|
راﭘﺴﻮدي أميركي لراية حمراء في -وول ستريت-
الياس شاكر
الحوار المتمدن-العدد: 4282 - 2013 / 11 / 21 - 08:32
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
“Finally!”("أخيراً!")، قالها مايكل مور، صاحب الأفلام الوثائقية المعروف. صدرت الكلمة عنه مع تنفّسه الصعداء وهو يطلّ على الحشد في إحدى مظاهرات "إحتلّوا وول ستريت!". قالها بعد انتظاره الحدث لأكثر من سنتين، أي منذ مشاركته في مهرجان "كانّ" بفيلمه الأخير "الرأسماليّة، قصّة حبّ": A Love Story (2009)، (يَرِد العنوان أحياناً بتعبير آخر: "الرأسماليّة، حكاية لطف وكَرَم أخلاق": A Kindness Tale). إنّه وثائقيّ يفضح ما تتّصف به الرأسماليّة من صَلَف ونفاق، كما يوحي العنوان الساخر في صيغتيه. كان مايكل مور قد تعهّد، بمناسبة عرض فيلمه في "كان"، بأنّ يمتنع عن البدء بفيلم جديد "إلى أن يُقْدِم شخص آخَر، فريق، أو تيّار، أو حزب، أو أي أحد، على خطوة راشدة، برفع صوته الخاص عمليّاً، خروجاً على التناغم السائد". كان موقفه ذاك نوعاً من الرهان على نجاح فيلمه بتحقيق اتصال السينما الوثائقيّة بحياة الناس، وبِتَرْك أثر مرْجوّ ومنتظر في تحرّك فعليّ ضدّ الرأسماليّة. وبالفعل، وجد مايكل مور ضالّته في حركة "إحتلّوا...". أشار إلى مشهد الشارع الحاشد أمامه قائلاّ لصحبه: "النهاية" (The End). ولعلّ أحدهم سأله ممازحاً: "تقصد نهاية الفيلم أم نهاية التاريخ؟". ما كان مايكل مور ليجيب بأكثر من ابتسامة رضى: لقد أوفى بتعهّده، وهو عائد إلى عمله بفيلم جديد يستكمل العمل الثوريّ بالعمل الفنّيّ، مثلما جرى، "أخيراً"، استكمال العمل الفنّيّ بالعمل الثوريّ. *** هناك، وسط إحدى مظاهرات "إحتلّوا..."، حيث اندلعت الشرارة لينتشر الحريق (الاستعارة من "إيسكرا" لينين) في الولايات المتّحدة، من المحيط إلى المحيط، تراءى في لقطة تلفزيونيّة، للحظة عابرة لا تتعدّى لمح البصر، عَلمٌ أحمر، بدا حاملاً شعار المنجل والمطرقة إذ اختفق، قبل أن تختفي "الرؤيا" وسط الدخان المسيل للدموع، المنقشع، هنا وهناك، عن التماعات خُوَذ ودروع وشارات، بين عصيّ تنهال على أجساد شابّة مسحولة لتُحشر في الشاحنات... كان في الإمكان تصنيف المشهد في نطاق ما هو عاديّ من أحوال الديمقراطيّة (الأميركيّة)، لولا تلك اللقطة التي رفعت المشهد العابر إلى مصاف "الرؤيا"، فتكاد ترى حامل العَلم، وتتعرّفه، وتتجاوب وإيّاه فكراً ومشاعر، رغم اختفاء ملامحه في الزحام. ما يجول في خاطر حامل العَلم الأحمر هذا، وعالَم الرأسمال يتخبّط في أزمته الراهنة، مختلف بالتأكيد عمّا كان يشغل حاملَ عَلمٍ أحمر هو الآخر، اعتُقِل على رأس مظاهرة، في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وانحفرتْ صورتُه منذئذٍ في ذاكرة الأجيال: إنّها صورة ذلك العاطل عن العمل، الذي كان يتسكّع في الشوارع، في أعقاب أزمة 1929، وإذا بشاحنة أشغال عابرة تسقط منها الخرقة الحمراء التي تحذّر من خطر الاصطدام. ويلتقط المتسكّع الطيّب الخرقة ويركض ملوّحاً بها، محاولاً إعادتها إلى الشاحنة... وتشاء الصدفة أنْ تخرج من شارع متفرّع، مظاهرةُ عمّال غاضبين تسير وراءه في الاتّجاه نفسه، كما لو أنّه قائد التحرّك... وتُقمع المظاهرة، ويُلقى القبض على المتسكّع البريء بالجرم المشهود....(في فيلم "الأزمنة الحديثة"، لتشارلي شاﭘﻠﻦ). حامل العَلم في وول ستريت ليس بهذه البراءة. هو مدرك تماماً أنّه في سيره الحثيث لاحتلال قلعة الرأسمال الماليّ العالميّ، عن سابق تصوّر وتصميم، إنّما يقيس بخطواته مسافة الثلاثة أرباع القرن التي تفصله عن زميله الطيّب، المسافة التي يقطعها وعيهما من الأخلاق إلى السياسة، لِوَصْل هذه بتلك، بين أوْجَيْن لأزمة الرأسمال (العامّة بفعل "ثورة أوكتوبر")، وللصراع الطبقيّ (ظاهراً وخفيّاً)، ما يسمح بأن ترتفع في وول ستريت، إلى جانب العَلم الأحمر، يافطة "نحن الـ99%"، التي تعني أنّ الديمقراطيّة الأميركيّة تكون مُتاحة لرافعي اليافطة والعَلم، أو لا تكون. ولعلّنا واجدون بين رافعي اليافطات في وول ستريت إبناً وإبنة، أو حفيداً وحفيدة، لذلك الطفل في ميتم نيويوركيّ، من فيلم آخر لتشارلي، "ملِك في نيويورك"، أنجزه بعدما أدار ظهره لأميركا الماكارْثِيّة، وانتقل للإقامة في سويسرا حفاظاً على حرّيّته في التعبير. الملك المخلوع عن عرشه في أحد البلدان الأوروﭘيّة، واللاجئ مع ثروته إلى نيويورك متفرّغا للأعمال الخيريّة، يزور ميتماً يجد فيه طفلاً منزوياً وغير مكترث بالزائر المحسن الكبير، منكبّاً على كتاب ضخم. يُعجب الملك باجتهاده ويتودّد إليه سائلاً: ــ ماذا تقرأ؟ فيجيب بجفاء: ــ كارل ماركس، الرأسمال! *** في غمرة أحداث "إحتلّوا..." حملت الأنباء الواردة من الولايات المتّحدة خبر رحيل الفنّان اللبناني الذي اغترب في ثمانينات القرن الماضي، وهيب بتدّيني، ("السفير"، 9 كانون أوّل ـ ديسمبر، 2011). ولعلّ فنّاننا، في أيّامه الأخيرة، تابع في مغتربه عن كثب أنباء تلك المظاهرات بالصوت والصورة، فاستعاد من الذاكرة، مغمض العينين، لوحة له عرضها في لبنان، بُعيد عودته من الإتّحاد السوﭬﻴﺎتي حيث درس الفنّ: مشهد مسيرة جماهيريّة تَعْبر اللوحة، من اليمين إلى اليسار، وكلّ الوجوه فيها شاخصة إلى غاية أمامها خارج الإطار، لكن هناك، لمن يتأمّل في اللوحة دون تسرّع، وجهٌ واحدٌ وسط المسيرة يلتفت نحو الزائر المُهْتَمّ: تلتقي النظرتان... وللقارئ هنا أن يسترسل في توقّع المناحي التي يمكن أن يتّخذها الحوار الصامت. كالعينين في مظاهرة بتدّيني كانت خفقة العَلم الأحمر في وول ستريت، تبعث برسالة ذات مضمون مفتوح يتحدّد، لدى المتلقّي لحظة تلقّيها، بالموقف مِن "إحتلّوا...". لكنّ تعدّد مضامين الرسالة بتعدّد المتلقّين لا يلغي أنّ حاملَ العَلم واحدٌ فردٌ يَعرفُ ما هو مبلِغ: 1 ــ إنّه يَمْتَثِلُ، رمزيّاً على الأقل، لفعل الأمر في شعار المسيرة: "إحتلّوا..."، تُصْدِره أكثريّة ساحقة مِن (99%)، لاحتلال قلعة الأقلّية الضئيلة التي تعي تماماً أنّ الأكثريّة تعي، أكثر فأكثر، أنّها منتِجة الثروات المكتنَزَة في القلعة من عرق جبينها. ومن يحتل القلعة، رمزيّاً، يرفع عليها رايته. 