|
التقنيات السردية المتجاورة في رواية -حرمتان ومحرم- للروائي -صبحي فحماوي-
أماني فؤاد
الحوار المتمدن-العدد: 4286 - 2013 / 11 / 25 - 19:25
المحور:
الادب والفن
التقنيات السردية المتجاورة في رواية " حرمتان ومحرم" صبحي قمحاوي
بأشخاصه وطبيعته توافرت لرواية " حرمتان ومحَرم " مجموعة لا بأس بها – من التقنيات الفنية السردية التي تقيم كياناً فنياً متميزاً، أول هذه التقنيات السردية " القصة" أو الحدث". الرواية تدخل تحت زمرة أدب الحصار وفيها حَرص الكاتب " صبحي فحماوي" أن يكون عيناً راصدة ولاقطه ومعلقة على مجتمع الحصار بكل قيوده وسلبياته ، وعمل على وصف وتصوير الواقع المكاني والنفسي الذي يعيشه الفلسطينيون في الأرض المحتلة ، والذي لا يمكن أن يلم به أو يعرف أبعاده إلا من عاش هذه المجتمعات المحاصرة ، واكتوى بنيرانها ودمائها وقهرها للنفس البشرية . ويعمق الروائي مفهوم الحصار ليخرج به عن الجانب المادي إلى الجانب المعنوي الذي يطال الإنسان العربي – رجلاً وامرأةً – حين يغترب في أوطانه،وحين تتحكم به أفكار رجعية متخلفة نشأت عن المفاهيم والتفسيرات التي جانبها الصواب للدين، وفي بعض الأعراف والتقاليد التي تتحكم بالمجتمع واكتسبت مع الزمن قدسية نصوص التنزيل ، كما يصور الروائي الحصار السياسي والجغرافي الذي يتحكم بواقع الإنسان العربي وتنقلاته. رواية "حرمتان ومَحرم" تتناول قصة فتاتين فلسطينيتين ، " تغريد و ماجدة"، تحاولان العمل بعد تخرجهما ، فلا يستطيعان إيجاد فرصة عمل في ظل مجتمع معسكر الحصار ، لذا فهما تتعاقدان على العمل مدرستين في ولاية " الرمال العربية " لتدريس اللغة العربية " . وبعد دراسة لكيفية السفر التي يصعب فيها أن يسافر معهما "غازي" خطيب "تغريد" وأخو " ماجدة "، كما يرفض والد تغريد ترك وطنه وزوجه وأولاده للسفر مع ابنته، تلجأ الأسرتان للتحايل لإيجاد " مَحرم" للسفر مع الفتاتين فيزوجهما- صورياً- "بأبي ميهوب" المزارع ، كبير السن ، الأرمل ، الحكيم ، نظير مبلغ من المال يتقاضاه كل شهر ، وهناك تعاني الفتاتان وأبو ميهوب من الغربة ومن المجتمع المغلق الذي تتحكم به كثير من الأفكار المتشددة التي تتعلق بحياة النساء وتنتهي الرواية بزواج فعلي للفتاتين من "أبي ميهوب" بعد أن تغيرت أحواله المالية وانتعش عمله في ولاية " الرمال" ،وبعد أن ضاقت فرصتهما بزواج حقيقي من شباب في مث سنهما بعدما استشهد جهاد الذي انضم لفرقة إسلامية من فرق المقاومة بعد موت أخيه الصغير، وبعد أن قرر غازي عدم العودة من أمريكا، وأستقرت حياته هناك، كما أن أسرتي الفتاتين رفضتا الشباب اللذين تقدموا إلى الفتاتين خوفاً من أن تنقطع التحويلات المادية التي ترسلها الفتاتان. في ظل هذه الأحداث الدرامية وتحت واقع الحصار العسكري والفكري يتسم التناول الفني بعدة سمات :- 1- قدر كبير من التناول التجريدي الساخر للمشاهد والأحداث برغم مايكتنفها من فجيعة وألم ودمار مادي ومعنوي، فهو يصف الحياة في المعسكر بقوله " والشاحنات تمر مسرعة فتدوس عجلاتها كل المارة المكتظين الذين يقطعون الطريق و تحولهم إلى معاجين من لحوم السنيورة والمرتيدلا والبسطرمة والسجق ، وكانت عوادم السيارات الشاحنة تضخ دخانها الأسود الكثيف فوق اللحوم فتحولها إلى أصناف لحوم مدَّخنة مميزة يصدورنها إلى مختلف تلفزيونات العالم الفضائية فتنعم بمشاهدتها الأجيال المبتهجة بتشعلقها فوق الكرة الأرضية" (صـ17) ، إن هذا التناول الساخر للألم والموت والدماء لا يتم إلا تحت واقع حصار راكد، طال أمده واعتادته النفوس اليائسة . و التي صبغتها الحياة بالتجريدية والصلابة . 2- لا تطرح بدائل متعددة ولا مجال لفلسفة ، أو نزوع لإيجاد مهرب من الموت فالموت بشرف وشجاعة ، أو الخزى والخيانة ، فحين يصف الكاتب الصراع بنفس " مهيوب" في مشهد موته كان محدداً قاطعاً يقول في منولوج داخلي لمهيوب:" كنت أعرف إن تجارتي ربح أو خسارة " فإما أن أربح أرواح المحتلين المعتدين، وإما أن أخسر روحي وأنا قبلت بهذه التجارة... ولكنني لم أخرج عارياً ذليلاً ،فأنا لم تلدني أمي ذليلاً كما يتخيلون.." (صـ29ـ) تلك شخوص تتعلق بالحياة تحت الحصار والحرب في لحظات الاختيار الفاصلة، لحظات الحافة. 