نديم جمال صليبي
الحوار المتمدن-العدد: 4279 - 2013 / 11 / 18 - 13:54
المحور:
الادب والفن
آرام في رحلة البحث عن الخلود
لم يكن تَدمرياً بل كان سوريا من أصولٍ أرمنية عاد يبحث بين الخرائب التي خلَدتْ لقرونٍ حَضَارة ً إنسانيةً نُقشت على الحَجر بعد أن كان سجينا ً بقربها لأعوامٍ قد خَلت ، عاد ليبحث بلا كَللٍ ولا مَللٍ ليبحثً بنهمٍ كأمرأةٍ عِشرينية تبحث عن طفلها الوحيد الذي كانت تحلم بهِ منذ بلوغها و أضاعتهُ بين الخرائبِ المبعثرة التي ضاع فيها أقواما ً وحضاراتٍ في الأزمانِ الغابرة ،
كان دائم البحث وكأنهُ يبحثُ عن ذاتهِ أو عن كنزٍ تركهُ لهُ التدمُريون القُدامى ،
كَما تَعَلَمَ الكثير من أسرارِ الصَحراء وتغلغلَ برِمالها الذهبية إلى أن أصبَحَت جزءً من كيانه .
وفي إحدى ليالي الصيف الهادئة عاد إلى الفندق الذي كان يقطنهُ بعد إن أضناهُ الجوعُ والتَعب من رحلةِ البحث الطويلة التي دامت لأيام ...
رمى بنفسه على سريره واستسلم للنوم كجثةٍ هامدةٍ لا روح فيها، كيف لا وجثتهُ مرميةٌ على سريرٍ خشبي وروحه لا زالت هناك تطوف وتسعى و تراقبُ بتمعنٍ سكونَ الليل الطويل وهدوء الصحراء المخيف، استيقظَ من سُباته الآنيّ على صوتٍ خفيفٍ يتسللُ من نافذةُ غُرفته ، صوتٌ لم يسمعهُ من قبلُ قط كان كسيمفونيةً ساحرة وهمساتُ عذراءٍ مُقدسة لم تلطخها آذانُ البشر .تهمسُ بصوتٍ خافتٍ : آرااااام ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، آراااااام ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، آراااااااام
نظرَ من نافذتهِ لكنهُ لم يرى سوى نورً يشعُ من بعيد ورائحةً غريبةً تملئُ المكانَ وتُشعِلُ بواطِنَ الإنسانيةِ المُضمرة ...
تسارعت نبضاتُ قلبهِ واتسعت عيناه وتوقف إدراكهُ الحسّي والمادي وتجرد من ثيابهِ البشرية ليصبح كطائرِ الفينيق حراً طليقاً من بشريتهِ التي لطالما قيدتهُ وسجنتهُ في دهاليزها المُظلمة ..
كان يسيرُ مسلوبَ الإرادةِ مخمورَ العقل ، يسيرُ حيثُ تُضاجعُ رمالُ الصحراءِ نور تلك العذراء ... كان الصوتُ يعلو ويزدادُ جمالاً ورِقةْ ، والرائحةُ العذبة تزدادُ عذوبةً ونقاءً كلما اقتربَ أكثر و كانت تزيد من نشوته وتُثمِلهُ أكثر ... وعِندما وصلَ هناكْ بدأَ النورُ يتلاشى ويضمحلُ شيئاً فشيئاً حتى ظهرت العذراءُ وهي تتوسطُ عرشاً عظيماً لم يُصنع لملكٍ قَطْ ولم تمسسهُ أيادي البشر ، كانت خارقة الجمال وأنوثتها تفتن الرُهبانَ والقِسيسين ، لم تَكُن إنسيةً ولا جِنية أو حتى ملاكٌ نَزَل َمِنَ السماء ،
بل كانت شيئاً لا يشبهُ شيء ويفوقُ جميعَ الأوصاف و التعابير البشرية ، وحضورها كانَ يملئُ العرشَ وقاراً ، والزمنُ توقفَ خوفاَ و رهبة .
قالت لهُ بصوتٍ عذبٍ رقيق وكأنهُ صوتٌ يخرجُ من ياسمينةٍ دمشقية مُعلقةً على بيتٍ دمشقيٍ عتيق ، جعلَ من الخرائِبِ تنحني وتذوب ، قالت له لم تُرهِقُ نَفسكَ بالبحثِ عن كنزٍ مفقود ، و أنتَ تعلم بأنك كبشريٍ لن تحصلَ عليه ..
فرد برعشةٍ وبصوتٍ مُنخفضٍ أنا أُرهِقُ نفسي لُأخلِصها من خطاياها ولأجدَ لها الخلود الأبَدي ...
