أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - المثقف وأسئلة التغيير : الحرية، الوعي، والحقوق















المزيد.....



المثقف وأسئلة التغيير : الحرية، الوعي، والحقوق


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 4269 - 2013 / 11 / 8 - 21:01
المحور: الادب والفن
    



المثقــف وأسئلة التغيير : الحرية، الوعي، والحقوق

الدكتور عبد الحسين شعبان*





ما الإنسان دون حرّية يا ماريانا؟
قولي لي، كيف أستطيع أن أحبّك اذا لم أكن حرّاً !؟
كيف أهبك قلبي اذا لم يكن مُلكي؟
الشاعر الإسباني لوركا

■-;- لعل مدخل قصيدة لوركا يختصر هاجس الحاجة إلى الحرية ، بمعناها الإنساني الواسع، الذي لا تستقيم حياة البشر بدونه، ولأن "المثقف" كثير الهموم وكبير التطلّعات وشديد الحساسية، فان إحساسه بضرورة الحرية والفراغ الذي يتركه غيابها أو تقليص مساحتها، يلقي عليه أعباءً جديدة وضغوطاً ثقيلة تختلف عمّا يتعرّض له غيره، وبالتالي فللحرية أو غيابها أثره وانعكاساته على فعله الثقافي ونشاطه الابداعي، المعرفي والاجتماعي.
وقد طرحت التغييرات التي حصلت في العديد من أقطار الوطن العربي موضوع الحرية مجدداً على بساط البحث، ليس في سجالاتها السابقة ووجهتها المدنية والسياسية والاجتماعية فحسب، بما فيها قضية المسؤولية والالتزام وحدود الحرية وأين تبدأ وأين تنتهي، بل علاقتها بالقانون وبحكم القانون، حيث تصبح هذه العلاقة مدماكاً أساسياً وجوهرياً للتغيير والانتقال الديمقراطي المنشود، إذْ لا يمكن الحديث عن تحوّل ديمقراطي حقيقي دون حكم القانون والشرعية الدستورية واستقلال القضاء.
وإذا كانت الحرية تجسّد هاجس الوجود الإنساني منذ الأزل، خصوصاً صراع الإنسان ضد الإنسان وصراعه ضد الطبيعة، ومهما اختلفت الحضارات والأديان، وانقسمت الفلسفات والمجتمعات، فإنها ظلّت تمثّل الحافز الأساسي للصراع بين الخير والشر وبين الظلم والعدل.
ومثلما طرحت موجة التغيير الأخيرة علاقة الحرية بحكم القانون Rule of Law وموقعها في نظام العدالة Justice وصراع البشر من أجل الوصول إليها، فإنها في الوقت نفسه عكست الحاجة الماسّة إليها، ولا سيّما في جانبها الفكري والمعرفي، وخصوصاً في نطاق العلاقة مع الجامعة والبحث العلمي.