3- تناول حيادي وتجريدي للموت ليس به فجيعة أو فقد وانتهاء ، فهناك تعايش مع فكرة الموت وحقيقته وكأنه نبوءة بولادة جديدة ، كأنه ماء هذه الأرض الغالية التي يدور عليها هذا الصراع الأزلي ، لأن " الوطنية ضرورة حياة" كما يذكر الروائي. لقد أصبح تشييع الجنازات مشهداً يومياً متكرراً، فقد وطأه وقعه في ذات اللحظة التي يترك فيها أثراً يشبه حريقاً لا ينخمد في قلوب الفلسطينيين ويدفعهم إلى البقاء والتوالد والإصرار على الوجود ، إنه اعتراك كل المشاعر في اللحظة ذاتها، المشاعر المتضادة والمتصارعة والمتعايشة ، تجاوزات درامية ملتبسة قدرية ، فحين استشهد ابن أخي " عكرمة" الطفل "بدران" تقول عائشة لزوجها " غداً تخلف أمه ثلاثة صبية بدلاً عنه ، وهذه إرادة المولى والذي أعطى أخذ" (صـ47ـ) . لم يعد الموت فيهم حقيقة صادمة كما نعيشها، فهو حقيقة قريبة من الأنفاس المتوالية ، متوقعة في كل لحظة ، لا يكترث بها كثيراً، برغم المرارة التي تركها تقول عائشة لزوجها " لا ياعكرمة سنموت ونحن نضحك ، سنغيظ قاتلينا الذين يريدون محو السعادة من حلوقنا، بأن نضحك.. سنضحك حتى في الجنازات، ونغني أغاني الفرح للشباب المغادين على ألواح خشبية إلى الجنة ونرقص معهم رقصة الحبشي الذبيح " (صـ49ـ) . 4- التشبث بقيمة السعادة والفرح ورسم الضحكات على الوجوه، والزج بها في القلوب وعنوة، تقول تغريد :" رحنا نتغامز ونتلامز ، وكأن لا شيء يهمنا.. بالطبع ألف شيء يهمنا، ولكن يبدو أن طبيعتنا تحت الاحتلال قد شُوِّهت ، فصار الضحك لدينا نوعاً من التعايش ، لنسيان عذابات الاحتلال، ونوعاً من المقاومة، ونوعاً من الحداثة التي يتحدثون عنها ، بحيث نرش على الموت سكراً، صارت هذه فلسفة حياة، وبغير هذا الأسلوب، كيف نستمر ؟" (صـ78ـ) . إنها االقدرة على رسم اللامبالاة التي يريدون بها كيد أعدائهم. 5- ربط الروائي بين تردي الأوطان وانتهاكها وبين ما يحكمها من أفكار ومعتقدات اجتماعية ودينية وسياسية وعد هذا الجمود حصاراً أشد تأثيراً لأنه لا حراك لطرح هذه الأفكار للنقاش البناء في هذه المجتمعات . إنه حصار إساءة الفهم والتأويلات المخطئة ، حصار ركود الأفكار وعتمتها. 6- رصد الروائي بعض المشاهد المعبرة التي تصف المفارقات الصارخة بين امتلاك بعض الدول العربية لأحدث الأجهزة والمعدات التكنولوجية العصرية ، وفي ذات الوقت تمسكها بالأفكار المتخلفة الجامدة ، البالية الخاصة بالمرأة ، والإنسان بصفة عامة، وتمثل ذلك في مشهد المطار في ولاية الرمال (صـ65ـ ) وغيرها من الحوارات على مر صفحات الرواية . إنه حصار القهر وردع الحربات في مجتمعات متصحرة لا تعرف سوى قيم الاستهلاك والعيش خارج الحياة دون الإسهام في نتاج أو تصنيع أو إبداع. 7- وصف الروائي مقاطع من الحصار الذي تحياه المرأة العربية ، وأخذ من الفتاتين وتجربتهما ذريعة لتدوين فقرات مطولة يناقش فيها قضية الحجاب ، ووضع المرأة في بعض المجتمعات الأصولية المتشددة ونظرة الرجال لها وعدها أداة للمتعة والإنجاب ، وهناك فصل كامل في الرواية بعنوان " سيوف يعلوها الصدأ..!" يعالج مثل تلك القضايا (صـ173-189ـ ). الذي قد يدعو للتساؤل هنا:أين شجاعة الروائي تلك التي استخدمها وهو يعري المجتمع في ولاية "الرمال العربية" هذه حين يصف العادات والتقاليد والممارسات الاجتماعية بها ،أين شجاعته تلك ؟ وهو لم يتعرض لتحليل أو وصف عيش الفلسطينيين المقيمين منهم والمهاجرين وما فعلوه بالقضية الفلسطينية. تميز استخدام الروائي للغة ، إنها لغة واضحة تتراوح بين الجمل القصيرة المقطعة وتلك الدالة على المعنى بصورة مباشرة،ويتضح ذلك في اللوحات الوصفية للأماكن في مجتمع المعسكر المحاصر في فلسطين وفي مدينة الواحة في ولاية الرمال يقول:" ..تتصدرها بوابات ضيقة العرض صفيحية وخشبية مهترئة، إحداها تنصرف مكسورة الفصالات الحديدية الصدئة، يدخل ويخرج منها أحياناً أشخاص بسيطون على باب الله ، ومصبوغون بانكفاء على الذات .." (صـ5ـ). واستطاع الروائي أن يتلون باللغة لتناسب شخصياته وطبيعتهم الثقافية والنفسية فهو فحين ينطق جهاد الشاب الفلسطيني الذي درس وامتهن الحدادة تأتي مفرداته متوافقة مع مهنته فنجده يقول عندما تمر تغريد من أمام مَحْدَدَةِ "العودة " فينتصب الحداد جهاد واقفاً متملياً وجهها المشرق وجسدها الفتّان، وكأنها شمس تشع ، فتذيب كل شموعه، وتسيحها على جسده، بشكل مزاريب من العرق، أو برق يضىء ليل تجاويف ذاته،.. تتسارع دقات قلبه، ويتضخم صدره ، صاعداً نازلاً بلهاث من يركض في سباق المارثون " (صـ6ـ). ولنا أن نلاحظ هذه المفردات : تشع- تسيحها- تذيب- مزاريب- برق تجاويف- سباق المارثون . كلها ألفاظ يمكن أن نلمس تأثرها بمهنته ومفرداتها الخاصة. وفي معرض رسمه لشخصية جهاد تتحدث تغريد عن ثقافته ورومانسيته (صـ92ـ)، ولذا نجده يستشهد بمقطوعة من شعر نزار:" طفلة الأمس التي كانت على بابك تلعب/ والتي كانت في حضنك تغفو، حين تتعب/ أصبحت قطعة جوهر/ لا تقدر!