|
قوانين الديالكتيك و ظواهر فيزياء علم الكم / 6
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 4291 - 2013 / 11 / 30 - 19:33
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
في مقاله في الحوار المتمدن – العدد : 4262 - 2013 / 11 / 1 ، بعنوان : "عودة إلى خرافة قوانين الديالكتيك -1" ، يثير الأستاذ يعقوب إبراهامي عدداً من الأسئلة المشروعة و التي سبق و أن حيرت عقول العلماء و غيرهم من المهتمين طوال القرن العشرين بصدد غرابة نظريات فيزياء الكم ، فيقول ما نصه (سأحذف الإشارات العرضية إلى بعض الأسماء ) : " أسجل في ما يلي بعض غرائب نظرية الكوانتوم التي "لا يقبلها العقل" والتي ربما هي التي أثارت قلق علي الشوك (وقلق جاسم الزيرجاوي) لأنها تتعارض مع "قونين الديالكتيك" وتكشف عن " الإنحياز الأيديولوجي للمؤسسة الرسمية اللاهوتية ضد التفسير المادي الديالكتيكي." (بغض النظر عن معنى هذه الجملة الغامضة): 1. الجزيء الكوانتي يمكن أن يوجد في مكانين مختلفين في آنٍ واحد. 2. قطة شريدنغر [ المقصود : شرويدنغر] الحبيبة [ المقصود : "الحبيسة"]: القطة حية وميتة في آن واحد. لا تقلقوا على القطة. القطة نفسها بخير: حية. شريدنغر قام بتجربة فكرية فقط. 3. ظاهرة "التحابك" (Entanglement) : الجزيء الكوانتي "يقيم علاقات" مع جزيء كوانتي أخر يبعد عنه ألفي سنوات ضوء. تجارب تجري على الجزيء الواحد تؤثر على سلوك الجزيء الثاني البعيد عنه. 4. ظاهرة الجزيء-الموجة: نفس العنصر الكوانتي (ألكترون، فوتون، إلخ) يتصرف أحياناً كجزيء (Particle) له كتلة كأي جسمٍ آخر في العالم، ويتصرف في أحيانٍ أخرى كموجة (Wave)، أي حركة بدون كتلة، كموجات المياه على سطح البحر. الغريب في الأمر (كما سنرى في "تجربة الشقين") إن الألكترون يتصرف كجزيء أو كموجة وفقاً للسؤال الذي تسأله. عندما تسأله: هل أنت موجة؟ (أي عندما تضع جهازاً للكشف عن طبيعته الموجية) يتصرف كما تتصرف موجة. وعندما تسأله: هل أنت جزيء؟ يتصرف كما يتصرف الجزيء.ً 5. بخلاف الفيزياء الكلاسيكية، العشوائية (اللاحتمية) وعدم اليقين هي في صلب نظرية الكوانتوم. كل شيء في ميكانيك الكوانتوم قائم علي الإحتمالات وعدم اليقين، لا شيء محدد تماماً. 6. تجربة الشقين: ألكترون واحد يُطلق نحو ستار يحوي ثقبين. الثقبان قريبان أحدهما من الآخر. نتائج التجربة يمكن ملاحظتها على شاشة موضوعة وراء الستار ذي الثقبين. عندما تُفحص نتائج التجربة يتضح أن الألكترون تصرف كما تتصرف موجة، إنتشر في محيطه كما تنتشر موجة من الماء على سطح البحر: مرّ من كلا الثقبين في آنٍ واحد. ليكن واضحاً: الألكترون الواحد عبر من كلا الثقبين في آنٍ واحد. هذا يمكن رؤيته من الأثر الذي يتركه الألكترون على الشاشة المنصوبة وراء الستار ذي الثقبين. نعيد التجربة ثانيةً بكل حذافيرها. لكننا نضع الآن جهاز اختبار بجانب كل واحدِ من الثقبين لنفحص في أي من الثقبين يمر الأكترون الواحد. الألكترون "يعرف" الآن أنه تحت "المراقبة"، يحافظ على حسن السلوك، ينسى أنه "موجة"، ويتصرف كما يتصرف كل جسمٍ آخر في العالم: يمر من ثقبٍ واحدٍ فقط. هذا أيضاً يمكن ملاحظته من الأثر الذي يتركه الألكترون على الشاشة المنصوبة وراء الستار ذي الثقبين. "
إنتهى .