2 ــ إنّه يَمتثِل، رمزيّاً على الأقل، لما يعنيه فعلُ الأمر إيّاه من واجب التصريح بطبيعة معركة احتلال القلعة. لذا وقع اختياره على عَلَمه بالذات لإبلاغ الملأ أنّ المعركة، برمزيّتها، فصلٌ من صراع طبقيّ لا هوادة فيه يتحدّد مضمونه بقطبيه: هناك، من جهة، ما يمثّله ذلك الشارع النيويوركيّ، كأحد مراكز السيطرة على مقدّرات الشعب الأميركيّ (وشعوب العالم)، من قِبل رأسمال ماليّ يَتَمثّل إجتماعيّاً بطغمة ماليّة أكثر فأكثر إغراقاً في الفساد. إنّها شريحة "محترمة" من البرجوازيّة، تتشكّل تاريخيّاً، وتأخذ باستقطاب كلّ الرعاع (مترسّبين فيها من كلّ الطبقات الإجتماعيّة)، في السياق التاريخيّ لانعزالها كطغمة عن عمليّة الإنتاج الإجتماعيّ المادّيّ الذي تتملّك، وهي تبلغ من تاريخ الرأسماليّة عِتِيّاً... (أنظر: لينين، "الإمبرياليّة أعلى مراحل الرأسماليّة"). وهناك، من جهة مقابلة، قوّة العمل، النقيض التاريخي للرأسمال المتراكم من العمل، منتزَعاً منه. وتتمثّل هذه القوّة إجتماعيّاً بطبقة عاملة أميركيّة (وعالميّة)، تستعيد صحّتها بكسر طوق العزلة السياسيّة التي أوقعَتْها فيها أمراضُها الطفوليّة، ناهيك عمّا تواجهه من قمع وخداع وعزل سياسيّ في عالم الرأسمال. إنّها تستعيد عنفوان شبابها بمدّ الجسور بينها وبين القوى الإجتماعيّة المتضرّرة من سيطرة الطغمة الماليّة وفسادها. وليس ذِكر الفساد هنا مجرّد اتّهام أخلاقيّ يُدين الطبقة بجريرة أفرادٍ منها. المقصودُ فسادٌ في الجوهر، بالمعنى الهيغيليّ للكلمة، فلا تعودُ الرأسماليّة هي هي تلك التي اقتحمت التاريخ الأوروﭘﻲّ (والعالميّ)، رافعة العلم المثلّث الألوان في معارك إسقاط الإقطاعيّة وأوتوقراطيّاتها اللائذة بالهالة الدينيّة. إنّها البرجوازيّة وقد خانت تاريخها المجيد، متحالفة ضد الطبقة العاملة مع القوى الأكثر رجعيّة وفساداً (بالمعنى الأخلاقيّ اليوميّ هذه المرّة). إنّها الرأسماليّة وقد تشخّصَتْ لها نهايتُها بظهور حفّارِ قبْرِها الذي وُلِدَ معها على مسرح التاريخ: الطبقةُ العاملةُ وقد استقلّتْ عنها سياسيّاً، وُصولاً إلى ذلك الشبح الذي ظهر مُحَوِّماً فوق أوروبا أوّلاً، في القرن التاسع عشر، وها هو اليوم يُحَوّم فوق العالم أجمع... من وول ستريت. (أنظر: ك. ماركس وف. إنغلز، "البيان الشيوعيّ"). 3 ــ إنّه يَمْتَثِلُ، ليس رمزيّاً وحسْب، لضرورة التعبير عن تاريخيّة كلّ هذا الحراك، مترجِماً إلى الواقع اليوميّ، عمليّاً، فِعْلَ الأمرِ إيّاه، صادراً إلى الـ 99% من الشعب الأميركيّ: إحتلّوا مكانكم ومكانتكم في التاريخ، لأنّ التاريخ ليس في صدد بلوغ أيّة نهاية. كان رافعُ الراية في وول ستريت مدركاً تماماً أنّه في صدد نقد ونقض مذهب فرانسيس فوكوياما القائل بـ"نهاية التاريخ". *** بحضور العَلمِ الرمزِ في المشهد يَحْضرُ التاريخُ المغيَّب. يكفي حضورُ رمزٍ تاريخيٍّ واحدٍ لِجَعْلِ المشهد رُكاماً من رموزٍ تتحرّرُ من نسقٍ مُفتعَل، وتُبَدِّلُ دلالاتِها لتنخرطَ في نسقٍ جديد. يُغيِّرُ العَلمُ بُنْيَةَ المكتوب فيَسْتَنطِقه مستخرِجاً المكبوتَ فيه. وإذا كان "المكتوبُ (المكبوت) يُقْرَأ من عنوانه"، كما يُقال عندنا، فإلى الكتاب الجديد، الأوّل من ثلاثيّة، الصادر في زمن "إحتلّوا..."، لصاحب "نهاية التاريخ؟"، بِدْءاً من العنوان العجيب: "بداياتُ (أو "جذور"، أو "أصول"...) النظامِ السياسيّ: من أزمنة ما قبل الإنسانيّة إلى (بما فيه؟) الثورة الفرنسيّة"(1). أوّلُ ما يلفتُ القارئَ في هذا الكتاب هو أنّ الكاتبَ قد غَيّب من العنوان كلمة "تاريخ"، ليستبدل بها كلمة "أزمنة". ثمّ أنّ "أزمنة" السياسة هذه، في منطق العنوان إيّاه، لها "بدايات" تبدأ من "ما قبل" ظهور "الإنسان" في الأرض، ويمكن أن تشمل "الثورة الفرنسيّة"! ما يعني، ودائماً في منطق العنوان، الذي يبدو مُصاغاً بعناية، إنتفاءَ علاقة تلك النظم السياسيّة البدائيّة بتاريخ للإنسانيّة يتميّز عن التاريخ الطبيعي، هذا إذا بقي هناك من حاجة، في عِرْف المؤلّف، للّهَج بكلمة "تاريخ" أصلاً. وإذا كان دأب المؤلّف، في أعماله السابقة، أنْ يضع للتاريخ حدّاً، فهو في مؤلَّفه الجديد، مقروءاً من عنوانه، يعمل على اجتثاث مفهوم التاريخ من تاريخ الفكر الإنساني، إنْ لم يكن من اللغة أصلاً، ليترك الإنسانيّة في التيه، تتقاذفها "أزمنة" لا حَوْل لها فيها ولا قوّة، أللّهمّ باستثناء تلك التي تختارها عناية ما، في زمن ما، لتقودها خطوة، أو طفرة، في اتّجاه "الشكل الأخير للحكومة البشريّة"، أي إلى "الديمقراطيّة الليبراليّة الغربيّة"، حَسَب تعبير فوكوياما في كتابه السابق، "نهاية التاريخ والإنسان الأخير". حضور "الإنسان" في العنوان السابق، وبالمقارنة مع حضوره في العنوان الجديد، يشير إلى أنّ مشروع فوكوياما يحقّق نقلة من فلسفة للتاريخ بِلَبوس هيغيليّ، إلى نوع من الأنثروﭘﻮلوجيا السياسيّة بلبوس داروينيّ، إذ يأخذ بالإكثار، في المتن، من كلمة "تطوّر"، ليفضي بـ"الإنسان الأخير" إلى "الشكل الأخير" لأنظمة الحكم، أي إلى مثال أعلى للحكومات لم يُخْفِ فوكوياما أبداً أنّه يراه متحقّقاً في الولايات المتّحدة الأميركيّة، في العقود الأخيرة من القرن الماضي، وامتداداً إلى القرن الحالي، أي، تحديداً، فترةَ تغلغُلِ "المحافظين الجدد" في الإدارة الأميركيّة وهيمنتهم فيها وعليها. وليس من حُسْن الصُدَف، ولا من الصُدَف إطلاقاً، أن يكون فوكوياما قد بدأ داعيةً من دعاة "المحافظين الجدد"، في مجلّتهم "ذي ناشنال إنْترِسْت" (المصلحة القوميّة)، بمقالته "نهاية التاريخ؟" (1989)، وهي المقالة التي وسّعها في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" (1992)، مكرِّساً ما اعتبره نصراً نهائيّاً للّيبراليّة الأميركيّة، متزامناً مع نهاية "الحرب الباردة"، بتفكّك المنظومة الإشتراكيّة الأوروآسيويّة وانكفاء معظم بلدانها إلى الضفّة الرأسماليّة. تتمحور السجالات التي أثارها الكتاب الجديد حول اختزاله نظريّة التطوّر إلى توليفة خاصّة، هي عبارة عن سلسلة (إنْ لم نَقُل: سلالة) من أربع حلقات، تُمَثّل تَعاقبَ "أزمنة" نشوء الكائن السياسيّ وارتقائه، في خدمةِ غائيّةٍ محدّدةٍ سلفاً: ظهور