارهقها ليلة الامس ان تمضي مع القدر وان تضع عقلها المشاكس في برادة الطعام حيث عليه ان يأخذ قسطا من الراحة ,اتعبها واتعبته دون ان تصل الى وجهة محددة وخلال ثلاثين سنه مرت هي هكذا فتاة مشاكسة لكل ما هو تقليدي تتشبه بالعظام لكنها لم تصل الى مرحلة العظمة سوى انها احترمت ارادتها وخيارها وهذا أول شروط ان تكون عظيما في داخلك.
كتب أول رسالة عبر البريد الخاص إلى زاهر المرشح المحتمل للفوز بقلب الانسة ريما كلمة تعني أي شيء إلا أنها أيضا لا تعني شيء قالت بحروفها أنها متفائلة بهذا الصباح وترجو أن يكون كذلك الحال لك, لكن من كان يملك أملا مثل زاهر يمكنه ان يقرأ من خلال هذه الحروف رواية تعني مستقبل جميل وتعني انك ايها المغفل هذه دعوى تقدم خطوة نحن في انتظارك.
عادت وأمسكت جهاز الهاتف النقال لتمسح الرسالة ظنت أن ذلك يقلل من شأنها ,عليها أن تثبت عظمتها واعتزازها بالنفس رمت الهاتف بعيدا وفتحت علبة سجائرها الخاصة لتلتقط اول ضحاياه هذا الصباح, كانت السيجارة فيما مضى جزء مهم من شخصيتها المركبة ترى فيها فحولة تتناسب مع قوة وتقاسيم وجهها لذا لا يمكن ان يمر موقف دون ان يكون للدخان حضور مسرحي في مكان الحدث , الغريب ان طاولتها المثبتة في زاوية الغرفة البعيدة عن السرير ليس فيها أي أثر لأدوات التجميل ما عدا قلم كحلة وبعض زجاجات العطر ومرطب لليدين.
عادت مرة اخرى وحاولت ان تتكلم مع زاهر هذا اقل شيء يمكن ان يكون , تحية الصباح إنها مجرد مجاملة ولا اكثر ولا تعني شيء الاصدقاء ومعظمهم يتعامل بهذا الاسلوب الحضاري ,القت نظرة اخيرة على الرقم الظاهر على الشاشة ولكن عقلها ما زال يقاوم واصابعها تجمدت من ان تكبس على زر الارسال استرسلت بعيدا تتذكر قصتها مع فوزي أيام الجامعة حيث كان هو من يوقظها من نومها برنة التلفون صباح الخير على الياسمينة فترد عليه صباح النور شكرا فوزي ,استمر الحال لسنة ونصف لم تغير عادتها ريما بالرد مع اكثر الجمل رقة ونعومة التي يرسلها فوزي في كل صباح ,حتى عاد الهاتف لا يرن, اخيرا قررت ان تتراجع ورمت بالهاتف بعيدا لتكمل فنجان القهوة , لم يعد فيه إلا بقايا ناشفة.
الشمس حين تنتصف في كبد السماء تجعل من شجر الزيتون يفرش ظله تحته فيرسم في الافق صورة في غاية للتشابك اللوني بين التربة الحمراء والظلال بامتداد يعطي للشاعر سحرية ان يكتب اجمل الصور, امسكت بقلمها لعلها تستوحي المنظر بكلمات تعبر فيها عن حلها وهي مترددة لا تعرف ما تريد فكتب فوزي انا أشتاق ان ارسل لك عيني مع أول عصفور مغادر صوب موانئك , تذكرت انها تريد ان تكتب لأزهر , مزقت الورقة وأشعلت سيجارة جديدة برغم أن القديمة ما زالت ترسل خيوط دخانها كأنها اعمدة رقيقة تحمل اسرارها للسماء.