بعدها يعرض الأستاذ يعقوب إبراهامي عدداً من التساؤلات المهمة قبل أن يختم باستنتاجاته ، فيقول : " هل نحن أحرارٌ في قبول نظرية الكوانتوم أو في رفضها، مهما كانت نتائجها غريبة و"لا يقبلها العقل"، أم إن نظرية الكوانتوم مفروضة علينا، وخيار رفضها غير واردٍ أبداً، ما دام العلم قد أثبت صحتها؟ هل يحق لنا أن نسأل إذا كانت نظرية الكوانتوم تتفق مع "قوانين الديالكتيك" وعلى هذا الأساس نبني موقفنا منها، أم إن العكس هو الصحيح؟ .... يمكن النقاش حول التفسير الفلسفي لهذه النظرية العلمية أو تلك. وهذا ينطبق بالتأكيد على مبدأ اللايقين الذي يمكن الخروج منه بتفسيرات فلسفية بعيدة المدى. ولكن لا يمكن الحكم أبداً على صحة النظرية العلمية من وجهة نظرٍ فلسفية. مبدأ اللايقين، مهما تكن التفسيرات الفلسفية له، مفروض علينا ما دام العلم لم يثبت بطلانه ولم يستبدله بقانونٍ آخر. باختصارٍ شديد وبصورة مبسطة جداً (قد تسيء إلى الصرامة العلمية) مبدأ اللايقين يقول أننا لا يمكننا أن نعرف مكان الجزيء الكوانتي (الألكترون مثلاً) وسرعته بنفس الدقة في آنٍ واحد. بعبارةٍ أخرى: لا يمكننا أن نسأل الألكترون: أين أنت بالضبط وما هي سرعتك بالضبط؟ إذا كنا نريد أن نعرف مكانه يدقة فإننا لا نستطيع أن نعرف سرعته بدقة. وإذا كنا نريد أن نعرف سرعته بدقة فإننا لا نستطيع أن نعرف مكانه بدقة. (نشير إشارةً عابرة فقط إلى أن هذه الأزدواجية التي "يكمل" أحدها الآخر و"ينفي" أحدها الآخر (مكان وسرعة، جزيء وموجة، إلخ) تميّز فيزياء الكوانتوم عن الفيزياء الكلاسيكية). واضحُ إن أحد الإستنتاجات الفلسفية لمبدأ اللايقين هو أن هناك قيوداً للمعرفة البشرية، هناك حدود موضوعية لا يمكن للعلم أن يتجاوزها. والطبيعة هي التي تفرض هذه القيود على المعرفة البشرية. (ماذا يريد الله أن يقول لنا بذلك؟ هل يريد أن يقول لنا أن الإنسان قد يقترب مني إلى ما لا نهاية ولكنه لن يصل إليّ أبداً؟). "
إنتهت التساؤلات و الإستنتاجات في مقال الأستاذ يعقوب إبراهامي موضوع البحث .
