|
دروس ثورة أكتوبر
ليون تروتسكي
الحوار المتمدن-العدد: 6727 - 2020 / 11 / 9 - 09:55
المحور:
الارشيف الماركسي
دروس أكتوبر 1924 هذا الكتاب كتب كتاب تروتسكي: "دروس أكتوبر" خلال صيف 1924، ونشر في شهر أكتوبر كبديل لمقدمة الجزء الأول من مؤلفاته الكاملة. إن هذا الكتاب، كما سنرى من الصفحة الأولى، بناء شخصي للحوادث التي سبقت الثورة الروسية ورافقتها في أثناء الفترة الممتدة من فيفري /شباط إلى أكتوبر/تشرين الأول. وهذا هو الذي يجعلنا اليوم نفهم، بصعوبة، السبب الذي جعل هذا الكتاب يثير ما أثار من جدل وما لقي من معارضة إبان صدوره. فقد كان مركز نقاش سياسي في الاتحاد السوفياتي امتد لعدة شهور. فكون المؤلف عاد في هذا الكتاب "دروس أكتوبر" إلى الكلام حول بعض المواضيع"الحساسة"، خاصة، بإعادته إلى الأذهان موقف زينوفياف وكاميناف عشية ثورة أوكتوبر، لا يكفي بالتأكيد، لتفسير لماذا أحدث ذلك الاهتمام، ولماذا أثار ذلك الجدل. على أن الأمر الأول الذي يجب أخذه بعين الاعتبار هو أن شخصية المؤلف، بعد وفاة لينين في جانفي/كانون الثاني 1924، كانت، بدون أدنى شك الشخصية الأكثر مهابة بين فريق القادة البلاشفة، واسمه كان يستحضر إلى الذهن التجارب والصفحات الأكثر فخرا للثورة والحرب الأهلية. أما الأمر الثاني فهو الأخذ بعين الاعتبار ما كانت تمثله شخصية تروتسكي في الفلك السياسي وفي الأوضاع التي كانت قائمة في تلك الفترة، فقد كان يبدو، بصورة خاصة، كنقد، وكمعارضة، للفريق الحاكم الذي كان يمارس المراقبة الفعلية على الحزب وعلى الدولة. ولاستكمال التفسير يلزم اعتبار عدة وقائع وعناصر أخرى: فبين خريف 1924، والشهور الأولى لسنة 1925، كان تروتسكي قد نشر سلسلة مقالات جمعها بعد ذلك في كتاب سماه "تيار جديد". والموضوع الرئيسي لهذه المقالات يكمن في استنكار العملية الجارية لتدوين Bureaucratisation الحزب، والتي ستظهر آثارها في التعارض بين الجيل القديم "الحراس القدماء" وبين الأجيال الجديدة. فالحزب - حسب رأي تروتسكي- أخذ يفقد، بشكل دائم، الاتصال بالقوى الحية الأكثر ثورية في البلاد: وهي الشبيبة العمالية والطلابية. ويعبر عن هذه الظاهرة تركيبه الاجتماعي، من خلال نمو الوظائفية Fonctionnarisme فيه. ولكن ما هو المحتوى الدقيق لهذا التطور البيروقراطي، وما هي بالضبط المشاكل والحاجات الجديدة التي لم يشعر بها "الحراس القدماء"؟؟. إن تروتسكي لم يوضح ذلك جيدا في كتابه "تيار جديد"، فالاحتجاجات والبديهيات هنا تغلب على التحليل، ومع ذلك فإن قارئا منتبها، وعلى علم بوقائع الوضع السوفياتي لسنتي 1923-1924 لا يعدم أن يجد بعض المواضيع التي ستصبح بعد ذلك عناصر لنظرة مترابطة ذات أفق سياسي مكتمل، يجدها هنا بالكاد مخططة ومستشفة. ولذلك خصص مكان واسع لموضوع التخطيط Planification حيث احتل فصلا كاملا من الكتاب، لأن الأمر يتعلق هنا بموضوع عزيز جدا على تروتسكي، وقد تحدث عنه طويلا وبعاطفة في علاقته مع المؤتمر الثاني عشر للحزب. وهو الموضوع الذي يعكس تجربته الثورية في تنظيم الجيش الأحمر في أثناء فترة "شيوعية الحرب"، خاصة، التخطيط الاقتصادي منه، وبشكل أخص، تخطيط الصناعة الكبيرة التي استولت عليها الدولة حيث أمكن بواسطة ذلك التخطيط الاقتصادي التغلب على "أزمة المقص" المشهورة التي تمثلت في التباعد بين منتجي الإنتاج الزراعي وبين منتجي الإنتاج الصناعي. تلك الأزمة التي كان تروتسكي أول من لفت انتباه الحزب إليها. وفي هذه النقطة اصطدم بقضية الفلاحين. ذلك أن سياسة تخطيطية تمثل إلى حد ما رجوعا إلى شيوعية الحرب، لابد أن تصطدم وتتعارض مع السياسة الاقتصادية الجديدة N.E.P. التي دشن عهدها لينين سنة 1921. ومع اقتصاديات السوق التي أعادتها السياسة الاقتصادية الجديدة، تلك هي الاعتراضات - مع اعتراضات أخرى من نفس النوع- التي أثارتها مقالات تروتسكي. وقد أجاب هذا الأخير منكرا أن يكون لديه أي "سوء تقدير للفلاحين" مذكرا بأنه كان متفقا تماما مع لينين لتأييد ضرورة السياسة الاقتصادية الجديدة. الأمر الذي لم يمنع خصومه من الإلحاح على هذا الموضوع ما دامت بعض الصيغ والأفكار الموجودة في كتابات تروتسكي تتيح لهذه الانتقادات أن يكون لها بعض الأساس. ولكن الفقرة التي تستوقف خصومه ويـبطئون عندها الوقوف هي التي يؤكد فيها من جديد إخلاصه المستمر لنظرية الثورة الدائمة التي صاغها سنة 1904-1906 بل ويضيف مؤكدا على أن نظرية الثورة الدائمة التي تعتبر بأن روسيا لا يمكن أن تقف عند المرحلة الديموقراطية البرجوازية من الثورة التي تعبر عنها صيغة "الديكتاتورية الديموقراطية للعمال والفلاحين" وإنما يجب أن تسير نحو تكوين "حكومة عمالية تستند إلى الفلاحين، وتفتح عهد الثورة الاشتراكية العالمية". قلنا أن تلك النظرية تقود مباشرة إلى اللينينية، وخاصة إلى موضوعات أبريل 1917. وتلك هي الفكرة الرئيسية التي نماها تروتسكي في كتابه "دروس أكتوبر". ومن ذلك كان "التيار الجديد" الذي بشر به يـبدو وكأنه شكل من أشكال "الدفع" الثوري، وضرب من العودة إلى "اللينينية" الصحيحة التي جاءت في موضوعات أبريل، سواء في الميدان الداخلي أو في العلاقة مع الحركة العمالية العالمية.
*******
على أن نشر مقالات "تيار جديد" قد أثار جدلا حادا إبان عقد مجلس الحزب Conference الثالث عشر (16-18 يناير 1924) حيث قام ستالين بالذات بالهجوم على الأفكار التي عرضها تروتسكي. على أن وفاة لينين بعد أيام قليلة من اختتام ذلك المجلس، والاضطراب الذي أصاب الفريق القائد للحزب، قطع مؤقتا ذلك الجدل. فطوال النصف الأول لعام 1924 كان الشاغل الجوهري لممثلي الحزب الرئيسيين هو إنقاذ وحدة الفريق القائد. وفي المؤتمر الثالث عشر(23-31 مايو 1924) بدا أن خلافات المجلس الثالث عشر قد نسيت. وتروتسكي نفسه الذي لم يحضر أعمال المجلس المذكور تدخل في المؤتمر وطرح كلاما معتدلا ورفاقيا، مطالبا بأن تكون المحافظة على وحدة الحزب هي الهدف الأول. إلاّ أن نشر "دروس أكتوبر" قطعت الهدنة التي قامت بعد وفاة لينين، وأشعلت مرة أخرى نار الجدل. وبالنسبة لقارئ ذلك الحين الذي لا يزال يستحضر تلك التجارب السياسية وذلك الجدل، سوف تبدو له "الدروس" وكأنها بيان Manifeste ذلك "الدفع" الثوري لهذا "التيار الجديد" الذي حركه تروتسكي. إن نواة هذا الكتاب الجديد تتكون من التعارض بين "اللينينية" الصحيحة و"الاتجاه البروليتاري" الذي "يدل على طريق الثورة العالمية" ويعرض على فريق قائد - ولكنه متردد- بين الاختيار الثوري لموضوعات أبريل وبين (منشفية) أولئك الذين ليست لهم ثقة في قدرة البروليتاريا الروسية على اخذ المبادرة في الثورة الاشتراكية العالمية. والرجوع إلى التجربة الألمانية: أكتوبر 1923 (التي كانت الموضوع الرئيسي لنقاش المؤتمر الخامس الأممي: يوليوز 1924) أعطى ذلك التعارض صفة الحاضر المعاش، ألم تكن نفس الترددات، ونفس انعدام الثقة التي كانت بين أبريل وأكتوبر 1917 والتي كادت - لولا تحريض لينين الثوري، أن تؤدي بالحركة الثورية في روسيا إلى الإفلاس والشلل ومواقع الخطأ، هي التي حددت فشل ثورة ألمانيا التي كانت حسب تقدير الأممية الشيوعية ممكنة جدا؟ ثم أليست كذلك حجة أولئك الذين يجعلون دائما في المقدمة حالة تأخير روسيا الزراعية، ظاهرة منشفية، وقرينة على غياب ثقتهم في الإمكانيات الثورية للبروليتاريا الروسية والعالمية؟ تلك هي القضايا التي تثيرها "دروس" أكتوبر في ذهن القراء في ذلك الحين وهي تتضمن أيضا سلسلة أخرى من القضايا التي طرحت للنقاش في ذلك الوقت: مثل قضية "السياسة الاقتصادية الجديدة" والتخطيط أو "ديكتاتورية الصناعة" وكفاءة الفريق القائد إذاك للحزب وللأممية الشيوعية في الإحساس والتعبير عن الضرورة الأكيدة لاندفاع ثوري جديد، وأخيرا قضية بيروقراطية الحزب. وإذا كان كتاب تروتسكي هذا لم يواجه هذه المشكلات مباشرة واكتفى بالمرور عليها فإن صلتها بالموضوع الرئيسي لا تظهر أقل وضوحا لأولئك الذين عاشوا التجربة السياسية لسنتي 1923-1924. والذين مازالوا يؤكدون الجدال الذي سببه قبل ذلك بسنة نشر برنامج الست والأربعين (46) ومناقشات المجلس الثالث عشر للحزب.
