|
الثقافة الفلسطينية -أنا- منغلقة على ذاتها، وفضاءا مفتوحا على الهزيمة
سليم النجار
الحوار المتمدن-العدد: 1217 - 2005 / 6 / 3 - 13:11
المحور:
القضية الفلسطينية
الثقافة الفلسطينية "أنا" منغلقة على ذاتها، وفضاءا مفتوحا على الهزيمة
بدا من الواضح ان نمط التفكير العربي الفلسطيني السائد بعد إنحسار الموجة العروبية، إثر سقوط فلسطين عام 1948 منغلقا على ذاته، وشيوع النزعة "الأنا الفلسطينية" على الرغم من انتشار الأحزاب القومية والماركسية والنزاعات الدينية بين صفوفه، إلا ان هذا الانتشار كان انتشارا ظاهريا قائما على ردة فعل آنية لسقوط وضياع وطنه، وتشريده في بداية الأمر في البلدان المحيطة في فلسطين، كالاردن، وسوريا ولبنان. وقبل هذا وذاك، كانت الموجات التعليمية الأولى خرجت من فلسطين عام 1936 الى دول الخليج العربي وتحديدا الكويت، وقد شكلت البعثات التعليمية الفلسطينية فتحا جديدا، لنمو تلك الإمارة أنذاك. ونجم عن هاتين الهجرتين نزعتين سلبيتين تتعارضان مع أي مجهود جدي للاستفادة من علم السياسة والتاريخ وحتى الاجتماع لوضع مكتسبات هذه العلوم في خدمة عملية التأمل في منطق تطور الصراع العربي الفلسطيني مع الحركة الصهيونية. كانت النزعة تتميز في نمو الاعتقاد بأن التحول الاجتماعي العربي المحيط في الدول المحيطة بفلسطين، كان على حساب الفلسطينيين فشاعت أمثال تدلل على هذا النمو ولعل المثل الشعبي الفلسطيني الدارج أنذاك "ربك يقتل جمل مشان يعيش واوي" أي اعتبروا فلسطين الجمل، والمجتمعات العربية المحيطة بفلسطين "واوي"، هذا المثل لم يكن مجردا من الافكار، بل كان يخفي وراءه قوة ممنهجة تسعى لتعزيز "الأنا" الفلسطينية بصرف النظر عن الواقع التاريخي والمحلي لطبيعة التحولات الاجتماعية العربية في المحيط الفلسطيني، وساعد على هذا الاطراد "الأنوي" الفلسطيني تشكل الدولة القطرية العربية التي أبدعت بتصوير فتات مفاهيم الدولة التي حصرتها بجواز سفر وعلم وطني وكذلك نشيد وطني، على اعتبار هذه المكونات للدولة، بأنه انجاز تاريخي لتلك الدول حديثة النشئة، قابلت "الأنا" الفلسطينية ردود فعل خطيرة، تجاوزت في كثير من الحالات خطوط حمراء، وخلطت عن عدم وعي بين الشعوب العربية المحيطة بفلسطين وبدولها الناشئة، خلطا تعسفيا واعتبرت كل عربي معادي ومتآمر على القضية الفلسطينية بغض النظر عن كل ما كان يردد عن الاخوة العربية والوحدة العربية والقضية المركزية، كلها كانت نصوص سياسية تطلق للعلف، لكن هنالك نص آخر ومسكوت عنه كان يمارس في الخيام والأزقة والحارات الفلسطينية التي توزعت على الجغرافيا العربية نقيض النص الاول، ونتج عن النص النص الثاني ثقافة منغلقة على ذاتها تدور في دوائر ثقافية ثلاث: أولها: ثقافة التعالي والتمايز على الآخرين، بدون مصوغات علمية أو إرث حضاري متميز عن المحيط العربي! ثانيا: اعتبار فلسطين قطعة جغرافية منفصلة عن الجغرافيا العربية واعطائها صفة القداسة، وتغيب كل الظروف الموضوعية التي أدت لضياع هذه البقعة الجغرافية المقدسة، ولعل هذه الدائرة من أخطر الدوائر، التي تمحورت في الوعي الثقافي الفلسطيني، لأنها سلفا انجازات لمفهوم صهيوني، قديم قدامة الجغرافيا، وأصبح النزاع نزاع أ قدميات، وكل طرف وظف التاريخ على أرضيات الأقدميات، وهذا مخالف للمنطق التاريخي الاجتماعي، الذي يعرف الصراع على الجغرافيا على أنه صراع مصالح، تأخذ القدامة عناوين مضللة لتبرير الصراع. ثالثا: شيوع الفكر التقليدي المحافظ في أوساط الشعب الفلسطيني