قراءة في المنطق الإسلامي السلفي، نحو ضرورة التحرر من الأصول...

مهند عاهد عبد الباري

الحوار المتمدن-العدد: 4276 - 2013 / 11 / 15 - 22:09
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

يتحدد المنطق الإسلامي السلفي بما نسميه بـ”سلطة النص” حيث تُشكَّل مرجعية المسلم بـ: القرآن والسنة، فأي خطوة نخطوها للأمام تحتاج منا العودة والتأسيس وهل من أساس أصلح من رسول وقدوة الإسلام محمد(ص)! فما أن نعلن عن البدء بالتفكير حتى نعود لهذه الأصول، ليس اعتباطاً وإنما انطلاقا من منطق أصولي، نفترضه الأصح، يعطي للنص سلطة عليا تملكه الحقيقة المطلقة الصائبة والوحيدة. فالحقيقة هي التي بثها الله في خير عباده وهي مطلقة كونها تمتلك السحر الذي يفسر الوجود برمته. فبما أن النتيجة معطاة سلفا إذن فالطريق إلي معرفة الحقيقة هو الاستنباط، ويكون بالعودة للنص الذي تركه الله لعباده وهو القرآن المعجزة. أما السنة النبوية فهي ما تقرر من رسول الله من قول أو عمل أو تقرير، ولأنها فَسّرت كثيرا مما أوجزه الله في القرآن كان لابد من أخذها أصلا ثانٍ بعده. لكن وعند قراءة تاريخية لهذا النص يتكشف لنا مدى مصداقيته أولا ومهمته الوظيفية في التاريخ الإسلامي ثانياً. خصوصا وأننا نعلم أن هذا النص من سنة نبوية وحديث شريف وتاريخ اسلامي قد كتبت بعد أكثر من مئة عام على البعثة المحمدية، أي في العهد العباسي، وإن كانت بعض الكتابات قد سبقت ذلك الزمن بقليل.

وثائقنا التاريخية تحتاج للمزيد من الشك المنهجي والموضوعي فمن يقرأ محضر سقيفة بني ساعدة، على سبيل المثال، يظن أن هناك، في ذلك العصر، جهاز فيديو استطاع تسجيل ما جرى فعلا بالحرف والحركة! ولنستمع إلي ما يرويه لنا البلاذري في كتابه فتوح البلدان: “أن الإسلام دخل وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلهم يكتب…وقليل من نسائهم كنّ يكتبن”(1) فإذا كانت قريش وهي المركز التجاري الأهم، في تلك اللحظة، لم يوجد بها إلا سبعة عشر كاتبا فما حال المناطق الغير تجارية، وهنا يكون التساؤل عن مدى دقة ما استمر تناقله لأكثر من مئة عام، مع تغيّر الظروف والأحوال والحكّام، وسجّل وكتب في العصر العباسي. وفي مقدمة هذه النصوص: السنة النبوية والتاريخ العربي الاسلامي، وبقية النصوص؟! وللقائلين بقوة حفظ السابقين لنا نورد ما قاله أبو عمرو بن العلاء:”ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير”(2).