--------------------------------------------------------------------------------
يجب دراسة أكتوبر إذا كان لنا ثمة حظ في أكتوبر، فإن ثورة أكتوبر لم يكن لها نفس ذلك الحظ فيما نكتبه من أدبيات، فنحن لا نملك مؤلفا واحدا يكون لوحة شاملة لثورة أكتوبر تبرز فيها الظروف الحاسمة في الميدان السياسي والتنظيمي. وأكثر من ذلك، فإن الوثائق التي تتميز بمختلف نواحي التحضير للثورة أو للثورة نفسها لم تنشر بعد، فنحن نصدر وثائق ومواد عن تاريخ الثورة والحزب قبل أكتوبر وبعده، إلاّ أننا نكرس عناية أقل بكثير لأكتوبر نفسه. ويتراءى لنا أننا ما دمنا قد قمنا بتوجيه الضربة القاصمة للخصم، ولم نعد في حاجة إلى إعادتها، فإن دراسة أكتوبر نفسه وشروط التحضير المباشر له لا نرى فيها فائدة مباشرة في ما يمكن أن نقوم به من مهام عاجلة للتنظيمات المقبلة. ومع ذلك فإن مثل هذا الاعتقاد، ولو كان صادرا جزئيا عن غير وعي منا، فإنه، في جوهره، خطأ فادح، بالإضافة إلى كونه وجها من وجوه الانكماش القومي. وإذا كنا نحن لسنا في حاجة إلى إعادة أكتوبر فلا يعني ذلك أن تلك التجربة سوف تكف عن أن تعلمنا شيئا. خاصة إذا تذكرنا بأننا جزء من الأممية، وأن البروليتاريا في البلدان الأخرى لم تحل بعد مشكلة أكتوبر ها. ومجرى السنوات الأخيرة أعطتنا أدلة مقنعة على أن الأحزاب الشيوعية الأكثر تقدما في الغرب لم تهضم تجربتنا فحسب، وإنما أيضا لم تعرفها كما حصلت في الواقع. على أن المرء يمكن أن يلاحظ بأن دراسة أكتوبر أو حتى نشر المواد المتعلقة به، ربما لا تكون ممكنة - وهذا حقيقي- دون أن توضع على بساط البحث، مرة أخرى، اختلافات وجهات النظر القديمة. إلاّ أن طرح المسألة على هذا النحو يدل على قصر في النظر. إذ أن اختلافات سنة 1917 كانت عميقة جدا، وبعيدة عن أن تكون مجيئها بمحض الصدفة. إلاّ أنه من السخافة محاولة استعمال تلك الاختلافات سلاحا ضد أولئك الذين وقعوا في الخطأ. ولكن من غير المقبول أيضا أن يتم السكوت - مراعاة لأمور شخصية - عن المشاكل الرئيسية لثورة أكتوبر، ذات الأهمية الأممية. لقد واجهنا في السنة الماضية هزيمتين ثقيلتي الوطأة في بلغاريا. أولا: لأسباب عقائدية ذات صبغة قدرية أهمل الحزب الشيوعي فرصة نادرة ومؤاتية للقيام بحركة ثورية (انتفاضة الفلاحين بعد انقلاب سان كوف في يونيو- يوليوز).. ثم ثانيا: عندما حاول إصلاح خطئه واندفع في عصيان سبتمبر دون أن يكون قد أعد المقدمات السياسية التنظيمية، الضرورية لإنجاح ذلك العصيان. وكان يجب أن تكون الثورة البلغارية مقدمة للثورة الألمانية ولكن لسوء الطالع كان لهذه المقدمة المحزنة امتداد مفجع في ألمانيا نفسها. ففي النصف الثاني من العام الماضي رأينا في هذا البلد ظاهرة كلاسيكية تتكرر، حيث ترك وضع ثوري ذو أهمية تاريخية ودولية يمر دون حراك. والتجربتان البلغارية والألمانية لم تحظيا بدراسة كاملة وعينية بشكل كاف. وإذا كان مؤلف هذه الأسطر قد أعطى خطوطا عريضة لتطور الأحداث الألمانية في العام الماضي (أنظر كراس "الشرق والغرب" الفصل أ: المنعطف والمرحلة التي نمر بها)، وكل ما جاء من التطورات أتى منسجما تماما مع تلك الخطوط. وإذ لم يقم أحد بمحاولة إعطاء تفسير آخر فإن خطوطا عريضة لا تكفي وحدها، وإنما تلزمنا لوحة كاملة تـنير أسباب تلك الهزيمة الشديدة الوطأة، تكون مرفقة بسجل واف للوقائع التي استندت عليها. إلاّ أنه من الصعب التفكير في تحليل للأحداث التي جرت في بلغاريا وألمانيا ونحن لم نعط بعد لوحة لسياسة ثورة أكتوبر وتكتيكها، فنحن لا نعرف بعد بالضبط ما الذي عملنا وكيف عملناه. ويبدو أن الأحداث في أوروبا بعد أكتوبر قد تطورت بسرعة لم تترك لنا الوقت الكافي الذي يمكننا من استيعاب دروس أكتوبر من الوجهة النظرية. ولكن الذي ظهر للعيان أنه بغياب حزب كفء للقيادة يكون من المستحيل إنجاح انتفاضة البروليتاريا الهادفة للاستيلاء على السلطة. فالبروليتاريا لا تستطيع الاستيلاء على السلطة بواسطة مجرد عصيان عفوي ولو كان ذلك في بلد متقدم جدا صناعيا، وذي مستوى ثقافي مرتفع كألمانيا، فالعصيان العفوي الذي قام به العمال في هذا البلد (نوفمبر 1918) لم تكن له من نتيجة سوى وضع السلطة بين يدي البرجوازية، ذلك أن طبقة حائزة للثورة، قادرة دوما على أن تستولي على السلطة المنزوعة من أيدي طبقة مالكة أخرى بالاستناد إلى ثروتها و"ثقافـتها" وعلاقاتها التي لا تحصى بجهاز الدولة القديم. أما بالنسبة للبروليتاريا فلا شيء يغنيها عن الحزب. وإذا كانت الأحزاب الشيوعية لم تبدأ عهد تنظيمها الحقيقي إلاّ منذ 1921 ("النضال لكسب الجماهير"، "الجبهة المتحدة"، الخ..) وبالتالي كانت مهمات أكتوبر لا تزال بعيدة، في نفس الوقت الذي وضعت فيه دراسة تجربة أكتوبر في آخر بند لجدول الأعمال، حتى إذا جاءت السنة الأخيرة وضعتنا وجها لوجه أمام مهمات الثورة البروليتارية. وهكذا حان الوقت لجمع الوثائق ونشر كل المواد والشروع في العمل الدراسي. نحن نعرف، وهذا أمر واضح، أن كل شعب، وكل طبقة وكل حزب يتعلم بصورة رئيسية من تجربته الخاصة. ولكن هذا لا يعني أن تجربة الشعوب والطبقات والأحزاب الأخرى ذات أهمية ضئيلة. فبدون دراستنا للثورة الفرنسية، وثورة 1848، وكومونة باريس، ما كان ليمكن لنا تحقيق ثورة أكتوبر، حتى لو اكتفينا بتجربة ثورة 1905، وذلك لأن ثورة 1905 خضناها بالاستناد إلى تعاليم الثورات السابقة والسير في خطها التاريخي. وطوال عهد الثورة المضادة سد الفراغ ببحث دروس ثورة 1905. أما ثورة أكتوبر المظفرة فلم يعط لها من الدرس ما يوازي عشر ما أعطي لثورة 1905 رغم أننا لا نعيش في عهد رجعي ولا في المهجر، بل على العكس من ذلك نحن نملك الآن من القدرة ومن الوسائل بما لا يمكن أن يقاس بما كان لدينا في تلك السنوات المرهقة. يجب أن توضع اليوم دراسة أكتوبر على رأس جدول أعمال حزبنا وأعمال الأممية في آن واحد. يجب على حزبنا كله، وخاصة الشباب فيه، دراسة تجربة أكتوبر دراسة دقيقة لأن هذه التجربة مكنتنا من التحقيق من ماضينا، وفتحت لنا بابا واسعا على المستقبل، وأن درس ألمانيا ليس فقط نداء جديا يدعونا، وإنما هو إنذار لا يقدر. ويمكن أن يقال - وهذا صحيح- أن المعرفة العميقة بتطور ثورة أكتوبر لا يشكل ضمانا لانتصار حزبنا في ألمانيا. إلاّ أن هذا التفكير لا يقود إلى شيء. بالتأكيد، دراسة ثورة أكتوبر وحدها لا تكفي لتجعلنا ننتصر في بلدان أخرى، إذ يمكن أن توجد أوضاع تتوفر فيها كل مقومات الثورة عدا قيادة حزبية تملك الوضوح والحسم وتستند إلى فهم قوانين وأساليب الثورة، كما وقع بالضبط بألمانيا في السنة الماضية. وهو ما يمكن تكرار حدوثه في بلدان أخرى. ومع ذلك فإن دراسة قوانين وأساليب الثورة البروليتارية ليس لها حتى الآن مصدر أهم من تجربة أكتوبر. فقادة الأحزاب الشيوعية الأوروبية الذين لا يدرسون دراسة نقدية تفاصيل تاريخ انقلاب أكتوبر يكونون كمثل ذلك القائد العسكري الذي يعد لحروب جديدة دون دراسة التجربة الاستراتيجية والتكتيكية والفنية للحرب الإمبريالية الأخيرة. وقائد من هذا الطراز لا بد أن يؤدي بجيوشه إلى الهزيمة. وإذا سلمنا بأن الحزب هو الأداة الرئيسية للثورة البروليتارية، فإن تجربتنا خلال عام (فبراير 1917- فبراير 1918) بالإضافة إلى التجارب المكملة الأخرى في فنلندا وهنغاريا وإيطاليا وبلغاريا وألمانيا، تسمح لنا بأن نعتبر كقانون استحالة تجنب الحزب أزمة داخلية عندما يأخذ في الانتقال من عملية الإعداد الثورية إلى النضال المباشر من أجل السلطة. فالأزمات في الحزب تظهر بصورة عامة كلما مر في منعطف هام كمقدمة أو كنتيجة لهذا المنعطف. وسبب ذلك أن كل فترة من فترات نمو الحزب لها سماتها المميزة، وتتطلب عادات وأساليب معينة للعمل. فمنعطف تكتيكي مثلا يستلزم بترا هاما إلى حد ما حسب كل حالة لتلك العادات والأساليب. وهنا يكمن منبع تلك الصعوبات والأزمات. وقد كتب لينين في يوليوز 1917 قائلا: "يحدث غالبا خلال منعطف مفاجئ من تاريخ الأحزاب المتقدمة نفسها أن تعجز خلال فترة قصيرة أو طويلة حسب الحالات عن التكيف مع الوضعية الجديدة وتبقى تردد الشعارات التي كانت بالأمس صحيحة، إلاّ أنها اليوم فقدت فجأة كل معنى لها. وهذا راجع إلى أن ذلك التحول التاريخي حصل فجأة أيضا". وهنا يكمن الخطر، فإذا كان التحول قد حدث بصورة مفاجئة أو كان غير متوقع البتة وإذا كانت الفترة السابقة قد جمعت كثيرا من العناصر الكابحة والمحافظة في المستويات