مثال أعلى للنظم السياسيّة، في الولايات المتّحدة الأميركيّة، أواخر القرن العشرين! يبدأ هذا التطوّر، حسَب فوكوياما، في الغاب، من اصطفاء النوع المؤهل لتقبّل "النظام السياسيّ": اﻟﺸﻤﭙﺎنزي. ثمّ ينتقل إلى زمن أقرب، ليحطّ في الصين، المحطّة الأولى، كما يبدو، لخروج الحيوان السياسيّ من الغاب. وبعد تعريجة، في زمن ثالث، إلى محطّة شبه القارّة الهنديّة، بما يشبه الإلتفافة ( The Indian detour )، ينطلق، بقفزة طويلة تطوي حِقَباً من الزمان، ليحطّ في أوروﭙﺎ الغربيّة، زمنَ الثورات الديمقراطيّة البرجوازيّة، الهولّنديّة والإنكليزيّة والفرنسيّة. ويصطفي فوكوياما، من تلك الثورات، "الثورةَ المجيدة"، الانكليزيّة، باعتبارها حقّقت نموذج "الحكومة القابلة للمُحاسَبة"، النموذج الذي سيعبر المحيط الأطلسيّ، مروراً بفرنسا، ليجد في أميركا الشماليّة البيئة المثلى لاندراجه في مثال أعلى لنظامٍ سياسيٍّ قابِلٍ، دون سواه في نظر المؤلًف، للديمومة بشرعيّة كاملة، باستناده إلى مثلّث المؤسّسات المتوازن الذي يؤمّن له "الاستقرار": الدولة، وسلطة القانون، والحكومة القابلة للمحاسبة. *** أ ـ هالة الشرعيّة: لا شكّ في أنّ فوكوياما، في كتابه الجديد، ليس في صدد التراجع عن أطروحته التي أكّدها في كتابه السابق قبل أكثر من عشرين عاماً، حول انتهاء التاريخ بانتصار، اعتبَرَه نهائيّاً، لـ"الديمقراطيّة الليبراليّة" الأميركيّة، مع أنّ له، خلال هذين العقدين، مقالات ومداخلات يبدو فيها متنصّلاً مِن رعونة السياسة الأميركيّة، وخاصة في عهد بوش الإبن. يبقى أنّ دأبَه، في كتابه الجديد، يتركّز على مواصلة تكريس الإنتصار الأميركيّ في "الحرب الباردة" بتحصينه إيديولوجيّاً، أي بما يُضفي "الشرعيّة"، في نظر الأميركيّين كما في نظر شعوب الأرض قاطبة، على أحاديّة الإستقطاب السياسيّ العالميّ، لصالح الولايات المتّحدة التي بات لها أنْ تَسُوسَ العالمَ باعتباره غنيمة حرب. بهذه "الشرعيّة" يجري تسويق "العولمة" بالمنظور الأميركي. بها، مثلاً، يجري التسويق لـ"المحكمة الجنائيّة الدوليّة" مع استثناء الولايات المتّحدة من الخضوع لأحكامها... بها يجري تبرير تجاوز الأمم المتّحدة والقفز فوق سلطة مجلس الأمن الدولي لشنّ حرب "الفلّوجة" و"أبو غريب"، بذرائع كاذبة يُطلب من المنظّمة الدوليّة أن تُشَرْعِنَها، في نظر الشعب الأميركي أوّلاً، كي يُرسل أبناءه إلى الموت، لأنّ ممثّله الشرعي، الرئيس المُلهَم بوش (الإبن)، المُنتخَب ديموقراطيّاً في فلوريدا، قال إنّه تلقّى أمراً إلهيّاً بالخروج إلى الحرب... بها، مثلاً، يجري الدفاع عن "منظّمة التجارة العالميّة" لتعميم "حرّيّة التجارة"، ثمّ يَتوَجّه الرئيس بوش (الأب) إلى طوكيو للضغط على اليابان كي تمتنع عن إنتاج بعض قِطع السيارات التي تنافس في السوق الحرّة قِطعاً مماثلة من إنتاج أميركيّ، قائلاً: "أنا ذاهب لأقول لهم إنّ حقوقنا التجاريّة كسبناها في الحرب العالميّة الثانية" (لا تزال ماثلة في الأذهان فُطْرة هيروشيما...“mon amour” ). إنّها "العولمة" ترى العالمَ غنيمة حرب... باردة كانت أم ساخنة... من هذه "الشرعيّة" يستقي فوكوياما تماسُكَ خطابِه في سردِ حكاية (ولا نقول تاريخ) نشوء النظام السياسيّ الأميركيّ، وتكريسِه شرعيّاً. وهكذا يكون كتابُه الأوّلَ من ثلاثيّة، في محاولة لشرعنة "الشرعيّة" بالهالة الأكاديميّة. إسقاطاً لهذه الهالة ارتفعت تلك الراية! *** ب ـ "الثورة المجيدة": قال فوكوياما في "نهاية التاريخ؟" إنّ الشعوب كلّها تتحرّك راهناً للأخذ بـ"الشكل الأخير (الأميركي طبعاً) للحكومة البشريّة". وردّ على منتقدي فكرته الذين بيّنوا بالوقائع أنّ التاريخ يواصل سيره بكلّ نزاعاته المعتادة، فقال إنّه لا يُنكر إمكانيّة وقوع أحداث تاريخيّة، لكنّه يعتبر أنّ ما انتهى هو: "التاريخ كصيرورة تطوّر متجانسة ووحيدة الإتّجاه"... هذا يعني، في منطق فوكوياما نفسه، أنّنا سنظلّ نشهد أحداثاً مهمّة، يمكن أن ننعتها مجازاً بالتاريخيّة، بعد نظرة إلى "التاريخ" تنتهي بنهاية الحرب الباردةّ. أي أنّه يَقْرن الـ"نهايةَ"، حسَب تلك النظرة، بـ"نهاية" تجربة بناء الإشتراكيّة في ظروف القرن العشرين، وقد افتتحها التحوّل السريع للثورة الديمقراطيّة البرجوازيّة في روسيا، تحت الراية المثلّثة للألوان، وعلى وقع نشيد المارسلياز (بصيغة ﭘﺮوليتاريّة جديدة)، إلى الثورة الإشتراكيّة، تحت الراية الحمراء، وعلى وقع نشيد الأمميّة، بين فبراير وأوكتوبر 1917. إنّه، بنظرته تلك، يقطع الطريق، ذهنيّاً، أمام إمكانيّة تَحقُّقِ مثل ذلك التَحوُّل الثوريّ في المستقبل، مُلغياً بذلك، ذهنيّاً، النظرةَ الأخرى، التاريخيّة، التي أثبتت، نظريّاً وعمليّاً، إمكانيّة تَحوُّل كلّ ثورة ديمقراطيّة إلى ثورة إشتراكيّة، بل حتميّة ذلك التحوّل إذا لم تنتكس الثورة الديمقراطيّة نتيجة ثورة مضادّة. وإلغاء النظرة التاريخيّة يستدعي من فوكوياما أن يختزل الماضي، في كتابه الجديد، شاطباً منه كلَّ ما لا يخدم "صيرورةَ التطوّر" التي يريدها أن تتبعَ مثالَ الحكومة الأميركيّة المستقبليّ، أي كلَّ ما لا يليق أن يكون إلاّ مجرّد "بدايات" لذلك المثال، مجرّد "أنواع" (بمعناها في لغة الداروينيّة السياسيّة، الفوكوياميّة) تسبق ظهور "الإنسان الأخير". إنّ اختزاله الماضي على هذا النحو قابلٌ للفهم على المستوى النفسيّ (بما هو أقرب إلى ردّ فعل النَعام إزاء خطرٍ داهم، من كونه أشبه بما يسمّيه ماركس بـ"النفاق (الطبقيّ) اللاواعي")، كما لو أنّه يستبطن إستشعاراً بـ"نهاية" الرأسماليّة، ويكبت ذعراً من الثورة، يَشي باعتراف ضمنيّ بأن كلّ ثورة، في مرحلة الإمبرياليّة، تُفْضي بالضرورة إلى الثورة الإشتراكيّة، أو تنكفئ أمام الثورة المضادة اليمينيّة الرجعيّة والفاشيّة. لذا يحرص فوكوياما، في كتابه الجديد (وهذا جديد محوريّ في الكتاب)، على ألاّ يشطبَ، من ماضي مثاله الأميركي الأعلى للنظام السياسيّ، ثورةَ أوكتوبر وحَسْب، بل كذلك الثورات الديمقراطيّة البرجوازيّة في أوروﭘﺎ الغربيّة، في هولّندا فإنكلترا ففرنسا، ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وذلك مع ما يبدو، لأوّل وهلة، من إبقائه