لقد جاء تدوين السنة النبوية في العصر العباسي، في لحظة تاريخية حسّاسة، فُرضت معها العودة إلي الأصول بغية الاستناد عليها في تماسك الدولة الإسلامية واستمرارها، خصوصا مع بروز الآخر سواءً كان من داخل الدائرة الإسلامية، أو من صنف نفسه إسلاميا من جانب، أو من خارج الإطار الإسلامي وهم الديانات والمعتقدات الأخرى من جانب آخر. فالدولة العباسية التي مثّلت ثورة على سابقتها الأموية احتاجت مبررات دينية تسند وجودها وهي التي تعرف أكثر من غيرها الارتباط السحري للوعي الديني بالشعب العربي في تلك اللحظة، أضف إلي ذلك الصراع المحتدم مع المسلمين من غير العرب وهم السكان من الدرجة الثانية في العصر الأموي الاسلامي العربي وهم أصحاب الماضي الحضاري والثقافي الذي سبق البعثة المحمدية ذاتها، هذا من جانب. ومن جانب آخر، صعود آخر من داخل الدولة الاسلامية ولكنه من خارج الدين الاسلامي هو “المانوية، والغانوصية”(3) والمزدكية والزرادشتية (4) وهي التي حاربت الإسلام، فكرياً أحياناً وعسكرياً في أحيان أخرى، بالاستناد إلي غزارة ثقافية ضاربة جذورها في عمق وعي مجتمعات كثيرة، أصبحت بعد فتوحات الاسلام ضمن الدولة الاسلامية. فكان واجبا ملحاً على العباسيين إعادة بناء التاريخ والتاريخ العربي الإسلامي على وجه الخصوص بما يوافق حاضرهم بإشكالياته وتحدياته، فكانت إعادة كتابة الشعر العربي والتاريخ الجاهلي – وهذا الذي أبرزه طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي-(5) مرورًا بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي بدءا بحياة الرسول نفسه واستمراراً بإعادة صياغة مكونات "النص" جميعها بإضافة أحاديث جديدة من جانب أو حذف أحاديث أخرى وتحوير معناها، أو بالدخول على النص القرآني بإعادة تفسيره والحديث عن الناسخ والمنسوخ، وأما التاريخ الاسلامي كما كتبه المؤرخون فحدّث ولا حرج، فهذا محسوب على الأمويين وذاك محسوب على المعتزلة، وذاك محسوب على الحنابلة أو الأشاعرة. ناهيك عن الصراع بين المعتزلة والفقهاء الذي انتهى بانقلاب المتوكل وحرق كتب المعتزلة. والنتيجة صراعات فكرية متواصلة سعى فيها الحاكمون للحفاظ على سلطتهم الدينية والسياسية بأن صنعوا هالة من القداسة تلتف حول النص بصيغة تؤكد حكمهم وتوصلهم بقداسة القرآن والنبي، فيزدادون غرقا في عالم الغيب والماوراء.

فحتى لو عدنا بالتاريخ إلي الحقبة الأموية فتجليات الصراع واضحة بين أصحاب المذاهب الفكرية أو وهو الأدق بين أصحاب المصالح داخل المجتمع الإسلامي والتي أخذت طابعاً مذهبيا تبريرياً. وهنا يكون توظيف الديني في السياسي،حيث نسجل الملاحظة التي أوردها المفكر صادق جلال العظم في كتابه”ثلاث محاورات فلسفية دفاعاً عن المادية والتاريخ” حيث قال: أن شيئاً من التدقيق في تاريخ ذلك العصر-ويقصد العصر الأموي- يبين أن الجبرية كانت تستنجد بالآيات القرآنية الملائمة والتأويلات والحجج العقلية والنقلية للدفاع عن واقع سياسي واجتماعي سائد، بينما كانت القدرية تستخدم المادة ذاتها تقريباً لتسوغ العمل على تغيير الواقع السياسي والاجتماعي ذاته(6).

