|
تزوير مسيحية يسوع - 6
حسن محسن رمضان
الحوار المتمدن-العدد: 4280 - 2013 / 11 / 19 - 14:55
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ملاحظة: هذه المقالة تُعتبر كتكملة للمقالات السابقة تحت عنوان (تزوير مسيحية يسوع – 1 و 2 و 3 و 4 و 5)، ويجب أن تُقرأ المقالات السابقة كمقدمة أساسية وضرورية لهذه المقالة.
في سنة 1981 أصدر المؤلف اليهودي جيرالد سيغال (Gerald Sigal) كتاباً بعنوان (الرد اليهودي على حملات التبشير المسيحية) (A Jewish Response to Missionary Christianity) في حوالي 300 صفحة. ويُعد هذا الكتاب، الذي لا يزال يعاد طبعه وتوزيعه، من أولى المحاولات اليهودية، بلغة مختلفة عن العبرية، للرد على المسيحية، إلا أنه بسبب الشمولية التي تميز بها في تفنيد ورد كل النبوءات، كلها وبلا استثناء، التي يدّعي المسيحيون أنها في العهد القديم وتدل على يسوع، فقد حقق هذا الكتاب شهرة واسعة بين الأوساط اليهودية والأوساط العلمانية والليبرالية الأمريكية أيضاً. وكانت هذه الشهرة، في جزئية مهمة منها، بسبب أنه حتى هذه اللحظة، أي بعد أكثر من ثلاثين سنة من نشر هذا الكتاب وتداوله، لم يستطع أي مؤلف مسيحي من تفنيد براهين وحجج جيرالد سيغال في نقض ادعاءات العهد الجديد والمبشرين في يسوع. ولا يخلو هذا الكتاب من نبرة تهكمية خفية، لا يلحظها القارئ العابر، على العقيدة المسيحية، تصاحب الدليل والبرهان والحجة في الطرح، وهي صفة في النقد اليهودي للمسيحية بصفة عامة. إذ لا يستطيع أي ناقد يهودي من أن يكتم قناعتين لازمتين عنده، أولاهما قناعته الراسخة بوثنية الديانة المسيحية كنص وكعقيدة وكممارسة، والثانية هي قناعته إما بالجهل الواضح في الاستدلال المسيحي على يسوع في النصوص اليهودية أو بتعمد التزوير وتغيير معاني الكلمات وعزل النصوص عن سياقها الطبيعي المباشر عند المسيحيين. هاتين القناعتين، واللتين تملكان براهين مقنعة وواضحة في الحقيقة، هما الدافع لهذه السخرية المبطنة أحياناً والصريحة أحياناً أخرى.
سوف أضرب مثال واحد لِما ورد مختصراً جداً كتاب جيرالد سيغال، ولكني سوف أسهب في شرح أساسه المنطقي لبيان قوة الاستدلال اليهودي في نقض المسيحية وهدم عقائدها. كتب بولس في رسالته إلى العبرانيين مروّجاً لفكرته عن الذبيحة البشرية في شخص يسوع ما يلي: (فكم بالحري يكون دم المسيح، الذي بروح أزلي قدَّمَ نفسهُ لله، بلا عيب) [الرسالة إلى العبرانيين 9: 14]. يشرح القمص تادرس يعقوب ملطي في تفسيره هذه الجملة من الرسالة بقوله: "فيقوم بها [أي من قدّم نفسه كأضحية، يقصد يسوع] من هو (بلا عيب)، قادر أن يقدسنا". أما القس أنطونيوس فكري في تفسيره فهو يؤكد: "هو [أي يسوع] قدّم نفسه دون أن يكون فيه نقص أو عيب". وهاملتون سميث في كتابه (شرح موجز في الرسالة إلى العبرانيين) يقول في شرحه: "إنه بالروح الأزلي كالإنسان الكامل قدّم نفسه لله بلا عيب (...) قدّم المسيح نفسه لله بلا عيب، وأن الله قد قبل هذه الذبيحة العظمى، وأنه قد رضي واكتفى تماماً بالمسيح وبدمه المسفوك". إذن، من وجهة نظر بولس واللاهوت المسيحي من بعده، يسوع هو "الذبيحة الكاملة" (perfect sacrifice)، الذي لا يوجد به أي عيب أو نقص.
