أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رافع الصفار - انتفاضة (نسخة منقحة)















المزيد.....

انتفاضة (نسخة منقحة)


رافع الصفار

الحوار المتمدن-العدد: 4261 - 2013 / 10 / 31 - 12:19
المحور: الادب والفن
    


كان ذلك في أحد أيام آذار الدافئة. خرجتُ إلى باب المشهد أبحث عن بطاريات لجهاز الراديو الصغير، وسيلة اإتصالنا الوحيدة بالعالم الخارجي، وخافض حرارة لإبنتي التي ظلت تتلظى في لهيب الحمى طوال ساعات الليل الطويل. أفرغت جيوبي من أجل الإثنين وبضعة برتقالات ذابلة شددت زوجتي عليها كي تصنع منها عصيرا للطفلة المريضة.
ليلة أمس لم أنم أيضا، في الواقع لم أعد أنام ليلا منذ بدأت حرب الطائرات اللعينة، فأنتظرها حتى تأتي عند الفجر وتنهي قصفها الذي قد يكون بعيدا فأصغي لأصوات الإنفجارات المتتالية محاولا تحديد بعدها وموقعها، وقد يكون قريبا فتتعلق أنفاسي بهزات البيت وجدرانه والشبابيك والزجاج، فتتشنج عضلات رقبتي، وأغمض عيني في إنتظار أن تسقط القذيفة التالية فوق سقف المنزل، حتى يطبق السكون على الأشياء ثانية، فأرتخي وأنا أزفر فزعي تدريجيا لأدخل في اللحظات التالية في إغفاءة قلقة متقطعة.
صرت لا أنام في الليل حتى بعد أن توقف القصف وأعلنت الهدنة وإنتهت الحرب. ما عدت أعرف طريقي إلى عتمة الهدوء، إلا بعد أن تنقضي ساعات الليل الطويل ويأتي الفجر فأغفو قليلا لأصحو بعدها مفزوعا على صوت ما في الخارج.
حالما تحل الظلمة أشعل الشموع وأقوم بتوزيعها في أرجاء البيت، واحدة في الحمام وأخرى في المطبخ وثالثة في الكيليدور، ثم أضيء الفانوس وأضعه على طاولة في ركن من غرفة الجلوس، حيث أباشر بعدها بإعداد الخبز للعشاء. أضع طاسة البناء المعدنية، والتي إشتريتها لهذا الغرض، بالمقلوب على صوبة علاء الدين وأتركها حتى تسخن تماما. وتجلب إبنتي ذات السنوات الست العجين من المطبخ والمعد سلفا من طحين بطاقة التموين الذي يحتوي على كل ما يخطر في البال من الغرائب والعجائب إلا الطحين كما يقول البعض متهكما. وأقرفص على ركبتي قبالة الصوبة وتجلس إبنتي قبالتي تراقبني بإعجاب، وأبدأ بفتح قطع العجين، التي أمسك بها بين أصابعي، على هيئة أقراص دائما ما تأتي مشوهة الأطراف، رغم الجهد الذي أبذله والبراعة التي أبديها كي تكون دائرية دون جدوى.
ليلة أمس سكت الراديو فجأة فإنقطع تواصلي بالعالم، ولم أسمع شيئا من أخبار الدنيا. جربت أن أعيد الحياة إلى البطاريات المنهكة المبعَّجة بكل الوسائل والأساليب البدائية الممكنة والمبتكرة حديثا وقديما لكن جهاز الراديو رفض الكلام والتزم الصمت بإصرار وعناد غريبين. لم يبق أمامي من بدائل في إستهلاك ساعات الليل سوى القراءة والإسترسال في مسلسل الأحلام.
لكني وأثناء إعدادي للخبز إنتبهت إلى أن طفلتي لم تكن على ما يرام. كانت محمرة الوجه نزقة وتتأوه. سألتها ماذا بها، فأجابتني وهي تسعل:
- راسي يوجعني.
وعندما وضعت كفي على جبينها وجدتها تغلي كالفرن. صرخت بالأم وقد طار صوابي:
_ هل لدينا خافض حرارة؟
خرجتْ من المطبخ، وعند بابه أجابتني قائلة:
- طلبت منك أكثر من مرة أن تشتري خافض حرارة، لكنك لم تكن تأبه.
لم أرد عليها، لأنني أعرف مسبقا ماذا ستكون النتيجة، كما أن الوضع لم يكن يحتمل أية مشاحنات أو مصادمات. فكلانا متعب تماما، بعد ما يقرب من شهرين من الحصار داخل بوتقة الفزع والرعب والجنون، فالتفت إلى طفلتي كي أتدبر أمرها. وبدلا من التواصل مع صفحات (العامل البشري)*، فتحت صفحة الألم في جسد إبنتي كي أمتص وجعها عبر كمادات الماء البارد. ولم التفت لأحد غيرها. بقيت مكرَّسا لها عقلا وقلبا وجسداً طوال ساعات الليل حتى إنبلاج الفجر. تسربت مني قواي وهدني الإعياء وأنا أواصل دون كلل تغيير الكمادات، فوضعت رأسي إلى جانب رأسها المتوجع على المخدة الصغيرة وإستسلمت صاغرا مقهورا للنوم.
حالما وضعت البرتقالات الذابلة والبطاريات وخافض الحرارة في كيس واحد تهيأت للعودة سريعا إلى البيت من أجل أن تأخذ إبنتي الدواء، والتي تركتها معصوبة الرأس تنظر حولها بعينين كسيرتين، لعلها تستعيد سريعا شيئا من توقدها وحيويتها.
كنت واقفا تحت جدارية القائد التي تتصدر مدخل حديقة الجبل أتلفت حولي أبحث عن وسيلة نقل يمكن أن تأخذني إلى البيت عندما توقف زيل عسكري قريبا مني وهبط منه جندي. تحرك الزيل مبتعدا، وظل الجندي في موضعه يتلفت حوله. ملابسه العسكرية بقايا أسمال ممزقة. حاسر الرأس، منفوش الشعر، طويل اللحية، وجهه مسود ومبقع. وكان حافيا، وقدماه متورمتان. وعندما تقدم خطوتين على الرصيف نحوي، مشى على جانبي القدمين كالأفحج.
كنا متقابلين، وخلفي ينتصب قائدنا المنصور بكل جبروته ملوحا للجمع الذي راح يتحلق حولنا. كنت أنظر إليه مذهولا، والفجيعة تتكور لتمسك بقلبي وتعتصره. ولم يكن ينظر إلى شيء محدد. كان ضائعا. دنا منه أحد الشباب يريد أن يسنده، فدفعه بذراعه، ثم صاح بصوت أشبه بالحشرجة:
- لم أسقط بعد كي تسندني. ألا ترى بأنني ما أزال واقفا.
صرخت امرأة تتلفع بالسواد، وكان صراخها بكاء:
- لن تسقط، لا والله لن تسقط. إبن الملحة لن يسقط.
رفع الجندي رأسه فالتقت عيناه الكليلتين بوجه قائده المنصور. عندها تشنجت قسمات وجهه وصرخ منتفضا وهو ينبش الهواء بذراعيه:
- أسقطوه، أسقطوه. لا تدعوه هناك. أسقطوا المجرم. أسقطوا المجرم.
سرت همهمات مكتومة بين الرؤوس التي اكتظت حولنا، وما عدت أرى سوى وجوها تغلي وتزفر غضبا. عاد الجندي ليصرخ ثانية وهو يقذف ذراعه بوجه قائده:
- أسقطوه. لا تتركوه واقفا، أسقطوه قبل يأتي عليكم جميعا.
عندها صاح أحدهم بصوت مرتعش متوجس كأنه يزيح جبلا عن صدره:
- يسقط.....
وجاء الصدى أصواتا راحت تخرج من الأفواه خائفة خافتة.
- يسقط، يسقط، يسقط...
أخذ الصوت يتناغم ويعلو. وأطلقت المرأة المتلفعة بالسواد زغرودة، فتعالى الصراخ.
- يسقط المجرم، يسقط الطاغية.
عندها إنطلقت الزغاريد من كل مكان كأنها أسراب حمام تخفق فوق رؤوس الرجال، وارتفعت الأذرع تضرب في الهواء، وتحول الحشد إلى بحر يموج.
- يسقط المجرم، يسقط الطاغية...
وظهرت في الأفق بيارق حمراء وسوداء وخضراء تخفق في الفضاء.
- الله اكبر، الله أكبر، الموت للطاغية...
وانطلق الرصاص يلعلع في الهواء...و...ليرسم ثقوبا سوداء في وجه القائد المنصور. صرتُ جزءا من البحر المتلاطم كأني موجة فيه تعلو وتهبط مع الآخرين، فإندفعت أطلق صوتي ورأسي وذراعيَّ وكيس الدواء عاليا في الفضاء....