العليا لقيادة الحزب، فإن هذا الأخير يـبدو عاجزا عن القيادة في أخطر الأوقات التي أعد نفسه لها طيلة سنوات إن لم يكن طيلة عشرات السنين. وهكذا إذ يكون الحزب وقد طحنته الأزمة، ترك الحركة تسير دون هدف وتؤول إلى الهزيمة. إن الحزب الثوري يكون دائما موضوعا تحت ضغط القوى السياسية الأخرى في كل فترة من فترات نموه، يخلق الوسائل التي تمكنه من مقاومة تلك الضغوط ودحرها. أما في المنعطفات التكتيكية التي تجلب معها التطاحن وإعادة تشكيل كتله الداخلية فإن قوة مقاومته تضعف، ومن هنا تكون الإمكانية الدائمة لتطور تلك الكتل الداخلية التي ولدها المنعطف، تطورا ملحوظا، قد أصبحت قاعدة لمختلف الاتجاهات الطبقية. وبكل بساطة، نقول إن الحزب الذي لا يستطيع مواكبة المهمات التاريخية لطبقته يصبح أو يكاد يصبح، أداة غير مباشرة للطبقات الأخرى. وإذا كانت الملاحظة السابقة صادقة بالنسبة للمنعطف التكتيكي، فإنها أكثر صحة بالنسبة للمنعطف الاستراتيجي. ونحن نقصد هنا بالتكتيك المعنى الذي للكلمة في العلم العسكري وهو فن قيادة العمليات المنفردة، كما نقصد باستراتيجيـته: فن تحقيق النصر أي الوصول إلى السلطة. وقبل الحرب العالمية وأثناء فترة الأممية الثانية لم نكن عادة نقوم بهذه التفرقة بين الاستراتيجية والتكتيك، إذ كنا نكتفي بالمعنى الذي حددته الاشتراكية-الديموقراطية لكلمة التكتيك. ولم يكن ذلك آت بمحض الصدفة، فقد كان للاشتراكية الديموقراطية تكتيك برلماني، ونقابي، وبلدي وتعاوني الخ.. إلاّ أن مسألة جمع وتنسيق كل القوى والموارد وجعلها سلاحا لتحقيق النصر والغلبة على العدو لم تكن مطروحة على عهد الأممية الثانية، التي لم تحدد لنفسها عمليا مهمة النضال من أجل السلطة، ولم تطرح المسائل الأساسية والاستراتيجية لنضال البروليتاريا، إلاّ بعد ردح قليل من الزمن، بمجيء ثورة 1905 التي قدمت فوائد جمة للاشتراكيين الديموقراطيين الثوريين الروس: أي البلاشفة، ولكن أعظم عهد لاستراتيجيته بدأ سنة 1917 أولا لروسيا ثم لأوروبا كلها بعد ذلك. وبالطبع فإن الاستراتيجية لا تمنع التكتيك كمسائل الحركة النقابية والنشاط البرلماني الخ الخ.. إذ أن هذه الأشياء لم تغب عن أنظارنا ولكنها تأخذ الآن اهتماما مختلفا باعتبارها أساليب تابعة للنضال المنظم من أجل السلطة، وبهذا يمكن لنا أن نقول: إن التكتيك تابع للاستراتيجية. وإذا كانت المنعطفات التكتيكية تولد عادة التطاحن داخل الحزب، كما سبق أن ذكرنا، فإن المنعطفات الاستراتيجية - وهو ما له مبررات أكثر- تثير حتما، اضطرابات أكثر حدة. فالمنعطف الأكثر مفاجأة هو ذلك الذي تنتقل فيه البروليتاريا من طور الاستعداد والدعاية والتنظيم والتحريض والنضال المباشر من أجل استلام السلطة، إلى طور الانتفاضة المسلحة ضد البرجوازية. ذلك أن كل ما في الحزب من مائع ومثبط ومعوق وانهزامي، يقف ضد الإنتفاضة ويـبحث عن صيغ نظرية يدعم بها نظريته ويجدها جاهزة لدى خصومه في الأمس: الانهزاميين. ويمكننا مشاهدة هذه الظاهرة مرات عديدة. فبعد أن قام الحزب خلال فترة فبراير-أكتوبر بعمل واسع في مجال التحريض والتنظيم بين الجماهير، لم يبق أمامه سوى المرور بآخر امتحان وبآخر اختبار لسلاحه قبل الدخول في المعركة الفاصلة. وبعد أن جاء أكتوبر وما يليه ووضع هذا السلاح على المحك في عملية واسعة النطاق، بعد هذا كله نجد من يشتغل بتقييم بوجه خاص، ويمر في صمت بتجربة أكتوبر. أوليس هذا العمل "أسكولائية" (منهاج العصور الوسطى) عقيمة بعيدا عن أن يكون تحليلا ماركسيا للسياسة؟ إن عملا من هذا النوع ليس له من مثيل سوى ذلك الجدل الذي قامت به جماعة حول أجدى طرق السباحة، ولكنها كانت ترفض بعناد النظر إلى النهر حيث يجري تطبيق تلك الطرق على أي من السباحين. ليس هناك محك أفضل للنظريات التي تعالج الثورة من الثورة نفسها، تماما كما أننا نعرف أفضل طريقة للسباحة عندما يلقي السباح نفسه في الماء.
--------------------------------------------------------------------------------
الديكتاتورية الديموقراطية للعمال والفلاحين: فبراير- أكتوبر. لقد سددت ثورة أكتوبر - بتطورها وبنتائجها- ضربة هائلة للماركسية السكولائية المنحرفة التي كانت منتشرة جدا بين أوساط الاشتراكيين الديموقراطيين الروس (التي بدأت بفريق تحرير العمل) والتي وجدت تعبيرها التام عند المناشفة. والصفة الرئيسية المميزة لهذه الماركسية المزعومة هي تحويلها فكرة ماركس القائلة: بأن البلدان المتقدمة تري البلدان المتخلفة صورة تطورها المقبل، والتي هي مشروطة ومحدودة بالزمان والمكان، إلى قانون مطلق فوق التاريخ، يحاولون أن يجعلوا منه قاعدة لتكتيك حزب الطبقة العاملة. وبناء على هذه النظرية يكون من الطبيعي استحالة طرح مسألة نضال الطبقة العاملة في روسيا من أجل الوصول إلى السلطة، ما دامت البلدان الأكثر تقدما اقتصاديا لم تقدم مثالا ولم تخلق سابقة. ليس هناك من شك في أن كل بلد متأخر يجد بعض ملامح مستقبله في تاريخ البلدان المتقدمة، ولكن هذا لا يعني بأنه سيقع تكرار عام لتطور الحوادث. فعلى العكس من ذلك، فكلما اكتسى الاقتصاد الرأسمالي صبغة عالمية كلما أخذ تطور البلدان المتأخرة خصائص مميزة، لأن عناصر التأخر في تلك البلدان تقترن بالعناصر الأكثر عصرية في الرأسمالية. وقد كتب انجلز في مقدمته لكتاب حرب الفلاحين قائلا: "يحدث في مرحلة ما، وهذا بالطبع ليس في كل زمان ومكان، أو في مستوى معين من درجات التطور، أن تبدأ البرجوازية في ملاحظة أن رفيقتها البروليتارية أخذت تتجاوزها". وقد أجبر التطور التاريخي للبرجوازية الروسية على أن تلاحظ نفس الملاحظة منذ وقت مبكر وبشكل كامل كما لم تفعله أية برجوازية أخرى. وقد عبر لينين عن الطبيعة الخاصة للثورة الروسية عشية 1905 في صيغة: الديكتاتورية الديموقراطية للبروليتاريا والفلاحين، ولا تأخذ هذه الصيغة أهميتها كما أبان بعد ذلك المجرى التاريخي للحوادث إلاّ باعتبارها مرحلة نمو الديكتاتورية الاشتراكية للبروليتاريا التي يسندها الفلاحون. وهذه الصيغة الثورية تماما والديناميكية جدا، كما وصفها لينين تتعارض جذريا مع الصيغة المنشفية القائلة أن روسيا لا يمكن لها أن تطرح أكثر من تكرار تاريخ البلدان المتقدمة، أي بأن تكون البرجوازية في الحكم، والاشتراكيون الديموقراطيون في المعارضة، ولكن حتى بالنسبة للينينية فهناك حلقات معينة في حزبنا لا تشدد على كلمة "ديكتاتورية" وإنما على كلمة "ديموقراطية" لتعارض بها كلمة "اشتراكية" وهذا يعني عندهم أن الشيء الوحيد المعقول في روسيا البلد المتأخر هو الثورة الديموقراطية. أما الثورة الاشتراكية فيجب أن تبدأ في الغرب أولا، نحن لا نستطيع أن نسير في الطريق الاشتراكي إلاّ بعد إنكلترا وفرنسا وألمانيا. ولكن وجهة النظر هذه تلقي بصاحبها بصورة حتمية بين أحضان المنشفية، وهذا ما سينجلي تماما سنة 1917 حين كانت مهمات الثورة قد تجاوزت التنبؤ إلى ميدان العمل. عندما يريد المرء في أثناء أوضاع ثورية تحقيق الديموقراطية إلى أبعد حد ضد الإشتراكية (على اعتبار أنه لم يحن أوانها بعد) معناه في العرف السياسي أنه يريد الانتقال من موقف بروليتاري إلى موقف برجوازي صغير، أي إلى الجناح اليساري في الثورة الوطنية. فإذا أخذنا ثورة فبراير مثلا باعتبارها ثورة برجوازية فإننا نرى أنها جاءت متأخرة جدا ولا تحتوي على أية عناصر للاستقرار، تمزقها التناقضات التي برزت في الحال في صورة ازدواجية للسلطة وكانت أما أن تتطور إلى ثورة بروليتارية كما وقع فعلا أو تحول، بحكم سيطرة أقلية برجوازية عليها، روسيا إلى شبه مستعمرة. وتبعا لذلك فإنه يكون بالإمكان أن نعتبر الفترة التي تلت فبراير أما فترة تدعيم ونمو وإكمال للثورة الديموقراطية أو فترة استعداد للثورة البروليتارية. والاعتبار الأول لم يقع تبنيه فقط من طرف المناشفة والاشتراكيين الثوريين وإنما أيضا من عدد معين من القادة البلاشفة بالرغم من أن هؤلاء يتميزون عن المناشفة والاشتراكيين الثوريين ببذل مجهود لدفع الثورة الديموقراطية ما أمكن إلى اليسار ولكن أسلوبهم في الجوهر هو نفسه. إذ يكمن فيه ممارسة ضغط على البرجوازية الحاكمة دون الخروج عن إطار النظام الديموقراطي البرجوازي ولو أن هذه السياسة انتصرت لأخذت الثورة مجراها خارج نطاق حزبنا وتكون نتيجة ذلك في النهاية أن تقوم انتفاضة عمالية وفلاحية بغير قيادة حزبنا أو بعبارة أخرى، تتكرر أيام يوليوز على نطاق أوسع. ومعنى ذلك