حاولت أن تجد شيئا في خزانتها يذكرها بكونها أنثى عليها أن تستظهر رقة أنوثتها ,لا شيء هناك غير سراويل الجينز وبعض القمصان التي توحي لمن يعرفها عن قرب أنها ليست من صنف الإناث بل هي فصيلة اكثر خشونة حتى من عمال المناجم أو من رجال الإطفاء , أمسكت المشط وجلست قبالة المرأة لتمشط شعرها القصير وهي تستمع لصوت نجاة الصغيرة كأنها تسمعه لأول مرة ... بالمناسبة ريما تمتلك مكتبة كاملة من الأغاني ليس بينها أغنية تهز عواطف صبية أو حتى أمرأه عجوز كانت تقضي معظم وقتها لو اتيح لها المجال تستمع أناشيد فلسطينية تستمع لقراءات شعرية.
تركت مقعدها وحاولت أن تعيد ترتيب الغرفة بما يتناسب مع ما سيحدث عليها أن تكون فتاة جادة لمرحلة جادة عليها ان تمنح نفسه شعورا بالتفاؤل وشعورا بالأنوثة المفقودة ,كان أولا ان تغير من ستائر الغرفة للون الباهت يوحي بعدم المبالات كذلك الوان سرير النوم ,أقدمت على سحب منضدة التجميل لقرب خزانة الملابس لتكون مقابلة للسرير تماما وكتبت في ورقة صغيرة مجموعة ملاحظات منها ان تشتري اقلام حمرة وعدة مكياج ورذاذ للشعر وبعض المستلزمات, لبست النظارة والقت بنظره على المرأة لا يبدو هذا متناسب ,صحيح انني بحاجة لها ولكن ليست بالقدر الذي يجعلني لا استغني عنها عليها ان تركنها جانبا الان.
القت نظرة اخيرة على نظام الغرفة أحست بتغير كبير ربما لم تتعود على هذا التغيير المفاجئ لكنها مضطرة ان تمارس نوع من الخروج عن أطارها الذي قيدت بها نفسها منذ ان انتقلت للسكن في هذه الغرفة منذ سبع سنوات , المهم ان تحس بنوع من الديناميكية التي تعطيها مبرر اخر نحو المضي في لتغيير الجذري, لكنها في لحظة ما لم يعجبها الترتيب فحركت طاولة المكياج نحو اليمين لتبتعد عن خزانة ملابسها ولتكون أقرب إلى الشباك ,أخرجت من الخزانة ستائر بلون شذري وارادت ان تبدل الستائر القديمة لكن هناك تناشز بين لون الستائر وبين معظم ما في الغرفة من ألوان أقرب الى لون الخشب واكثر برودة.
نفذت اخر سجائرها وهي لم تتعود أن تسرف كثير في مثل هذه الاوقات ,ذهبت تعمل فنجان قهوة أخر أو لعل هناك من قنينة عصير باردة ما زالت في برادها , لا شيء هناك ,البن لا يكفي لفنجان أخر والثلاجة خالية الا من قناني الماء المصفوفة , وقطعة كعك يابسة لا أظن انها ترغب بتناولها, الان يمكنها أن تثبت جدية التحول أن تنزل للشارع بدون نظارتها المعتادة وأيضا عليها أن تبد بالتغيير إن كانت جادة , أسرعت لخزانة الملابس بعد أن غسلت وجهها بالماء عادت من جديد لترى نفسها في المرأة ,كانت تخرج أحيانا للعمل دون أن تنظر ولو من باب الاحتياط في المرأة , منذ الصباح ولحد الان يمكن أن أعد انها تجاوزت في اطلالتها على المرأة ما كانت تعمله في سنه كامله ,,,, يا للهول حقا أن التغير عندما يأتي يكون كالإعصار.
لم تستطيع ان تنتقي شيء مميز يفصح عن رغبتها بالتغيير كل شيء في الخزانة اصبح مملا وليس ذا أهمية ولا يمكن أن يكون مناسب للخروج به الى الناس, لكن في وضع لا بد فيه من الخروج ,الأكل في الطريق للم يعد مطلوبا ولابد من أن تمارس دورها كفتاة تتهيأ لأن تدخل عالم مغاير عالم كله إحساس بالمسؤولية والإلتزام بما يفترض ان تعمله أي سيدة تجاه شريكها, لا بد أذن ان تنزل بالوضع العالي لتواجه ما يتطلب ,عليها أيضا أن تتدرج بالتغيير حتى تعتاد على ما لم تعتاده سابقا.