عليها في "بدايات النظام...". كانت الثورة الأولى، الهولنديّة، قد قامت في مواجهة سيطرة إﺳﭙﺎنيا الملَكيّة الإقطاعيّة المدعومة من الكنيسة الكاثوليكيّة. وإتّخذت الثورةُ، تِبْعاً لظروف ذلك العصر، الطابعَ الشعبيّ لثورة تحرّر وطنيّ مع تغليب الوعي الطائفيّ المباشر، في الصراع اﻟﭙﺮوتستانتيّ ـ الكاثوليكيّ، على الوعي الطبقيّ. فاستحقّت من دَيّان الثورات استبقاءها في "بدايات" مثاله الأعلى، لانتفاء الاستفادة منها شكلاً، في "الشكل الأخير" الأعلى (الأميركيّ) لذلك المثال. وتبرز، شكلاً، مفارقة في اصطفاء "الثورة المجيدة" (الإنكليزيّة) للدخول وحدها في فرح ربّها. لكنّ العجبَ يزول بالعودة إلى ما آلتْ إليه تلك الثورة. فبعد حرب أهليّة على خلفيّة صراع طائفيّ الظاهر، بين السلطة الملكيّة المطلقة وسلطة اﻟﭘﺮلمان بزعامة أوﻟِﭭِﺮ كرومْوِل، تمّ إعدام الملك شارل الأول، وإقامة جمهوريّة ﭙﺮلمانيّة عاشت أربع سنوات تحقّقت خلالها إصلاحات برجوازيّة المضمون. ثمّ انفرد كرومول بالسلطة بعد أن حلّ اﻟﭘﺮلمان، الأمر الذي سهّل عودة الملكيّة بعد بضعة سنوات، بسلالة جديدة وبانقلاب عَمَدَ إلى نبش قبر زعيم الثورة ورمزها، الذي كان قد توفّي، وإخراجِ جثّتِه وشنْقِها لتكون عِبرة لمن يعتبر، مع إدخال إصلاحات ﭘﺮلمانيّة الطابع، تدرّجت على مدى قرن ونَيِّف، مع بقاء الملك على العرش مجرّد رمز لـ"الثورة المجيدة" إيّاها... المضادّة! أمّا الأخيرة في التسلسل الزمنيّ بين الثورات الثلاث، وأكْمَلها حداثةً، الثورة الفرنسيّة العظمى (1789)، فقد رسبتْ في امتحان الدخول إلى فرح ربّها، لتستقِرّ في "البدايات" مع سابقتها الهولّنديّة (تمّ إعدام الإنكليزيّة مع كرومْوِل!). ويشكّلُ رسوبُ ثورة اقتحام الباستيل، في الامتحان الفوكوياميّ، مفارقة فاضحة: لم يشفع بها دعمها لثورة الاستقلال الأميركيّة، إذ جَمَعَتْ البرجوازيّتَيْن، في الثورتَيْن، مصلحة مشترَكة في مواجهة التاج البريطانيّ (أقيمَ تمثال الحرّيّة، هديّة فرنسا للأميركيّين، تذكاراً لذلك الدعم). ورغم إلهام الثورة الفرنسيّة دساتيرَ ديمقراطيّة في أرجاء العالَم (إعلان حقوق الإنسان، القانون المدنيّ، إلخ...): لا نجد سبباً وجيهاً لِلحَرَج الفوكوياميّ في الاعتراف بشيءٍ من الفَضْل للثورة الفرنسيّة على مثاله الأعلى النيوليبراليّ، سوى عجزِه عن أنْ ينسبَ ذلك الفضلَ إلى "ثورة فرنسيّة" مضادّة (على غرار ما فعل مع الثورة الإنكليزيّة مستفيداً من عدم التمايز الكافي بين مراحل الثورة والتِباسات التماثل الشكليّ بين الثورة والثورة المضادّة)، ذلك أنّ كلّ الثورات المضادّة المنقلِبة على الثورة الفرنسيّة، كانت ذات وجهٍ طبقيّ رجعيّ مكشوف تلبّسَتْ به الخيانةُ الوطنيّة، إبتداءً من أولاها، الفاشلة، التي تورّط فيها الملِك لويس السادس عشر، فانتهى إلى المقصلة... هكذا يتركّز دأب فوكوياما على تخريج الثورة المضادّة، من تلبّس الثورة بها في الماضي، لإلحاقها بمثالها الأعلى المستقبليّ. ليس هناك في تصوّرِه مِن تَقَدّم، لأنّ التقدّم "انتهى" مع "التاريخ". هناك تَخَرّجٌ إلى "المستقبل". وهذا الشغل على الماضي، في كتاب "بدايات..."، يشكّل تمريناً للشغل على الحاضر، مرفوعاً إلى مَصاف "نظريّة" (للثورة المضادّة) توضع في متناول نخبة سياسيّة نيوليبراليّة تضمن للطغمة الماليّة ديمومة "استقرار" وهميّ، يبقى معلّقاً برحم التاريخ المنتهي، بواسطة حَبْل سرّة إفتراضيّ مقطوع، لراحة نفس سلف صالح "مجيد". هناك "الثورة المجيدة" (المضادّة) ماضياً وحاضراً، ولا شيء عداها في سلسلة فوكوياما التطوّريّة. ألّلهمّ إلاّ شيفرات وراثيّة ورموز مشفّرة ورسوم دارسة، تحتفظ الأجهزةُ الإستخباريّة ـ الإعلاميّة المركزيّة، التابعة للطغمة الماليّة، بالحقَّ الحصريَّ في فكّ شيفرتها، المحمَّلة برسائل "سياسيّة"، تدعو للالتحاق بـ"النظام العالميّ الجديد"... لم يكن العَلم المرفوع في وول ستريت بحاجة إلى "مثقف" وسيط يقرأ رمزيّته. *** ج ـ التعريجة الهنديّة: الهند هي المحطّة التالية، ونحن نسير القهقرى ابتداءً من سواحل الأطلسي الأوروﭘﻴﺔ، في الاتّجاه المعاكس لخريطة الطريق التي رسمها فوكوياما لـ"صيرورة التطوّر" السياسيّ. ولا حاجة للتذكير بأنّ شبه القارّة الهنديّة هي الموطن الأول للقبائل البدائيّة الهندو ـ أوروﭘﻴﺔ، ورأس الجسر الذي أوصل العرق الآري إلى أوروﭘﺎ. وليس عبثاً شهدت أوروﭘﺎ، في الثلث الأول من القرن العشرين، إشهارعرقيّتها الآريّة، بحَمْأة الـ"سواستيكا" (الصليب المعكوف)، الهنديّةِ الأصل، التي اختارتها الرأسماليّة المأزومة راية لها في وجه العَلم الأحمر. للمقارنة، كان التعليقُ على الصليب ذي الأذرع غير المعكوفة، مصيرَ من جاهروا برفضِهم النظامَ الطبقيّ العبوديّ، زمن الامبراطوريّة الرومانيّة الآيلة إلى السقوط، كما في الرواية التاريخيّة "ﺳﭙﺎرتاكوس" (1951)، للكاتب الأميركي هوارد فاست. (صدرت الرواية بُعيد إقامة الكاتب في السجن بتهمة الشيوعيّة (1950)، أيّام الماكارْثيّة، ونَقَلَها ستانلي كيوبريك إلى السينما (1960)، وشارك المؤلّف شخصيّاً في كتابة السيناريو). أليست بدائيّة الشعار النازيّ الآتي من غياهب الماضي، حيث لا صراع طبقيّاً واضحاً، هي التي أغْرَتْ باعتماد الشعار إيّاه رايةً للتجييش في صراع قوميّ عنصريّ، في خدمة طبقة باتت ترى نهايتها، تاريخيّاً، في الصراع الطبقي الصريح؟ ثمّ ألا يمكن القول بأنّ الصراع الطبقيّ هو ما استثار "التعريجة" إلى الهند، لدى فوكوياما في مناخ الأزمة الرأسماليّة الراهنة، كما لدى النازيّة الألمانيّة في مناخات أزمة الـ29؟ على أيّ حال تبقى الهند مَعيناً بالغ الثراء لتعدّديّة الثقافات والحضارات، تُستقى من تاريخها، القديم والحديث على السواء، أمثلة ورموز للتعصّب والتطرّف والعنف، كما للتعايش والاعتدال واللاعنف. ويبقى العَلم الأحمر في وول ستريت مرفوعاً ضدّ إغراق الثورة في حروب الثورة المضادّة، وضدّ الإنزلاق النيوليبراليّ إلى الفاشيّة. *** د ـ الصين، فضاء للروح: باتّباعنا خريطة الطريق التي رسمها فوكوياما من الغاب إلى المثال السياسيّ الأعلى، لكن في الاتّجاه المعاكس، يصبح ما يسمّيه بـ"الإلتفافة" (the detour) أكثر انطباقاً على الصين منه على الهند، كما لو أنّ صاحب "الإنسان الأخير"، الذي أمسك بطرف الخيط العرقيّ الآريّ في انتقاله المعكوس من أوروﭘﺎ إلى شبه القارّة الهنديّة، أحبّ أن يُعرِّج إلى الصين قبل أن يدخل الغاب، كيلا يُستثنى "العرق الأصفر" من نعمة الانتماء إلى السلالة السياسيّة "المجيدة"، الآتية من الغاب، (أو العائدة إليه، تطاردها الأزمة التي تعمّ العالَم ابتداءً من موطن "الاستقرار" الأبديّ). غير أنّ للصين مكانةً مميّزة، في تطوّر النظريّة الداروينيّة نفسها، تَحْمِلنا على تجاوز العقدة العرقيّة. هذا يقتضي، والحال هذه، أن ننظر في سرّ وقوع الإختيار على الصين تحديداً، كمحطّةٍ تُجاوِر "بدايات النظام السياسيّ" في الغاب: كانت الصين محطّ الضوء بشكل خاص خلال فترة تمتدّ قليلاً إلى ما بعد منتصف القرن الماضي، نتيجة العثور على ما اعتُبِر وقتها "الحلقة المفقودة" في السلسلة التطوّريّة الداروينيّة، على يد الفيلسوف والعالِم اﻟﭙﺎليونتولوجيّ (دارس الكائنات الحيّة عبر الحقب الجيولوجيّة)، الراهب اليسوعي الفرنسيّ ﭘﻴﺎر تيلار دو شاردان، خلال الحفريّات التي أجراها في الصين، وحمل اكتشافُه اسمَ "صينانتروپ" (إنسان الصين) أو "إنسان ﭘﻴﻜﻴﻦ". فما علاقة ذلك بالـ"بدايات..."؟ لا نقاش في احتمال أن يكون الأب تيلار دو شاردان قد اعتبر أنّ العناية الإلهية قادت خطاه إلى حيث حقّق اكتشافَه العلميّ الكبير. لكن الأهمّ من ذلك هو أنّ العالِم المؤمن، في محاولةٍ منه لمصالحة الكنيسة مع العِلم الوضعيّ (بعد ما كان مِن أمْرِ كوﭘﺮنيك وبرونو وغاليله...)، بَنى نظاماً فكريّاً يعتبرُ أنّ العناية الإلهيّة قادت التطوّر نحو تهيئة الطبيعة كلّها لتقبّل نشوء الإنسان منها وارتقائه فيها بالعمل، وصولا إلى معرفة فضل العناية إيّاها في وجوده وغاية هذا الوجود. أفتكون عودة فوكوياما إلى الصين توسّلاً لعناية ما، سياسيّة شِبْه إلهية، لشرعنة مذهبه في الأنتروﭘﻮلوجيا السياسيّة؟ يقول جون غراي في التعليق (المعرّب في "الحياة") على كتاب "بدايات النظام...": "ليس في مستطاع فوكوياما أن يتملّص من الإعتقاد بأنّ النظام الذي يتمتّع بالعيش فيه هو بعض عطايا عناية إلهية تسهر على المصائر والأقدار". هذا قد يؤيّد افتراض توسّل فوكوياما العناية، مع توسّله الصين، ليُضفي على كاريكاتوريّة فكره السياسيّ المُختزَل بعضَ المهابة الأكاديميّة: إنّه يريد "التطوّر" طبيعيّاً، أي متجذّراً في الطبيعة، على أن يكون موجّهاً في الوقت نفسه لتحقيق نزوع سياسيّ (عالميّ في ظلّ عولمة "نهاية التاريخ") إلى التماثل مع المثال الأميركي والدخول في فَلَكه. ثمّ أوليست المحطّة الصينيّة، والحال هذه، بداية شغل سياسيّ تطبيقيّ مستعجَل، على الصين تحديداً، المرشَّحة، باعتراف العالم أجمع، والرأسماليّة تتخبّط في أزمتها، لإزاحة الولايات المتّحدة عن عرش أحاديّة الاستقطاب؟ يقول غراي إنّ "علينا أن ننتظرَ صدورَ الكتابِ الثاني الموعود (من الثلاثيّة) حيث سيأخذ فوكوياما في الحسبان الأزمة الماليّة التي أحكمت الطوق على النظام السياسيّ الأميركيّ، ليبدو كنهاية طريق مسدود، أكثر مِنه كغاية مفترضة للتطوّر السياسي". ويلاحظ في مقالته المعرّبة أنّ "نهاية التاريخ"، في منظور صاحبها الذي "يرى الدين حلاً"، قريبةٌ من "قيام الساعة". كيف يكون في إمكان فوكوياما، والحال هذه، ألاّ يرى العَلم الأحمر في "وول ستريت" علامةً من "علامات الأزمنة"، كما في "سِفْر الرؤيا" (الأﭘوكاﻟﻴﭙﺲ)! *** هـ ـ "ألإنسان الأخير "؟: بعد صدور كتاب "بدايات النظام..." نقلت الأخبار الواردة من الولايات المتّحدة أنّ العلماء الأميركيين توصّلوا إلى أنّ اﻟﺸﻤﭙﺎنزي ليس، بخصائص تكوينه، أقرب القردة إلى الإنسان، كما كان يُعتقد، وأنّ المقارنة بين الشيفرات الوراثيّة أثبتت أنّ الغوريلاّ هو الأقرب. ولعلّ فوكوياما منشغل الآن بالتحقّق من أثر هذا الاكتشاف العلميّ في فكره السياسيّ، وربّما الدينيّ، في ما يشبه الجدال حول جنس الملائكة عشيّة سقوط القسطنتينيّة. *** ليس فوكوياما وحيد زمانه في إعلان "نهاية التاريخ". هناك، مثلاً، مَن ذهب إلى أنّ التاريخ ينتهي مع اضمحلال "الكتابة"، باعتبار أنّه بدأ مع اختراعها. فبالكتابة كان الإنسان البدائيّ يتحرّر من ارتهانه بالصُوَر والرموز التي أنتجها في محاولته فهمَ عالَمِه. وبالكتابة، في نظر أصحاب هذا الرأي القابل للنقاش، دخل التفكير في قالب سرديّ خطّيّ، وأخذت الإنسانيّة بالإنتقال من الوعي الأسطوري إلى الوعي التاريخيّ، وتسارع هذا المسار باختراع الطباعة وبالثورة الصناعيّة. ثمّ شهد القرن العشرون تحرّرَ الفنّانين من الارتهان بالوعي التاريخيّ الخطّيّ، وإعادتَهم الاعتبار إلى حضارة الصورة، مع تسارع الثورة العلميّة ـ التكنيكيّة الحديثة (السينما.. التلفزة .. الحاسوب وبرمجته...). ويستند الفيلسوف الفرنسي جان بودريار إلى مثل هذا التصوّر لـ"النهاية"، ليوجّه الانتقاد إلى فوكوياما لكونه اعتبر "نهايةَ التاريخ" أرقى مراحل تطوّر الثقافة الإنسانيّة. ويقرن بودريار انتقادَه هذا بانتقاد إخضاع التقدّم العلميّ ـ التقنيّ للسياسة، محدِّداً "مراحل" هذا الإخضاع عمليّاً في "ثورة الاتّصالات": يتطوّر استخدام الصورة كـ"أصْل" (أو واقع أساسيّ)، إلى مرحلة "تمويه الأصل"، فمرحلة "استنساخ" المموَّه، ومنها إلى المرحلة الأخيرة الراهنة: خلق "واقع وهمي"، أي "الوهْم" الذي تبدأ "الواقعيّة" انطلاقاً منه، لتحدّ من "دور المثقّف" فتقصره على تأويل الأوهام المنتَجة تقنيّاً. كما لو أنّ "حرب العراق لم تقع!" يقول بودريار، مُطالِباً المثقّفين بدور جديد: التعليق على الصورة المُنْتَجة تقنيّاً، ونقد الإيديولوجيا التي تصاحب التقدّم التقنيّ في الميديا، وكشف التضليل الذي تمارسه الفضائيّات... كان بودريار يتحدّث عن "حرب العراق" الأولى (1990)، وحالت وفاتُه دون معايشتِه دورَ الفضائيّات في إخراج "الصورة المُصَنَّعة" لتكون "واقعاً" يبدأ "المفكّرُ السياسيُّ" منه البثَّ الإيديولوجيَّ بفعاليّةٍ غير مسبوقة: يكتب الأميركيّ ريك مايس سنة (2008)، معلّقاً على امتداد التأثير الإيديولوجيّ حتّى إلى الأطفال بواسطة ألعاب إلكترونيّة