/. صارت المرأة لو تلمس نهديّ تتخدر..!/ فتصور .." (صـ7ـ). وتمر شخصية جهاد بمرحلة مختلفة بعد أن اضطر لتزويج أخته وخطيبته الشابتين إلى أبي مهيوب صورياً و تغريبهما تحت وقع الحاجة المادية وبعد وفاة أخيه الطفل " جعفر" الأسمر وجاره "نضال شهلوب" وانضمامه إلى خلية مقاومة إسلامية وفيها يزهد الحياة ولا يلتفت إلى تغريد ولا لمشاعره وعندما تسأله عن أحواله في إحدى زياراته يقول:" بخير من الله، ونطلب عفوه ورضاه، وننتظر بالدور لدخول الجنة... كلنا على الطريق يا أختي ، وما الدنيا إلا دار الممر ، والآخرة دار المقر، ونحن نتأهب ممن ممرنا إلى مقرنا." (صـ148ـ). تحولت اللغة إلى مفردات من قبيل المغفرة والعفو والموت والجهاد لتناسب تحولات الشخصيات . ولقد وفق الروائي في رصد تلك التحولات من خلال اختيار المفردات والتراكيب كما يتضح ذلك من خلال لغة أبي مهيوب، فهناك تحولات في لغته تراوحت ما بين الخنوع والاتكال في أول الرواية لتصير أكثر فاعلية وحيوية في آخر الرواية بعد أن وجد عملاً يدر عليه ربحاً وفيراً فصار أكثر إيجابية وحرية في أفعاله وقرارته ولغته ، (صـ198ـ) ، غير أن هناك ملحماً يجب أن نسجله وهو أن اللغة المستخدمة في الرواية على لسان الأطفال أو الصبية لغة غير مناسبة للمستوى العمري والثقافي لهذه السن فهو على لسان نضال يقول:" أقتربي مني يا عائدة، دعيني أشم رائحتك ..رائحة عرقك أشهى من رغيف الخبز.." (صـ13ـ) ،مع تنوع استخدام الكاتب لأدوات التصوير البلاغي فتراوح بين التشبيهات والأساليب المجازية ومزجها معاً. ولقد وفق الكاتب في خلق أساليب تعبيرية وموحية بالألم الذي ينال الإنسان الفلسطيني تحت الحصار ،حصار الأعداء ، وحصار الممارسات غير الإنسانية التي يصر عليها بعض الأصوليين والذين لايعرفون فيها جوهر دينهم ، فيقول وهو يصف صوت سماعة الجامع:" وكأن شرخاً في الصوت العظيم ، يصل إلى جروح أعصابي " (صـ20ـ)، فهو أسلوب تشبيهي مجازي يشي بما يريد الكاتب أن ينتقده ويدلل على حال الشخصية في ذات الوقت. كما نلاحظ استخدام الكاتب بعض الصور الصادمة للذوق بما يتناسب مع الأحداث المفجعة التي يعيشها هذا المجتمع، فهو حين يصف أباحصيرة يقول :" وأحياناً كانت تطل خصية من بين ساقيه ثم تختفي داخل ثقب أوزون الثوب الذي تصدق به المحسن الكبير صاحب المليارات المرهقة الخاسرة في سوق البورصة " (صـ42ـ). كانت أساليب التشبيه المستخدمة في الرواية تتناسب والبيئة التي يحياها الشخوص وعلى أقدارهم الثقافية فهو يقول على لسان عائشة أم تغريد وهي تصف حالها في غياب غازي عنها مثل" خوف غياب القمر عن راعي الجمال في ليل الصحراء ، وهلع نضوب المياه من نبع الحياة ذلك هو غياب غازي" (صـ48ـ). وقد اتسم التصوير في هذه الرواية بالتقليدية في مجمله وميله إلى الصور المادية إلا في بعض مناطق، فلن يقف المتلقي عند صورة مبتكرة يحتشد لها بكل حواسه ووجدانه وعقله لينْضُوَ عنها غلالتها الشفيفة فهي صورة قريبة تقليدية مما يمكن أن تقال في هذه المناسبات مثل قوله:" وأي يد فنان موهوبة ساحرة ، تستطيع رسم هذا العنق المصقول كالرخام ، الطري كاللبان ، النابضة عروقه بالحيوية والحب والأمل الشاهق الارتفاع ، مثل شعلة الأولمب المطل بكبريائه على الدنيا كلها" (صـ9،8ـ). اختار الروائي لعمله سارد مفارق عليم لكنه سارد مزدوج أو سارد وقرينه الراوي " أبو حصيرة" كما أن هناك بعض الانتقالات السردية لتتحول الرواية إلى حديث على لسان الشخوص ذواتهم وتتيح تلك التقنية إلغاء المسافة التي يصفها السارد المفارق وشعور المتلقي بقربه من الشخصيات دون وسيط مثل (صـ97ـ)، حين ينتقل الحديث عن ماجدة وقصة خطوبتها لغازي إلى حديث أو منولوج بينها وبين نفسها ثم حوار بينها وبين تغريد. وتتكرر هذه التقنية الانتقالية (صـ90ـ)، وتبدأ تغريد في الحديث عن نفسها وعلى لسانها وعن علاقتها بجهاد ، علاقة