أبو ظبي 22 / 03 / 2006



#رافع_الصفار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رشوة (نسخة منقحة)
- شقاوات محلة المهدية
- الذين عصبوا عيني (نسخة منقحة)
- صفحات من -جامع كوابيس الأحلام (رواية قيد الانجاز)
- رشوة
- إنتفاضة
- العراق بعيون أجاثا كريستي - 3
- العراق بعيون اجاثا كريستي - 2
- العراق بعيون أجاثا كريستي - 1
- عندما تصطادني الكلمات - 6
- عندما تصطادني الكلمات - 5
- عندما تصطادني الكلمات - 4
- عندما تصطادني الكلمات - 3
- عندما تصطادني الكلمات - 2
- عندما تصطادني الكلمات
- حالة تمرد


المزيد.....




- حكاية الشتاء.. خريف عمر الروائي بول أوستر
- فنان عراقي هاجر وطنه المسرح وجد وطنه في مسرح ستوكهولم
- بالسينمات.. فيلم ولاد رزق 3 القاضية بطولة أحمد رزق وآسر ياسي ...
- فعالية أيام الثقافة الإماراتية تقام في العاصمة الروسية موسكو
- الدورة الـ19 من مهرجان موازين.. نجوم الغناء يتألقون بالمغرب ...
- ألف مبروك: خطوات الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2024 في ...
- توقيع ديوان - رفيق الروح - للشاعرة أفنان جولاني في القدس
- من -سقط الزند- إلى -اللزوميات-.. أبو العلاء المعري فيلسوف ال ...
- “احــداث قوية” مسلسل صلاح الدين الجزء الثاني الحلقات كاملة م ...
- فيلم -ثلاثة عمالقة- يتصدر إيرادات شباك التذاكر الروسي


المزيد.....

- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رافع الصفار - انتفاضة (نسخة منقحة)