وقوع الكارثة. يكون من الواضح أن تكون النتيجة المباشرة لتلك الكارثة انهيار حزبنا وهذا ما يوضح الخلافات العميقة في وجهات النظر التي كانت موجودة في ذلك الحين. وإذا كان اقتران تأثير المناشفة والاشتراكيين الثوريين في المرحلة الأولى للثورة جماهير البرجوازية الصغيرة وخاصة جماهير الفلاحين بنقص نضوج الثورة الراجع إلى الظروف الخاصة التي خلقتها الحرب قد أعطى للبرجوازيين الصغار الثوريين المدافعين عن الحقوق التاريخية لحكم البرجوازية إمكانية قيادة الشعب في الظاهر على الأقل. فإن ذلك لا يعني أن الثورة الروسية كان يجب عليها بالضرورة أن تتابع السير في نفس الخط الذي سارت فيه منذ فبراير حتى أكتوبر 1917. إذ أن خط السير لا تحدوه فقط العلاقة بين الطبقات وإنما أيضا الظروف الوقتية التي خلقتها الحرب. فبتأثير هذه أصبح الفلاحون منظمين ومسلحين في صورة جيشهم يعد ملايين البشر. وقبل أن يكون للبروليتاريا الوقت الكافي لتنظيم نفسها تحت علمها الخاص لتجر وراءها الجماهير الريفية، وجد البرجوازيون الصغار الثوريون سندا طبيعيا في الجيش الفلاحي المتمرد ضد الحرب. ويتصل هذا الجيش الذي لا يحصى المباشر لكل شيء ضغطوا على البروليتاريا حتى أن جروها في الأوقات الأولى وراءهم وكان سير الثورة يختلف لو سارت الأمور على قاعدة العلاقة بين الطبقات فقط، وهو فعلا ما توضحه أكثر من أي شيء آخر الحوادث التي سبقت الحرب. ففي يوليوز 1914 اهتزت بتروجراد بإضرابات ثورية آلت إلى معارك في الشوارع. وهذه الحركة كان يقودها بدون جدال المنظمة السرية، والجرائد العلنية لحزبنا. فقد كانت البلشفية تقوى منذ تأثيرها في النضال المباشر ضد الاشتراكيين الثوريين والبورجوازيين الصغار بصفة عامة. وقد جرى تطور هذه الحركة في المقام الأول توسيع قاعدة الحزب البلشفي: فلو تأسست منذ سنة 1914 مجالس مندوبي العمال السوفياتية لكانت منذ البدء بلشفية. بالإضافة إلى أن الريف كان يتم إيقاظه بواسطة تلك المجالس المدنية التي كان سيقودها البلاشفة. إن هذا لا يعني القول بأنه بحكم الضرورة سيفقد الاشتراكيون الثوريون في الحال كل تأثير على الأرياف. وعلى كل الاحتمالات فإن المرحلة الأولى منذ الثورة البروليتارية كان سيقع تجاوزها تحت علم النارودنيكيين. ولكن هؤلاء كانوا سيجبرون على تقديم جناحهم الأيسر ليقيموا اتصالهم بمجالس السوفيات المدنية التي يسيطر عليها البلاشفة والنتيجة المباشرة للانتفاضة في هذه الحالة أيضا سترجع إلى درجة الوعي العام وإلى سلك الجيش المرتبط بالفلاحين. ليس بالممكن الآن ولا بالمفيد محاولة التكهن بما إذا كانت حركة 1914-1915 كانت ستنتصر لو أن الحرب لم تنفجر. ولو أن الثورة المنتصرة قد تطورت ضمن الطريق التي افتتحتها يوليوز 1914 لكان معنا حظ كبير في أن يؤدي قلب القيصرية إلى مجيء مجالس سوفيات للعمال الثوريين إلى السلطة، هذه المجالس التي ستجر بدورها لفلكها بواسطة النارودنيكيين اليساريين (في الأوقات الأولى) جماهير الفلاحين. ولكن الحرب قطعت حبل الحركة الثورية وأجلتها مؤقتا لتدفع بها بعد ذلك إلى الحد الأقصى. وقد خلقت في صورة عدة ملايين مسلحة -للأحزاب البرجوازية الصغيرة ليس فقط قاعدة اجتماعية وإنما أيضا قاعدة منظمة نادرة الوقوع، ولم تكن في الحسبان، إذ من الصعب في الواقع تحويل الفلاحين إلى قاعدة قابلة للتنظيم حتى حينما يكونون في حالة ثورية. وهكذا وجدت أحزاب البرجوازية الصغيرة هذه المنظمة الممثلة في الجيش، جاهزة للاستناد عليها، فأخذت تملي على البروليتاريا شروطها وتحاصرها في حلقة الدفاع عن الوطن Defensisme ولهذا السبب قاتل لينين بشراسة منذ البدء الشعار القديم "الديكتاتورية الديموقراطية للعمال والفلاحين". الذي أصبح في هذه الظروف يعني تحويل الحزب البلشفي إلى يسار ضمن معسكر "المدافعين". وبالنسبة للينين أصبحت المهمة الرئيسية هي سحب الطليعة البروليتارية من موجة (المدافعين) إذ بهذا الشرط وحده يمكن للبروليتاريا في المرحلة القادمة أن تصبح مركز التجمع للجماهير الريفية العاملة. ولكن ما هو الموقف الذي سيقفه تجاه "الثورة الديموقراطية" أو بالأصح "تجاه الديكتاتورية الديموقراطية للعمال والفلاحين". لقد وجه لينين بهذا الصدد ضربات قوية لأولئك "الشيوخ من البلاشفة" الذين "لعبوا -على حد قوله- أكثر من مرة، أدوارا محزنة داخل حزبنا بترديدهم صيغا محفوظة، بدلا من دراستهم للوضعية الملموسة في الواقع". ويضيف قائلا "لا يجب الالتفاف حول صيغ قديمة وإنما حول الواقع الجديد. فهل الصيغة البلشفية القديمة التي طرحها كامنيف: الثورة الديموقراطية لم تنته بعد، وهل ما تزال تعانق الواقع؟ كلا، لقد شاخت ولم يـبق لها قيمة على الإطلاق، إنها ماتت وسوف تذهب سدى تلك المجهودات التي تبذل لإحيائها". صحيح أن لينين قال في بعض الأحيان أن مجلس سوفيات مندوبي العمال والجنود والفلاحين مثلت في الفترة الأولى وفي حدود معينة ديكتاتورية العمال والفلاحين الثورية، إلاّ أن هذا صادق فقط عندما كانت تلك المجالس تمارس السلطة. وكما أوضح لينين، أكثر من مرة، فإن مجالس فترة فبراير لم تمارس سوى نصف السلطة، حيث كانت تدعم سلطة البرجوازية وتمارس عليها ضغطا على شكل نصف معارضة. وهذه الوضعية الملتبسة، بالضبط، هي التي لا تسمح لها بأن تخرج على إطار التجمع الديموقراطي للعمال والفلاحين والجنود، على أساس أن هذا التجمع لا يستند إلى علاقات حكومية مضبوطة، وإنما إلى الجيش وإلى التفاعل الثوري، فقد أخذ اتجاها نحو الديكتاتورية ولكنه لا يزال بعيدا عنها. ومن هذه الخاصية الديموقراطية غير الرسمية لهذا التجمع العمالي-الفلاحي-الجندي الذي يمارس نصف السلطة يكمن عدم استقرار هذه السوفياتات الوسطية. وهي لا بد من أن ترى دورها يتقلص إلى حد إقحامها التام، أو أن تأخذ السلطة بيدها بحق. وهي قادرة على أخذها لا كتجمع ديموقراطي عمالي فلاحي ممثلا بعدة أحزاب، وإنما كديكتاتورية بروليتارية يقودها حزب واحد تجر ورائها بعد ذلك الجماهير الريفية، مبتدئة، قبل كل شيء بالفئات النصف البروليتارية. وبعبارة أخرى، فإن التجمع الديموقراطي للعمال والفلاحين لا يمكن أن يعتبر قبل تسلم السلطة إلاّ كشكل ابتدائي، كاتجاه وليس كشيء مجسد في الواقع. إن السير نحو الاستيلاء على السلطة يستلزم حتما تفجير الغلاف الديموقراطي ووضع أغلبية الفلاحين تحت ضرورة الانقياد للبروليتاريا، والسماح لهذه الأخيرة بتحقيق ديكتاتوريتها الطبقية. الأمر الذي يجعلها تضع على رأس جدول أعمالها بتواز مع الديموقراطية الاجتماعية الجذرية تدخل الدولة البروليتارية الاشتراكي في حقوق الملكية الرأسمالية. أما الاستمرار في هذه الظروف في التمسك بصيغة "الديكتاتورية الديموقراطية"، فإنه، في الحقيقة لا يعني سوى رفض تسلم السلطة وحشر الثورة في مأزق لا مخرج له منه. إن القضية الرئيسية التي كان يدور حولها الجدل هي التالية: هل يجب النضال من أجل السلطة؟ هل يجب أخذ السلطة أم لا؟ وهذا وحده ما يوضح لنا كيف لم نكن أمام خلافات عرضية في الرأي وإنما تجاه مبدئين: المبدأ الأول، بروليتاري يؤدي إلى طريق الثورة العالمية. والآخر (ديموقراطي) أي برجوازي صغير يفضي، في نهاية التحليل، إلى تبعية السياسة البروليتارية لحاجات المجتمع البرجوازي الساعي لإصلاح نفسه. وقد بقي هذان الاتجاهان يصطدمان بشدة مع بعضهما طوال سنة 1917 حول كل القضايا مهما كانت أهميتها. إن الفترات الثورية رغم كونها الفترات التي يضع فيها الحزب كل ما تجمع لديه من ثروة وخبرة في الميدان العملي فإنه لا بد من أن تظهر خلالها خلافات من ذلك النوع. وهذا هو الذي يجعلنا نرى ذينك الاتجاهين يظهران مرات عديدة ومتتالية على نطاقات واسعة أو محدودة، حسب الأوضاع، في جميع البلدان التي عاشت تلك الأوضاع. وإذا أصبح يفهم من كلمة "بلشفية" التثقيف، والصلابة، والتنظيم للطليعة البروليتارية لتصبح قادرة على الاستيلاء على السلطة. وإذا صار يفهم من كلمة "اشتراكية ديموقراطية" الإصلاحية، والمعارضة ضمن إطار المجتمع البرجوازي، مع إقرار شرعية هذا الأخير، أو بمعنى آخر، تثـقيف الجماهير ضمن فكرة المحافظة على الدولة البرجوازية. فإنه يكون من الواضح انه حتى داخل الأحزاب الشيوعية التي لا تلد منذ يومها الأول مسلحة في مصنع التاريخ، ستظهر حتما النضال بين الاتجاهين الاشتراكي-الديموقراطي من جهة والبلشفي من جهة أخرى بصورة كاملة ومكشوفة خلال الفترات الثورية وعندما تطرح مباشرة قضية السلطة.