رومانسية ناعمة لكنها مبتورة، نسب التحقق بها وعدمه خاصة بعدما فرض على العلاقة أخطاء وطن بكامله، أخطاء شعب برمته. ولقد أتاحت الانتقالات السردية التي هي في معظمها استرجاعية لأحداث في الزمن " فلاش باك"، أتاحت إيقاعاً سردياً متوسطاً، فهي برغم حجم الرواية الكبير نسبياً (230صفحة) إلا أنها ليست ذات إيقاعٍ بطيءٍ ، فلقد أوجد الكاتب توازناً فنياً بين الأحداث وتقنيات سرده في الزمن. ولقد استخدم الروائي قفزات زمنية في الجزء الثاني من الرواية هروباً بها من المط والتطويل لاحداث قد تبدو متكررة وتشيع نوعاً من الرتابة والملل لدى المتلقي ، وخاصة ذكر تفاصيل الثماني سنوات التي قضتها تغريد وماجدة وأبو مهيوب في ولاية الرمال العربية فهناك ثغرات زمنية مميزة ومذكورة ونص عليها الروائي وتخضع الرواية للتتالي والتتابع الزمني البسيط، وليس إلى خلط المستويات الزمنية في بنيتها العامة لأنها تعالج حيوات خارجية للشخوص ، فهي ليست رواية استبطان نفسي للشخصية ، فشخصيات الرواية تتمتع بذوات إنسانية فطرية غير مركبة بها قدر من النقاء والمباشرة. استخدم الروائي اللغة بمفرداتها من أجل الوصول بالمتلقي لإيحاءات مختلفة، وتكرر هذا الاستخدام في أكثر من موضوع فهو يقع على مفردة واحدة ويضيفها لجميع الضمائر المتصلة مثل أن يقول:" إرهابي مفقود تبحث عنه الأمم المتحدة ضدهم ضدنا ضدها ضدي ضدكَ ضدكم ضدكن ضدهن" المهم ضد حرف الضاد ولغة الضاد فيضل الكل طريقه". فالروائي من خلال المفردة يدلل على هذا الانفلات ، وهذا العبث والافتراء الواقع على المجتمع الفلسطيني والعربي ، كما يشي بتعامل ساخر مع اللغة مثل نبرة السخرية التي تنبعث من سطور الرواية كلها. تعامل الروائي مع أسلوب العطف بالواو تعاملاً مستفيضاً ومتكرراً في مواضع متعددة، وأتصور أنه لجأ لهذا ؛ لزخم المشاعر والأحاسيس التي تنتاب الفرد في مثل هذه اللحظات الحرجة المصيرية التي تكتنز بشتى أنواع المشاعر وتناقضتها وتداخلتها وضمها معاً فهو يقول على لسان جعفر الأسمر الذي وجد صديقه تحت وابل من الرصاصات :" إنني أتقدم باتجاه طلقات الموت.. هذه ليست مسؤوليتي ...لابل مسؤوليتي !.إنه رفيق عمري..! من أحاسيس متداخلة وممزوجة ومجعلكة ومشوهة وأصيلة وصريحة من الخوف والشجاعة وروح المسؤولية والتخلي عن المسؤولية والمحبة والجبن والشهامة والاندفاع والتضحية والأنانية وحب الوطن والنذالة والضيق و.."(صـ15ـ) . لكن العطف المتكرر للصفات المجتمعة وللتناقضات المتعددة يعد في بعض المناطق ضعفاً في الصياغة اللغوية. استوعبت لغة الرواية العربية الفصحى المبسطة وبعض العبارات التي اعتمدت على اللهجات العربية فلسطينية ومصرية وسورية وسعودية، والعربية المنطوقة على اللسان العبري، ووردت تلك اللهجات في مناطق الحوار وهو ما يوحي بطبيعية الحوار وواقعيته ولقد ذكرت في العديد من الصفحات مثل صـ 80،53،45،33،25،24ـ ، مع ورود بعض المفردات الفلسطينية غير الواضحة (صـ88ـ) ك" الزعرفة". ولو قمنا بدراسة إحصائية لغوية للمفردات التي تدل على المنع والتحريم والحواجز والقيود لاتضح لنا أن تلك المفردات ومشتقاتها وأفعالها تزيد عن ثلث مفردات الرواية، ويشي ذلك عن حال المجتمعات في العالم الثالث ومجتمعاتنا العربية ذاتها ، حتى أن عنوان الرواية ذاته " حرمتان ومَحرم" خير دليل ينبئ عما تعانيه الناس في مجتمعاتنا من انغلاق وجمود وتخلف. لقد نجح الروائي في تلك الاختيارات ليعبر عن الجو الخانق الذي تعيشه البلاد في ظل الحصار بمعناه العميق ، ويشير إلى كَمِّ قدر القيود التي تكبل الإنسان العربي . فالمرأة في المجتمع العربي "حرمه" وحرمه من التحريم ومن الحريم ، من المنع والاحتجاب، من القيد والانزواء، ومَحرم هو الرجل الذي تعد المرأة شغله الشاغل والأول وأن يكون هو القائم على أمورها ،فهي غير مؤهلة للحياة وأدنى إنسانية ، وفيها تتحول نصف المجتمعات إلى كائنات ينبغي أن يعين عليها محرم، وتلك قضايا تعوق تقدم المجتمعات وحريتها وتدعو إلى مزيد من الانغلاق والتخلف ، فحين يصبح الشاغل الرئيسي ليس النتاج ولا العمل ولا الحريات عندها تصبح القضايا الملتبسة والتي هي معرض تطور مستمر هي الشاغل الأول والأوحد. يلفت الروائي- بتعامل مبدع مع اللغة - متلقيه للأنسجة المطاطية التي أصبحت تشكل الكلمات والمفردات ، فتحت مسمى ولفظة "السلام" يستخدم كل ما يعوق حرية الفرد ويمتهنه ويهدر كرامته وحياته وأحقيته في الوجود على أرضه. فاللفظ يحمل ما يقوضه وهذا ما يحدث في هذا العالم القاسي * الوقوف إجباري للسلام أسلاك شائكة للسلام منطقة ألغام للسلام ممنوع الاقتراب والتصوير للسلام منطقة عسكرية محظورة للسلام مشروع مستعمرة جديدة اسمها السلام .......