قالت لهُ كنتُ اعلمُ بِأنكَ لا تبحثُ عن كنزٍ من ذهبٍ وفضة كما فعل أسلافُكَ الأولين الذينَ مروا من هنا من العُثمانيينَ والفرنسيين وأبناءُ جلدَتِكَ المُغفلين الذينَ عاثوا فساداً و لم يتركوا شيئاَ ، و سَرقوا كُلَ الماديات ، ولم يتركوا سوى هذهِ الهياكلَ والأرواحُ الخالدة ، التي تطوف وتسعى فيها ...
ظناً مِنهُمُ أنهم سَرقوا الكنز الثمين ،
لم يُدرِكوا يوماً أن الكنزَ ليس بالماديات إنما بالروحانيات وبالخلودِ الأبدي المفقود ...
أنا يا آرام لستُ آلهةً لتُعطيكَ الخِلودَ المنشود ، إنما أنا مَلكةُ تَدمر أنا زَنوبيا مَلكةُ الصحراء مَلكةُ الأمجادِ والخلود ، لا استطيعُ إلا أن أُرشِدُكَ إلى طريقِ الخِلود إن تجردتَ كلياً من بشَريتِكَ الفانية ، وتَمسكتَ بسوريتكَ الخالدة ...
نَظَرَ إلى عرشِها بشموخٍ ليرى رسالةً من إلهِ السوريينَ القدامى إلهُ الشمس بعل وقرأها بصوتٍ خافتٍ ( حطم سَيفكَ وأحمل معولكَ وأتبعني لنزرَعَ الأرضَ محبةً وسَلام ْ) وقرأَ رسالةً أُخرى تَقول ( أنتَ سوري وسوريا مركزُ الأرض ) فاهتزَ عَرشُها وتبسمت بكبرياءٍ وشموخ ، وقالت ها أنتَ تجردتَ كلياً من بشريتكَ الفانية ، وتمسكتَ بسوريتِكَ الخالدة ، و سأعُطيكَ سِرَ الخِلود ..
إنَ أبناءَ جلدتِكَ الحاليين يا آرام لا يستحقونَ الخلود فهم حولوا هذه الجنةِ إلى سجنٍ كبير ، يغتالُ كُلَ ما هوَ جَميل ويسحقُ الحضارةَ الإنسانيةَ كُلَ يومٍ آلافَ المرات ، يسحقُها في كل جلدةٍ بيد سجان ، وفي كُلِ صَرخةُ طفلٍ وأنينُ أُم ثكلى بعدَ أن كانت هذه المنطِقة مركزاً للحُبِ والجمال ..
كنتُ أرى بريقَ عينيكَ و ابتساماتُكَ الساخِرة عِندما كان سَجانوكَ يُذيقونكَ أمرَ العذاب ، لم تَكُن بعيداً من هنا ، في كُلِ جَلدةٍ كانوا يدركونَ أكثر بأنَهُم ضُعفاءٌ أمامَ صمتكَ وابتسامَتُكَ الساخرة ،
كنتُ أراكَ عظيما ً كعظمةِ هذهِ الآثارُ المُنتَصِبَة وشامخاَ كهذهِ القلعةِ الباسقة وصلبا ً كصلابة هذهِ الحجارة ،
كانوا يضربونكَ لأنكَ أقوى مِنهُم ، كانوا يَجلدونَ ضَعفَهُم و ذواتِهم كما يجلدونَ جسَدكَ الغَض ’
كما كانوا يتمنونَ و يحاولونَ أن يكونوا مِثلكَ أو بِقوتكَ وصلابتكَ التي تُشعِرَهُم بالضعفِ والذُل ، ولكِنَهم كانوا دائما يَفشلون ويزدادونَ ضُعفاً وهواناً .
إن كُنتَ يا آرام تَبحثُ عن الخلود المنشود ، ابحَث عن ذاتكَ أولاً وازرع أرضكَ محبةً وسلام واجعل من جسَدِكَ جسراً لتَعبُرَ عليه الأجيال ومن عَقلِكَ هيكلاً للعلمِ و واحةً للجمال ومن روحِكَ آلهةً للحُبِ والعَطاء ومن سوريتكَ ساريةً تحملُ بِها السماء وتستنصرُ بِها الضُعفاء ...
بهذا وبهذا فقط تحصل على الخلود الابدي ..
واختفت بعدها واختفى كل شيء ولم يجد آرام سوى حجراً نُقشَ عليه ( أنت سوري وسوريا مَركزُ الأرض ) .....
نديم جمال صليبي
الدوحة 18-11-2013
الساعة 4.10 صباحاً
#نديم_جمال_صليبي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