الإقتباس الطويل أعلاه المقصود منه عرض سياقات نص الإستاذ إبراهامي بحذافيرها . الآن سأعرض من جديد في أدناه أهم تسجيلاته و تساؤلاته و إستنتاجاته قبل مناقشتها :
أولاً / التسجيلات " أسجل في ما يلي بعض غرائب نظرية الكوانتوم التي "لا يقبلها العقل" والتي ربما هي التي أثارت قلق علي الشوك (وقلق جاسم الزيرجاوي) لأنها تتعارض مع "قونين الديالكتيك" . ثانياً / التساؤلات " هل نحن أحرارٌ في قبول نظرية الكوانتوم أو في رفضها، مهما كانت نتائجها غريبة و"لا يقبلها العقل"، أم إن نظرية الكوانتوم مفروضة علينا، وخيار رفضها غير واردٍ أبداً، ما دام العلم قد أثبت صحتها؟ هل يحق لنا أن نسأل إذا كانت نظرية الكوانتوم تتفق مع "قوانين الديالكتيك" وعلى هذا الأساس نبني موقفنا منها، أم إن العكس هو الصحيح؟ .... ثالثاً / الإستناجات : يمكن النقاش حول التفسير الفلسفي لهذه النظرية العلمية أو تلك. وهذا ينطبق بالتأكيد على مبدأ اللايقين الذي يمكن الخروج منه بتفسيرات فلسفية بعيدة المدى. ولكن لا يمكن الحكم أبداً على صحة النظرية العلمية من وجهة نظرٍ فلسفية. مبدأ اللايقين، مهما تكن التفسيرات الفلسفية له، مفروض علينا ما دام العلم لم يثبت بطلانه ولم يستبدله بقانونٍ آخر. واضحُ إن أحد الإستنتاجات الفلسفية لمبدأ اللايقين هو أن هناك قيوداً للمعرفة البشرية، هناك حدود موضوعية لا يمكن للعلم أن يتجاوزها. والطبيعة هي التي تفرض هذه القيود على المعرفة البشرية. (ماذا يريد الله أن يقول لنا بذلك؟ هل يريد أن يقول لنا أن الإنسان قد يقترب مني إلى ما لا نهاية ولكنه لن يصل إليّ أبداً؟). "
المناقشة لنص الأستاذ يعقوب إبراهامي أعلاه .
أ. التسجيل حول كون " بعض غرائب نظرية الكوانتوم تتعارض مع "قونين الديالكتيك"" . و هو – على ما أعتقد – فصل الخطاب في المقالة كلها . هنا لا بد من التساؤل : عندما يزعم الأستاذ يعقوب إبراهامي و شركاه بأن قوانين نظرية فيزياء الكم تتعارض مع قوانين الديالكتيك ، أليس حريّاً به أن يدعم أقواله هذه بالبراهين المفصلة المستخلصة من تباين أحكام هذا القانون الديالكتيكي أو ذاك بالضبط مع هذا القانون لنظرية فيزياء الكم أو ذاك بالضبط ، أم لا ؟ الجواب هو : بلى ، من الحري به أن يفعل هذا بالتأكيد ، لكي يقطع الطريق على قول القاريء له : "إن إدعاءك هذا ما هو إلا مجرد كلام فارغ لكونه لا ينبني على أية قاعدة متينة (sufficient grounds) للبرهان و التي من شأنها أن تقيم الدليل المقنع على صحته ." و لكن الأستاذ يعقوب إبراهامي لا يستطيع أن يبين لنا ما هو القانون الديالكتيكي الذي تتعارض معه قوانين فيزياء الكم ، و لا كيف يتعارض . لماذا ؟ لعدم وجود أي تعارض يستطيع التفصيل فيه . كما أن من حق القاريء أن يسأل الأستاذ يعقوب إبراهامي : هل أن قوانين الديالكتيك تفصِّل في خصوصيات فيزياء الكم لكي نطابقها معها ؟ ما من جواب ! ثم يتساءل القاريء : يا أستاذ يعقوب إبراهامي ، ما دمتك تتحدث في مقالتك عن التواجد الآني للجسيم المتكمي في مكانين ؛ و عن قطة شرويدنغر الحبيسة الحية و الميتة في آن واحد ؛ و عن ظاهرة الجسيم -الموجة ؛ وعن اللاحتمية ؛ و عن التحابك ؛ و عن عدم اليقين ؛ و عن تجربة الشقين ؛ هلّا قلت لنا كيف أن هذه الظواهر تتعارض مع قوانين الديالكتيك لكي نقتنع معك في إدعائك بأن هذه القوانين هي خرافة ؟ ما من جواب ! و الآن إلى السؤال المهم : لماذا لا يهتم الأستاذ يعقوب إبراهامي بالإجابة على الأسئلة الأساسية و المشروعة أعلاه ؟ الجواب هو : لذر الرماد على عيون القراء عبر منح نفسه إمتياز إثارة الدهشة في نفوسهم ، و المحاولة الفاشلة بالتقمم على بذور الشك و الترقب . نعود الآن إلى غرائب فيزياء الكم التي يستنجد بها الأستاذ يعقوب إبراهامي لتخريف الديالكتيك ( التواجد الآني للجسيم المتكمي في مكانين ؛ قطة شرويدنغر الحبيسة الحية و الميتة في آن واحد ؛ ظاهرة الجسيم-الموجة ؛ اللاحتمية ؛ التحابك ؛ عدم اليقين ؛ تجربة الشقين ) ، و نتساءل : هل تتعارض الظواهر أعلاه مع القوانين الثلاثة للديالكتيك (وحدة و صراع الإضداد ، تحول الكم إلى النوع و بالعكس ، نفي النفي ) ؟ الجواب : لا يوجد أي تعارض البتة ؛ بل أن العكس هو الصحيح قطعاً ؛ لأن هذه الظواهر تتوافق مع قوانين الديالكتيك . نصل الآن إلى أهم سؤال بهذا الصدد : مع أي منظومة منطقية تتعارض الظواهر الغريبة لفيزياء الكم التي يتحدث عنها الأستاذ يعقوب إبراهامي أعلاه ؟ الجواب الذي يعرفه كل دارس لعلم لمنطق هو قطعاً : أنها تتعارض كلياً مع القوانين الثلاثة للمنطق الشكلي (formal logic) ، و هي : قانون الهوية ؛ قانون عدم التناقض ؛ قانون الوسط المرفوع ( أو "المستبعد" ) . كما و تتعارض كذلك مع قوانين " المنطق الضبابي " (fuzzy logic) للطفي زاده (1965) . و لذلك فقد قُننت منظومة منطقية رابعة أسمها "منطق الكم" (quantum logic) خصيصاً لكي تتطابق قوانينها مع الظواهر أعلاه ، مثلما سنرى .
منظومات التحليل المنطقي يستخدم الإنسان عدة أنظمة منطقية في البرهنة على صحة تجاربه . و كل واحدة من منظومات علم المنطق تقدم - جوهرياً - أدوات مساعدة للتحليل تسند الخطاب المنطقي بصدد الكينونات في الطبيعة ، و لا يمكن أبداً تشخيص المنطق بحد ذاته في أي منظومة خاصة للتحليل المنطقي المدرجة فيما يلي ( و بضمنها المنطق الديالكتيكي ) :
1. المنطق الشكلي (الأرسطي) تشتغل أدوات هذا المنطق للبرهنة على التطابق المفترض بين المسميات و أوصافها في المقولات المفردة بصدد الوجود . و قوامها ثلاثة قوانين مترابطة ، هي : قانون الهوية : ( أ هو أ ) . كل شيء هو نفسه و يختلف عن غيره ممن هو ليس من جوهره . قانون عدم التناقض : ( أ هو ليس : لا – أ ) . كل شيء هو ليس نفيه . قانون الوسط المرفوع : ( أي س هو : إما أ ، أو لا – أ ) . كل مقولة إما أن تكون هي الصادقة ، أو أن نفيها هو الصادق . و بالإستناد إلى القوانين الأولية أعلاه ، يمكن إشتقاق عدد من القوانين الثانية التي تحكم آلية الإستدلال الصحيح عن حقيقة الأشياء . القوانين أعلاه إشتغلت و ما تزال تشتغل على نحو معقول عبر إفتراض دالة قيمية نحكم بموجبها بصدق أو كذب كل مقولة وجودية . و كل دالة حكمية (صادق-كاذب ، أو صح-خطأ) تتساوق مع العالمَين الممكنين - أو النموذجيين - للمقولات