لكن بولس نفسه يقول في رسالة أخرى: (انظروا الكلاب. انظروا فعلة الشر. انظروا القَطْعَ) [رسالة بولس إلى أهل فيلبي 3: 2]، ويقصد بولس بـ (القطع) هنا هو ممارسة الختان الذي كان يعتبره تشويهاً للجسد [أنظر النص اليوناني، كما أن الترجمات الإنجليزية الحديثة تترجم كلمة (القطع) حرفياً بـ (التشويه) أو (تشويه الجسد) مثل Amplified Bible أو Common English Bible أو English Standard Version أو غيرها من الترجمات المتعددة. والطريف هنا أن بولس نفسه كان مختوناً (رسالة بولس إلى أهل فيلبي 3: 5)]. يقول القمص تادرس يعقوب ملطي في شرحه هذه العبارة: "كان المتهودون يُعلِّمون بأن المؤمنين يحتاجون للخضوع للناموس الموسوي بطريقة حرفية، خاصة طقس الختان، بدونه لن يتحقق الخلاص. هاجم القديس بولس هؤلاء المتهودين بذات اللقب الذي استخدموه للأمم (الكلاب)، وقارن ختانهم ببعض الممارسات الوثنية لبتر الإنسان أعضاءه ودعاه (القطع)". أما القس أنطونيوس فكري، فقد جنح به الحماس للاسهاب في شرح تلك العبارة، فقال: "هناك كلمتين بمعنى كلاب. الكلاب المدلّلة وهذه تكون مدلّلة في البيوت. واستخدم رب المجد [يقصد يسوع] هذه الكلمة في حديثه مع المرأة الكنعانية (متى 15: 26) [يقصد القس فكري أن الأمميين، غير اليهود، هم كلاب مدللة مثل الكلاب التي في البيوت، وأن يسوع استخدم هذا اللفظ بهذا المعنى للإشارة إلى غير اليهود]. [والمعنى الثاني] الكلاب الجربانة الضالة التي تجرى في الشوارع مُهْمَلَةْ. وهذه هي الكلمة المستخدمة هنا. وهذه الكلمة استخدمها اليهود واليونانيين ككلمة توبيخ، ويقصد بها الرسول توبيخ المعلمين الكذبة من المتهودين (...) فهم نبحوا ضد بولس عندما قاومهم، ككلاب مسعورة (...) القطع: معنى الكلمة الذين يقطعون أجزاء من أجسادهم، وهي إشارة لأنهم يعلِّمون بالختان الجسدي".
إذا تركنا جانباً سياق ومفردات (الشتائم) بنوعيها العام والخاص في الفقرة السابقة، وتركنا جانباً أيضاً أن بولس نفسه في رسالة أخرى لأناس مختلفين نهى صراحة المختون من أن يكون كالأغلف [رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 7: 18-19]، وركزنا فقط مجهودنا على فهم عبارات بولس السابقة، فإننا نخرج باستنتاج أن بولس يؤكد لقراءه: أن الختان هو تشويه للجسد، ويطابق بينه وبين (الكلاب، فَعَلة الشر)، وبالتالي هو عيب جسدي بالضرورة، وأن بولس يعتبر الختان مشابهاً لعادات وثنية [هو يقول صراحة (ها أنا بولس أقول لكم: إنه إنْ اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئاً) (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 5: 2)، ومن الطرافة هنا أن بولس خلال دعوته لإلهه الجديد يسوع قد ختن بنفسه رفيق سفره تيموثاوس (أعمال الرسل 16: 1-3)]، وأخيراً أن يسوع، عند بولس، هو (الذبيحة الكاملة) التي لا عيب فيها ولا نقص. هنا بالذات يدخل جيرالد سيغال ليُشير إلى مشكلة خطيرة في هذا "الاختراع" الذي تولاه بولس. إذ يسوع، كان في الحقيقة، مختون وباعتراف الإنجيل نفسه. هو (إله مقطوع اللحم) على حسب العقيدة المسيحية ذاتها. إذ كاتب إنجيل لوقا يذكر (ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سُمي يسوع) [لوقا 2: 21]. يقول القس أنطونيوس فكري في شرحه: "كان الختان علامة الدخول في عهد مقدس مع الله [تكوين 17]. والمسيح أتى خاضعاً