الذي حجب الادراك عن الواقع الجديد واقع العالم الذي بدأ يتبلور بصورة مختلفة بعد الحرب العالمية الثانية وأصبح هذا العالم ينطلق من المصالح الى الثقافة والعكس غير صحيح. النزعة الثانية هي التوحيد بين ضياع فلسطين والأنا الفلسطينية التي وصلت درجة العقيدة هذا التوحيد أصبح يعيش في الأوهام الوطنية ومن هذا المنطلق يصبح من الأفضل الدفاع عن الأنا الفلسطينية والمحافظة عليها وزجها في مغامرات سياسية وتجارب نضالية، رأينا الى أين أوصلت الجميع ولن نخجل إذا قلنا هذه "الأنا" أوصلتنا الى كوارث وطنية كما لم يكن صعود الأنا الفلسطينية نتاج ظرف موضوعي أو تراكم طبيعي بل كان ناتجا عن مزايدات وطنية متناحرة بين الأطراف المحلية الفلسطينية التي دولت الصراع مبكرا، وليس كما يشاع ان هذا التدويل جاء عن وعي سياسي بل على العكس تماما جاء استجابة لشروط الاستعمار البريطاني الذي أدرك مبكرا العقلية السياسية الفلسطينية المحافظة التي تعتاش على المزايدات والمناكفات فيما بينها وليس من باب المصادفة ان يتم اختيار الكويت، تلك الإمارة الناشئة ان يتم ابتعاث معلمين فلسطينيين، فالكويت كانت حتى تلك اللحظات غير معروفة سياسيا على الصعيد المحلي أو العربي أو الدولي لكن بريطانيا كانت تعرف قيمة الكويت جيدا، نتيجة بحور النفط الراكدة تحت أراضيها فكان يجب ان يكون هناك "أنا" متعالية لتغرس في نفوس الطلبة الكويتية "أنا "جديدة تواجه "الأنا" العراقية التي تعتبر الكويت جزءا اصيلا منها. صراع "الأنوات" هذا لم يكن صراعا عبثيا كما يتوهم البعض بل كان مخططا بشكل واعي من قبل الاستعمار البريطاني انذاك. وليس من باب المصادفة وأكررها للمرة الثانية ان يتم تفريغ شرائح متعلمة فلسطينية إبان صعود ثورة 1936 وتهجيرها الى بؤر صراع جديدة متجددة في الوقت الذي كان قوافل الصهاينة من خبراء ومتعلمين وفنيين يغزون ارض فلسطين ويتسللون للمستوطنات. هذه المفارقة جعلت من غياب الوعي سمة رئيسة "للأنا" الفلسطينية التي عاشت وما زالت تعيش على أوهام أنتجتها الهزيمة البشعة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني تعكس هذه الأنا الهشاشة الفكرية لمكوناتها والى عدم قدرتها خلق شروط موضوعية لإنتاج نخب ثقافية فلسطينية، بل كل الذي فعلته أنتجت ما يمكن تسميته "بمثقفين" اتسموا بسمات أربع: أولها: مثقف ملتزم بظرف الهزيمة وتعاطى مع النظام الرسمي العربي من خلال العمل في أجهزة هذا النظام، على مختلف الصعد اعلاميا وسياسيا وكان تبرير المثقف لقمة الخبز هي التي تحكم! ثانيهما: مثقف رافض لكل ما هو قائم وانخراطه في صفوف الاحزاب العربية على مختلف مشاربها العقائدية، وأصبحت فلسطين رؤية من رؤى الأيديولوجيا المتبناه من قبله. ثالثهما: مثقف ثرثار لا يملك من أمره سوى الثرثرة والاحتجاج على كل ما هو قائم وهذا النمط من المثقفين لعبوا غير قليل في تعزيز الأنا الفلسطينية. رابعهما: مثقف مغترب اغتراب كامل عن قضية الوطنية والتي اعتبرتها قدرا محتوما عليه التعاطي مع هذا القدر بعقلية الإلغاء والانخراط بشكل محموم ومعرف في المجتمعات العربية ليصبح مرآة للنظام العربي الرسمي متبرءا من فلسطينيته وكأنها تهمة! وبعكس ما يوحي به "المثقفون" الفلسطينيون كان المطلوب الحفاظ على الذات من أجل ديمومة الصراع مع الحركة الصهيونية الذي حصل عكس ذلك تماما، كان التوجه لديهم من أجل الحفاظ على الأنا الفلسطينية التي أصبحت تمارس لعبة وتتقن في الوقت ذاته عمليات التواطؤ بينها وبين المثقف الفلسطيني. وتم