وهكذا حتى من لايطيع التعليمات، يتعرض لإطلاق السلام عليه. تعامل الروائي مع التضمين أو التناص بمقتطفات من الأشعار والأغاني، وكان استخدامه لتلك المقتطفات عالى التكثيف ، لكنها جاءت مناسبة لمواطن توظيفها في بعض الفقرات ودعمت من البناء السردي، ووهبته الثقل الثقافي والنفسي الذي يثريه ويقرِّب العمل الروائي من قلوب وعقول متلقيه فالرواية تكتظ بأغاني فيروز وأشعار نزار قباني وهارون هاشم رشيد و توفيق زياد. كما تضمنت نصوصاً من الشعر الجاهلي: امرئ القيس والأموي :الفرذوق وبعض العبارات القرآنية ، وكأن الروائي يقول لمتلقيه أني قادر على اللغة حتى المفردات والتعبيرات القرآنية التي لم تعد تستخدم . ويحسب للروائي هذا الرصد الدقيق لمفردات وتفاصيل المكان التي تجري به أحداث الرواية فهو يصف لنا عالماً مغايراً أليس خيالياً لكننا لا نراه بأعيينا فهناك دائماً حواجز ،ومهما تخيلناه لن يكون بهذه الفداحة التي يصورها من رآها وعايشها.فالمساحة أو الأماكن التي تجري بها الأحداث وتتحرك فيها الشخصيات خاصة حين تكون معسكراً تحت الاحتلال تؤثر بلا شك في رسم ملامح باقي عناصر الرواية وتؤثر دون شك في طبيعة التلقي فمعظمنا لن يتخيل طبيعة العيش في مخيم تحت الحصار. وأتصور أن الروائي استخدم المكان مكملاً أساسياً في رسم شخوص الرواية فوصف المكان يكشف عن الحياة النفسية للشخصية، ويشير إلى مزاجها وطبعها و فاعليات المكان لها أن تحدث أحدى صنيعين بالشخوص: إما التفاعل التام مع تلك العشوائيات بكل فوضويتها وقذارتها، فتصير الشخوص بلا ملامح محددة خارجياً أو داخلياً ، وإما أن يصير الإنسان على تفرده وانفصاله عن هذا الواقع المفروض عليه وعدم اندياحه في هذه الرقعة المنتهكة من أرضية وعندها يصر على اتساقه الداخلي وترتيب أولوياته وأفكاره ،كإنسان مكرَّم فوق هذه الأرض . وأتصور أن هذا ما قصده صبحي فحماوي فهو يتحدث عن كل فلسطيني يزرع الرقع الصغيرة التي تحيط بمنزله في سرعة ملحوظة ويسعى إلى اللون الأخضر لون الحياة والخصوبة. في المكان الرئيسي في هذه الرواية " معسكر الحصار" تتجاوز كل المفردات بكل تناقضاتها تتجاور البيوت بالمحلات متنوعة البضائع، بالمحددة ، بالشوارع المتربة بحفر المجاري، بتلال القمامة ، بالدبابات والجرافات بالجنود المدججين بأحدث الأسلحة وأكثرها دماراً، تتجاور هذه الأشياء مع الأطفال والصبايا الجميلة والأحلام في التحرر والنصر على الأعداء تتجاور مع الحب والأمل والرغبة في ملكوت الحرية الذي لا ينتهي ، تتجاور الحياة مع الموت، الجمال مع القبح ، الحرية مع القهر. معسكر الحصار ربما يُعَدَّ هو المكان الوحيد الذي يمكن أن تتجاور فيه كل التناقضات لأنها حياة إنسان تحت إرادة وشروط عدوه إن أردنا دقة التعبير . فالإنسان يعيش في مجموعة من القواقع المكانية ولكل قوقعة علاقة خاصة به تسهم في تشكيل فكره البشري المحرد، ولقد استطاع الروائي أن يصف المكانين الرئيسيين في الرواية "المعسكر الفلسطيني" و"مدينة الرمال العربية " واستخدم لذلك مقاطع وصفية تميزت بنوع من الاستقلال عن باقي مقاطع السرد الروائي ، لكنها أضفت الظلال والدلالات النفسية والمادية على مسار القص. كما أن انتقالة الشخصيات الثلاث من فلسطين إلى مدينة الرمال العربية لم يصاحبه تحول في الشخصيات لأنهم محاصرون في كلا البلدين وإن اختلفت نوعية الحصار. والمكان في هذه الروايةعالم حقيقي غير متخيل لكنه ليس صورة فوتوغرافية ساذجة ففي تقنيات رسم الروائي للمكان راعى الأبعاد الدرامية لسرديته. فهو حين انتقل من المعسكر المحاصر وذهب إلى ولاية الرمال العربية كانت أماكنه ضيقة معتمة مقيدة بالأسقف ، والأسواق المسقوفة، حتى أن مكان النزهة الوحيد كان في الخلاء في الصحراء التي لا تنوع بها. حركة التنقلات ذاتها دائماً ما انتهت سريعاً إلى حواجز وموانع من كافة الأشكال الخرسانية والسلكية الشائكة والأسلحة والمتاريس التي لا آخر لها ، اتضح القيد أيضاً في العربات والحافلات والشمع الأحمر والأرض المحددة بخط أحمر ، براح هي الأرض لكن ليس لهم أن يتجاوزوا ما حُدد لهم وإلا فقدوا حياتهم. كما أن الوصف عند صبحي فحماوي للأماكن تجاوز عين الكاميرا المعتمدة على العين أو اللمس إلى الصوت و الرائحة وهو قد استخدم الوصف للأماكن والأشياء في إيحاءات لانهائية تجمع مظاهر المحسوسات مجتمعة ولجأ الروائي في وصفه للمكان إلى الاستقصاء والاستنفاد لا إلى الإيحاء والتلميح (صـ26،19ـ),حتى أنه وصف بعض الأماكن بصفات نابية لا ضرورة ملحة في ذكرها. الوصف المكاني هنا لا يأتي ملتحماً بفقرات السرد ، كروايات تيار الوعي مثلاً.