عزيز الخزرجي
الحوار المتمدن-العدد: 4262 - 2013 / 11 / 1 - 21:34
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
فنُّ آلكتابَةُ و آلخطابَةُ – ألقسمُ ألرّابع(7)
خامساً: مناهج ألتّـأريخ؛ هل مُشكلتنا في آلمنهج أمّ ألمؤرّخ؟
ألـتأريخ .. خصوصاً ألأسلاميّ و بسبب ألمناهج ألخاطئة يُعاني ما عانَتْهُ آلعلوم ألأنسانيّة ألأخرى كآلأجتماع و آلأنتربولوجيا و آلسّايكلوجيا من مناهجَ تُعيق مسالكهُ نحو معرفة ألحقيقة و آلعلّةُ آلغائيّة لحركة آلأنسان و آلوجود, و آلمؤرّخ نفسهُ أُصيبَ بهذا آلقلق فهو يُعاني ألأمرّين من حيث رؤآهُ و تأمّلاتهُ في ماضي آلشّعوب و آلأمم!
و آلتّأريخ يتقدّمُ على غيره من آلعلوم لكونهِ يضمُّ كلّ شيئ, فهو يدخلُ في دائرة ألمعرفة كلّها, فعندما نُقرّر موضوعاً؛ لا نُقرّرهُ في آلمجال ألسّياسيّ فحسب, أو في آلبُعد ألأقتصاديّ, بلْ يُفْترضُ تقريرهُ آخذين بنظر آلأعتبار علاقة و أثر آلميادين ألأخرى؛ ألعلميّة؛ ألأجتماعيّة؛ ألأنسانيّة, ذات آلعلاقة بآلماضي ألقريب و آلبعيد .. لأنّ ألمعرفة آلتأريخيّة بحسب رأي العلماء شاملةٌ و إنسانيّةٌ بآلدّرجةِ ألأولى.
إنّ آلتّأريخ ألأسلاميّ عاشَ و ما يزال نوعاً من آلأرتباك و آلتّشويه و حتّى آلتّبدّل إلى حدٍّ كبيرٍ, هُناكَ علاقةٌ وثيقةٌ بآلتراث .. مع مُحاولاتٍ لتقيّم ألتّأريخ ألعربيّ و آلأسلاميّ, مع محاولاتٍ مُتواضعةٍ لأعادةِ كتابةِ جوانبِ من هذا آلـتأريخ, و آلّذي ينقصُ هذا آلمسعى هو آلعملُ آلجّماعيّ ألمنهجيّ ألعلميّ, فآلعملُ آلفرديّ عادّةً مّا لا يُحقّق ألمطلوب خصوصاً في هذا آلعصر ألّذي توحّدتْ فيه آلعلوم و تشابكتْ معطياتها و كأنّ آلعلوم كلّها علمٌ واحد, كما أنّ آلأعمال ألفرديّة تُؤدي إلى تعميق آلمحن و آلخلافات خصوصاً إذا كان آلباحث أحاديّ آلفكر و آلعقيدة و كما حدث إلى آلآن!
ألتأريخُ و بسبب تشابك أحداثه و طولهِ و عرضهِ لم يَعُد يستوعبهُ منهجٌ محدّد أو برنامجٌ واحد, لفرضهِ على آلقارئ أو آلدّارس, هُناك مناهجٌ عربيةٌ و إسلاميّةٌ أصيلةٌ كمنهج "إبن خلدون"(1) من آلقدماء و منهج "تويني"(2) و (وول ديورانت)(3) من آلمُحدّثين من حيث تقييم ألتّأريخ و نقده .. ضمن إطارِ ألمعرفةِ ألشّاملة.
ألتّأريخ يجب أن يخضع إلى آلنّقد ألذّاتي و آلتّمحيص من كلّ ألوجوه و آلأطراف و هذا ما ينقصُنا, فتأريخنا يَكادُ على آلأغلب ينحصرُ من بدايتهِ حتّى نهايتهِ في دائرة آلفخر و آلتّمجيد معَ آلكثير من آلتّعصب و آلغلّو و آلأهتمام بآلبطولات و آلأعتقاد بآلخرافات, حتّى المُصطنعة منها كقضيّة آلخلافة من بعد آلرّسول و بواعث شهادةِ ألأمام آلحُسين(ع), بعيداً عن ألنّقد و آلتّحليل و آلتّحقيق ألعلميّ, و عدم دراسة آلأخطاء و آلحيثيات و آلتقريرات ألمختلفة و جذور آلأحداث آلكبيرة و آلمنعطفات آلمصيريّة و آلأسباب ألحقيقيّة ألكامنة وراءها, بلْ إنّ آلبعض يَعتبر آلحديث عن آلأخطاءِ؛ خطأً و جريمةً و خلافاً لشرع آلله تعالى, و قدْ يُكَفّرْ مَنْ يَنْتَقِد موقفاً مُعيّناً و ربّما يُقتل بسببه!