عادت للهاتف مرة اخرى لتتصل بمحل البقالة القريب من بيتها لتطلب الضروريات الآن ,بعد ما أجلت موضوع نزولها للتسوق الى المساء ,كانت تعتقد أن المساء يمنحها قدرة على مواجهة الناس بدون مظهرها القديم وقد تستغل انشغال الناس بوقت العودة لبيوتهم بعد مضي نهار مضني قد لا يهتم البعض للجزئيات بقدر ما يهتموا بها أثناء النهار , لم يرن الهاتف كان رصيده قد نفذ لا يمكنها ان تستخدم هاتفها الجوال ,كما لا يمكنها المناداة عبر النافذة لان المحل يقع في الجهة المقابلة , كما لا احد في الشقة المجاورة عليها الانتظار لحين عودة احد من المدارس.
أصبح الوضع أشبه بالمتاهة لا سجائر لا قهوة لا ملابس ممكن ان تقتنع بها للنزول وقفت أمام النافذة تتأمل حلا ما ينقذها من هذا الصباح الذي تحول تدريجيا الى ظهيرة لا تطاق ,ترسل نظرها بعيدا خلف التلال هناك على مقربة من قمة التل وبجانب الطريق العام يسكن أزهر لعله الان ينتظر مني ان تصله نظراتي ,حقيق انها تشعر بميل له برغم أنه مظهره العام وبعض تصرفاته لا توحي به كشخصية ثورية تتعامل مع الواقع بحزم ولكنه على الاغلب رجل طيب وله ما يمكن ان يكون مرجح ,أنه صبور وقوي وله اهتمامات حقيقية بالأدب الأجنبي كونه مدرس للغة الفرنسية في المدارس الثانوية كما أن علاقاته محدودة كثيرا مع النساء فهو منطوي قليلا يقضي معظم أوقات فراغه بين الحقل والقراءة ,كم تتمنى الآن أن ترى أزهر ماذا يعمل كيف وبم يفكر صار التفكير يقترب كثيرا من الاعجاب به أو البحث عن موجبات تدفع للأعجاب.
عادت لتجرب أن تكتب شيئا ما لعلها تنفس عما في مكنونها وهي مأزومة وحائرة لا تستطيع أن تنفذ شيء و تستقر على قرار, هربت كل الحروف من بين أنامها إنها لا تتذكر كيف تبدأ الكتابة لا عناوين ولا أفكار محدده , بدأت ترسم على الورق تواقيعها بشكل استفزازي حتى تحول ذلك إلى نوع من الهستيريا عندها رمت بالأوراق والقلم من النافذة المفتوحة لتلبس مسرعة ملابسها المعتادة وتضع نظارتها فوق أنفها وتمسك بعصبية بحقيبتها اليدوية وتركض نحو باب الشقة تكمل لبس حذاءها الرياضي الرث وتشد من خيوطه بقوة وتنزل الدرج بعد أن اغلقت الباب بعنف مسرعة قد تيقنت أن التغير غير مناسب لها وعليها ان تفجر هذه السخافة قبل أن تستفحل وتقضي على توازنها.
وقفت قليلا أما باب البناية لتلف يمينا حيث محل البقالة وتتجه صوب ركن السجائر سحبت علبتين وهي تبحث عن ولاعة لتشعل سيجارتها رأت من خلف الزجاج أزهر يحمل بيديه سلة ورد صغيرة متجها نحو شقتها ويحمل أيضا كتاب بيده لأخرى ,تذكرت أنها أوعدته على الساعة الثانية عشر تماما أن يصحبها إلى دار أهله, نظرت في الساعة لمعلقة على جدرن البقالة الساعة الثانية عشر إلا دقيقة واحدة, اختفت خلف أحد طاولات العرض وهي تنتظر من تحت إلى أقدام المارة لعل إحداهن تكون لأزهر عندما لا يجد أحد هناك.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