أولاً- المثقف والثقافة والحرّية
قبل عقدين أثار كتاب إدوارد سعيد "صور المثقف" جدلاً كبيراً لم ينقطع بالأساس حول معنى ودور ووظيفة "المثقف" بشكل عام والمثقف العربي بشكل خاص، خصوصاً في ظل التطورات العاصفة التي شهدتها العقود الثلاثة المنصرمة، من المرحلة الجديدة لـ: "العولمة" والثورة العلمية- التقنية والتقدم الهائل في المعلومات والاتصالات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية " الديجيتل"، ذلك أن مصطلح "المثقف" يعتبر مستحدثاً في اللغة العربية من أصل كلمة "Intellectual" حيث كانت العرب لوقت قريب تستخدم مصطلح "الأديب" أو تطلق لفظة "الكاتب" على ما تقصده بالمثقف اليوم أو ما يقع في دائرته.
وتاريخياً ارتكزت السلطة المعرفية على ثلاثة أطراف هي: الحاكم الذي بيده المُلك، والعالِم ثانياً الذي يمثل سلطة الفقيه الديني أو رجل الدين (الوسيط ، والمؤدلج لما يريده الحاكم وحلقة الوصل مع الرعيّة)، والعامّة ثالثاً وهم المتلقون الذين يمثّلون الرعيّة أو المواطنين أو الشعب بالمفهوم الحديث.
أما اليوم فقد اختلف الأمر كلّياً فلم تعد سلطة "الكاتب" (المثقف) "الجديد" الكاتب "القديم" تستمد قوتها من الدين (وإنْ كان له قوامه الخاص وتأثيره الكبير، لا سيّما في دول العالم الثالث)، حيث أخذ المثقف بالمصطلح الحديث تدريجياً يؤثر في الرأي العام ويساهم في تنمية العقل والوجدان وفي تجسيد الأخلاق ونشر الافكار، مع إن هذه المكانة تصطدم في أحيان كثيرة بدور السياسي وموقعه في سلطة القرار، وإذا كان مثل هذا التأثير كبيراً في العالم المتقدّم والدول الديمقراطية، الآّ أنه لا يزال محدوداً جداً في ما نطلق عليه " الدول النامية" أو بلدان العالم الثالث، لا سيّما ويُراد للمثقف في الكثير من الأحيان أن يتحوّل إلى ملحق لدور السياسي، وخصوصاً لمن هو في السلطة، كما أن الفجوة لا تزال واسعة وعميقة بين صاحب القرار وبين المثقف، حتى وإن احتاج الأول إلى الثاني لتسويق خطابه وتزويقه أحياناً.
واذا كان للسلطة السياسية أدواتها ووسائلها تسعى لبسط نفوذها وفرض هيبتها، فالمعرفة على تعبير المفكر والفيلسوف البريطاني بيكون هي سلطة، أي أن سلطة المثقف هي معرفته ووسيلته الابداعية لنشر ثقافته وبسط سلطانه، وكما يقال المعرفة: قوّة أو سلطة Knowledge is power ، الاّ أن سلطة المعرفة تختلف عن السلطة السياسية والعسكرية من حيث التأثير والسلطان والجبروت، إذْ أن الأخيرة تمتلك أدوات القمع وبإمكانها أيضاً استخدام أدوات المعرفة والثقافة لفرض سلطتها القمعية، وقد استخدمت الكثير من الأنظمة على نحو مترابط القمع السياسي البوليسي مرافقاً للقمع الإيديولوجي الثقافي، وهو ما يتطلّب من المثقف أن يحترم وسيلته الابداعية وينأى بنفسه عن الاستخدام التوظيفي لثقافته من جانب السلطات لاضفاء مشروعية على القمع السياسي ، والمثقف الذي لا يخدم معرفته وثقافته فانه بالتالي لا يحترم سلطته ، أو يتنازل عنها، لحساب غيره، وبالتالي سيفقد حريته.
يمكن القول باختصار أن المثقف الحالي حسب ميشيل فوكو يجسّد ضمير الإنسان ويوقظ فيه الوعي ويبشر المجتمع بالحقيقة وهو ما أطلق عليه اصطلاح "المثقف الشمولي" حامل رسالة التغيير. أما جان بول سارتر الذي مثّل نموذج "المثقف الشمولي" بمواصفات فوكو ، فقد دعا إلى الالتزام من جانب المثقف، وأصبح مفهوم "المثقف الملتزم" منذ الخمسينات شائعاً ، حسب تعبيرات سارتر والأدب الاشتراكي بشكل عام ، خصوصاً ما سمي "بالمدرسة الواقعية الاشتراكية ".
وكان كارل ماركس قد أعتبر المثقف ناقداً اجتماعياً ، يعبّر عن ضمير المجتمع في البحث عن الحقيقة وحددّ وظيفته التي اعتبرها " نقد صارم لكل ما هو موجود ، صرامة تحول دون تراجع النقد ، لا أمام النتائج التي يقود إليها ، ولا أمام الصراع مع السلطة أياً كانت ".
ودعا انطونيو غرامشي 1891 – 1937 إلى " المثقف العضوي " الذي يتماهى مع الطبقة (العاملة) ويصبح عقلها المفكّر وقلبها النابض، إلاّ أن مثل هذا الدور تحوّل في الواقع الفعلي وفي الكثير من الأحيان إلى نوع من الاستلاب للأغلبية وشكل من أشكال البيروقراطية ونمط صارخ من الاستبداد، خصوصاً في ظل أنظمة شمولية توتاليتارية وهيمنة أقليّة، وهو ما عرفته التجربة الاشتراكية العالمية منذ ثورة اكتوبر الروسية في العام 1917. وقد أخذت تلك التجارب بتقليد أعمى بعض أنظمة "العالم الثالث" وما أطلقنا عليه "أنظمة التحرر الوطني" ومنها في بعض بلداننا العربية، لتضيف عليها نوعاً من القسوة والوحشية والتخلف.
قضى غرامشي أكثر من 20 سنة من عمره القصير في السجون ، ومن هناك كتب أهم رسائله ودراساته وخرج منها بآراء واستنتاجات اعتبرت من جانب مدرسته الفكرية التقليدية خروجاً عن النصوص " المقدّسة " ، بل مروقاً ، حيث دعا إلى "وحدة المثقفين في كل مجتمع من مجتمعات العالم " خصوصاً وانه قسّمهم إلى قسمين : القسم الأول – المثقفون التقليديون . أما القسم الثاني فهم المثقفون العضويون الذين يقع عليهم العبء والمسؤولية الكاملة في تحقيق أهداف المجتمع. وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم النخبة أو الصفوة " Elite " .
ويعتبر البعض ومنهم الناقد طرّاد الكبيسي أن نظرية غرامشي حول النخبة تقترب من نظرية ميكافيلي في كتابه " الأمير " والمثقف العضوي هو "الأمير الحديث"، الذي يمكن أن يصنع القيم الاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة عن طريق الممارسة ، لا الافتراضات النظرية.
لقد حدّد غرامشي بذلك وظيفة المثقف العضوي ، الذي اعتبره ألتوسير حامل المعرفة بوصفها عملية تمثيل نظري للموضوعات الخارجية ، أي منتج الوعي. وركّز ماركوز على أن مهمة الفكر هي الرفض ، أي كسر حدة الواقع والسيطرة عليه.
فمن هو المثقف اذن بعد هذه التوصيفات وما هي حدود حريته الفكرية ؟
أذكر نموذجين من المثقفين ، الأول حسب توصيف غرامشي فهو " كل إنسان في النهاية، يمارس خارج مهنته، فعالية ثقافية ما ، فهو فيلسوف ، فنان ، صاحب رأي ، إنه يشارك في تقديم تصوّر عن العالم ، له سلوك أخلاقي واعي ... إنه إذن يساهم في دعم تصوّر ما عن العالم أو تعديله، أي أنه يساهم في ميلاد أنماط جديدة للتفكير".