هنا تبدأ الصورة بالانجلاء أكثر، فنحن أمام نص شُكِّل بما وافق مصالح أنظمة حكم مرَّت على المنطقة العربية فكرست المنطق الأصولي عبر التاريخ فكان كل من تمسَّك بالأصل خارج من عهدة المطالبة بالدليل. ولأن كل من فكر مبتدئا تفكيره بمقدمات أصولية أوصحيحة (=النص) حسب المعيارية الإسلامية فله أجر، عزز منطق الابتداء بالصحيح الديني. وإذا ما أضفنا له ما سبق من أن الدين ليس بالصحيح وحسب وإنما هو الصحيح المطلق؛ فتكون المشكلة بالوعي الإسلامي السلفي أنه لا يقبل ممارسة أي نشاط فكري إلا انطلاقاً من أصل معطى وهو النص. كل من طرح نفسه إسلاميا أصوليا من أقصى التيارات التي تصف نفسها إصلاحية زمن الشيخ محمد عبده وقبله الأفغاني والطهطاوي مثلا وحتى أقصى التيارات انكفاءً على الذات زمن التكفيريين من بعد قطب والبنا وحتى أسامة بن لادن، جميعهم يقرءون الحاضر من خلال النص. وفي أكثر الأحوال انفتاحا أصبحوا يقرءوه بالرجوع إلي فلسفة التأويل الرشدية. هذا المنطق هو منذ البداية منطق أصولي يقرأ الحاضر من خلال الماضي.فكل المنتجات الثقافية للحضارة العربية الإسلامية تطورت بالمنطق الأصولي ذاته، فجميع العلوم من بلاغة ونحو وفقه جميعها خضعت ولازالت تخضع لسلطة النص، حتى الفلسفة ذاتها تحولت لعلم كلام ينطلق من الله إلي العالم. ليكون سبب فشل النهضة المعرفية العربية برمّتها في تلك اللحظة هو عدم احتمال النص لأكثر مما فعل الدؤلي وسيبويه وغيرهم، لنعبر قدماً باتجاه النكسة الثقافية مع الانقلاب أهل السنة على المعتزلة مع حكم المتوكل(7). أما إذا مررنا على تاريخ النهضة العربية الإسلامية المعاصرة بدءا من منتصف القرن التاسع عشر وحتى اليوم فسنجده تاريخ نكوص وتراجع بتعبير عبد الإله بلقزيز(8). ولو عدنا للمنطلقات التي حددت الفكر الإسلامي السلفي سنجدها: أولا نظرة السلفية للإسلام باعتباره أفضل الديانات، وأكثر، أن الدين الإسلامي هو طريق الوحيد للحق، وبالتالي فالعودة للأصول الدينية هي بداية الطريق، كما قال الإمام مالك:”لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”. ثانيا نظرة الأصولية الإسلامية للتاريخ والثقافة الإسلامية باعتبارهما يسدان حاجة المسلمين – أي لا حاجة للمسلمين بغير تاريخهم ودينهم. ثالثا أن المدنية الأوروبية آيلة للسقوط باعتبارها مدنية مادية والحادية(9)، وهنا التعبير الواضح عن رفض الآخر على الإطلاق. محددات “الأنا” السلفي هي جوهر الأزمة التاريخية. وهي ما يجب أن نتحرر منه. أما طريقة التحرر فتكون بإزالة هالة القداسة عن "النص" الذي لطالما حظي بالحماية والتقديس من فئات ركنت لصيغته الحالية منتفعة من استمرار جهل العوام ، وما أسهل من إباحة دم كل من يخرج عن النص. فإعادة النظر في التاريخ الاسلامي وفق المنهجيات العلمية الحديثة ستكشف خبايا الدوافع الأيديولوجية للإخفاءات التي مارستها النخب الحاكمة. وهنا يجب أن نقف أمام التاريخ، بصحبة “غربال”، التاريخ لا كما كنا نريد أن يكون وإنما كما كان فعلا.

فهنا وعند وضع تاريخنا في سياقه الإنساني سنبدأ رحلتنا مع العالم الحديث. أما إذا سلكنا المنطق الأصولي طريقا فسنقع وبالضرورة بشرك مستقبلنا المرسوم بريشة الماضي بكل شوائبه وأهواله. وحينها سنبرر كل الجرائم التي ارتكبت في التاريخ، وفوق ذلك سنجد من سيدعو لاستمرارية هذه الجرائم بتحليلها في الحاضر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) أمين، أحمد، فجر الإسلام، القاهرة، مكتبة الأسرة، 1996، ص223.

2) نفس المصدر، ص84.

3) الجابري، محمد عابد، تكوين العقل العربي- نقد العقل العربي1، ط9، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربي، 2006 ص231.

4) أمين، أحمد ، ضحى الإسلام ج1 ،ط2، القاهرة، مكتبة الأسرة، 2010، ص156.

5) راجع كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي.

6) العظم، صادق جلال، ثلاث محاورات فلسفية دفاعاً عن المادية والتاريخ، بيروت، دار الفكر الجديد، 1990، ص21.

7) راجع كتب كل من محمد عابد الجابري تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي، وكتب أحمد أمين فجر الإسلام وضحى الإسلام.

8) بلقزيز، عبد الإله، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، ط2،بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2004، ص12.

9) بلقزيز، عبد الإله، العرب والحداثة دراسة في مقالات الحداثيين، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007، ص18-ص19.

#مهند_عاهد_عبد_الباري (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات