|
حول اسلمة وتبييض التأريخ
حاتم الشبلي
الحوار المتمدن-العدد: 4269 - 2013 / 11 / 8 - 20:03
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
المنتخبات المتعلقة بدرس التاريخ في المرحلة الثانوية قد دونت بطريقة انتقائية تفتقد الي رؤية كلية شاملة تقترح مستقبل بلا تمييز او تهميش او تغييب، بالمقابل فانها تؤسس لحالة اكاديمية غير موضوعية، تنتفي صفتها العلمية بتجاوزها لمقتضيات التناول الشامل والمتوازن، بل تنحو بصورة واضحة لاستزراع وقائع واحداث تاريخية تخص ماضي مجموعات معينة وتقصي وقائع وذكريات واحداث هامة عبر التاريخ الوطني لمجموعات كثيرة متمايزة عن تلك الاولي لاسباب لا داعي لزكرها الان، مما يؤثر بشكل سلبي جدا في بناء ( ذاكرة ووجدان ) سوداني حقيقي للطالب المتلقي وبالتالي للفاعلين الاساسيين مستقبلاً في الحياة السياسية وادارة شئون الدولة. عمد واضعوا المقرر الدراسي الي تغييب مرحلة حضارية حاسمة في تاريخنا الوطني (الحضارة النوبية ) ما قبل المسيحية وبعدها فكيف يستوي الامر مثلاً ان يدرس طالب السنة الاولي في باب كامل(شبه الجزيرة العربية قبل الاسلام) في الوقت الذي يمر مرور الكرام علي تلك الفترة عبر عنوان جانبي(السودان القديم والوسيط)، يؤدي ذلك بكل تاكيد الي افقار الروح والذاكرة بشكل مقصود. ان تهميش مرحلة النوبة المسيحية(400 – 1550) التي شهدت فيها الحياة الوان من التطور الزراعي والتنظيم الاداري واشكال الفنون النحتية والزخرفية كما رشح من حقائق تاريخية حيث عثرت البعثة البولندية علي جدارية زخرفية في كاتدرائية فرس تعتبر من اهم النقوش والاثريات في القرون الوسطي وهي موجودة بالمتحف القومي، هل يهتم البولنديون بتراثنا الحضاري وتاريخنا اكثر من واضعي البحوث والمناهج الاكاديمية ؟! . ان العقلية التي اختارت تلك المنتخبات ارادت ان تؤسس لتاريخ سوداني ذو بعد واحد مع سبق الاصرار والترصد وكانما كانت تريد ان تمرر استيكة مركزية( بي قدرة قادر) علي احداث ووقائع وممالك وحضارات مثلت انسان هذه البلاد، وتنشئ عبر فذلكة غير دقيقة تاريخ يبدا بدخول الاسلام وينتهي بثورة الانقاذ 1989، مما يكلف الذاكرة والوجدان الوطني الكثير، فكيف يمكن مثلاً ان تقصي من الدراسة والاهتمام النوبة المسيحية التي استمرت زهاء الالف عام لصالح مرحلة لاحقة ( اسلامية ) لم تتجاوز ال 500 عام، فكتاب الصف الاول هو عبارة عن سيرة ذاتية للاسلام منذ الجاهلية مروراً بفترات حكم الصحابة وبني العباس وبني امية والدويلات الاسلامية في السودان وانتشار الاسلام في افريقيا مع تقديم نمازج للحركات والثورات الاسلامية لايخلو اختيارها من ذلك النفس الانتقائي، هذا الشكل يعبر عن عدم تقدير واضح للتنوع التاريخي لبلد متعدد الثقافات والاحقاب كالسودان. ينتقل الطالب في الصف الثاني لدراسة التاريخ الاوربي القديم والحديث وبتفصيل لا يجانبه الملل عبر بابين كاملين من جملة اربعة ابواب لكامل المقرربينما يتم التغاضي عن ذكر ممالك وكيانات سياسية لها وجودها ودورها البارز، حيث يمر المؤرخ دون ادني التفاتة للتضحيات والاحداث والوقائع التي