المعنيّة . و لذلك فأن هذه القوانين تساعد في الفصل بين العناصر المؤلفة لعضوية المجموعة المعينة - و التي تُعطى القيمة : واحد (1) - و بين العناصر غير المنتمية لنفس المجموعة - التي تعطى القيمة : صفر (.) . إذن هذه المقاربة الكلاسية هي ثنائية القيم ، و لذلك فإنها تُسمى بالمنطق ذي القيمتين الذي يقدم إجابات واضحة و قاطعة (نعم ، أو : لا) بخصوص عضوية المجموعة من طرف أي شيء أو عنصر مُعطى . من الواضح أن آليات المنطق الشكلي الموصوف أعلاه قاصرة تماماً في تفسير الضواهر الطبيعية و الإجتماعية و الفكرية مثلما شرح هيجل ذلك بالتفصيل . أولاً ، لأن هذا النوع من المنطق صارم التحديد لطبيعة كل شيء في الكون : إما ، أو ؛ و ليس هناك شيء معقول هو : بين-بين ؛ و لذلك فإن المباديء الديالكتيكية بصدد النسبية و عدم اليقين و التضاد فيه منفية كلياً رغم كون هذه الصفات تتجلى فعلاً في طبيعة الأشياء و الأفكار حولنا . كما أنه – ثانياً – قاصر عن تحديد العلاقات القائمة بين الأشياء المختلفة ( و منها ظاهرة "التحابك" الذي يتحدث عنها الأستاذ يعقوب إبراهامي ) لأنه يختص في صفات الأشياء المفردة ، و لذلك يستحيل أن نشتق منه صفات العلاقات القائمة بين الشيء و كل شيء آخر حولة من شأنه أن يتأئر و يؤثر فيه مثلما تؤكده قوانين الديالكتيك . و ثالثاً : لأنه يلغي عامل التغيير بفعل تقادم الزمان : أ هو أ ، سواء كان طفلاً رضيعاً ، أم شيخاً هرماً . هذا المنطق يرفض الإعتراف ديالكتيكياً بأن كل شيء في الكون مترابط و له تاريخ و نهاية ، و أن هذا التاريخ هو نوعي و كمي و مستمر بدون توقف . و بحكم هذه الآلية الشكلية الصارمة للمنطق الأرسطي ، فأن كل المقولات التي يسوقها الأستاذ يعقوب إبراهامي -بخصوص التواجد الآني للجسيم المتكمّي في مكانين ؛ قطة شرويدنغر الحبيسة الحية و الميتة في آن واحد ؛ ظاهرة الجسيم-الموجة ؛ اللاحتمية ؛ التحابك ؛ عدم اليقين ؛ تجربة الشقين – هي مقولات كاذبة و ليست صادقة ، رغم إثباتها تجريبياً . فمثلاً ، آليات المنطق الأرسطي تحكم بوجوب أن تكون القط إما : "حية" ، أو "ميتة" ؛ و ليست "حية-ميتة آنياً " ، لأنه يحكم على مقولة : "القطة حية-ميتة آنياً" بكونها مقولة كاذبة متناقضة تتنافى مع قواعد الإستدلال المنطقي السليم وفقاً لقوانين هذا النمط من المنطق . و تفرض أليات هذا المنطق الأرسطي نفس الحكم غير الصحيح بكذب إمكانية تواجد الجسيم آنياً في مكانين مختلفين ، و كذب مقولة الجسيم-الموجة للضوء اللاحتمية ؛ التحابك ؛ عدم اليقين... إلخ . طيب ، ما دامت هذه الأحكام غير الصحيحة و التي تفندها التجارب العلمية الثابتة تخص آليات المنطق الشكلي و حسب ( و ليس آليات أي منطق آخر ) ، فلماذا يتعمَّد الإستاذ يعقوب إبراهامي إقحامها قسراً في الحديث عن قوانين الديالكتيك ؟ أليس الصحيح هنا هو ألإستنتاج بأن آليات قوانين المنطق الشكلي قاصرة عن تفسير الحقائق الثابتة بالتجربة في العوالم الممكنة ، و أن هذا الإستنتاج يثبت مرة أخرى صحة النقد الديالكتيكي لمحدودية و قصور هذا النوع من المنطق ؟ بالتأكيد ، هذا هو الإستنتاج التي تفرضه علينا الأمانة العلمية . إذن ، أمثلة الأستاذ يعقوب أبراهامي : ( التواجد الآني للجسيم المتكمي في مكانين ؛ قطة شرويدنغر الحبيسة الحية و الميتة في آن واحد ؛ ظاهرة الجسيم-الموجة ؛ اللاحتمية ؛ التحابك ؛ عدم اليقين ؛ تجربة الشقين ) هي أمثلة جديدة معززة لصحة النقد الجدلي للقصور الواضح في قواعد المنطق الشكلي – و هو النقد الذي يتجلى بأعمق صوره في مؤلفات هيجل و ماركس و إنجلز و لينين و تروتسكي و ماو ذات الصلة – و هي الدالة على صحة قوانين الديالكتيك المؤكدة على الترابط بين الأشياء و تغيرها كماً و نوعاً و نسبية الحقائق و تاريخيتها ، و ليس العكس مثلما يحاول الأستاذ يعقوب إبراهامي إقناعنا به . ثم ، أين هي العلاقة المباشرة بين قوانين الديالكتيك و بين قوانين فيزياء الكم ؟ الجواب : لا توجد علاقة مباشرة ؛ مثلما ينبغي أن لا يوجد أي عالِمٍ جدلي يحترم نفسه ممن يجرأ على الزعم بأن القوانين الفيزياوية و الكيمياوية و الحياتية و النفسية و غيرها من المستويات المحددة للواقع يمكن إشتقاقها أو إستنباطها من قوانين الديالكتيك ، لأن آليات المنطق الجدلي – مثلما سبق إيضاحه – لا تقدم سوى قواعد إرشادية عامة ، و هذه القواعد العامة يستحيل عليها – بحكم طبيعتها العمومية – أن تُلغي ضرورة الإكتشاف – في كل حالة جديدة – لعلل تلك الحالة الجديدة ، و للنموذج الملموس لتطورها .
ب . نعود الآن لأول تسجيلات الأستاذ يعقوب أبراهامي الذي ينص : " أسجل في ما يلي بعض غرائب نظرية الكوانتوم التي "لا يقبلها العقل" والتي ربما هي التي أثارت قلق علي الشوك (وقلق جاسم الزيرجاوي) لأنها تتعارض مع "قونين الديالكتيك" .
التعليق : الغرائب المزعومة لنظريات الكم لا يقبلها إلا مَنْ كان عقله متمسكاً على نحو أعمى بقواعد الحكم على صدق و كذب المقولات الوجودية التي تفرضها على فكرنا الآليات الجامدة للمنطق الشكلي القاصر . و العلم و التجربة يوضحان أن حكم قوانين المنطق الشكلي بكذب قوانين و ظواهر فيزياء الكم التي يسوقها الأستاذ يعقوب إبراهامي هو حكم أجوف لا قيمة له البتة لكون هذه القوانين توضح ظواهر ثابتة بالتجارب العلمية المسجَّلة . و عليه فإن من الواضح أن قوانين نظريات فيزياء الكم لها قواعدها المنطقية الخاصة بها و التي تسمح – على الضد من قواعد المنطق الشكلي - بالجمع بين صفتين متضادتين دون أن تنفي إحداهما الأخرى ( مثلما سنتبين بعدئذٍ ) . و من المعلوم أن التوحيد بين المتضادات في الظواهر هو جوهر المنطق الديالكتيكي ، و لذلك فلا يصح مطلقاً معارضة قوانين الديالكتيك مع قوانين فيزياء الكم . مثل هذا التعارض المزعوم ليس إلا وهماً خرافياً من إصطناع ذهن الأستاذ يعقوب أبراهامي نفسه .
جـ . التساؤلات يسأل الأستاذ يعقوب إبراهامي : " هل نحن أحرارٌ في قبول نظرية الكوانتوم أو في رفضها، مهما كانت نتائجها غريبة و"لا يقبلها العقل"، أم إن نظرية الكوانتوم مفروضة علينا، وخيار رفضها غير واردٍ أبداً، ما دام العلم قد أثبت صحتها؟ هل يحق لنا أن نسأل إذا كانت نظرية الكوانتوم تتفق مع "قوانين الديالكتيك" وعلى هذا الأساس نبني موقفنا منها، أم إن العكس هو الصحيح؟ "....