تداول عمليات التواطؤ بطرق مدهشة ولافته والقليل الذي تنبأ لخطورة ما يجري، لكن بقيت هذه التنبؤات قليلة وشبه نادرة وللكشف عن عمليات التواطؤ، علينا التذكير أن"الأنا" الفلسطينية أغلقت عن قصد دورها هي الأخرى في ضياع فلسطين وإنحيازها شبه المطلق للفكر التقليدي المحافظ، وعلى الرغم من ظهور بوادر لفكر تنويري مبكرا في أوساط الشعب الفلسطيني آبان الانتداب، إلا أن هذا الفكر حورب بطريقة لافتة، وتحت يافطة لا يمكن وضعها إلا بالجهل، والتحريض لكل ما هو عقلي وتنويري. وقد لقيت القيادات الهزيلة الفلسطينية التقليدية دولا لا يستهان فيه وفي هذا المجال على وجه الخصوص. فقد حاربت هذه القيادات على سبيل المثال المثال الفكر الماركسي، على اعتبار ان هذا الفكر يحمل في طياته فكرا إلحاديا، وقد تحالفت هذه القيادات مع الاستعمار البريطاني في محاربته، وروجت تلك القيادات ما كانت نتيجة الآلة الاعلامية البريطانية آنذاك، ان الشيوعي الفلسطيني "لا يحرم ولا يحلل" ويتزوج من محارمه والمقصود بالمحارم هنا حسب العقيدة الاسلامية "الأخوات والعمات والخلات الخ.." وليس هذا المثل الوحيد على محاربة التنوير، بل كان هناك توجه لدى الفلاح الفلسطيني في الاعتزاز بأرضه، وكان يعتبر من يترك أرضه والذهاب للعمل داخل المدن وتحديدا مدينة "حيفا" عروس الشرق أنذاك عملا معيبا ومشينا، القيادات التقليدية لم تعاطي مع هذا الموضوع بشكل ايجابي، لتطوره وتجعل منه اللبنة الأولى في الصراع مع الاستعمار البريطاني، ومن خلفها الحركة الصهيونية، لكن الذي حصل أن هذه القيادات كانت تتعامل مع الفلاح الفلسطيني كقوة ديمغرافية ومخزونا بشريا لمعاركها فليس من المصادفة ان تكون معظم الثورات الفلسطينية قادمة من الريف الفلسطيني. لذا كان نصيب الأسد للفلاح الفلسطيني الذي تحول الى لاجئا قاطن في خيمة في ضياع فلسطين، وبالتالي لم تحدده جغرافيا الهزيمة، بل أسرته هذه الجغرافيا والتي حولته الى كائن منغلق على ذاته، يحمل في أعماقه صفات التميز، تعويضا عن هزيمته. هذا التقابل بين الهزيمة والخصوصية جعلت من المشهد الثقافي الفلسطيني متوترا بإفراط ويحمل من الأجوبة أكثر من الأسئلة لا بل يمكن القول ان الثقافة الفلسطينية قائمة على الأجوبة، في ظل غياب ثقافة السؤال، واستفادت الحركة السياسية الفلسطينية من هذه المناخات الثقافية الفلسطينية السلبية، واستطاعت النفاذ لجوهر الثقافة الفلسطينية وترسيخ مفهوم "الأنا" لكن أي "أنا" هذا ما يحتاج ليس لمقال او مقالات، بل لدراسات معمقة، لإستشفاف مكامن الهزيمة الحقيقية لا الوهمية او المتخيلة، مع التركيز على فصل حلقات الهزيمة ودراستها كل على حدى.
#سليم_النجار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الماركسية في فلسطين فراغ سياسي، وطور زمني يحذر من التجدد
-
الجزء الثاني من القراءة للدولة الفلسطينية
-
الدولة الفلسطينية فلسفة يومية.. ضد الراهن المنهار.. ومقاومة
...
-
-الحركة العمالية العربية- بين طاعون الفقر وكوليرا القوانين ا
...
-
معضلة الأمن في الفكر السياسي الفلسطيني
-
عرضية أيدولوجية أزمة العقل العربي السياسي
-
سوريا في مفترق طرق استراتيجي ـ لبنانيا
-
الحركات الاسلامية الفلسطينية بين تقديس النص واختراق الآخر له
...
-
ابو مازن سكة الوعي المتأخر
-
جندرما فتح.. اليمين الفلسطيني سلطنة على زعامة فلسطين
-
السياسة الفلسطينية في عالم متغير فشل اليسار الفلسطيني في انت
...
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|