تلك هي مصادر و منابع آلأشكال و أصلِ ألأنحراف في كتابة ألتّأريخ .. و إذا لم نَنْتَقِدُ ذاتنا – لا آلتّأريخيّ فحسبْ – بلْ في كلّ شيئ .. حتّى في تصرّفاتنا آلخاصّة و آلعامّة؛ لا يُمكننا أنْ نَصلح أو نُصَلّح شيئاً .. يجبْ أنْ نتحلّى بآلشّجاعة و آلعدالة لنُحدّد عيوبنا في إطار نقدٍ ذاتيّ واعٍ لجميع ألأبعاد و آلخفايا, و هذا ليس عيباً, لأنّ لنا ماضياً – كما لكلّ شيئ - لا جِدالَ فيهِ .. فيهِ آلخيّرَ و آلأنوارَ .. كما فيه آلشّر و آلظلامَ, و لا عيبَ للأعتراف بها بعد تحليل أسبابها, حتّى لو جاء آلنّقد من أعدائنا و خصومنا, بل مُقارنَةِ آلأحداث و آلعقائد مع آلرأيّ آلآخر و موازنتها مع آلنّقيض من شأنها آلتثبّت أكثر و آلأطمئنان لها بشكلٍ واعٍ و بآلتالي تجنّب تكرارِ ألسُّنن ألخاطئة و نبذ مواطن ألخطأ و آلأنحراف و بآلتالي ألأنطلاق نحو آلحياة و آلبناء ألصّحيح مستقبلاً و على أرضٍ قويّة لا تقبل آلأهتزار و آلتّبدل و آلفساد.
و نحنُ – أكثر ألمُسلمين – إذ نَعْتَبر (إبن خلدون) كمسلمٍ مؤرّخٍ فأنّنا نعيبُ عليهِ قصورهُ في كتابَة منعطفات كبيرة و هامة في آلـتّأريخ؛ بكونهِ مَدحَ آلسّلاطين و برّر جرائمهم و أهملُ رأيّ ألمُعارضة بآلمقابل, بلْ و إتهمها بآلخروج عن طاعة ألسّلطان حتّى لو كان جائراً, يعني أنّهُ رضي بآلظلم و آلأنحراف و إصطف معهُ, و ليس هذا فقط بلْ كان يُحاول أنْ يختلقَ آلأعذار لكلّ من أخطأ من قادةِ ألمُسلمين و آلتّعصب ألأعمى لهم بعيداً عن آلمنهجيّة و آلعدالة في آلتّعامل مع آلأحداث و آلحقائق حتّى تلك آلمخضبة بآلدّم!
فمثلاً حاول أنْ يُعذّرَ مواقفَ مُعاوية بن أبي سفيان عندما خرج عن طاعة ألخليفة آلشّرعيّ ألأمام عليّ(ع) و كذلكَ تبريره لنقض ألعهود ألتي أبرمها معاوية مع آلأمام آلحسن بن عليّ(ع) ألخليفة آلشّرعي من بعد آلأمام عليّ(ع), و كذلك تأييدهُ ترشيح معاوية لإبنهِ يزيد خلفاً له, و هو يعرف – أيّ إبن خلدون - أخطائهُ و سلوكهُ و جرائمهُ بحقّ آل ألرّسول(ص) و عامّة آلمسلمين, و غيرها كثير, بلْ آلأنكى .. و لنظرتهِ آلذّاتيّة ألضّيقة أنّهُ يعتذر ليزيد في تصرفاتهِ و جرائمه بحقّ آل بيت آلرّسول(ص) و قتل آلأمام ألحسين(ع) ألّذي أوصى أمّة آلأسلام بإتباعه مهما كانتْ آلظروف, و يترك آلأمر لله تعالى!
لقد وصل آلأمر بهِ لئن ينتقدهُ "هاملتون جيب" بقولهِ:
[إنّ إبن خلدون كانَ همّهُ تبرير ألخلافة, مَثَلهُ مَثَلَ مَنْ سبقهُ من آلفقهاء, كآلماوردي و آلباقلاني و آلغزالي]!
و لكن رغم هذا فأنّنا في آلجّانب آلآخر بحاجةٍ إلى أفكارِ إبن خلدون, كدعوتهِ إلى إصلاحِ آلّلغة ألعربيّة, فآلعربيّة لم تَكُنْ على ما هي عليه في عصرهِ .. و هي لغة قريش و حِمْير, كانتا واحدةً فأنفصلا, فقامتْ ألحِمْيريّة بشكلياتها و آلياتها و ميكانيزماتها و إمتداداتهما فيما بعد في أصول آلمدْرَستين ألكوفيّة و آلبصريّة!
مآلّذي يمنعنا من إجراء ذلك آلمسح ألمعرفيّ ألشّأمل؟
فآلعلماء ألحقيقيّون و آلمفكرّون آلمخلصون, حينما يُريدون أنْ يُقيّمُوا آلأشياء و آلمواقف, فأنّهُم لا يُقيّمونها في ذاتيّتهم, و في مُحيطهم آلخاص و في معرفتهم ألمحدودة و لا يلتفتون إلى جانب واحد من آلواقع و إلى آلخارج, فأبن خلدون و أمثالهِ جاءَ نتاجهم من خلال نظريّتهم ألّتي قامتْ على ما يدور في مُحيطهم ألخاص و مُحيطهم ألفكريّ و آلدّيني و آلقوميّ و آلمذهبيّ, و هذا أمرٌ مرٌّ وقع و يقعُ للأسف في كلّ عصرٍ و مصر حتى في هذا آلزّمن!
هذا مع آلعلم – و كما أشرنا – بأنّ إبن خلدون ناقض نفسه بوضوح في جوانب عديدة من تقريراته, فحين يصل آلأمر لمسألة خط آلسّلطان ألحاكم يبدو لهُ و كأنّه خطٌّ أحمر, لكونهُ من آلمقربيّن للبلاط فأنّهُ يتحيّز بلا حياءٍ لجانب آلسّلطان حين يصل ألأمر لقضيّة آلخلافة ألأسلاميّة, و آلحقوق آلمسلوبة من أهل ألحقّ و آلأمة!
إذن لا بُدَّ من منهجٍ جديدٍ و واعي و شامل لقراءةِ ألـتّأريخ, فكلّ ما وصلنا و ما لدينا آلآن, و ما يقع من حوادث مؤسفة معاصرة؛ ماهي إلّا نتاجُ ذلك آلتاريخ ألّذي كتبهُ آلمُتعصبون, و أكثره للأسف سلبيٌّ لا جدال فيه!
فما هو آلمنهج ألجديد للتأريخ ألذي علينا إتّباعهُ؟
ألجّواب في آلحلقة ألقادمة .. ليكونَ آلكاتب مقتدراً و آلخطيب هادفاً و هو يستند في سعيه على آلأسس ألمعرفيّة ألمُتكاملة حينما يُريد أنْ يكتُبَ أو ينقلَ شيئاً لهُ وزنهُ آلعلميّ ألحقيقيّ من أجل سعادة آلأنسان لا شقائه و إبتلائه كما حدثَ ذلك للأسف لعمومِ ألمسلمين بسبب مناهج مَنْ سبقنا, و لا حول و لا قوّة إلاّ بآلله ألعليّ آلعظيم.
عزيز الخزرجي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) "إبن خلدون" نفتخر به كمؤرّخ لكنهُ قصّر كثيراً في تأريخ ألحضارة ألأسلاميّة حين ركّز على مدح آلسلاطين و دافع عنهم و أهمل موقف و رأي ألمعارضة ألّتي كانتْ تُؤشر إلى مواطن آلخلل و آلظلم .. حالهم حال ألمعارضة في عصرنا هذا و في أكثر آلبلدان خصوصاً ألعربيّة!
(2) "تويني"؛ يُؤمنُ بأنّ آلحضارة ألأسلاميّة من آلحضارات ألتي لا تموت, لأنّها قائمة على آلعلم, و تتجدّد دائماً.
(3) "وول ديورانت"؛ يَفتحر في أكثر من مكانٍ في موسوعتهِ ألعالميّة بأنّ آلأسلام ربّى آلمئات من آلعلماء و آلمخترعين و في جميع ألمجالاتُ ألعلميّة و آلبشريّة.
#عزيز_الخزرجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