*******
إن مهمة الاستيلاء على السلطة لم تطرح على الحزب إلاّ يوم 4 أبريل أي بعد وصول لينين إلى بطرسبورغ. ومع ذلك فإن خط الحزب لم يكن بعد ذلك التاريخ دائم الاتصال، أو غير مطروح للنقاش من طرف الجميع، إذ على الرغم من قرارات مجلس أبريل 1917 فإن مقاومة -تارة صامتة، وتارة معلنة- برزت أثناء المجرى الثوري وخلال كامل فترة الإعداد. إن دراسة تطور هذه الخلافات التي وقعت خلال الفترة الممتدة من فبراير إلى الوقت الذي تدعمت فيه ثورة أكتوبر لا يقدم فائدة نظرية نادرة فقط وإنما أيضا تقدم فائدة عملية لا تقدر. ومع أن لينين نعى، في سنة 1910، الخلافات التي حدثت في المؤتمر الثاني سنة 1903 فإنه ينبغي تتبعها حتى جذورها أي منذ سنة 1903، بل عند "الإقتصادية". ولكن دراسة كهذه لا يكون لها معنى إلاّ إذا أكملت حتى تطابق الفترة التي وضعت فيها تلك الآراء موضع الامتحان الفاصل في أكتوبر. نحن لا نستطيع في هذه الصفحات القيام ببحث معمق لكل مراحل ذلك الصراع. ولكننا نعتقد أنه من الضروري أن نملأ ذلك النقص الموجود والذي لا يمكن قبوله في أدبياتنا والمتعلق بأهم فترة من فترات تاريخ حزبنا. وكما ذكرنا، فإن قضية السلطة تمثل العقدة والمحور لتلك الخلافات لأنها المحك الذي يحدد خاصية الحزب الثوري (بل حتى الحزب غير الثوري). والفقرة التي ندرسها هي الفقرة التي تطرح فيها مشكلة الحزب وتحل، بالاتصال الوثيق، مع قضية السلطة. وأننا هنا سندرس القضيتين حسب الترتيب التاريخي التالي: موقف الحزب وصحافته في الفترة الأولى بعد قلب القيصرية وقبل مجيء لينين، الصراع حول أطروحات لينين: مجلس -أبريل-، نتائج أيام -يوليوز- عصيان كورنيلوف Kornilov، الاجتماع الديموقراطي والبرلمان المؤقت Pré-Parlement قضية العصيان المسلح وأزمة السلطة (سبتمبر-أكتوبر)، قضية الحكومة الاشتراكية "المستقيمة". ونرجو أن تساعدنا دراسة الخلافات على استخلاص نتائج يكون بإمكانها تقديم خدمة إلى الأحزاب الأخرى المشاركة في الأممية الشيوعية.
--------------------------------------------------------------------------------
الحرب ضد الحرب والدفاعية "DEFONSISME" لقد سجل سقوط القيصرية في فبراير 1917 قفزة ضخمة إلى الأمام، ولكن بمعزل عن كل ذلك فإن ثورة فبراير لا تعني سوى أن روسيا أخذت تقترب من نمط الجمهورية البرجوازية كتلك الموجودة في فرنسا مثلا. ولكن الأحزاب البرجوازية الصغيرة لم تعتبرها ثورة برجوازية وكذلك لم تواجهها باعتبارها مرحلة نمو النظام الاشتراكي، وإنما رأت فيها مكتسبا ديموقراطيا له في حد ذاته قيمة مستقلة. وعلى هذا الأساس بنت أيديولوجيتها في الدفاع الثوري، فهي لا تدافع عن سيطرة طبقة من الطبقات بل تدافع عن الثورة والديموقراطية. ولكن في داخل حزبنا أيضا أعطيت ثورة نوفمبر في الأوقات الأولى فرصة التحول في النظرة إلى الآفاق الثورية. فقد كان موقف البرافدا خلال شهر مارس في الجوهر أقرب إلى "المدافعين" منه لموقف لينين. فقد قالت -في مقال بقلم التحرير-: "عندما يكون هناك جيشان متقابلان وجها لوجه، فإن أكثر السياسات غباء هي تلك التي تعرض على أحد الجيشين إلقاء السلاح والرجوع إلى ثكناته. إن هذه السياسة لن تكون سياسة سلام بل سياسة العبودية التي يرفضها، بسخط، شعب حر. إن الشعب سيبقى صامدا في مراكزه وسوف يرد على كل رصاصة برصاصة تقابلها، وعلى كل قذيفة بقذيفة مقابلة وسوف لن نسمع بأي حل Désorganisation للقوات المسلحة التابعة للثورة". (برافدا، 15 مارس 1917، لا ديبلوماسية سرية). إن المسألة هنا - كما نرى- لا تتعلق بالطبقات المسيطرة أو المضطهدة، ولكن بالشعب، وليست الطبقات التي تناضل من أجل السلطة، ولكنه الشعب الحر الذي يبقى في "مراكزه". فليست الأفكار وحدها دفاعية تماما وإنما أيضا صياغتها. وفي إمكاننا أن نقرأ في نفس المقال: "أن شعارنا ليس حل الجيش، الثوري، أو الذي في طريقه لأنه كذلك، ولا الجملة الفارغة: تسقط الحرب. وإنما: الضغط على الحكومة المؤقتة لإجبارها على أن تقوم، علنا أمام الديموقراطية العالمية بمحاولة جعل كل الدول المتحاربة تفتح مفاوضات للبحث عن الوسائل الموصلة لإيقاف الحرب. وإلى أن يتم ذلك الجيش ليبق كل في مركز قتاله". إن هذا البرنامج الداعي للضغط على الحكومة الإمبريالية لتقوم بتلك المحاولة هو نفس برنامج كاوتسكي وليدبور Ledbour في ألمانيا ولونجي في فرنسا، وماكدونالد في إنكلترا، لا برنامج البلشفية. ففي هذا المقال لم يكتف التحرير بتأييد بيان سوفيات بطرسبورغ المشهور: إلى كل شعوب العالم (وهو بيان صادر عن عقلية الدفاع الثوري) وإنما يتضامن مع القرارات الدفاعية المحقة الصادرة عن المهرجانين اللذين عقدا في بطرسبورغ حيث يعلن أحدهما: "إذا لم يسمع الديموقراطيون الألمان والنمساويون أصواتنا (أي صوت الحكومة المؤقتة وصوت مجلس السوفيات التوفيقي Leon Trotsky). فإننا سوف ندافع عن وطننا إلى آخر قطرة من دمائنا". إن هذا المقال ليس استثناء. وهو يعبر تماما عن موقف البرافدا حتى عودة لينين إلى روسيا، وفي مقال آخر تضمن شيئا من الملاحظات الانتقادية لبيان: "إلى الشعوب"، السابق ذكره بعنوان حول الحرب (برافدا، 16 مارس 1917) كتبت قائلة: "لا يمكننا إلاّ أن نهتف لنداء الأمس الذي دعا فيه مجلس سوفيات مندوبي العمال والجنود في بطرسبورغ جميع شعوب العالم بأسره للضغط على حكوماتها لكي توقف المجزرة". ولكن كيف يتم إيجاد مخرج للحرب؟ إن نفس المقال يجيب على ذلك قائلا: "إن المخرج يكمن في الضغط على الحكومة المؤقتة لتعلن قبولها حالا فتح محادثات للسلام". وفي إمكاننا أن نعطي شواهد عديدة مماثلة ذات طابع دفاعي وتوفيقي، مكشوف أحيانا، ومقنع أحيانا أخرى. وفي الوقت الذي كان فيه لينين غير قادر على مغادرة زيوريخ ثار بقوة في رسائله من بعيد، ضد كل ما يظهر فيه مساومة مع الدفاعية أو التوفيقية. فقد كتب في 8 مارس، قائلا: "إن مطالبة هذه الحكومة بإبرام صلح ديموقراطي يماثله التبشير بالفضيلة لدى المساهمين في المحلات العمومية". وبينما كانت البرافدا تنصح بالضغط على الحكومة المؤقتة لإجبارها على التدخل من أجل السلام أمام "جميع الديموقراطيات في العالم" كتب لينين قائلا: "إن التوجيه إلى حكومة جوتس كوف- ملكوف والعرض عليها إبرام صلح مشرف وديموقراطي في أسرع وقت يعني العمل مثل أسقف إحدى القرى الذي يعرض على ملاك الأراضي والتجار ليعيشوا حسب شريعة الرب، وليحبوا أقاربهم، وليعطوا خذهم الأيمن عندما يضربون على الخد الأيسر". وفي 4 أبريل غداة وصوله إلى بطرسبورغ ثار لينين ضد موقف البرافدا حول قضية الحرب والسلام وقد كتب قائلا: "يجب أن لا يعطي أي دعم للحكومة المؤقتة، يجب أن نوضح أكاذيب وعودها، خاصة تلك التي تتعلق باستنكار الالحاقات Anexation، يجب أن ترفع الأقنعة عن هذه الحكومة بدلا من مطالبتها (المطالبات لا تولد سوى الأوهام) بالكف على أن تكون إمبريالية". وليس هناك حاجة تدعو إلى القول بأن لينين قد وصف نداء التوفيقيين الصادر في 14 مارس الذي استقبلته البرافدا باستحسان، بأنه "دخاني" و"مبهم". إنه لمن المدجل الكبير دعوة الشعوب الأخرى لقطع علاقاتها مع أصحاب البنوك ومطالبتها في آن واحد بالدخول معها في حكومة ائتلافية. يقول لينين في مشروع برنامجه: "رجال الوسط يحلفون بالله العظيم أنهم ماركسيون أمميون، وأنهم مع السلام، ومع كل ما يضغط على الحكومة لكي تظهر إرادة الشعب للسلام". ولكن هل يمكن لنا أن نرفض منذ الوهلة الأولى، ضرورة تجنب حزب ثوري ممارسة ضغط على البرجوازية وعلى حكومتها؟ بالطبع الجواب بالنفي إذ أن الضغط على الحكومة البرجوازية هو الطريق إلى الإصلاحات. ولكن الإصلاحات التي تتناول المسائل الثانوية لا المسائل الرئيسية. ولا يمكن الحصول على السلطة بواسطة الإصلاحات. كما أنه ليس في إمكاننا إجبار البرجوازية بواسطة الضغط على تغيير سياستها في قضية أساسية تتعلق بمصيرها، وبما أن الحرب لم تترك مجالا للضغط الإصلاحي فقد خلقت وضعا ثوريا: ولم يبق مجال للاختيار. فإما اتباع البرجوازية إلى النهاية، وأما إثارة الجماهير ضدها لنزع السلطة من يدها. وفي الحالة الأولى يكون في المستطاع الحصول من البرجوازية على بعض الامتيازات في السياسة الداخلية على شرط دعم السياسة الخارجية للإمبريالية. ولهذا السبب تحولت الإصلاحية الاشتراكية علنا إلى إمبريالية اشتراكية. كما وجدت العناصر الثورية الحقيقية نفسها مجبرة على تأسيس أممية جديدة. إن موقف البرافدا لم يكن بروليتاريا ثوريا، وإنما كان ديموقراطيا-دفاعيا رغم كونه مبهما دفاعيته. كأن يقال: لقد قلبنا القيصرية، ونقوم بضغط على السلطة الديموقراطية، وهذه يجب عليها أن تعرض بدورها السلام نيابة عن الشعوب. وإذا لم تستطع الديموقراطية الألمانية أن تمارس ضغطا كافيا على حكومتها فنحن سندافع عن وطننا إلى آخر قطرة من دمائنا. إن تحقيق السلام لم يطرح كمهمة استثنائية للطبقة العاملة [3]، مهمة يقع إنجازها من فوق رأس الحكومة المؤقتة البرجوازية. لأن الاستيلاء على السلطة من قبل البروليتاريا لم يكن موضوعا كمهمة ثورية عملية. ومع ذلك فإن المهتمين لم تكن إحداها تنفصل عن الأخرى.
--------------------------------------------------------------------------------
اجتماع أبريل كان خطاب لينين في محطة فنلندا حول طبيعة الاشتراكية للثورة الروسية، مثل القنبلة بالنسبة لكثير من قادة الحزب. فقاد الجدل منذ اليوم الأول بين لينين وبين أنصار "استكمال الثورة الديموقراطية". كما كانت مظاهرة أبريل المسلحة التي دوى فيها شعار "تسقط الحكومة المؤقتة!" مناسبة لنزاع حاد. فقد أعطت لممثلي اليمين تعلة لاتهام لينين بالبلانكية، إذ أن مجلس الحكومة المؤقتة التي كانت مدعومة وقتئذ بأغلبية السوفياتات لا يمكن - على حد زعمهم- أن يتم إلا بمعاكسة إرادة أغلبية العمال، وهذا الاتهام في الظاهر يخلو من أساس. إلاّ أن سياسة لينين في الحقيقة لا وجود لأي ظل من البلانكية عليها إذ أن المسألة بالنسبة له تنحصر كلها في المعرفة إلى أي حد تستمر مجالس السوفيات في عكس الحالة الفكرية الحقيقية للجماهير، وفي التأكيد من صحة سياسة الحزب في التوجه نحو تلك المجالس. إن مظاهرة أبريل التي كانت إلى "يسار أكثر" مما يجب، مثلت استكشافا هدفه مراجعة الحالة الفكرية للجماهير، والعلاقة بينها وبين أغلبية السوفيات. وقد أبان ذلك الاستكشاف ضرورة القيام بعمل إعدادي طويل الأمد. وفي بداية ماي قام لينين بتأنيب بحارة جروند شتاد تأنيبا شديدا بسبب ذهابهم في حماس إلى حد بعيد، حد الإعلان عن عدم اعترافهم بالحكومة المؤقتة. إن أعداء النضال من أجل السلطة يطرحون المسألة بطريقة أخرى. ففي مجلس أبريل الحزبي قام كامنيف وأبدى شكواه قائلا: "في عدد من البرافدا قدم بعض الرفاق (يقصد بالطبع لينين. (ت.) اقتراحا بقلب الحكومة المؤقتة. وكان ذلك قبل الأزمة الأخيرة، ولكنهم عادوا وسحبوه بعد ذلك باعتبار أنه ربما يدخل الفوضى ويستمد جذوره من عقلية مغامرة. وظننا أن هؤلاء الرفاق قد تعلموا شيئا من الأزمة الأخيرة. ولكن الاقتراح (يعني الاقتراح الذي قدمه لينين إلى المجلس) الذي أمامنا يكرر نفس الخطأ". وهذه الطريقة في طرح المسألة ذات دلالة كبيرة. إذ أن لينين عندما تم الاستكشاف سحب شعار قلب الحكومة المؤقتة في الحال، ولكنه سحبه بشكل مؤقت ربما لعدة أسابيع أو أشهر ريثما يقوى سخط الجماهير ضد التوفيقيين، ولكن المعارضة اعتبرت أن ذلك الشعار خاطئ في حين أن انسحاب لينين المؤقت إلى الخلف لا يحمل أي تغيير في موقفه، إذ أنه لا يرتكز في تفكيره على أن الثورة الديموقراطية لم تنته بعد، وإنما يعتبر فقط أن الجماهير ما تزال غير قادرة على قلب الحكومة المؤقتة، وأنه يجب إعدادها لتصبح قادرة على ذلك. ولقد كرس مجلس أبريل كله لهذه المشكلة الرئيسية: أن نمضي في الاستيلاء على السلطة، وتحقق الثورة الاشتراكية، أم نساعد على استكمال الثورة الديموقراطية؟ ومن المؤسف أن محضر جلسات هذا المجلس لم تنشر حتى الآن رغم أنه لا يوجد في تاريخ حزبنا مؤتمر أهم منه وأكثر التصاقا بميلاد الثورة. كان برنامج لينين ما يلي: النضال الذي لا يكل ضد الدفاعية والدفاعيين، غزو الأغلبية في مجلس السوفيات، قلب الحكومة المؤقتة بواسطة مجلس السوفيات، سياسة ثورية من أجل السلام، مخطط للثورة الإشتراكية في الداخل وللثورة العالمية في الخارج. أما المعارضة كما نعلم فكانت مع استكمال الثورة الديموقراطية بواسطة الضغط على الحكومة المؤقتة وفي رأيها أن مجالس السوفيات يجب أن تبقى أدوات "تراقب" سلطة البرجوازية، وانبثق عن هذا الرأي موقف أكثر توافقية تجاه الدفاعية. وقد أعلن أحد المناهضين للينين في مجلس أبريل: "نحن نتكلم عن مجالس سوفيات العمال والجنود على اعتبار أنها المراكز المنظمة لقوانا وللسلطة… ولكن اسمها وحده يرينا أنها تكتل لقوى البرجوازية الصغيرة والبروليتاريا، وهذا يفرض ضرورة استكمال مهمات الديموقراطية البرجوازية. وإذا كانت الثورة الديموقراطية البرجوازية قد انتهت فإن هذا التكتل لا يمكن أن يبقى… وعلى البروليتاريا أن تناضل ضده… ومع ذلك فإننا نعترف بأن هذه المجالس السوفياتية تمثل مراكز لتنظيم قوانا… إذا فإن الثورة البرجوازية لم تنته، ولم تعط بعد كل ما يمكن أن تعطيه. وعلينا أن نعترف إذا كانت قد انتهت بأن السلطة سوف تنتقل إلى البروليتاريا". (خطاب كامنيف إن نقص الانسجام في هذا التفكير واضح: فهو يقول بأن انتهاء الثورة لا يتحقق تماما ما دامت السلطة لم تنتقل إلى أيد أخرى. فصاحب الخطاب المذكور يجهل المحور الحقيقي للثورة ولا يستنتج مهام الحزب من المجموع الحقيقي للقوى الطبقية. ولكنه يفعل ذلك بواسطة تعريف شكلي للثورة باعتبارها برجوازية أو ديموقراطية برجوازية. فحسب رأيه يجب التكتل مع البرجوازية الصغيرة وممارسة رقابة على السلطة البرجوازية ما دامت ثورتها لم تنته. وهذه القضية في الحقيقة منشفية صافية. ذلك لأن بالتحديد النظري لمهام الثورة بتبعتها (الثورة "بالبرجوازية") نصل بشيء من القدرية إلى سياسة مراقبة الحكومة المؤقتة، وإلى المطالبة ببرنامج للسلام دون إلحاقات، الخ… وباستكمال الثورة الديموقراطية نفهم تحقيق سلسلة من الإصلاحات بواسطة الجمعية التأسيسية حيث يلعب الحزب البلشفي دور الجناح الأيسر. وبهذا يفقد شعار "كل السلطة للسوفيات" كل معنى حقيقي. ومسايرة لهذا الاتجاه أعلن نوجين Noguine في مجلس أبريل وكأنه في ذلك أكثر منطقية من رفاقه في المعارضة، قائلا: "خلال مجرى التطور رأينا أن صلاحيات مجالس السوفيات الأكثر أهمية تتلاشى، كما رأينا سلسلة من وظائفها الإدارية تنتقل إلى المجالس البلدية وإلى الزيمستفوات Zemsttvos الخ… وإذا وضعنا في الحسبان ما ستتطور إليه بعد ذلك مؤسسة الدولة، فإننا لا نستطيع أن ننكر أنه ستوجد الجمعية التأسيسية ثم على إثرها البرلمان. وينتج عن ذلك - تدريجيا- أنه ستنزع من السوفيات وظائفها الرئيسية. ولكن هذا لا يعني أن وجودها سينتهي نهاية مخجلة. إذ أنها سوف لا تفعل سوى أن تحول وظائفها إلى غيرها. وليس بواسطة هذا النوع من السوفيات ستتحقق الجمهورية الشيوعية عندنا". وأخيرا ها هو معارض ثالث يتناول المشكلة من خلال نضج روسيا للاشتراكية: "هل باستطاعتنا بمجرد رفع شعار الثورة البروليتارية الاعتماد على دعم الجماهير؟ كلا إذ أن روسيا، أكثر البلدان الأوروبية اكتساء بالطابع البرجوازي الصغير. وإذا أقر الحزب برنامج الثورة الاشتراكية فإنه سيتحول إلى حلقة من الدعائيين. إن الثورة سوف تتفجر في الغرب… فمن أين ستشرق شمس الثورة البروليتارية؟ إذا أخذنا في الحسبان الحالة السائدة عندنا وهي الوسط البرجوازي الصغير، فإن تقديري أننا لسنا نحن الذين يجب علينا أن نأخذ المبادرة في الثورة الإشتراكية. إذ ليس لنا القوة الضرورية لذلك، بالإضافة إلى أن الظروف الموضوعية لم تتوفر بعد. أمّا في الغرب فإن قضية الثورة الاشتراكية مطروحة عليهم كما طرحت علينا نحن قضية قلب القيصرية". في مجلس أبريل لم يذهب كل خصوم لينين إلى المدى الذي ذهب إليه فوجين، ولكنهم جميعا، انسجاما مع منطق الأشياء اضطروا لقبول ذلك المدى بعد بضعة أشهر عشية أكتوبر. وهكذا آلت الأمور في حزبنا إلى اختيار أحد الأمرين، أمّا قيادة الثورة البروليتارية، وأمّا المعارضة داخل البرلمان البرجوازي. والموقف الثاني موقف منشفي أو بالأحرى كان ذلك قبل أن يضطر المناشفة إلى تغييره بعد ثورة نوفمبر، إذ كان زعماء هؤلاء خلال عدة سنوات يؤكدون أن الثورة المقبلة ستكون بورجوازية. وأن حكومة بورجوازية لا تستطيع سوى إكمال المهام البرجوازية. وأن الإشتراكية-الديموقراطية لا تستطيع أن تأخذ على عاتقها مهام الديمقراطية البرجوازية. كما يجب عليها "بدفع البرجوازية إلى اليسار" الانفراد بدور المعارضة. ومارتينوف Martynov لم يتعب قط من ترديد هذه النغمة. إلاّ أن الحوادث بعد أكتوبر أدت بهم إلى الاشتراك مبكرا في الحكم، وهكذا بعد موقفهم هذا لم يحتفظوا من مواقفهم المبدئية إلاّ بنظرتهم القائلة بعدم جواز تسلم البروليتاريا للسلطة. أما أولئك البلاشفة الذين يدينون تهافت المناشفة على الوزارة وفي آن واحد يثورون ضد أخذ البروليتاريا للسلطة فإنهم يقعون أنفسهم في المواقف الثورية للمناشفة سابقا! لقد أحدثت الثورة تغييرا في ترتيب المواقف السياسية في اتجاهين: أصبح اليمينيون كاديت وأصبح الكاديت جمهوريين (تغيير نحو اليسار) وسار الاشتراكيون الثوريون والمناشفة الحزب البرجوازي الحاكم (تغيير نحو اليمين). وبواسطة هذا النوع من التغييرات يحاول المجتمع البرجوازي أن يخلق هيكله الجديد، واستقراره ونظامه. وعندما كان المناشفة يتخلون عن اشتراكيتهم الصورية الوضعية أخذ يمين البلاشفة ينتقل إلى الاشتراكية الصورية أي إلى الموقف الذي كان يحتله المناشفة من قبل. وقد حدثت التغييرات نفسها حول مسألة الحرب، فإن البرجوازية (التي كانت لا تأمل أبدا في انتصار عسكري) - باستثناء بعض النظريين- أقرت الصيغة التالية "لا إلحاقات ولا غرامات حرب". كما أن المناشفة والاشتراكيين الثوريين الزمرولديين Zimmerwaldiens الذين كانوا ينتقدون الاشتراكيين الفرنسيين لأنهم يدافعون عن وطنهم الجمهوري البرجوازي انتقلوا إلى المدافعين منذ أن شعروا أنهم في ظل جمهورية برجوازية وانتقلوا من أمميين سلبيين إلى وطنيين نشيطين. وفي نفس الوقت انزلق اليمين البلشفي إلى الأممية السلبية التي "تضغط" على الحكومة المؤقتة من أجل سلم ديموقراطي "بلا إلحاقات، ولا غرامات حرب". الأمر الذي جعل صيغة الديكتاتورية الديموقراطية للبروليتاريا والفلاحين تتفرع في مجلس أبريل نظريا وسياسيا لتلد وجهتي نظر متعارضتين، الأولى النظرية الديموقراطية التي تتقنع بتجريدات اشتراكية صورية، والثانية النظرة الاشتراكية الثورية، أو بمعنى أصح، النظرة البلشفية الحقيقية.
--------------------------------------------------------------------------------
أيام يوليوز وعصيان كورنيلوف والاجتماع الديموقراطي والبرلمان المؤقت لقد أعطت قرارات مجلس أبريل للحزب قاعدة صحيحة، ولكنها لم تضع حدا للخلافات في قمة القيادة فعلى العكس من ذلك تماما اكتست تلك الخلافات خلال مجرى الحوادث صبغة أكثر تعقيدا، وبلغت قمة حدتها في الأوقات الأكثر خطورة على الثورة إذا استثنينا أيام أكتوبر. ذلك أن محاولة تنظيم مظاهرة 10 يونيو التي أوحى بها لينين أدينت بالمغامرة، من قبل أولئك البلاشفة الذين لم يوافقوا على الصبغة التي إكتستها تلك المظاهرة. ورغم أن مظاهرة 10 يونيو لم تتم لأن مجلس السوفيات أصدر قرارا بمنعها، فإن الحزب ثأر لنفسه باستغلاله مظاهرة بطرسبورغ العامة التي أخذ المبادرة فيها التوفيقيون بحذر، وجعلها تسير تحت الشعارات البلشفية، إلاّ أن الحكومة التي أرادت أن تكون لها الكلمة العليا، قامت بهجوم غبي على الجبهة وتحرج بذلك الموقف. فوضع لينين الحزب في حالة تنبيه ضد أعمال الطيش، وكتب في 21 يونيو قائلا في البرافدا: "أيها الرفاق إن أي تدخل في الساعة الراهنة سوف لا يكون صادرا عن عقل، يجب علينا أن نمر الآن بمرحلة جديدة في ثورتنا". وسجلت أيام يوليوز خطوة هامة في طريق الثورة وفي تطور الخلافات داخل الحزب، وقد لعب الضغط العفوي لجماهير مدينة بطرسبورغ في هذه الأيام دورا حاسما. ولكن الشيء الأكيد أن لينين كان يتساءل دائما عما إذا كان الوقت لم يحن بعد، وعما إذا كانت الحالة الفكرية لم تتجاوز مجالس السوفيات باعتبارها بنية فوقية، وعما إذا لم تكن قد خدرتنا الشرعية السوفياتية، وهل يواجهنا خطر التخلف عن الجماهير وبالتالي قطع صلتنا بها، ويكاد يكون من المؤكد أن بعض العمليات العسكرية المحضة قد تمت خلال أيام يوليوز على أيدي بعض الرفاق الذين اعتبروا بحق بأنهم لا يختلفون مع تقدير لينين للوضعية. وقد قال لينين بعد ذلك: "لقد اقترفنا في يوليوز ما فيه الكفاية من الحماقات" ولكن في الحقيقة هذه المرة أيضا لم تتعد العملية نطاق الاستكشاف ولكن على مدى أوسع، وفي مرحلة أكثر تقدما بالنسبة للحركة. وكان يجب علينا أن نقاتل ونحن نتراجع. ولكن لينين والحزب لم يريا في عملية يوليوز سوى حادثة عارضة دفعا فيها ثمنا غاليا مقابل استكشاف قمنا به داخل صفوف قوات العدو. ولم يكن في استطاعتها أن تغير من الخط العام لعملنا. وعلى العكس من ذلك رأى الرفاق المعاودون لسياسة الاستيلاء على السلطة في حادثة يوليوز مغامرة مؤذية، وكان ذلك مناسبة لعناصر اليمين هذه لأن تقوي من تحركها ولتجعل نقدها أكثر إحكاما. وعندئذ تغيرت لهجة الرد وكتب لينين قائلا: "إن هذا العويل وهذه التصورات التي تحاول أن تبرهن على أنه كان يجب عدم الاشتراك في حادثة يوليوز، إنما آتية من مرتدين، إن كانت صادرة عن بلاشفة، أو أنها مظاهرة خوف واضطراب مألوف لدى البرجوازية الصغيرة". وكلمة مرتد هذه التي أطلقت في ذلك الحين تنير ببريق تراجيدي إلى أي مدى بلغت الخلافات داخل الحزب. وعلى أثر ذلك أصبحت هذه الكلمة تظهر بكثرة في الجدل الذي كان قائما على أشده. إن الموقف الانتهازي إزاء قضيتي السلطة والحزب قد أدى بالطبع إلى تحديد موقف مماثل إزاء الأممية، فقد حاول لينين دفع الحزب إلى الاشتراك في مؤتمر الاشتراكيين-الديمقراطيين باستوكهولم. إلاّ أن لينين رد في 6 غشت قائلا: "إن خطاب كامينيف في المركز التنفيذي العام يوم 6 غشت حول مؤتمر ستوكهولم لا يمكن أن يكون مقبولا من طرف البلاشفة المخلصين لحزبهم ولمبادئهم". وردا على التعبير الذي قال أن الراية الثورية بدأت ترفرف على ستوكهولم كتب قائلا: "إنه إعلان فارغ يعيش في عقل تشيرنوف Tchernov وتسيريتللي Tseretelli وهو فرية صارخة، ليست الراية الثورية