أما النوذج الثاني ، فهو الذي أخذ به سارتر ، الذي لا يميل إلى اضفاء صفة المثقف على العالِم " ... لن يُسمّى بالمثقف ، العلماء الذين يشتغلون على تشطير الذرة لتحسين أسلحة الحرب الذرية ، فهولاء علماء ... ولكن إذا اجتمع العلماء أنفسهم ووقّعوا بياناً يحذّر الرأي العام من استعمال القنبلة الذرية، فعندئذ يتحوّلون إلى مثقفين... ".
وحسب المفكر الأنثروبولوجي البريطاني تايلور (أواخر القرن التاسع عشر ) فان المثقف هو " ذلك الكلّ المعقد ، الذي يتضمن المعرفة والقصيدة والاخلاق والقانون والتقاليد ، وكل ما يكتسبه الإنسان باعتباره عضواً في مجتمع إنساني ".
لقد تحدّث ابن خلدون عن العمران بطوريه الحضري والبدوي ، أي الحياة الاجتماعية بمختلف ألوانها وأشكالها ، بما تعني الحضارة. وهو ما دعا إليه المفكر العربي المعاصر قسطنطين زريق حين اعتبرها " نمط من الحياة يتميز بخطوط وألوان من التقدم والرقي " والمثقف مثلما ذهب إليه زريق بحاجة إلى معرفة وعقلانية وإلتصاق بقضايا المجتمع.
وقديماً قالت العرب : إن المتأدّبِ هو " من يعرف شيئاً عن كل شيء ، ويعرف كل شيئ عن شيء ". والأدب بمعناه الواسع الثقافة وهو " الأخذ من كل علم بطرفٍ ". وباستعارة عنوان كتاب الدكتور أحمد صدقي الدجاني هو " عمران لا طغيان ".
والرأي عندي إن المعنى الاجتماعي اليوم لكلمة " المثقف " يتسّع ليشمل ، كلّ من اشتغل بالثقافة إبداعاً ونشاطاً بما يتضمن العاملين في حقل العلوم الطبيعية والدين والفن والفلسفة والكتابة والصحافة والتأليف وغيرها.
ويواجه مثقف اليوم وبخاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ثلاث سلطات:
السلطة الأولى هي التي تقبض على السلطة، أي التي تحكم بصورة رسمية، التي تحاول أن تطّوعه وتدجنّه بالاقناع أو بالاقتلاع ... بمحاربته بلقمة الخبز أو بمقص الرقيب أو بالعزل أو الاتهام أو السجن أوالنفي أو بكاتم الصوت الذي يلاحقه ، أي بـ " القمع الفكري والآيديولوجي أو بالقمع البوليسي ". وقد استعارت بعض المعارضات وربما بالعدوى أخلاق الجلاّد أحياناً.
أما السلطة الثانية فهي السلطة التقليدية أو ما نطلق عليه الثيوقراطية الدينية، وهي وإنْ لعبت أدواراً ايجابية في تخريج النخب، الاّ أنها وقفت في بعض الأحيان ضد عمليات التطوّر والتحديث تحت عناوين مختلفة ، فتراها تتدخل أحياناً في حرق الكتب واباحة دم المثقف وتحريم الأفكار لدرجة أن الحداثة والشعر الحرّ يصبحان "بدعة وضلال" ، فما بالك بالمسرح والموسيقى والنحت والرقص وغيرها.
ويصبح كتاب مثل " ألف ليلة وليلة " أو " رباعيات الخيام " أو " أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ أقرب إلى الزندقة ، ويتم اغتيال الشيخ الجليل حسين مروة والمفكر المبدع مهدي عامل والباحث فرج فوده ويلاحق نصر حامد أبو زيد ويقاضي بتفريق زوجته ( بما يسمّى بالحِسبة ) بإسم الدين وتثار فتنة في القاهرة ضد حيدر حيدر وروايته وليمة لأعشاب البحر " رغم مرور 17 عاماً على صدورها ، وكذلك أثيرت حملة دعائية ضد الفنان اللبناني مارسيل خليفة بحجة تجاوزه على "المقدسات".
كلّ ذلك يجري باسم الدين في حين أن غاية كل دين هي الإنسان الحر، وذلك بعيداً عن أصابع المفسّرين والمؤّلين الذين يدّعون أنهم وكلاء الله، ويتم تدمير العقل ونعمة التفكير، وهو موهبة ربّانية، ميزّ بها الباري عباده عن سائر المخلوقات، بل الثقافة كقيمة عليا تحت مزاعم مختلفة، فالإنسان هو جوهر كل دين وهدفه الذي يتجلّى بالرحمة والغفران والتسامح والصفح والتآزر والحوار " ... وجادلهم بالتي هي أحسن ... ". سورة النحل – آية 125.
إن مثل تلك الاجراءات والتنظيرات والمواقف المتشنّجة التي تتعكز على الدين، لا يجمعها جامع مع الدين الإسلامي أو المسيحي أو أي دين آخر. ولا يمكن أن يجتمع الدين بما فيه من مُثل وقيم إنسانية مع التصفية الجسدية بسبب الاختلاف في الرأي والتحريم للافكار والآراء.
وفي الوقت الذي ينبري بعض رجال الدين المتطرفين والمتعصبين والغلاة برفع أصبع الاتهام إزاء أي رأي حرّ أو عمل إبداعي يفسرونه على طريقتهم "الظلامية" ، تراهم يسكتون حين يُنتهك تراث العرب والمسلمين وتُداس كراماتهم كلّ يوم وكل ساعة ، على مرأى ومسمع من السلطة التقليدية ، سواءً بالاحتلال أو بالتبعية أو السجون أو الحصار أو الجوع أو الأمية أو التخلف ، أو كل ذلك، ولا يتم تحريك ساكن أو رفع الصوت " ضد سلطان جائر "!
ولا أدري كيف يتم السكوت مثلاً على ما قامت به القوات الإسرائلية المحتلة من انتهاكات صارخة وسافرة للشعب العربي الفلسطيني بما فيها محاولة تهويد القدس والاستمرار في بناء المستوطنات وطرد السكان العرب، وكذلك ما قامت به القوات المحتلة في العراق من أعمال وحشية أو ما تقوم به أنظمة عربية إزاء شعوبها في حين تستثار "الغيرة" ويشمّر البعض عن ساعده ازاء نص ابداعي قابل للتفسير وفق قراءات متعددة ومختلفة أو لرسوم كاريكاتيرية مسيئة للرسول، أو غير ذلك. ولعلّ المسلمين سلطات ومؤسسات وشعوب، نظروا إلى بعض النصوص الإبداعية في العهود الإسلامية الأولى بشكل منفتح وتسامحي ، في حين أن الذين يدعّون أنهم يسيرون على هدى السلف يتّخذون مواقف متطرّفة، بل مفرطة في الغلو والتعصّب لا يجمعها جامع مع الإسلام وروحه السمحاء ورسالته الإنسانية، لا بشأن بعض النصوص في الحاضر، بل بخصوص تلك النصوص التي مضى عليها مئات السنين.
أما السلطة الثالثة فهي قوة العادات والتقاليد وسكونية المجتمع الذي يستجيب للصوت الأعلى ، أما تأمُّل الفكر ودقته وعمقه وأجوائه الرحبة فتراها بعيدة عن " العقل السائد " الذي ليس من السهولة صدمه ، مع معوّقات وعراقيل وتخلّف. إن العادات والتقاليد تشكل أحياناً عائقاً أمام تقدم المجتمع، خصوصاً إذا وقفت حجر عثرة باعتبارها سلطة ضد أي تغيير ، سواءً كان "الموروث" دينياً أو طائفياً أو عشائرياً أو اجتماعياً أو غير ذلك. وأحياناً تقف السلطة الاقتصادية وإن لم تكن مفصولة كلياً في العالم الثالث عن السلطة السياسية، بوجه المثقف وتسعى لتطويعه مستغلة حاجته فتسعى لتسخير إبداعه لمصلحتها!
إن المفهوم الواسع للثقافة يشمل أنواع وأشكال المعرفة والمعتقدات والفنون والآداب والأخلاق والقيم والعادات والتقاليد ونمط العيش والسلوك. أما المفهوم الضيق للثقافة فيشمل الانتاج الفكري والإبداعي بشكل عام، ولعلّ مفهوم الثقافة أقرب إلى التقدّم المادي، الاقتصادي والتقني والعلمي. وفي ثقافتنا فإن مكوناتها تستند إلى اللغة والدين والتراث، بكل ما تحمله من مركبات.