التعليق : إلإكتشافات الجديدة في قوانين فيزياء الكم و في غيرها من القوانين العلمية تفيدنا في تطوير معارفنا عن حقائق طبيعة الأشياء القائمة في الكون حولنا ؛ فإذا ما كنا مهتمين و جادين فعلاً في وعي الحقائق ، فلا مندوحة إذن من تصديق هذه القوانين و إخضاعها للمزيد من البحوث المتخصصة للإكتشاف العلمي التجريبي لعللها و لمنظوماتها و مديات إنطباقها و إمكانات تطويرها . أما إذا كنا غير معنيين بوعي حقائق الكون حولنا ، فنحن بالخيار في البقاء على جهلنا أو في نشدان المعرفة . و من المعلوم أن العلم نور و قوة ؛ و أن الجهل ظلام و ضعف . كما تفيد القوانين العلمية الجديدة في تيسير إستثمارها في تطبيقات تقنية جديدة تُسخَّر لخدمة صراع الإنسان مع كل ما هو حوله ، و ذلك عبر إتاحتها وسائل و مستلزمات و مكائن و أدوات جديدة ذات إستخدامات يومية مفيدة . هذه القوانين و غيرها هي التي جعلت الثورة العلمية التقنية الجديدة في مختلف الميادين أمراً ممكناً ، و هي التي منحت و تمنح الإنسان الأفضليات التي تتيحها تلك التطبيقات الجديدة لهذه العلوم للنمو و التقدم إلى أمام . و ما دامت هذه القوانين العلمية الجديدة تنسجم مع قوانين الديالكتيك التي زكتها التجربة البشرية بأجمهعا ، لذا فإن السؤال الذي يطرحه الإستاذ يعقوب إبراهامي : " إذا كانت نظرية الكوانتوم تتفق مع "قوانين الديالكتيك" وعلى هذا الأساس نبني موقفنا منها، أم إن العكس هو الصحيح؟ ...." غير وارد هنا مطلقاً لأن كل التجربة البشرية قد بينت و تبين أن قوانين الديالكتيك تتجلى بهذا الشكل أو ذاك في قوانين كل العلوم . و فوق كل هذا ، فإن وظيفة قوانين الديالكتيك ليست هي أبداً أن تحكم – مثل مسطرة المنطق الشكلي الآنفة الذكر – على صحة أو عدم صحة القوانين العلمية ، لماذا ؟ لأن الحكم على صحة أو عدم صحة القوانين العلمية هو وظيفة البحث العلمي التجريبي المفصل و الدقيق و المتواصل في حيثيات هذه القوانين العلمية نفسها ، و ليس هو أبداً وظيفة قوانين الديالكتيك . قوانين الديالكتيك يتم إستكشاف تجلياتها في القوانين الطبيعية و الإجتماعية و الفكرية و لا يجوز مطلقاً فرضها عليها فرضاً تحكمياً من فوق أو من الخارج ، مثلما يوضح إنجلز لنا ذلك بدون لبس و إبهام . و عليه ، فإن إستنتاج الأستاذ يعقوب إبراهامي الذي يقول : " يمكن النقاش حول التفسير الفلسفي لهذه النظرية العلمية أو تلك. وهذا ينطبق بالتأكيد على مبدأ اللايقين الذي يمكن الخروج منه بتفسيرات فلسفية بعيدة المدى. ولكن لا يمكن الحكم أبداً على صحة النظرية العلمية من وجهة نظرٍ فلسفية. مبدأ اللايقين، مهما تكن التفسيرات الفلسفية له، مفروض علينا ما دام العلم لم يثبت بطلانه ولم يستبدله بقانونٍ آخر " هو إستنتاج صحيح ؛ و إن كان كلمة حق أريد به الباطل ، ألا و هو : المحاولة الجديدة الفاشلة - مثل كل المحاولات المماثلة سابقاً - لتخريف قوانين الديالكتيك ، مثلما ينص عليه عنوان مقالته ، و الموضوع يُقرأ من عنوانه !