تجعل ذلك "الواقع" لعباً "بريئاً" يعتادون به العبثَ بلا وازعٍ بقضايا جعلتْها الإنسانيّةُ خلال تاريخها الطويل شأنَ ضمير، كقضايا التلاعب بالمال العامّ، أو قضايا الحرب والسلام، إلخ. ويرى الكاتب الأميركيّ في ذلك تطبيقاً تربويّاً للقول الفوكوياميّ بـ"نهاية التاريخ"، فيقول: "لعلّنا بتنا أكثر من أبنائنا شَبَهاً بمواطنين للثورة الفرنسيّة"! بتعبير آخر، تصبح الأجيال الجديدة، في النيوليبرالية، أقلّ فأقلّ شبهاً بمواطنين في نظام ديمقراطيّ. وهكذا، بانقلاب التاريخ في الأذهان رأساً على عقِب، يترسّخُ شعورٌ بأنّ "النظام الأميركيّ ينزلق إلى الفاشيّة"، كما قال أحد المحافظين غير الجدد من الأميركيّين، رون ﭙﻮل، وهو يخوض سباق الترشّح عن حزبه "الجمهوري" في الانتخبات الرئاسيّة القادمة. ارتفاعُ العَلم الأحمر يُبقي الثورة الديمقراطية واقفة على قدميها. *** فرانسيس فوكوياما محكوم بأن يرى العالم واقفاً على رأسه. ذلك أنّ فكرَ طبقتِه، التي يخدم لديها حارساً لـ"الاستقرار" السياسيّ، ينزعُ إلى استيهامِ "أصلٍ" له مستقرّ في الطبيعة، كي تصطفيه "العناية" (السياسيّة) كـ"بدايةٍ" لتطوّرٍ نحو المثال الأعلى، وإلاّ فإنّ ذلك الفكرَ سيواجِه "النهاية" التي يهرب منها، وهميّاً، إلى ما بعد "نهاية التاريخ" (كما في "ما بعد الحداثة"!). لذا يرى فوكوياما في الثورات المضادّة، في عالَمنا الراهن، "تقدّماً" للالتحاق بمثالها الأميركيّ الأعلى الذي تَخَفّفَ من التاريخ وثوراتِه، تخلّصاً من الطفل مع الماء الوسخ، كما يقال. وهو، من منظوره هذا، في كتابه الجديد، أبدى رضاه عمّا يسمّيه "تشنّجات الشرق الأوسط"، قاصداً بها ما سُمّي بـ"الربيع العربيّ". ذلك أنّه يرى في "التشنّج" نزوعاً دينيّ الطابع إلى الالتحاق بقطبٍ عالميّ يغالبُ عجزَه عن البقاء وحيداً في الاستقطاب، بينما تَحُولُ دون تَحقّقِ ذلك الإلتحاق روحٌ ثوريّة طالعة من تاريخٍ يُرادُ إنهاؤه قسراً. ولعلّ "النظريّة" الفوكوياميّة الجديدة جاءت تداركاً لتكرار رعونة السياسة الأميركيّة إذ أرفقَتِ "الحربَ على الإرهاب" بشعارٍ "ثوريّ" يدعو إلى نشر الديمقراطيّة في العالَم العربيّ، فكانت تصبّ الزيت على نار الثورة حيث تحاول تمويهَ أهدافِ الثورة المضادّة، إلى أن تمّ سَحْبُ الشعارِ "الثوريّ"، أي شعار "الديمقراطيّة"، ليُستبدَلَ به شعارُ "الإعتدال". وهكذا رأينا دعاةَ "الإعتدال" يتطوّعون لطرح شعار "الدِين هو الحلّ" (حسب التصوّر الفوكوياميّ "المعتدل"، غير الإرهابيّ، للدين،). ثمّ استُنفِروا مع حلول "الربيع العربيّ" لإيصال ذلك النزوع "التشنّجيّ"، إلى مثاله الأعلى الأميركي، بمَسْخ روحِ الثورة روحاً للثورة المضادّة. فإذا ما تعذّرت معالجة "التشنّج" على هذا النحو، باسم "الاعتدال"، طلبَ الدعاةُ إيّاهم العونَ من مثالهم الأعلى الذي شرّع لنفسه "الحقّ في التدخّل". والمثال الأعلى، في نظر مريديه، لا يخذل الذين يلوذون به، في "دولة القانون"، دولة شريعة الغاب المعولَم والمعولِم. لإيقاف "الربيع العربيّ" على قدميه إرتفع العَلم في وول ستريت. *** هناك بين مفكّري "التشنّج الربيعيّ" من يراه مستَلهَماً "في غير مكان من العالَم"، بما فيه "وول ستريت"، مع تَعَمُّدِ الخلطِ بين ما هو بشائرُ "ربيعٍ" حقيقيّ يُفضي إلى جنى الصيف لِعالَمٍ يقفُ على قدميه، وما هو "ربيعٌ" زائفٌ، لعالَمٍ يقفُ على رأسه، لا يلبثُ أن ينكفئَ إلى شتاءٍ مقيم. لكنّ العالَم الواقف على قدميه في "إحتلّوا..." لا يستلهم "تشنّجاتِ" وَضْعٍ بَعْدَ حَبَلٍ وهميّ، تقومُ فضائيّاتُ ميديا "نهاية التاريخ" بمعالجتها، استنساخاً وإخراجاً، على أنّها "الربيع". ولا بأس في أن يقال إنّ حِراك "إحتلّوا وول ستريت" قد استَلهَمَ "الربيعَ العربيّ"، لولا أنّ "ربيع" العالَم أجمع، الذي هَلّتْ بشائرُه عندما شملت حركة "إحتلّوا..." ما يقارب الألف من عواصم العالم ومدنه الكبرى في يوم واحد، في وقفة واحدة ضدّ الرأسماليّة... تَخَلّفَ عنه "التشنّجُ" العربيّ. وباستلهام "إحتلّوا..." الأميركيّة، الطالعة من التاريخ الأميركيّ الحيّ، كان الحراك الأمميّ: أيمكن أن يُشطبَ من التاريخ الأميركي اسمُ صاحب "عشرة أيام هزّت العالم"، جون ريد، الذي انضمّ إلى عمّال ﭘﺘﺮوغراد، ليَشهَدَ أنّهم، خلال "الأيام العشرة" تلك، كانوا مدركين أنّهم يغيّرون العالم؟ ثمّ أليس من التاريخ الأميركيّ الحيّ انطلق يوم العمّال العالميّ، أوّل أيّار، إحياءً لذكرى شهداء الطبقة العاملة الذين سقطوا في شيكاغو سنة 1886؟ إرتفاع العَلم الأحمر في وول ستريت أشار إلى أنّ حامله في الزحام كان مدركاً رسَالته الأمميّة. وبانتشار الحراك في أرجاء الولايات المتّحدة، من شواطئ الأطلنتيك حتّى الـ"فارْوِسْت"، حضرَ تاريخٌ أميركيّ طال استبعاده، وكان حضوره حيّاً كحضور "النهاية" في فيلم مايكل مور. حضرَ التاريخُ تَخفقُ فيه أعلامُه الحمراء، بالمعنى المزدوج لكلمة "عَلَم" في العربيّة: راية الثورة، والوجه الإنسانيّ الثوريّ. وكلاهما واحد في ملتقى روافد "إحتلّوا..."، واستقطاب الـ 99% على اختلاف مشاربهم ومراجعهم. هكذا برز في مسيرات واعتصامات "إحتلّوا..." وجه أنجيلا داﻳﭭﺲ عَلَماً أميركياً للعالم أجمع. *** أنجيلا... إبنة المدرِّسة والميكانيكيّ، الشيوعيَّيْن اللذين كرّسا حياتهما لاختراق التمييز العنصريّ في نظام التعليم الأميركيّ وتوفير التعليم لابنتهما، شاركتْ والديها معركتَهما وهي على مقاعد الدراسة، حيث تمرّست في خوض معارك الحقّ في الحصول على التعليم لأبناء وبنات الزنوج والعمّال، في مواجهة الحقد العنصريّ لعصابات "كلو كلوكس كلان". ودَفَعَها نهمُها إلى المعرفة وتعطّشُها إلى العدالة للتخصّص في الفلسفة، ومتابعة الدراسة في الجامعة (تابعتْ في ألمانيا محاضرات الفيلسوف وعالم الاجتماع أدورنو) كما في مدرسة الحياة. وإنتسبت أنجيلا إلى الحزب الشيوعي الأميركي أثناء التحركات الشبابية العالميّة التي أعقبت انتفاضة أيّار 1968 الباريسيّة، وتابعت دراسة الفلسفة في الوطن حتّى حصولها على الدكتوراه. كان من أساتذتها في أميركا الفيلسوف الأميركيّ الألمانيّ الأصل هربرت ماركوزه، صاحب "الجنس والحضارة" و"الإنسان ذو البُعد