جعلت من (الجنينة) حداً غربياً لما يسمي ببلد المليون ميل مربع، في تجاهل صريح لفرسان سلطنة المساليت وبالمثل يتم تغييب تاريخ مملكة تقلي بكافة مساهماتها الواضحة والجلية بالشكل الذي امتد حتي لاخفاء اثرها ودورها المباشر في الثورة المهدية مع ان مقرر الصفين الثاني والثالث يحتوي علي بابين بفصول متعددة تهمش هذا الاسناد الحاسم، اذ لولا تلك التضحيات والاحتواء المبكر لها لربما كان في تاريخنا عناوين اخري. يصبح من نافلة الاستنتاج ان نصل الي ان نجاري مقرر التاريخ قد دابوا لتلتيق وترتيق دولاب بمقاييس ورفوف محددة لتخزين مآربهم داخل عقل الطالب المتلقي. هذه المنهجية الانتقائية في قراءة وكتابة احداث التاريخ واستهلاله بدخول الاسلام واللغة العربية ستؤدي الي تنمية مسالك اكاديمية وسياسية مضادة تنشد افقاً وطنياً ارحب وتناضل لاجل تاريخ سوداني يسع الجميع، سيما ان العديد من الاقلام والكتابات الحديثة تكد وتكدح لاستجلاء الغبار والتزييف الذي تمارسه اقلام المركز علي تلك القطع الرائعة والجميلة من ماضينا القريب والبعيد. لا شك في ان التركيز علي كل ماهو اسلامي ثم استبعاد كل ماهو افريقي لاحقاً، يعبر عن عقلية احادية ضيقة لا تعترف بالاخر والذي هو مواطن له وجوده المؤثر تاريخياً وانياً، مما يوفر استعصاءات اكيدة في طريق بناء دولة الديمقراطية والعدالة والتقدم. اذ انه وبملاحظة اسلوب كتابة التاريخ نتبين اعتماد غربالين علي خطوتين ممتاليتين، الاول يسقط عبر فتحاته كل المراحل الوثنية – المسيحية وبالتالي يستبقي مراحل وحلقات تاريخية بمختلف درجات ضعفها دشنها دخول الاسلام واللغة العربية، لتاتي المرحلة الثانية التي تغربل فيها كل اثر افريقي ليبقي وجهاً يمالئ رغبة كتبة تاريخ المركز في شكل(اسلاموعروبي) لدولة السودان. هذه الحالة الاكاديمية المازومة سوف لن تصمد طويلاً امام انهار وجداول المعرفة الاصيلة والتحقيقات الاكاديمية العلمية التي سوف تسقي شجرة اليباس، وتحيي ذاكرة ووجدان انسان هذه الارض التي عشعش بداخلها عنكبوت ينسج بلعابه وعلي ما جاد به خياله خيام الصحراء، حينها ستنطوي صفحة من التلفيق والتدليس والاقصاء وتبدا صفحة الحقيقة.
#حاتم_الشبلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف تحوّلت تايوان إلى وجهة تستقطب عشاق تجارب المغامرات؟
-
فيديو مروع يظهر هجوم كلب شرس على آخر أمام مالكه في الشارع
-
لبنان.. عشرات القتلى بالغارات الإسرائيلية بينهم 20 قتيلا وسط
...
-
عاصفة ثلجية تعطل الحياة في بنسلفانيا.. مدارس مغلقة وحركة الم
...
-
مقتل مسلح وإصابة ثلاثة من الشرطة في هجوم قرب السفارة الإسرائ
...
-
اتفقت مع قاتل مأجور.. نائبة الرئيس الفلبيني تهدد علنا باغتيا
...
-
العثور على جثة الحاخام المفقود في الإمارات وتل أبيب تعتبر ال
...
-
سكوت ريتر: بايدن قادر على إشعال حرب نووية قبل تولي ترامب منص
...
-
شقيقة الملك تشارلز تحرج زوجته كاميلا وتمنعها من كسر البروتوك
...
-
خبير عسكري روسي: واشنطن أبلغت فرنسا وبريطانيا مباشرة بإطلاق
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|