د. نصل الآن إلى الإستنتاج الأخير للأستاذ يعقوب أبراهامي : " واضحُ إن أحد الإستنتاجات الفلسفية لمبدأ اللايقين هو أن هناك قيوداً للمعرفة البشرية، هناك حدود موضوعية لا يمكن للعلم أن يتجاوزها. والطبيعة هي التي تفرض هذه القيود على المعرفة البشرية. (ماذا يريد الله أن يقول لنا بذلك؟ هل يريد أن يقول لنا أن الإنسان قد يقترب مني إلى ما لا نهاية ولكنه إليّ أبداً لن يصل ؟). " أعادنا هنا الأستاذ يعقوب إبراهامي إلى مبدأ اللاأدرية الممزوج بالقدرية اللاهوتية ! و الجواب هو : ليس هناك أي قيد على المعرفة البشرية سوى قيد التاريخ - الزمن الذي يتطلبه الإنتقال من المجهول إلى المعلوم في تطوير إكتشاف حقائق الظواهر المختلفة في الحقول الخاصة بكل العلوم ؛ كما ليست هناك أبداً أية قيود على ما يمكن أن تصل إليه كل العلوم من تطور في المستقبل ، و بضمنه خلق الحياة نفسها . أما تساؤل الأستاذ يعقوب إبراهامي : " (ماذا يريد الله أن يقول لنا بذلك؟ هل يريد أن يقول لنا أن الإنسان قد يقترب مني إلى ما لا نهاية ولكنه إليّ أبداً لن يصل ؟) " فأترك الإجابة عليه للأستاذ يعقوب إبراهامي نفسه في ضوء كون التواصل بيني و بين الله مقطوع منذ أن بلغت الرابعة عشرة من العمر ، فطوبى للأستاذ يعقوب إبراهامي و شركاه من المؤمنين ! أما إذا كان المقصود بالله هنا هو : "الحقيقة المطلقة" ، فإن كلام الأستاذ يعقوب إبراهامي صحيح مائة بالمائة !
يتبع ، لطفاً .
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قوانين الديالكتيك و تخريفات أبراهامي بصدد عدم وجود الصراع دا
...
-
قوانين الديالكتيك و تخريفات أبراهامي بصدد عدم وجود الصراع دا
...
-
ألحمار المناضل
-
طبيعة قوانين الديالكتيك و طريقة إستنباطها و فحصها و علاقتها
...
-
قصة البغل المتهوِّر
-
قصة العيد
-
رفسة إسطنبول
-
تخريفات إبراهامي و التشكيك بصدد طبيعة الصراع و قوانين الديال
...
-
تخريفات إبراهامي و التشكيك بصدد طبيعة الصراع و قوانين الديال
...
-
نَجْلاء
-
الخِطّة الأمنيّة العبقريّة
-
تطور الشعر الإنگليزي 1920- 1950 / 7 الأخيرة
-
مهرجان الصماخات
-
تطور الشعر الإنگليزي 1920 - 1950 / 6
-
خروف الطاقة و سيّده
-
شعشوع ، تائه الرأي
-
البومة زلومة المشؤومة و خماسي الحُكم
-
تطور الشعر الإنگليزي 1920- 1950 / 5
-
نمط الإنتاج الأنديزي ؛ الإشتراكية التوزيعية : من كل حسب إنتا
...
-
نمط الإنتاج الأنديزي ؛ الإشتراكية التوزيعية : من كل حسب إنتا
...
المزيد.....
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
-
عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و
...
-
في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در
...
-
حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
-
تركيا تعزل عمدة مدينتين مواليتين للأكراد بتهمة صلتهما بحزب ا
...
-
تيسير خالد : سلطات الاحتلال لم تمارس الاعتقال الإداري بحق ال
...
-
الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|