الواحد"، وقد أشرف على رسالتها للكفاءة، ودخلت في سجال معه حول فهمه للماركسيّة مستلهِماً التحليل النفسيّ. من أهمّ مؤلّفاتها: "النساء والعِرق والطبقة" (1981)، و"النساء والثقافة والسياسة" (1989) الذي ضمّ بعض محاضراتها الجامعيّة. اشتهرت أنجيلا في وطنها منذ قبولها أستاذة مساعدة في إحدى جامعات كاليفورنيا، إذ ما لبثت الجامعة أن فصلتها، رغم جدارتها المشهود لها، بسبب الضغوط والتهديدات اليمينيّة العنصريّة، نتيجة نشاطها الإجتماعيّ والسياسيّ، ضد التمييز العنصريّ ودفاعاّ عن ضحاياه، حتّى أنّ الممثّل السينمائيّ السابق والرئيس السابق، رونالد ريغان، وكان حينها حاكماً لولاية كاليفورنيا، تعهّد علناً بمنعها من التدريس في الولاية. ثمّ اكتسبت المناضلة شهرتها العالميّة عندما تمّ زجّها في السجن لإسكات صوتها نهائيّاً، بتهم ملفّقة كان يمكن أنْ تودي بها إلى الإعدام، فقامت الحملة العالميّة "الحرّيّة لأنجيلا داﻳﭭﺲ"، ما أجبر السلطات على التراجع والإفراج عنها. وعادت المناضلة إلى نشاطها المعهود، في الجامعة وفي المجتمع، مضيفة إلى سجلّها الحافل خوضَها الإنتخابات الرئاسيّة الأميركيّة لمنصب نائب الرئيس لدورتيْ 1980 و1984، كمرشّحة الحزب الشيوعيّ. في غمرة مسيرات "إحتلّوا...". وصَلَنا صوتُ أنجيلا مخترِقاً الحصارَ الإعلاميّ بفضل زخم مسيرة "إحتلّوا أوكلاند"، يوم الثاني من تشرين الثاني نوﭬﻤﺒﺮ 2011، بعد مشاركات لها في مسيرات عدد من مدن الغرب الأميركيّ. قالت: "إنّنا هنا للدفاع عن سْكوتْ أولْسِنْ ولإحياء ذكرى أوسكار غرانْتْ". كان الثاني شاباً زنجيّاً قتله رصاص ضابط في الشرطة، قبل ثلاث سنوات، وهو مبطوح على رصيف محطة قطار، ويداه وراء ظهره. أثارت الجريمة غضب سكّان أوكلاند، الذين لم تقنعهم التبريرات الرسميّة بأنّ الشابّ بدا كأنّه يهِمّ بإطلاق النار، وهي تبريرات كذّبتها صور عدد من أجهزة الهاتف المحمول، إلتقطها عدد من ركّاب القطار الذي كان الشاب قد نزل منه للتوّ عائداً من نزهة في الأرياف. وتجدّد غضب السكّان بعد سنة، عندما أصدر القضاء حكماً ببراءة الشرطيّ القاتل. أمّا الأول، أولْسنْ، فكان قبل أسبوع فقط قد أصيب بقذيفة أطلقتها الشرطة لتفريق مظاهرة "إحتلّوا..." في المدينة، وأصابته القذيفة بكسر في الجمجمة، وتبيّن بعد تجاوزه مرحلة الخطر على حياته أنّه بات عاجزاًعن النطق السليم. كان لا يزال قيد المعالجة في المستشفى عندما دعا المشاركون في المسيرة إلى إضراب عامّ في المدينة يوم الثاني من نوﭬﻤﺒﺮ، إحتجاجاً ضدّ عنف الشرطة. وكان ذلك أوّلَ إضرابٍ عامّ في المدينة منذ سنة 1946، وحقّق من النجاح ما أوقف العمل في المرفأ المصنّف خامساً في الولايات المتّحدة. إستمرّت مسيرات "إحتلّوا أوكلاند" بعد الإضراب العامّ، فعاد أولسن للانضمام إليها بعد مغادرته المستشفى. وقف معصوب الرأس يخطب في الجمهور في أوّل مسيرة يلتحق بها بعد عودته. وروى قصّته التي يعرفها الجميع: جنديّ المارينز العائد من العراق خدم في الأنبار، مسؤولاً عن قسم الأجهزة الإلكترونيّة. واستحق عدّة تنويهات بأدائه: أنهى فترة الخدمة الأولى، فتطوّع لثانية. لكنّه تلقّى قبيل انتهائها إبلاغاً بـ"الفصل الإداريّ". لم يفاجئه ذلك. فهو مدرك أنّه في المدّة الأخيرة بات يُكثر من المجاهرة باستيائه ممّا يلاحظه من فساد وهدر طاقات بشريّة ومادّيّة، في قِسْمه بشكل خاصّ، كذلك باستنتاج يتكوّن لديه بانّ استمرار الحرب بات رهن المصلحة في استمرار الفساد والهدر. كان يتوقّف وسط الجملة باحثاً عن كلمة تخونه، أو جاهداً لضبط مخرج حرف يعصى عليه... والجمهور يدعم جهده مشجِّعاً إيّاه بالانتباه. وفجأة تصل سيّدة يعرفها الجمهور جيّداً، تتقدّم من الخطيب وتصافحه معرِّفة بنفسها إليه: أنجيلا... ويتعالى الهتاف والتصفيق تحيّة لالتقاء رافدين كبيرين لحركة "إحتلّوا...": رافد "المحاربين القدامى ضدّ الحرب"، عاشق الجاز الكلاسّيكيّ، ورافد النضال العريق ضدّ المجتمع الطبقيّ. وتتنقّل أنجيلا مخاطبة "إحتلّوا كاليفورنيا": في سبيل الحقوق الأوّليّة للناس، في التعليم وفي التعليم الجيّد، في الضمان الصحّيّ وفي الضمان الصحّيّ الجيّد، في السكن وفي السكن اللائق، ضدّ التمييز العنصريّ والدينيّ والجنسيّ، ضدّ الحرب، ضدّ الطغمة الماليّة، ضدّ احتلال أفغانستان وضدّ احتلال فلسطين، من أجل الكرامة والأمل... وتستعيد قول أستاذها ماركوزه في الستّينات بأنّ حركات الدفاع عن حقوق السود، (كانت أنجيلا تنضمّ إليها، في تنظيم "الفهود السود" مثلاً)، لن تؤدّي إلاّ إلى بروز "برجوازيّة سوداء"، وتضيف أنجيلا مصحِّحة بأنّ ذلك يعني الفرز الطبقيّ، وانحياز أقلّيّة سوداء إلى جانب الطغمة الماليّة من جهة، واندماج نضال الأكثريّة السوداء والأكثريّة البيضاء في قضيّة واحدة، من جهة أخرى. وتُذَكّر أنجيلا في هذا الصدد بأنّ مارتن لوثر كِنغ قد اغتيل غداة اتّخاذه القرار بالمشاركة في تحرّك نقابيّ للعمّال بصرف النظر عن لون البشرة. إنّه التاريخ الأميركيّ حيّاً، بأعلامه الحمراء. *** كان من الصعب على قناة CNN الإخباريّة أن تتجاهل حركة "إحتلّوا..." وقد باتت حدثاً عالميّاً. لم يكن في الوارد بالطبع وصولُ صوتِ حاملِ العَلم في وول ستريت عبر تلك القناة، فكان التوجّه إلى أنجيلا. كان ذلك مساء 31 أوكتوبر، عشيّة إضراب أوكلاند، إذ قدّمها المذيع على النحو التالي: "تركيزنا الليلة على حركة إحتلّوا... التي بدأت في وول ستريت وانتشرت حول العالَم. هم يقولون إنّهم يستهدفون البنوك، لكنّهم، بمؤيّديهم ومنتقديهم على السواء، يرون أنّ من الصعب عدم التطرّق إلى السياسة. نستمع الليلة إلى هَبّة ريح آتية من الماضي، إلى صوتٍ ليس غريباً على الاعتصامات والتمرّدات المدنيّة في الستّينات والسبعينات: الناشطة السياسيّة أنجيلا داﻳﭭﺲ." وتكلّمت "هبّة الريح". قالت، فيما قالت، إنّ انتخاب أوباما كان نتيجة موقف من الشبيبة الأميركيّة، هو نفسه الموقف الذي يعبّرون عنه في وول ستريت: "لقد رفضوا تصديق أنّ انتخابَ رئيسٍ أميركيّ أسودَ البُشرة أمرٌ مستحيل". واعتبرت بالتالي أنّ رفض وصول "جمهوريّ" إلى الرئاسة في الانتخابات القادمة لا يعني السكوت عن "الديمقراطيّين"، وعن