فهو وصف تصنيفي لا تعبيري يستند على الإيحاء والتلميح ، والروائي بذكره للعديد من التفاصيل في وصف المكان بعضد وظيفته بتجسيد لعالم روايته البعيد عن رؤيتنا المباشرة فهو كما نعلم تحت الحصار وإنما يخلق انطباعاً بالحقيقة وتأثيراً مباشراً بالواقع. لقد استخدم الروائي الصورة الوصفية التي تعرض الأشياء والأماكن في سكونها لا في حركتها إلا في مواضع قليلة حين وصف لحظات انفجار "محددة العودة "وموت "جهاد" ومن معه بعد الانفجار. كلنا يدرك أن الفن الحقيقي يتأبى على قيد القواعد الحرفية وعلى المذهبية الضيقة وأن للفنان مطلق الحرية وهو بصدد إبداع عمله في أن يستخدم طرائق تعبير وأدوات وصياغات من جملة من المدارس الفنية ، فالفن في جوهره تجاوز ومناوشة مستمرة للقولبة ، لكن دعونا نتساءل أيه مناوشة ؟ المناوشة التي تُبقي الفن فناً ، وتترك متلقيها ولديه إحساس ما بالمتعة ، والمتعة بأنواعها المتعددة. ونحن في " حرمتان ومَحرم" بصدد عمل روائي أوجد له كاتبه مجموعة من الأبطال يصارعون أحداثاً دامية تتعلق بالحصار في معسكر فلسطيني تحت الاحتلال ، يصارعون الشعور بالغربة والامتهان في بلاد لاتحترم حرية الإنسان وآدميته وخاصة المرأة. لم يتعامل الروائي مع تلك الخيوط بسبك وتكثيف فني بحيث كان يمكن تنميتها لبلورة خط إنساني درامي يلتقطه الروائي وينسجه تفصيلة مع أخرى لتشيد عملاً فنياً متماسكاً يؤثر في المتلقي ويمتعه. لقد استقر السرد على " أنه هو المادة المحكية بمكوناتها الداخلية من الحدث والشخوص و الزمان والمكان وهو مكونات أنتجتها اللغة بكل طاقاتها الواصفة و المحاورة والشارحة والمعلقة" (1) ويقسم النقاد (2) السرد إلى قصة وخطاب وذلك لأغراض التحليل فقط، تتكون القصة من أحداث هي أفعال ووقائع في المكان والزمان بالإضافة إلى موجودات هي الشخصيات ومفردات المشهد ومن خطاب أي التعبير ، أي وسائل توصيل هذا المحتوى فالقصة تجيب على سؤال ماذا؟ ويجيب الخطاب على سؤال كيف ولا ينفصلان إلا على نحو تجريدي . إن الخطاب يتعلق بمسائل من قبيل المؤلف،والمؤلف الضمني والراوي ووجهة النظر ، والمناجاة الذاتية والمونولوج الداخلي وتيار الشعور والأوصاف وتلخيص مرور الزمان . وتلك المسائل هي كيفية التعبير عن مكونات القصة من أحداث وحبكة ومكان وزمان وشخصيات. وطبقاً لهذه التقديرات تخير الروائي لعمله قصة مثيرة تتيح له مادة حكائية متسعة ،قابلة لصياغتها في تشكيلات جمالية مبدعة متألفة النسج على النحو الذي يخرج لمتلقيه بعمل له خط درامي متنامٍ واضح ، يعطيه فرصة لا بأس بها لتحليل ووصف الكثير من مكنون هـــذه
(1) محمد عبد المطلب : بلاغة السرد النسوي / كتابات نقدية 166 .م الهيئة العامة لقصور الثقافة / القاهرة 2007م / صـ 16. (2) فصول : إبراهيم فتحي. الشخصيات ، ووصف للصراع الدائر بنفس كل شخصية على حدة ، وقدر الصراع ذاته ومدى اعتراكه بالشخصيات لتصبح هذه النهاية هي اختيارهم في هذه الحياة ، كما أن القصة بشخوصها كان من الطبيعي أن تتيح تنوعاً صراعيا،حتى وإن اتفقت النتائج ،فتغريد وماجدة والعم أبو مهيوب ، شخصيات تهيئ مادة خام حكائية متنوعة الدوافع والنوازع. فكما ذكرت توافرت لدى الكاتب خيوط قصة مؤثرة وحيوية ، لكنه ألح عليه البوح بآرائه الخاصة ورؤيته للعديد من القضايا المقتولة بحثاً في الصحف والحوارات العامة ؛ فأثر ذلك على صياغة خطاب روائي محكم السبك ، وسردية مجدولة مكثفة فأدت به هذه التداخلات المقحمة على العمل إلى عدم تنمية تقنيات روايته السردية وجعلها متداخلة منصهرة ، إحداها في الأخرى وفي المجموع على نحو فني يبرزها ويضيف لها تأثيرها في المتلقي ويشيدها أحداثاً تؤول إلى رؤى فكرية وإنسانية متكاملة ولذا وجدنا هذا الملمح