تحدّيات المثقف !
الحرية هي التي تجسّد الهاجس الإنساني والتحدّي الأكبر للمثقف، ولعلّ التراث الإنساني يزخر بنماذج خالدة على تفاعل المثقف مع مجتمعه . وقد دوّنت حضارة بابل التي سُجّلت على الألواح الطينية " ملحمة كلكامش " الباحث عن الخلود ، فبعد مسيرة طويلة بحثاً عن " أوتانابشيم " يقول كلكامش بطل الطوفان في حوار على لسان "سيدوري " إحدى حوريات الماء التي إلتقاها كلكامش بعد نجاته مهتزّاً لموت صديقه " أنكيدو " مردّداً :
وجدت حياتي ... أينبغي إذن أن أموت أنا أيضاً كما مات أنكيدو؟
إن اليأس يملأ قلبي!!.

• فتخاطبه سيدوري عند تلك الضفة النائية... :
إلى أين تجري على هذا النحو ياكلكامش ؟
انك لن تعثر أبداً على حياة الخلود التي تبحث عنها
فحين خلق الإله البشر
قدّر عليهم الموت
وجعل الخلود لنفسه وحده
وخيرٌ لك أن تملأ بطنك
وأن تظّل مرحاً ليل نهار
وعليك بإرتداء الثياب الجميلة
واغسل جسمك واستحم
وانظرْ بحنان إلى صغيرك وهو يمسكُ بيدك
ولتُسعدْ إمرأتك التي تلتصق بك
فذلك هو المصير الوحيد المُتاح للبشر