عدم إقدامهم على تحقيق المطالب التي ترفعها الحركة، داعية إلى مهاجمة أوباما من عن يساره. بعد أن بدأ المذيعُ الحديثَ موحياً بأنّ أنجيلا لم تَعُدْ تلك الناشطة التي كانتها في ما مضى، وبعد أن حاول حصرَ الحديث معها في موضوع نضالها القديم دفاعاً عن الحقوق المدنيّة للسود، وجد نفسه مضطرّاً إلى أن يختم بما يشبه طلب المعذرة من المشاهدين على استضافتها: "كما سمعتم، كانت داﻳﭭﺲ شفّافة (...) وذات موقف إيديولوجيّ صريح حول انتسابها الحزبيّ (...) ولم تُبْقِ أحداً لم تَطَله وخزاتُها، بما في ذلك الرئيس أوباما..." إنّها "الريح"... تهبّ، فيخفق العَلم. *** جاء في الأنباء مؤخّراً خبرٌ من المملكة المتّحِدة، طغَتْ عليه أخبار "إحتلّوا لندن"، يقول إنّ جهازالاستخبارات البريطانيّ (إم آي 5) أفرج عن دفعة من الوثائق لخروجها من نطاق السرّيّة بالتقادم. من هذه الوثائق مراسلة مع جهاز الاستخبارات الأميركيّ (إف بي آي)، يطلب فيها الأخير من نظيره المساعدة في التحقّق من معلومات حصل عليها حول السينمائيّ البريطانيّ تشارلي شاﭘﻠﻦ الذي انتقل للعمل في هوليوود سنة 1920. حدث ذلك سنة 1953، أي في أوج الهستيريا الماكارْثيّة المعادية للأفكار الـ"غير أميركيّة" في الولايات المتّحدة. كان المطلوب أوّلاً التحقّقَ من صحّةِ معلومةٍ تقول إنّ تشارلي يهوديّ، وأجاب الجهاز البريطانيّ بعد التحقيق أنّه لم يعثر في سجلاّت الأحوال الشخصيّة البريطانيّة على ما يشير إلى صحّة الشائعة، مرجّحاً إطلاقها كردّ فعل نازيّ على فيلم شاﭘﻠﻦ "الدكتاتور" (1940)، حيث يسخر حلاّق يهوديّ من جنون هتلر وهَوَسِه بحكم العالم. أمّا المطلوب ثانياً فكان التحقّق من انتساب شاﭘﻠﻦ إلى الحزب الشيوعيّ، بعدما تَبَيّن أنّه قد تبرّع بمبلغ من المال للحزب الشيوعيّ الأميركيّ سنة 1923. وهنا أيضاً جاء الردّ بأن لاشيء يثبت انتسابه للحزب، مع أن أعماله السينمائيّة لا ترحم الرأسماليّة والرأسماليّين. كان دأب أجهزة الطغمة الماليّة دائماً إثارة الشكّ والريبة حول المواقف الديمقراطيّة، بافتعال الإلتباسات في المقاصد، لقتل الأمل بتغيير يتخطّى شكليّات الديمقراطيّة، فلا يبقى من التاريخ سوى التوالي الدمويّ المملّ لـ"أزمنة" الثورة المضادّة، كما في تنظير فوكوياما. لتبديد الشكّ المبثوث حول الديمقراطيّة الثوريّة إرتفع العَلم في وول ستريت. *** أصدر الكاتب الأميركيّ جون شتاينبك رواية "في معركة يكتنفها الشكّ" (1936)، قبل روايته الشهيرة "عناقيد الغضب" (1939)، إبّان احتدام السجالات التي أعقبَتْ تفجّرَ أزمة 1929. والملفت أنّ الرواية الأولى يمكن اعتبارُها الفصلَ الأوّل من الثانية، إذ تدور أحداث الروايتين في زمن واحد، وفي مكان واحد، وفي وسط إجتماعيّ واحد: وسط عمال التراحيل المتنقّلين للعمل في مواسم قطاف العنب في كروم كاليفورنيا. تبدأ الرواية الأولى بشاب يدخل مقرّاً للحزب الشيوعيّ الأميركيّ في المدينة، ويطلب إلى المسؤول قبول انتسابه. يلاحظ المسؤول إفتقار الشاب للخبرة في العمل السياسيّ التنظيميّ، فيقترح أن يرافقَ الرفاقَ لتعلّم "العمل مع الجماهير". كان ذلك في موسم القطاف، وانتقل الشاب مع أعضاءِ الخليّة ومسؤولِها للعمل في الكروم. وتتوسّع الرواية في عرض صعوبات العمل لاكتساب ثقة العمّال بهدف تنظيمهم نقابيّاً دفاعاً عن حقوقهم المشروعة، وتخفيفاً من مُعاناتِهم الإستغلالَ في ظروفِ عملٍ مزرية، بأجورٍ بالكاد تبقيهم وأُسَرَهم على قيد الحياة. ويكتشف الشاب أنّ هناك من اندسّ بين العمّال من غير الرفاق: إنّهم جلاوزة يعملون في خدمة أصحاب الكروم، ومخبرون في خدمة السلطة يتجسّسون على النشاطات النقابيّة لقمعها، ويعملون جميعاً، الجلاوزة والجواسيس، لإبقاء العمّال تحت النير. وما أن يتمكّن الرفاق من تحقيق شيئ من النجاح في كسب ثقة بعض العمّال الأكثر وعياً ، حتّى يُقتلَ مسؤولُ الخليّة، ويأبى الشاب أن يذهب دم الشهيد هدراً، فيهبّ لمواصلة مهمّة اكتساب الثقة، ويحمل جثّة رفيقه على ذراعيه، ويتوجّه بها نحو العمّال المتجمّعين. وتُخْتَتم الرواية بكلماته الغاضبة: "هذا لم يكن يُريد شيئاً لنفسه". رواية "عناقيد الغضب" تغوص في بيئة الرواية السابقة، إلى القاع، على مدى عدد مضاعَف من الصفحات، ولا أثر فيها لمن "لا يريد شيئاً لنفسه"، ألّلهمّ إلاّ كتهمة جاهزة للترهيب، فلا نعود نصادف في المشهد السطحيّ إلاّ جماعاتٍ تتخبّط في بؤسِها المادّيّ، وتهافتِها النفسيّ، وإسفافِها الأخلاقيّ... والغضبُ ينعقدُ في الأعماق. ويُستعادُ المشهدُ اليومَ، بعد ثلاثة أرباع قرن من الزمن، بعنفٍ متفلّتٍ لإقامة "نظامٍ عالميّ جديد". إنّه "النظام السياسيّ" (بالمعنى الفوكوياميّ) الذي كان من الصلف والنفاق بحيث أجاز لـ"جيش الدفاع" الصهيونيّ أن يُصادِرَ عنوانَ الرواية، "عناقيد الغضب"، لحربه على مقاومي احتلالِه لبنان (2006): الحرب التي شُنّتْ لتدعيم "الاعتدالِ" العربيّ، زارعِ الشُبْهةِ (الشبَهِ المشبوه) بين الثورة والثورة المضادّة. ذلك أنّ "النظام" إيّاه يُمْعِن في قَطْعِ اليقينِ بالشَكّ، تمويهاً لسياسةٍ قَطعَتْ صلتها بالأخلاق، مُعَوِّلةً على القتلة الصهاينة في تنفيذ المهمّة القذرة، بما يَحْفَظ ماءَ وجهِ "الاعتدال العربيّ": إصطياد المقاومة في الماء العَكِر، واغتيال الذي "لا يريد شيئاً لنفسه"، بِدَسّ السُمّ في "عناقيد الغضب"، دون أن يتبدّدَ "الحلمُ الأميركيّ" في "تشنّجات" الواقع!... "الحلم" الذي قيل (في بعض المعاجم) إنّ جون شتاينبك لاذَ بِه، منكفِئاً، أواخرَ أيّامه، إلى... "الواقعيّة"! لتنقية الواقعِ، في مشهده العالميّ، من "الواقعيّة" القاتلة، ارتفع العَلمُ الأحمر في وول ستريت... "أخيراً!"... لكن ليس آخِراً.
#الياس_شاكر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و
...
-
في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در
...
-
حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
-
تركيا تعزل عمدة مدينتين مواليتين للأكراد بتهمة صلتهما بحزب ا
...
-
تيسير خالد : سلطات الاحتلال لم تمارس الاعتقال الإداري بحق ال
...
-
الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|