التجاوري للتقنيات السردية المتنوعة ، ولم نجد هذا السبك والتكثيف الممتع (صـ33ـ). ولقد تبدت بعض الثغرات في التشكيل الجمالي في رواية " حرمتان ومَحرم" : أستخدم الروائي تقنية القطع السردي للخط الدرامي لنجده يقحم أراءه الخاصة وتفسيراته ووجهات نظره في أحداث وقضايا متعددة مثارة في المجتمعات العربية الإسلامية ،حتى أننا في بعض المواقع يمكننا أن نجد مقالات منفصلة تقدم تحليله وتعليقاته على بعض الأحداث والوقائع في بعض القضايا (صـ37ـ) ( صـ189،187،185) وغيرها. لم تضف هذه التدخلات جديداً فهو لم يبتكر نظرات أوتحليلات تنطوي على رؤى متمايزة لم يلتفت إليها ، شأن التناول الفني وما يعهد فيه، لكنه ذكر ما نتداوله في أحاديثنا وقراءتنا الصحفية ، وما نعرفه ونسمعه ويشغل كل الأوساط العربية .النظر النقدي لا يفرض شكلاً أو قانوناً للسرد الروائي ، فالفن هو الخلق الرافض لكل قيد لكن له أن يتساءل هل هذه التداخلات المقحمة على العمل الروائي قد أعطتنا قيمة أو متعة فنية أم أنها صنعت صدعاً بالعمل الروائي. كلنا يعلم أن التقنيات الفنية الروائية في ظل تيار ما بعد الحداثة تقوم على الفوضى، حتى أنني أطلقت عليها جمليات الفوضى والتداخل في الرواية المعاصرة ، فهناك ما أسميته تشظى الحبكة الروائية والإطاحة بها، لكنه موظف في وجود خط درامي واحد ومستمر. في هذه الرواية وهي قصة الشابتين " تغريد وماجدة والعم أبو مهيوب" في علاقة جدلية مع أرض محاصرة وأفكار متخلفة وذوات متقوقعة ثم تأتي تلك المداخلات في شكل مفتعل وكأنها نتوءات بينيه ، لنا أن وقتها أن نتساءل هل خدمت هذه المداخلات فنية العمل أم أخلت بها وناوشتها لغير مصلحتها؟. إن تلك الثغرات التي فتحت في نسيج السبك الروائي قد أوجدت بعض التأثيرات على عدد من عناصر السرد . هذه التداخلات المقحمة أخلت برسم ملامح شخصيات حقيقيه وإضفاء أبعاد نفسية ووجدانية متعمقة ومتمايزة إحداها عن الأخرى،شخصيات تتحدث لغتها وترى القضايا من وجهات نظرها تبعاً لثقافتها وبيئتها وانعزالها أو انفتاحها على العالم، فلم تأخذ الشخوص المساحة الفنية الكافية لتخرج علينا مجسدة متحركة متحدثة كما خرجت للروائي وحاورته واختلفت معه في نهاية الرواية. نجد على لسان تغريد وماجدة معلمتي اللغة العربية حديثتي السن والتجربة اللتين لم تخرجا عن المخيم المحاصر ، ولم يتوافر لهما القراءات المتخصصة ولا المكتبات ولا الحوارات ، نجدهما تدليان بأراء سياسية واقتصادية على قدر كبير من التعمق ، نجدهما صاحبتي معرفة بأعلام أدبية وفنية متعددة ، وبأعمال أدبية متخصصة!! ملامح ثقافة الروائي تتداخل مع المنطوق على لسان شخصياته وطريقة تفكيرهم . ولقد أودت هذه التداخلات المقحمة من الروائي بالحوار الحقيقي في الرواية ، فاصطبغ الحوار بالروح الواحدة وليست المتباينة والمتجاذبة بالفعل . والتي فيها يأخذ الصراع الإنساني حجمه الحقيقي عن طريق الحوارات المتبادلة بين الأشخاص أو عن طريق المنولوج الداخلي. هذه المقالات التي اندست بين السرد الروائي أخرجته من دائرة القص إلى دائرة الإخبار، حتى أن الرواية في بعض المناطق تبدو مباشرة تعليمية، ينبؤنا التاريخ أن الحركة و النقدية تجاذبها غلاة الأخلاقين الذين ينتظرون من العمل الدلالة الأخلاقية الدينية أو الاجتماعية أو السياسية المباشرة ، دون الالتفات للقيم الشكلية الجمالية ،كما تجاذبها غلاة الشكلانيين الذين ركزوا على الشكل الجمالي قيمة أساسية دون ألتفات للمضمون تلك الثنائية كما الكثير من الثنائيات الأخرى باتت من آقانيم التاريخ المتحفية . ما ينشده المتلقي للعمل الروائي الذي بيده أن يخاطب عقله وجدانه معاً أن يشعره بوحدة متكاملة تنصهر فيها كل عناصر العمل الفني. من الجميل أن يكون للفنان موقف من القضايا التي يموج بها مجتمعه وأن يتبدى ذلك في العمل ، لكن حسب مقتضيات الفن الروائي ، بطريقة حثيثة ومن خلال تقنيات فنية متعددة، وهو موقف ينفتح ويتغلغل في النسيج الفني ولا يبوج مباشرة بنفسه وإلا تعاملت معه على أساس كونه مقالاً أو محاورة في ندوة ، موقف تتفتح خيوطه ومحاوره على لسان أبطال العمل رئيسية وثانوية، ومن خلال حوارات منفتحة " منولوج وديالوج" بحيث يتغلغل في النسيج الفني للعمل. وحين يريد الكاتب أن يتعامل مع بعض التقنيات الروائية لتيار الحداثة وما بعدها، وما يسمى برواية تيار الوعي ، ينفرط النسيج المسبوك للرواية ولا يأتي توظيف التقنية منضبطاً أو في مقامه المناسب، فموضوع الرواية لا يحتمل هذه اللعب الافتراضية في العرض بوجوه مختلفة فهو يأخذ موقف الناظر إلى الحبيب الفلسطيني وينظر إلى الشرفات والعمارات الآخذ بعضها بالأحضان كمجمعات سكنية شعبية مهترئة متسخة ، لانهائية الامتداد يقول:- * يبدو أن الشرفات العالية تعشق بعضها بعضاً... * لو تدري شدة الصراعات العائلية ..." (صـ19ـ) وتستكمل تلك النظرات في العمارة وشكل البيوت في الجو والأرض، فهو يعرض للمنظر الكائن من خلال منظورين إما كذا وإما كذا. قد نلتمس العذر للكاتب فقط حين نتذكر أن شدة اليأس والألم تولد رغبة عارمة في السخرية وقد تولد رغبة في العبث اللامعقول أو التجريب. وهو في (صـ43ـ) يصنع بعض الترهات كما يسميها وفيها يتعمد اصطناع قدرمن الأستظراف الذي لا فعل له في هذه المأساة ، أيضاً من سمات فن ما بعد الحداثة السخرية الناتجة من اليأس وشدة الألم والنقمة على كل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الوطن العربي (صـ44،43ـ) ، يسخر الروائي من الحاجة والعوز والفقر والجدب وتستخدم تلك التقنيات ، وتعد ذات إضافة فنية ، حين توظف جيداً في نسيج العمل وتضيف له بعداً جديداً، وحين توضع في المكان المناسب لها والملائم لإضافتها، (صـ156،155ـ ). ولقد وفق الكاتب في بعض الفقرات في الرواية في توظيف تلك السخرية اللاذعة فهو يقول " وكانت شهادة المحرم تنفعه، وتصنع في يده قوة " الفيتو" العربي.. مــــــــــــاذا تقول؟ لا يوجد فيتو عربي في مجلس الأمن ، فكيف يكون..؟ يا أخي أنت لا تعرف أن الفيتو العربي لا يعمل أصلاً، إلا في مواجهة الحريم فلماذا هذه الأسئلة التي " (صـ69،68ـ). فهي كناية ساخرة عن أوضاع اجتماعية مجحفة تجاه المرأة والرجل العربي. ويستخدم الروائي في المواقف الدرامية المفجعة بعض التعليقات المبذولة المأخوذة من أغاني شعبية،أو ما عادها ليأتي تعليقه على بعض أحداث الرواية، فهو حين يموت الصبيين يقول :" واختفت الألوان ولم يبق سوى الأبيض والأسود، كانت الكرة الأرضية تدور بهما حبة فوق وحبة تحت" (صـ16ـ )، تعليقات ساخرة يوردها الكاتب ليخلق حالة الاستنفار تلك عند المتلقي من هذا الراوي الذي يعلق بما لايتناسب مع طبيعة الحدث أو أهميته أو دراميته ليخلق حالة من الرفض و السخط لدى المتلقي. " ....- رحنا نتغامز ونتلامز ،وكأن لاشيء يهمنا ... بالطبع ألف شيء يهمنا، ولكن يبدو أن طبيعتنا تحت الاحتلال قد شوهت ، فصار الضحك لدينا نوعاً من التعايش، لنسيان عذابات الاحتلال ، ونوعاً من المقاومة ، ونوعاً من الحداثة التي يتحدثون عنها ، بحيث نرش على الموت سُكراً ، صــارت هذه فلسفة حيـــاة، وبغيـر هذا الأسلـــوب ،كيف نستمر ؟" (صـ87ـ). من التقنيات ما بعد الحداثية تقنية تعمد الروائي إشعار المتلقي بمراحل إبداع الرواية وما يدفعه إلى الولوج بها إلى بعض المناطق وذلك من أجل صنع نوع من المشاركة لدى المتلقي في إبداع الرواية ذاتهاوخلق حوار داخلي مع الرواية أو العمل الفني وكسر الإبهام الفني الذي يصنعه المبدع وكأنه كيان حقيقي بهذا العالم. ولقد أفرط الكاتب في أستخدام تلك التقنيات من أمثال ذلك (صـ50،40ـ).
#أماني_فؤاد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تكسر الدلالات اليقينية في ديوان - هو تقريبا متأكد - للشاعر أ
...
-
الرؤية والتشكيل في رواية -سلام - للروائي هاني النقشبندي
-
هل النقد الأدبي علم ؟
-
- بلاد أضيق من الحب - عرض مسرحي مأخوذ عن نص - سعد الله ونوس
...
-
دعوة من اللا تاريخ ..- قصة قصيرة -
-
تقاطعات قصيدة النثر في ديوان -الكتابة فوق الجدران- للشاعر -ع
...
-
الشعرية والألعاب السردية في ديوان -تفكيك السعادة- للشاعر -مؤ
...
-
جدلية الانفصال والاتصال في المجموعة القصصية -سوق الجمعة - لل
...
-
ومضات ثقافية ..2013 م
-
كفى ..شهر زاد!؟
-
أن تخط اسمه كاملا..- قصة قصيرة-
-
- أدهم يحي - قصة قصيرة
-
بعد وقت ..
-
مصر وقانون التظاهر
-
مكرونة فيوتشيني
-
قطعة ..من الشيفون الكناري
-
سرد المنفلت في مجموعة -عفاريت الراديو- لمحمد خير
-
يوسف الشاروني ..الخصوصية المصرية
-
محددات المشهد المصري قبل 30 يونيو 2013 م
-
- مجهول- أحدث روايات -يوسف القعيد-
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|