للناموس، إذ هو وحده غير كاسر للناموس. هنا نرى المُشرِّع ملتزماً بالقانون الذي سَنَّهُ (...) بعد ختان المسيح انتظرت مريم يوم تطهيرها". إذن يسوع كان مختون (مقطوع اللحم)، بينما بولس يرى أن الختان تشويه للجسد لا ضرورة له، وهو عنده عادة وثنية مثلما يرى شُراح المسيحية ولاهوتييهم، ولكن العهد القديم، وفي التوراة تحديداً، يشدد في مواضع متعددة على أن الذبيحة أو القربان يجب أن يكون (صحيحاً) [لاويين 1: 3 و 10] و [3: 1 و 6] أي لا عيب في الذبيحة المقدمة للرب ولا تشويه ولا نقص. إذن يسوع، بسبب ختانه الذي اعتبره المسيحيون تشويهاً، لم يكن (صحيحاً) على حسب تعبير العهد القديم، ولم يكن (الذبيحة الكاملة) كما يقول اللاهوت المسيحي، وبالتالي على المسيحيين أن يجدوا ضحية (بشرية) أخرى غير يسوع ليقدموها لإلههم. إذ هناك خيارين إثنين فقط أمام اللاهوت المسيحي في هذه القضية. الخيار الأول هو إما أن يكون يسوع هو (الذبيحة الكاملة) كما يصر اللاهوت المسيحي وبالتالي حالته الجسدية وقت (الذبيحة – الصلب) تعني (الكمال)، وبما أنه (مختون) فهذا يعني أن (الختان ضرورة من ضرورات الكمال الجسدي) وهذا بدوره يصف كل ما قاله بولس في موضوع الختان بالكذب، أو الخيار الثاني وهو أن الختان وثني الأصل لا لزوم له، وهو (تشويه) للجسد ونقص فيه بسبب (القطع)، وبالتالي (جسد الإله يسوع) قد تم تشويهه و (قطعه)، وفُعلَ به ما لا لزوم له من العادات الوثنية، وبالتالي فإن جسده وقت الذبيحة - الصلب (مشوّه مقطوع ناقص به أثر الوثنية ولا يتصف بالكمال) وهذا بدوره يُسقط الفكرة الرئيسية، أي (الفداء) بواسطة (الذبيحة الكاملة)، في الديانة المسيحية ويهدمها من أساسها. فإما (الختان ضرورة من ضرورات الكمال في الجسد، وبهذا يكون جسد يسوع المختون لا عيب فيه) أو (الختان قطع ونقيصة وعيب وتشويه، وبهذا يكون جسد يسوع المختون ناقص مشوه)، ولابد لك أن تختار واحدة. فإما بولس كاذب في موضوع الختان، أو هو كاذب في موضوع الفداء والذبيحة في شخص يسوع، ولا خيار ثالث.
والحقيقة أن هذه الجزئية من النقد تدعو للابتسام العريض، إذ هي بالفعل تنسف فكرة (الفداء) الذي اخترعه بولس وروّج له، ولن يجد القارئ الكريم أي جواب عند اللاهوت المسيحي إلا بواسطة (الفذلكة اللاهوتية) التي تتحاشى أساس الإشكالية الواضح المباشر وتحاول بدلاً من ذلك أن (تُفلسف) المشكلة، هذا إنْ تطرقتْ له أصلاً.
...يتبع
#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تزوير مسيحية يسوع - 5
-
تزوير مسيحية يسوع - 4
-
تزوير مسيحية يسوع - 3
-
تزوير مسيحية يسوع - 2
-
تزوير مسيحية يسوع -1
-
العلم الطاهر
-
الرواية الإباضية للإسلام - 2
-
الرواية الإباضية للإسلام - 1
-
ابن خلدون يقول لكم - أنتم أمة وحشية
-
أهذه معارك تستحق اسم الله؟
-
التشخيص النفسي كأداة لنقد الإنجيل
-
إشكالية ذهنية التخوين في الوطن العربي
-
خاطرة - لا تصلح كمقالة
-
معلولا ... والدونية الإنسانية المتطرفة
-
في مبدأ احترام النفس البشرية
-
في مشكلة الفشل الحضاري العربي
-
إعادة اكتشاف الغباء الجماعي
-
في الأزمة الأخلاقية العربية
-
متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس – 6
-
متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس – 5
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|