إن المثقف الحالي يعاني من ضغوط كثيرة، خصوصاً في ظلّ التطورات التي شهدها العالم وبعد حقبة النفط والانهيارات الدراماتيكية التي عصفت بالنظام الدولي الثنائي القطبية الذي أقيم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وسيادة قطبية آحادية وبخاصة بعد انتهاء عهد "الحرب الباردة" واحتدام نار الصراع الايديولوجي الدولي وتحوّله من شكل إلى شكل جديد، خصوصاً ازاء المنطقة العربية والإسلامية واعتبار التهديد الإسلامي، بل الإسلام أحياناً، يمثّل خطراً على العالم، تعاظم بعد احداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية الاجرامية، ومن ثم ما سمّي الحرب الدولية على الإرهاب واحتلال افغانستان والعراق وتداعياته على الوضع الدولي...
كل هذه التطوّرات إضافة إلى بعض حالات الإحباط التي أعقبت الربيع العربي، خصوصاً بهيمنة " الأخوان" على مقاليد السلطة في بعض البلدان العربية وانفلات الفوضى وتدهور الوضع الأمني، أثرت على نحو بليغ على المثقف، خصوصاً في البلدان التي جرت فيها التغييرات مثل تونس ومصر وليبيا واليمن، وانعكاسها على بلدان عربية أخرى، ولا سيّما بعد فشل المشاريع اليسارية والقومية السابقة وترنّح المشروع الإسلامي، والانقسام الحاد في مجتمعات التغيير بين أتباع الأنظمة السابقة والأنظمة الجديدة، وبين الإسلاميين والعلمانيين، مما زاد في يأس شرائح واسعة من المثقفين، بل أدّى إلى انطفاء روحهم في الكثير من الحالات، بعد أن كانت متّقدة وتنتظر التغيير.
فالمثقف إضافة إلى همومه العامة التي هي هموم المجتمع ، ظلّ هاجسه المفقود، هو حرّية التعبير، فتراه إمّا إلتحق تابعاً بالسلطات ينمّق لها أطباق الآيديولوجيا على طريقة صاحبنا هلال الصابيء ، الذي كتب إلى عضد الدولة البويهي ، كتاباً عن " بني بويه" فلمّا سأله أحدهم أحقاً فعلت ذلك ، فأجابه نعم ، إنها "أباطيل ننمقها وأكاذيب نلفّقها " ومنهؤلاء كثيرون في السابق والحاضر أو على طريقة أبو حيان التوحيدي ، الذي كتب وناقش وحاور وجادل وساجل طيلة سبعة عقود قضاها في أتون المعركة الفكرية والثقافية في عصره ، فلما بلغ شأوه ، وهو على مشارف التسعين ، أطعم كل ما كتبه إلى النيران قائلاً ، أنه أحرقها لقلّة جدواها وضّناً بها على من لا يعرف قدرها بعد موته. أو على طريقة جمال حمدان في مصر الذي اختار العزلة وسيلة للاحتجاج في فترة صعود الحقبة البترودولارية، وهو من قسّم المثقفين إلى ترزي ومقاول وتجريدي وسلطوي ونيوليبرالي، في حين ذهب هادي العلوي (العراق) هارباً إلى التاريخ حين تحدث عن المثقف الكوني باستعادة التاريخ الصوفي بالتاوية الصينية، مشترطاً عمق المعرفة والروحانية والترفّع عن الخساسات الثلاث: المال والسلطة واللذائذ. وليست تلك سوى صورة متعالية عن نموذج طهري نادر للمثقف الافتراضي الذي هو العلوي نفسه.
أما غاليلو ، فقد تجرّع كأس السم على أيدي كهان القرون الوسطى " المظلمة " ومحاكم التفتيش بإسم الدين ، لكن الارض ظلت تدور ... وفي حالات أخرى فضلّ المثقف الانكفاء أو الهرب إلى الأمام ، فخسر نفسه أو خسرنا إبداعه لحين أو لكل الوقت.
وفي عالمنا العربي والإسلامي نماذج كثيرة على تحريم الفكر وتجريم التفكير ومنع حرية التعبير والرأي ورفض الحوار ومصادرة حق الاختلاف والتنكّر للتعددية والتعايش مع الآخر. وسادت تحت يافطات مختلفة فكرة الرأي الواحد الاطلاقي الشمولي، الذي يدّعي امتلاك الحقيقة ، حيث توجب الطاعة على المحكومين حتى وإنْ كانت سلطة الحكام لا تستمد أساسها من العدل والشرعية والقانون.
إن السلطة أياً كانت أنظمتها ملكية أم جمهورية ، حزبية أم غير حزبية ، عسكرية أم مدنية يمكن أن تصبح مُلكاً عضوضاً كما قالت العرب اذا ترافقت مع محاولات فرض الرأي بالقوة وغياب الرقابة وضعف المساءلة وتعطيل مبدأ سيادة القانون، أما إذا صاحبها وسائل تكنولوجية حديثة وأساليب تضليل جديدة ودعاية سوداء، غدت أكثر قسوة ووحشية ولا إنسانية ، وذلك حين تستهدف انتزاع عقيدة أو التبرؤ منها بالتعذيب والإكراه أو بالديماغوجيا والتزييف.
لقد لعب المثقفون في أواخر القرن الماضي وأوائل العشرين دوراً متميزاً مقتحمين ميادين مهمة. فشبلي شميل ومن بعده سلامة موسى دعيا لتحقيق العدالة الاجتماعية في اطار الاشتراكية وقاسم أمين نادى بتحرير المرأة ومحمد عبده أهتم بتطوير الفكر الديني. أما الكواكبي وبعده الشيخ حسين النائيني فقد شدّدا على تغيير نظم الحكم وتحدّثا عن "طبائع الاستبداد" ودعا الأفغاني إلى الجامعة الإسلامية. ولعمري إن تلك الحركة الاصلاحية تركت تأثيراتها اللاحقة على عموم التطور الفكري في المنطقة وعلى مستوى الصراع العربي التحرري ضد الهيمنة الأجنبية. وكانت حركة المشروطة عام 1906 في ايران والحركة الدستورية عام 1908 والأتاتوركية فيما بعد في تركيا دعوة لتحديث نظم الحكم والتمسك بالدستور.
ومع كل مرحلة التطور اللاحقة سواء بتحقيق الاستقلال أو بعدها، فان الحرّية وبخاصة حرّية الفكر والتفكير واستقلالية البحث العلمي ظلت مفقودة ، بل عوملت باعتبارها منطقة محرّمة ومختومة بالشمع الاحمر وان جرى التخفيف عنها قليلاً فقد تم زرعها بالالغام.
إن إدعاء امتلاك الحقيقة يعني حجب حق الآخر في التعبير والتفكير ، وحسب أدونيس ، فان ذلك يعني " اعتقال العقل " ، عقل الذات الآخر ، وينطلق مصادرة حق الغير في التعبير من "ارادوية" سياسية مفروضة على الواقع ومرتبطة بالقوة وليس بالعقل وتصبح صورة " الغير " هي صورة العدو ، الخصم ، الرأي الآخر ، المشبوه أو العميل بلغة السياسة والآيدولوجيا، وبلغة بعض رجال الدين المتطرفين تصبح صورة "الاخر"، الكافر والملحد أو الزنديق والمارق.
ويضيف أدونيس، ان مثل هذا النمط من التفكير يعني، قفا السلطة المستبدة، أي (ظهرها)، بمعنى الوجه الآخر للاستبداد. "وجها العملة الواحدة"، فمن لا يحترم الآخر، كيف يمكنه احترام الذات (نفسه)، فليس للطغيان صورة واحدة، بل صورٌ متعددة.
إن حفظ المثقف لكرامته وكرامة الثقافة التي يحملها يقوم على مبلغ اخلاصه لهذه الثقافة على حد تعبير قسطنطين زريق. وقد اختلّت كثيراً معادلة الثقافي بالسياسي سواءً في ظل سيادة الافكار النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا أو من خلال هيمنة الستالينية ورائدها في الثقافة "جدانوف" في الإتحاد السوفيتي السابق، والتي شهدت حملة قمع وتصفيات لا نظير لها ، أو خلال فترة المكارثية في الولايات المتحدة التي شهدت حملة ارهاب وبخاصة ضد المثقفين.
وهناك نماذج كثيرة من معاناة المثقفين ، لوكاش (المجري) ، وتولياتي (الإيطالي) وغارودي وآرغون ( الفرنسيان) وبريخت (الالماني) وغوركي (الروسي) وعشرات الأمثلة. وفي عالمنا العربي ، دفع أعلام كبار مثل الجواهري ، وأدونيس ومحمود درويش ، وسعدي يوسف ، وبلند الحيدري وأميل حبيبي ، وعبد الوهاب البياتي ونجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل ومحمد باقر الصدر ونصر حامد أبو زيد وأحلام مستغانم والسياب ومعين بسيسو ومحمد حسين فضل الله وعزيز السيد جاسم وهادي العلوي وعبد الرحمن منيف وأدوارد سعيد والطاهر وطار والمهدي بن بركة ومظفر النواب وشفيق الكمالي وحسن العلوي وشمران الياسري (ابو كاطع) وحيدر حيدر وعشرات غيرهم ، ضريبة إلتباس وتداخل المعادلة الثقافية – السياسية.

ثانياً- عنصرا الوعي: الحرّية والقانون
للحرّية الفكرية موقع مهم في منظومة الحقوق الأساسية للإنسان، وخصوصاً الحقوق المدنية والسياسية ، فبعد حق الحياة والعيش بسلام ، الذي هو حق مقدس لا يمكن الحديث عن أي من الحقوق دون توفره ، هناك أربعة حقوق وحريات أخذت بها المعاهدات والاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تنظم حقوق الإنسان، وهو ما نطلق عليه اسم "الشرعة الدولية " ونعني بها: "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" الصادر عام 1948 وما بعده " العهدين الدوليين حول الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" الصادران عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966 واللذان دخلا حيّز التنفيذ في العام 1976، وغيرهما من المواثيق والمعاهدات الدولية.
ويعتبر ميثاق الأمم المتحدة وما أعقبه من تقنينات واضافات تطويراً معاصراً لما بدأته الثورة الفرنسية منذ ما يزيد على قرنين من الزمن 1789 ، وقبلها ما تضمنه الدستور الأمريكي عام 1776 بخصوص حقوق الإنسان وبشكل خاص الحقوق والحريات الأساسية والذي أعقبه الدستور الليتواني الذي صدر قبل الدستور الفرنسي بنحو أربعة أشهر، يوم كانت ليتوانيا تضم بيلاروسيا (روسيا البيضاء) وأوكرانيا وأجزاء مهمة من بولونيا وتعتبر من الدول الأوروبية الكبرى.
وعندما نقول الحرّيات الأساسية ، فإننا نعني:
1. حرية الرأي والتعبير.
2. حق الاعتقاد.
3. حق التنظيم الحزبي والنقابي والمهني.
4. حق المشاركة السياسية في ادارة الشؤون العامة.

وقد ورد في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما يلي: ولمّا كانت الامم المتحدة قد أكدت في الميثاق ... إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية ، وحزمت أمرها على أن تدفع بالرقي الاجتماعي قُدماً وأن ترفع مستوى الحياة في جو أفسح من الحرية ... فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الاعلان العالمي لحقوق الانسان ".
ونصّت المادة الاولى على ما يلي " يولد جميع الناس أحراراً متساويين في الكرامة والحقوق . وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء ".
وذهبت المادة الثانية إلى التأكيد على أن " لكلّ إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، بدون تمييز ، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي، أو الاصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد، أو أي وضع آخر بدون أي تفرقة بين الرجال والنساء ". وأكدت المادة 18 على أن " لكل شخص الحق في حرّية التفكير والضمير والدين ويشمل هذا الحق ، حرية تغيير دينه أو عقيدته وحرية الاعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتهما سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة".
أما المادة 19 ، فقد إلتزمت قضية الدفاع عن حرية الرأي والتعبير ، باعتبارها حقاً أساسياً للانسان لا يمكن تقييده أو التضييق عليه ، فما بالكم بإلغائه وقد نصّت على أن " لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير . ويشمل هذا الحق حرّية اعتناق الآراء دون أي تدخل ، وإستقاء الأنباء والأفكار وتلّقيها واذاعتها بأي وسيلة كانت ، دون التقيّد بالحدود الجغرافية ".
ولهذا الغرض تشكّلت منظمة خاصة لحقوق الانسان وفقاً للمادة 19 تُدعى "Article 19 " المركز الدولي ضد الرقابة "، التي تؤكد على حرّية التعبير وتناقل المعلومات ، التي هي حقوق أساسية لا يمكن بدونها الدفاع عن أي من الحقوق الأخرى ، بما فيها حق الحياة.
ونصّت معظم الدساتير العربية والإسلامية، ولا سيّما بعد الربيع العربي والقوانين الجنائية ، على حرّية التعبير ، لكن هذا الحق يتم تقييده بقانون ليلغيه فعلياً أو يسحبه ويحوله بالممارسة إلى شيء آخر ذي سقف لا يتجاوز ما تريده السلطات، وإلاّ يتم إنزال أقصى العقوبات بالمخالفين. وهناك أمثلة كثيرة وصارخه على حجب حرّية الفكر واستخدام العقوبات الغليظة بموجب "قوانين" و"تشريعات"، بما فيها عقوبة الإعدام أحياناً تحت مزاعم مختلفة كالمروق أو الخروج على إجماع الأمة أو إثارة نار الفتنة أو الدعوة إلى الإرهاب أو غير ذلك.
أذكر هنا بعض الأمثلة عن حجب حرّية الفكر والتعبير في العراق في ظل النظام السابق واستخدام العقوبات الغليظة بموجب قوانين وتشريعات تصدر من أعلى الهيئات ، ففي 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1976 أصدر مجلس قيادة الثورة القرار رقم 1244 ، والذي تم بموجبه اضافة فقرة إلى المادة (200) الشهيرة من قانون العقوبات البغدادي رقم 111 لسنة 1969 حيث نصّت على ما يلي " كلّ من انتمى أو ينتمي إلى حزب البعث... ويثبت انتماؤه بعد إنتهاء علاقته بالحزب إلى أية جهة حزبية أو سياسية أخرى أو يعمل لحسابها أو مصلحتها " يعاقب بالاعدام.
وفي 7 حزيران (يونيو) 1978 أضيفت فقرة جديدة إلى المادة (200) الذائعة الصيت وفقاً للقرار 111 الصادر عن مجلس قيادة الثورة مؤكدة " حكم الاعدام " على كلّ من كسب إلى أية جهة حزبية أو سياسية شخص له علاقة بحزب البعث (خلال أو بعد انتهاء علاقته بالحزب)."
ويقدّر الذين أُجبروا على التوقيع على " حكم أنفسهم " بالاعدام بموجب المادة (200) ووفقاً لتعهدات مكتوبة بين عام 1978 – 1980 نحو ربع مليون مواطن ، ممن تعرّضوا للاستجواب أو الاعتقال ، بما له مساس مباشر بالحرّية الفكرية وحرية الرأي والتعبير.
أما القرار رقم 461 الصادر في 31 آذار (مارس) 1980 القاضي باعدام أعضاء حزب الدعوة الإسلامي فقد صدر بأثر رجعي ، أي أنه يطبّق على الافعال المرتكبة قبل صدوره ، وهي ظاهرة غريبة وشاذة، وقد أختفى قسرياً وقيل أنه أعدم بعد حوالي عشرة أيام من صدور هذا القانون المفكر الإسلامي المرموق محمد باقر الصدر وأخته الكاتبة بنت الهدى في 9 نيسان ( أبريل ) 1980 ، كما تم تنفيذ حكم الإعدام بمئات ممن اتّهموا بالعمل مع حزب الدعوة والحركة الإسلامية استناداً إلى هذا القرار الغريب.
وللأسف الشديد فإن سياسات العزل والإقصاء استمرت حتى بعد الإطاحة بالنظام السابق، فقد أصدر حكم الاحتلال بموجب قرار الحاكم المدني الأمريكي في العراق قانون اجتثاث البعث، وبموجبه تم حرمان عشرات الآلاف من حقوقهم المدنية، إضافة إلى حقوقهم في العمل والتقاعد، وبعد الحراك الجماهيري في محافظة الأنبار وامتداده إلى خمسة محافظات، أصدرت لجنة خاصة شكلها مجلس الوزراء برئاسة نائب رئيس الوزراء د. حسين الشهرستاني قرارات بإعادة حق بضع عشرات من الآلاف كانوا محرومين طيلة السنوات العشر من حقهم في التقاعد دون قرار قضائي أو جريمة شخصية.
وحتى بعد صدور قانون المساءلة والعدالة، فإن الحالات التي لا تزال معلقة تشمل عشرات الآلاف من المواطنين، الأمر الذي يحتاج إلى وضع تاريخ زمني لإنهاء مفعول هذه القوانين وإلغاء سياسات العزل والتهميش طبقاً لمفهوم العدالة الانتقالية، ومن كان متهماً بقضية جنائية، فيمكن للقضاء أن يفصل فيها.
لقد أصدر الحاكم المدني الأمريكي في العراق بول بريمر بعد مباشرة عمله مباشرة قراراً يقضي باجتثاث البعث بتحريم الأفكار وليس لمساءلة الافراد المتهمين بالارتكاب، الأمر الذي جعل نهج العزل السياسي سائداً، بل سمة عامة للدولة، في الوقت الذي كان يمكن تقديم المتهمين إلى القضاء دون تحريم العقيدة، وإذا كانت العدالة الانتقالية ضرورة مطلوبة على أوضاع الماضي والحاضر، فإنها لا تنفي أو تستبعد العدالة الجنائية، بل تستخدم وسائل سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية مع العدالة الجنائية، ولفترة مؤقتة وانتقالية، بهدف كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وتعويض الضحايا واصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، وصولاً إلى المصالحة الوطنية.
وبهذا المعنى فإن المرتكبين في السابق والحاضر لا بدّ من مساءلتهم وكشف الحقيقة كاملة، لكي لا يفلتوا من العقاب ولكن دون أية كيدية أو انتقام أو ثأر، والأمر يمكن تطبيقه على انتهاكات الحكم السابق وعلى انتهاكات الاحتلال والحكومات التي قامت بعده ولعل الانتهاكات الجسيمة والفادحة التي حصلت بعد الاحتلال ألقت بمسؤوليات جديدة، خصوصاً لكشف ما حصل في سجن أبو غريب والسجون العراقية والأمريكية الأخرى في العراق، بما فيها ما حصل في الفلوجة والنجف والبصرة وكركوك وديالى والموصل من انتهاكات صارخة، إضافة إلى بعض السجون السرّية.
ومن المفارقات أن يكون بعض ضحايا حرّية التعبير عن الرأي أنفسهم الوجه الآخر للاستبداد ومنع الرأي الآخر، حين تقوم بعض منظمات التطرّف بارتكاب وممارسات عنيفة تحت زعم "اقامة الحد" باسم مخالفة بعض تعاليم الدين ، في محاولة لتنصيب نفسها فوق القانون ، مشيعةً نوعاً من الارهاب الاجتماعي ، مبررة للسلطات (التي تعتبر أعمالها غير مبررة أصلاً في منع الصوت الآخر وحرية التعبير ) الايغال في عمليات التشدّد والتضييق على الحرّيات العامة والخاصة، المدنية والسياسية، وممارسة الارهاب، بحجة التصدّي لجماعات التطرف وأعمال الارهاب الفردية ونشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، في حين تمارس هي ارهاباً حكومياً وغير حكومي أحياناً ً.
وباعتقادي ، إن الفكر لا يقابل بالعنف أو الاغتيال أو إخفاء الصوت الآخر ، كما لا يحسم بالقضاء . الفكر يُردُّ بالفكر ، وسماحة الحوار تتسع لصراع الأفكار. أما جعجعة السلاح فلا تنتج طحيناً ، بل تجعله خليطاً برائحة البارود. والحوار يجب أن يتّجه أولاً وقبل كل شيئ باقرار حق الغير " الآخر " في التعبير وفي التعايش وفي المنافسة السلمية ، ثم لاستخلاص ما هو ضروري لادامة السلام الأهلي واحترام حقوق الجميع.
وبتقديري إن مكان حرّية الفكر والبحث العلمي والأكاديمي ، هو قاعات الجامعات وأروقة الكليات والمعاهد وحلقات الدرس والبحث والمنابر الفكرية والثقافية، وفي اطارها يتم النقاش والجدل ، فهي المكان الطبيعي والرحب لتبادل الأفكار واستمزاج وجهات النظر وقرع الحجة بالحجة والدليل بالدليل والشك بالشك والبرهان بالبرهان. وفي الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات تبدأ الأسئلة والشكوك وتثور الانتقادات ويتم البحث والاجتهاد في محاولة الوصول إلى أجوبة مقنعة وبراهين.
أما محاكمة الفكر أو محاصرته اجتماعياً لدعاوى سياسية أو اعتبارات لا علاقة لها بالدين، فهذا ليس سوى ويعني اصدار حكم بالموت المدني دون محاكمة ، وهو مناقض لروح وجوهر الإسلام الذي يقرّ بمبدأ التسامح. فعدم التسامح يعني منع الاجتهاد وتحريم وتكفير أي رأي حرّ وجديد ، بحجة المروق . وتزداد اللوحة قتامة في ظل الدين الواحد حين يتم التمترس الطائفي والمذهبي وحين يُنظر إلى الآخر كخصم وعدو ، بل أشد عداوة من العدو الحقيقي أحياناً ، وتجري محاولات لإلغاء الفِرَق والمذاهب والاجتهادات وتعميم نظرة أحادية الجانب وفقاً للافكار الشمولية التي لا تعترف بالغير.
ولا أظن إن مجتمعاً بدون اختلافات أو اجتهادات متعارضة مختلفة أو انقسام في الرأي أو معارضة، موجود، أو أنه وِجدَ في الكون منذ الخليقة ، بل أستطيع القول إن مجتمعاً بلا اختلاف أو تمايز أو خصوصيات ، هو من صنع الخيال ، ولا وجود له على أرض الواقع ، بل أنه مجتمع ميت إنْ وجد ، فالتماثل ضربٌ من المحال.
التعددية والتنوّع وحق الاختلاف والاجتهاد هي بعض عناصر يقظة الوعي ومن أركان تنشيطه بما يساعد على التطوّر والتجدّد ولا تستقيم هوية " الأنا " من دون هوية "الآخر". وجاء في القران الكريم " ... واختلاف ألسنتكم وألوانكم لآيات للعالمين" ، سورة الروم – أية 22 . والإختلاف لا يلغي الإئتلاف بالطبع " ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ، أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " سورة يونس – الآية 99 ، وجاء في سورة البقرة – الآية 256 ، " لا إكراه في الدين ، قد تبّين الرشد من الغيّ ... " وجاء في سورة الكهف - الآية 29 ، "وقل الحقّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ... ".
وسمح الإسلام بحرية الخطأ إذا لم يكن مقصوداً، خصوصاً إذا استهدف الاجتهاد الفكري واستنباط الحلول والأحكام، حين أكدّ الفقه الاسلامي على أن "المجتهد إنْ أصاب فله حسنتان ، وإن أخطأ فله حسنة الاجتهاد " بمعنى أن الخطأ مع الاجتهاد يتحوّل إلى حسنة، لأنه محاولة لاستخدام العقل وكانت بعض الفرق الإسلامية قد أكدت على دور العقل بموازاة النقل خصوصاً فيما يتعلق بكل ما له علاقة بشؤون الحياة كالمعتزلة والصوفية وغيرها.
وذهب الإمام الشافعي للقول " رأيي على صواب ولكنه يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ ، ولكنه يحتمل الصواب " . وهو ردٌ بليغ على أفكار التعصب والانغلاق والعنف وعقلية التحريم والجريم وفرض الرأي ، التي قادت من الناحية السياسية إلى إحتكار الحكم وتبرير مصادرة حقوق الآخرين ، تارة باسم القومية أو بحجة الصراع العربي – الاسرائيلي ، وأخرى باسم الطبقة العاملة ومصالح الكادحين ، وثالثة باسم الدين ، لإسكات أي صوت ولتسويغ فكرة الاستئثار وادعاء امتلاك الحقيقة.

ثالثاً- الحرّية والجامعة

طرحت التغييرات التي حصلت في العديد من البلدان العربية موضوع الحرية الفكرية في الاطار الجامعي والأكاديمي على بساط البحث، خصوصاً في ظل الجدل المُثار سابقاً وحالياً حول النظام التعليمي والتربوي، ومنطلقاته الفكرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لا سيّما موقفه من الآخر ومن الاختلاف والتنوّع والتعددية، وكل ذلك له علاقة بالثقافة وارتباطها العضوي بالحرّية، حيث تشكّل حرّية البحث العلمي ركناً مهماً وأساسياً من أركان تطور الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، بل والمجتمع ككل.
لقد نما التعليم الجامعي بشكل كبير وبجميع مستوياته في الوطن العربي ، سواء خلال المؤسسات الجامعية ومراكز الأبحاث والدراسات العلمية، وكذلك من خلال الارتفاع الهائل في عدد الطلبة وازدياد أعداد الأساتذة الجامعيين وتعاظم خبراتهم. ومع هذا النمو برزت مشكلات نوعية، لعلّ أهمها موضوع الحرية الفكرية في اطارها الجامعي والأكاديمي، حيث لم يرافق التطور الكمّي في التعليم الجامعي تطوّراً نوعياً، لا في أقطار اليُسر ( الغنية بالنفط ) ولا في أقطار العُسر ، بل أن بعض أقطار اليُسر بددت الثروات الهائلة على الحروب والمغامرات والصراعات الداخلية والاستخدامات غير الرشيدة واللاعقلانية وغيرها.
وخلال ربع القرن الماضي ازداد عدد الجامعات العربية ومراكز الأبحاث الأكاديمية، زيادة ملحوظة، بالنسبة للجامعات الرسمية أو الأهلية، في حين كان هناك تسرّباً، بزيادة هجرة العقول والأدمغة المفكّرة، تساوق طردياً مع اندلاع الحروب والنزاعات وانفلات الوضع الأمني في بعض البلدان، فضلاً عن شحّ الحرّيات وضعف الحوافز المعنوية والمادية.
وكان المجتمع الجامعي يأمل في وضع حد لمحاولات احتواء وتأطير أساتذة الجامعات والباحثين الأساسين في مراكز الابحاث والدراسات التي راجت في سنوات السبعينيات والثمانينيات ولا سيّما في بعض البلدان التي حدثت فيها تغييرات مؤخراً، والتي قابلها عزوفٌ شديد من جانب الأساتذة والباحثين عن المشاركة في الحياة العامة كردّ فعل طبيعي ضد محاولات قسرية لاجبارهم على تطويع وسيلتهم الابداعية والأكاديمية، الاّ أن أشكالاً جديدة من التسيس أو التديين أو التمذهب برزت لدى أوساط جامعية وأكاديمية لم تعرفها أروقة الجامعات من قبل، وانقسم المجتمع الجامعي، إلى أنصار الأنظمة القديمة وأنصار الأنظمة الجديدة، وبين الاتجاهات الإسلامية والعلمانية، وأحياناً بين أتباع هذه الطائفة أو تلك وغير ذلك.
وولّد الانغمار سابقاً في المهمات الوظيفية والابتعاد عن الأضواء شعور باليأس والانكفاء على الذات والانفصام عن المجتمع أحياناً، وذلك تلافياً لمحاولات السلطات توظيف نتاجات الأساتذة والباحثين واستغلال أسمائهم لمصالحها الخاصة ، خصوصاً في ظل أنظمة تعليم عتيقة وادارات بيروقراطية ومناهج لا تستجيب لروح العصر وأجهزة لا تعرف الرحمة وغياب أو ضمور للحرّية الفكرية وضعف المبادرة وعدم تشجيع حرّية البحث العلمي والاكاديمي.
لقد ظلّ الباحث الأكاديمي والأستاذ الجامعي يعاني من غياب الحرّية مثلما يعاني اليوم من التعصب والتطرف والغلو ومن القيود المفروضة عليه للالتزام بالمناهج " المقررّة " التي غالباً ما تكون ذات اتجاه محدد "ضيق" ومن الرقابة المختلفة التي جعلته يعيش في بعض البلدان تحت هاجس الرعب، لا سيّما إذا ترافق الأمر مع تهديدات وانفلات للعنف وظلّت حرّية البحث العلمي محدودة، إضافة إلى الانظمة الجامعية الادارية ، كالتعيين والدوام والاجازات والمرض والترقيات والتفرّغ، وهذه كلّها معوّقات أمام الباحث وعامل كبح يحدّ من إبداعه ، فضلاً عن ضعف الحوافز في الكثير من الأحيان وتقديم الولاء كشرط أساسي لتولّي المسؤوليات والترقيات وذلك على حساب الكفاءة والاخلاص للوطن.
وانتشرت العديد من الاعتبارات الجديدة – القديمة – التي سبق للكثير من البلدان العربية أن سلكت طريقاً يساعد على تخطيّها أو يخفف من تأثيراتها السلبية بعد أن عانت منها في حقبة سابقة، الطائفية والشوفينية والعشائرية والجهوية، وقد لعبت الاعتبارات الحزبية والدينية والطائفية السياسية الضيقة، دوراً كبيراً في التأثير على حرّية الجامعات والبحث العلمي، وعلى الاستفادة من الطاقات والكفاءات العليا لحسابات بعيدة كل البعد عن التقييمات العلمية والاكاديمية.
ففي العراق مثلاً وبعد الاحتلال الامريكي عام 2003 ، تم إعفاء نحو 3 آلاف أستاذ جامعي من مواقعهم ، بسبب الاتجاه السياسي وليس بسبب ارتكابات أو إدانات قضائية، ورغم أنه أعيد الكثير منهم ، الاّ ان الجامعات العراقية ما تزال تعاني من نقص فادح في مستوى الكفاءة ، ولعلّ بعض التعيينات الجديدة لأسباب سياسية أو طائفية أو إثنية قد لعبت دوراً في ذلك، ناهيكم عن اغتيال نحو 450 عالماً واستاذاً جامعياً، وهجرة أعداد كبيرة إلى الخارج بسبب تصاعد أعمال العنف من جهة وممارسات الاحتلال من جهة أخرى، فضلاً عن الفوضى الأمنية، وكذلك بسبب موجة التطهير الطائفي وما رافقها من أعمال عنف منفلتة من عقالها، مما أضاف عبئاً جديداً على المستوى الجامعي والأكاديمي، خصوصاً وأن هناك آلاف من أساتذة الجامعات والباحثين كانوا قد غادروا العراق بسبب سياسات النظام السابق وبسبب الحروب والحصار.
لقد جرت عمليات "تخريب" للجامعات منذ السبعينيات وتم تفريغ الكثير من أصحاب الكفاءات والمواهب منها ومن مراكز الأبحاث، لا سيّما اذا كانت لا تتفق مع الاتجاه السائد، مما أدى إلى هبوط المستوى الدراسي الجامعي، فضلاً عن نكوص النظام التعليمي، وانعكس ذلك بشكل خطير على الحرّية الفكرية، بالترافق مع عدم مواكبة التطور الدولي، وخصوصاً منجزات العولمة وثورة الاتصالات والتدفق الهائل للمعلومات وتكنولوجيا المعلومات والطفرة الرقمية "الديجيتل"، الأمر الذي أدى إلى تخلف البرامج الدراسية والمناهج الجامعية، وأصبح بعضها يفوح برائحة النزعات الطائفية والعسكرية أو العنصرية أو العشائرية، وبما يضرّ بمصلحة المجتمع، ويفقده التعايش والسلام الأهلي والاجتماعي، ويؤثر في شخصية الطالب التي ينبغي ان تنمّى لتكوين شخصية عصرية منفتحة وقادرة على استيعاب الجديد وروح العصر.
وبسبب غياب الحرّية الفكرية وفقدان حرية التعبير، فان هجرة كبيرة شهدتها البلدان العربية والبلدان النامية عموماً للعقول والأدمغة المفِكَّرة Brain Drain، إضافة إلى تأثير ذلك على الطموح الشخصي للاستاذ والباحث ( موضوعياً وذاتياً ) وإغراءات أخرى دفعت بأصحاب الكفاءات إلى ترك أوطانهم، حيث يتسرّب سنوياً العديد من العلماء والنابغين والباحثين وأساتذة الجامعات بحثاً عن الحرّية الفكرية والأمان، وتحسين أوضاعهم من الناحية الابداعية والشخصية، من خلال الفرص التي تتاح لهم خارج بلدانهم ، وفي ذلك نزيف خطير للكفاءات وهدر كبير للموارد.
إن الغالبية من أصحاب العقول لا يرغبون في ترك بلدانهم ولا يطمحون بالهجرة ، ولكنهم اضطروا للرحيل بسبب مشكلات ومعوّقات صادفتهم لدى عملهم ، سواء مشكلات البحث العلمي وضيق فسحة الحرّية والتجاوز على حقوقهم الشخصية والعامة ، والتعامل البيروقراطي ، والنظام الاداري ، وحقوق التفرغ العلمي وغيرها.
إن علاقة الباحث بالسلطة هي علاقة ملتبسة في الغالب، خصوصاً ما يتعلق بحريته في البحث والتعبير واستقلاله ، فضلاً عن القيود المفروضة عليه وهاجس المراقبة ، لدرجة أنها أصبحت أكثر تعقيداً وارتياباً من جهة ، وعدائية من جهة أخرى . ومؤخراً استشكل الأمر مع جماعات التطرف ، فأصبح هناك شكل من العداء بينها وبين الجامعات ومراكز الابحاث والدراسات الاكاديمية والفكرية ، لعدم قبولها الرأي الآخر. وتجري في العراق حالياً محاولات لارغام الطالبات على إرتداء الحجاب ، وعزلهن عن الطلاب ، وقد جرت احتكاكات وأعمال عنف شملت حتى أبناء الاديان الأخرى، كالمسيحيات مثلاً اللواتي يتعرضن لضغوط مضاعفة.
وفي التسعينيات وحدها، سقط أكثر من 100 مثقف ومبدع بينهم أساتذة جامعات في الجزائر، لا لذنب سوى أن بعضهم لا يُقرّ للجماعات المتطرفة أعمالها الارهابية ، وإنْ كان لا يعارض حقها في الحرية ومعارضة السلطات الحاكمة ولكن بالوسائل السلمية، في حين طحنت أعمال العنف والارهاب بين الحكومة وجماعات التطرف ما يزيد على 100 ألف مواطن، وهؤلاء ضحايا فرض الرأي بالقوة وبعيداً عن صناديق الاقتراع أو الاحتكام إلى الرأي العام.
أما في العراق، فقد كانت الحصيلة مريعة بعد الاحتلال في العام 2003، حيث استهدف العلماء وأساتذة الجامعات وسقط منهم أكثر من 450 أكاديمياً، وشملت قائمة المستهدفين نحو ألفي مثقف من إعلاميين وكتاب وفنانين وأدباء وأطباء وقضاة ومحامين ومهندسين ومدرسين واقتصاديين وغيرهم، واضطرّ مئات الآلاف من السكان إلى النزوح ومثلهم للهجرة إلى بلدان اللجوء، ووصل عدد اللاجئين في فترة النظام السابق وما بعد الاحتلال إلى ما يزيد عن أربعة ملايين عراقي، وإذا كان بعضهم قد عاد بعد فتور الموجة الطائفية – المذهبية التي اشتعلت في العام 2006 و2007، لكن استمرار الإرهاب والعنف، يجعل الكثير من الكفاءات العراقية تستقر في الخارج.
وتحتكر السلطات أحياناً بعض المعلومات أو مصادرها، وتحجبها عن الباحث وتحظر عليه الوصول إليها تحت حجة " أمن البلد" ومتطلبات " الصراع الخارجي" و" العدو" الذي يدق على الأبواب، بل يقرع الطبول. وهو ما تضع عليه خطّاً أحمر، وتحاول بعضها أن تسخّر الباحث لأغراض الدعاية، بحيث يصبح داعية سياسياً فاقداً بذلك موضوعيته، الأساس في تكوين شخصية الباحث، وبالتالي بحثه. وقد كشفت أحداث الربيع العربي هشاشة العديد من الأنظمة التي كانت تبدو منيعة ومحصّنة، فضلاً عن حجم الاختراقات التي كانت فيها.
الباحث يتعامل مع الحقائق دون أن يروّج لآيديولوجية معينة، في حين أن الداعية السياسي يحاول نشر آرائه السياسية والترويج لها، بل تسويقها أحياناً وهو ما يتناقض مع مهمة الباحث الذي ينبغي عليه التمسك بالحيادية والموضوعية ونتائج البحث التي يتوصل اليها. إن ذلك لا يعني دعوة إلى الحيادية المطلقة للعلم ووظيفته ذات البعد الاجتماعي، فالعلم له علاقة وطيدة بالأخلاق، ولا يمكن فصلها وإلاّ تحوّل إلى النقيض باستخدام نتائج العلم والبحث ضد المجتمع والإنسان، ولأغراض عدوانية وشريرة.
الحرية باختصار، تعني الضرورة وهي صيرورة الوجود الإنساني، لا سيّما إذا اتّسمت بالوعي الذي هو انعكاس لدرجة تطور المجتمع، وحرّية المثقف، الهواء الذي يتنفس منه لتحقيق ذاته وإضفاء نوع من " الألسنة" على إبداعه ونتاجه العلمي أو الأدبي، .

• أكاديمي ومفكر عراقي له أكثر من 50 كتاباً ومؤلفاً منشوراً في قضايا الفكر والقانون والسياسة والثقافة. أستاذ فلسفة اللاّعنف في جامعة أونور (بيروت). والأصل في هذه المادة محاضرة ألقاها الباحث في لاهاي (هولندا) بدعوة من "البيت العراقي" و"رابطة بابل للأدباء والفنانين" و"جامعة ابن رشد"، وذلك على هامش حضوره مؤتمراً عالمياً عن العدالة الدولية نظمّه المشروع العالمي للعدالة (world justice project) في 8-12 تموز (يوليو)2013.

نشرت في مجلة حمورابي العدد 6، السنة الثانية، 2013.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد ...
- الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين ...
- -لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
- انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
- مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب ...
- فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو ...
- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - المثقف وأسئلة التغيير : الحرية، الوعي، والحقوق