وإنما هي راية صفقات واتفاقات هدنة الاشتراكيين الإمبرياليين. إنها راية مفاوضات أصحاب البنوك لاقتسام الأراضي الملحقة، التي بدأت ترفرف على ستوكهولم". إن الطريق الذي يؤدي إلى ستوكهولم هو في الحقيقة الطريق الذي يوصل إلى الأممية الثانية، كما أن المشاركة في البرلمان المؤقت توصل إلى الجمهورية البرجوازية. وكان لينين مع مقاطعة مؤتمر ستوكهولم كما كان بعد ذلك مع مقاطعة البرلمان المؤقت، ورغم عنف النضال فإنه لم ينس لحظة مهمة خلق أممية جديدة، أممية شيوعية. كان لينين في 10 أبريل قد اقترح تغيير اسم الحزب وواجه الاعتراضات التي قامت أمام اقتراحه قائلا: "أنا ها هنا أمام حجج الروتين والخمود والسلبية". ثم ألح قائلا: "لقد حان الوقت لنزع قميصنا المتسخ وتعويضه بثياب نظيفة" ورغم ذلك فإن المقاومة بين الأوساط القيادية كانت قوية. وكان لا بد من انتظار عام كامل حتى يقرر الحزب تغيير اسمه ويرجع إلى تقاليد ماركس وإنجلز. إن هذه الحادثة لها دلالتها الخاصة إذ تبين مدى الدور الذي لعبه لينين طوال سنة 1917، حيث لم ينقطع في أشد المنعطفات التاريخية سرعة، عن شن النضال العنيف داخل الحزب ضد الأمس في سبيل الغد، خاصة وأن المقاومة الناجمة عن الأمس والتي ظهرت تحت راية التقاليد بلغت أقصى حدتها. وعصيان كورنيلوف الذي سبب تحولا لمصلحتنا لم ينه تلك الخلافات، وإنما خفف من حدتها مؤقتا. ففي وقت من الأوقات ظهر بين اليمين اتجاه يدعو إلى التقارب بين حزبنا وبين أغلبية السوفيات حول الدفاع عن الثورة إلى حد ما عن الوطن، فكان رد لينين في سبتمبر في رسالة له إلى اللجنة المركزية ما يالي: "إن قبول وجهة النظر القائلة بالدفاع عن الوطن أو الذهاب (كما يفعل بعض البلاشفة) إلى حد الاتفاق مع الاشتراكيين الثوريين ودعم الحكومة المؤقتة، يعني -كما أنا مقتنع تماما- ارتكاب أفظع خطأ. وهو في الوقت نفسه برهان على الافتقار المطلق للمبادئ، فنحن لن نكون دفاعيين إلاّ بعد استيلاء البروليتاريا على السلطة.." ثم يضيف بعد ذلك قوله: "حتى في هذا الوقت يجب علينا أن لا ندعم حكومة كرينسكي، وإذا لم نفعل ذلك فإننا نكون قد تجردنا من المبادئ. وإذا ما سألوننا ألاّ نقاتل كورنيلوف نجيب نعم، نقاتله بكل تأكيد. ولكن هناك فرقا بين مقاتلة كورنيلوف وتأييد كرينسكي، فبين الأمرين حد فاصل. وهذا الحد تجاوزه بعض البلاشفة فسقطوا في أحضان التوفيقية تاركين أنفسهم لتيار الحوادث لكي يجرفهم". وقد سجل انعقاد المؤتمر الديموقراطي (14-22 سبتمبر)، وما تمخض عنه من مولد البرلمان المؤقت، مرحلة جديدة في تطور الخلافات. وقد حاول المنشفيك والاشتراكيون الثوريون بواسطة الشرعية البرلمانية البرجوازية فناصر اليمين البلشفي هذا التكتيك. وقد رأينا فيما سبق الطريقة التي يطرح بها اليمين تطور الثورة: تحول مجالس السوفيات بالتدريج وظائفها إلى المؤسسات المختصة: البلديات، والزيمستفوات، والنقابات، وأخيرا الجمعية التأسيسية. وبهذا تختفي من المسرح السياسي. عن مهمة البرلمان المؤقت هي إعداد وتوجيه أفكار الجماهير السياسية نحو الجمعية التأسيسية التي ستتوج الثورة الديموقراطية. لقد حدث في الوقت نفسه الذي أحرز فيه البلاشفة على أغلبية السوفيات في كل من بطرسبورغ وموسكو، وأخذ نفوذنا في الجيش ينمو يوما بعد يوم. إن المسألة هنا لا تتعلق بالتكهنات أو باستشفاف الأفاق المقبلة، وإنما بالاختيار الذي يجب الالتزام به في الحال دون تأخير. ورغم أن سلوك الأحزاب التوفيقية في المؤتمر الديموقراطي كان دنيئا دناءة صارخة، فإن اقتراحنا بمغادرة هذا المؤتمر علنا حيث كدنا نغرق فيه، كان يصطدم بمقاومة منظمة من عناصر اليمين التي لا زالت تملك تأثيرا كبيرا في قيادة حزبنا، وكان الاصطدام حول هذه المشكلة مقدمة للصراع حول مقاطعة البرلمان المؤقت. ففي 24 سبتمبر أي بعد المؤتمر الديموقراطي كتب لينين: "يجب على البلاشفة أن ينسحبوا احتجاجا، ولكي لا يقعوا في فخ المؤتمر الذي يسعى لتحويل اهتمام الجماهير عن المشاكل الجدية". وكان للنقاش داخل القسم البلشفي في المؤتمر الديموقراطي حول مسألة مقاطعة البرلمان المؤقت، رغم محدودية مجاله أهمية استثنائية، إذ كان في الحقيقة أوسع محاولة يقوم بها اليمينيون لحشر الحزب في طريق "استكمال الثورة الديموقراطية". والمحضر المرقون على الآلة لهذه المناقشات على الأغلبية لم يوجد. وعلى أية حال، فحسب معلوماتي لم توجد حتى الآن أية ملاحظة للسكرتارية. إلا أن تحرير هذه الدراسة مكنتني من العثور بين الأوراق على بعض المواد القليلة جدا حول الموضوع. وقد قدم كامينيف الحجج التي جاءت بعد ذلك في صورة أكثر عنفا وصفاء. ففي رسالته التي وجهها بمشاركة زينوفييف إلى منظمة الحزب (11 أكتوبر) وكان نوجين هو الذي طرح المسألة في صورة أكثر منطقية حيث قال بالحرف الواحد: إن مقاطعة البرلمان المؤقت تشكل نداء إلى العصيان، أي تكرار لأيام يوليوز. وما من أحد يستطيع مقاطعة مثل هذه المؤسسة لمجرد كونها تحمل اسم البرلمان المؤقت. لقد كانت الفكرة الأساسية لليمينيين أن الثورة تقود بشكل لا مهرب منه من السوفيات إلى البرلمانية البرجوازية. وربما أن البرلمان المؤقت يمثل خطوة في هذا الطريق، فليس هنالك من سبب يجعلنا نرفض المشاركة ما دمنا سنحتل مراكز اليسار في البرلمان. إنه يجب - على حد قولهم- استكمال الثورة الديموقراطية و"الاستعداد" للثورة الاشتراكية. ولكن كيف يكون ذلك؟ في رأيهم يكون عن طريق المدرسة البرلمانية البرجوازية. ولما كانت البلدان المتقدمة تمثل صورة التطور المقبل للبلدان المتخلفة، ولما كانوا قد نظروا إلى قلب القيصرية بمنظار ثوري وهو ما حصل في الواقع، فإن استيلاء البروليتاريا على السلطة في رأيهم سيكون عن طريق البرلمانية المنبثقة عن الديموقراطية المكتملة، وبالتالي، حسب رأيهم، ستكون هناك فترة طويلة تمتد لعدة سنوات تفصل الثورة البروليتارية عن الثورة البرجوازية، ويقوم في أثنائها نظام ديموقراطي. لقد كان النضال من أجل المشاركة في البرلمان المؤقت نضالا في سبيل "أوروبنة Europeaniser" الحركة العمالية وقولبتها في أقرب وقت ممكن في مجرى "النضال" الديموقراطي "من أجل السلطة" أي في مجرى الاشتراكية-الديموقراطية-. كان فريقنا في الاجتماع الديمقراطي يعد أكثر من مائة عضو، ولم يكن يختلف في شيء - خاصة في تلك الظروف- عن أي مؤتمر للحزب، وقد أعرب القسم الأكبر منه عن تأييده للمشاركة في البرلمان المؤقت. وهذه الحقيقة وحدها كانت كافية، بحكم طبيعتها أن تثير قلقا بالغا لدى لينين، فأخذ يدق ناقوس الخطر. وكتب غداة المؤتمر الديمقراطي قائلا: "سوف نرتكب من جانبنا، خطأ فادحا، ونقع في بلاهة برلمانية لا مثيل لها لو قبلنا المؤتمر الديمقراطي أو البرلمان المؤقت. ذلك أنه حتى لو أعلن هذا المؤتمر عن نفسه أنه البرلمان المستقر للثورة فإنه لن يقرر شيئا، فالمقررات الحقيقية تتخذ خارجه حيث تقررها الأحياء العمالية في بطرسبورغ وموسكو". أما موقفه من البرلمان المؤقت فتوضحها رسالته إلى اللجنة المركزية المؤرخة في 29 سبتمبر والتي تتحدث عن "الأخطاء الصارخة التي ارتكبها البلاشفة، كالقرار المخجل المتعلق بالمشاركة في البرلمان المؤقت"، ففي اعتقاده أن هذا القرار يمثل الأوهام الديمقراطية والضلالات البرجوازية الصغيرة التي لم تـنقطع أبدا عن النضال ضدها. وليس صحيحا أن الثورة البرجوازية يجب أن يفصلها عن الثورة البروليتارية سنوات طويلة. وليس صادقا القول بأن المدرسة البرلمانية هي الوحيدة أو الرئيسية في التحضير للاستيلاء على السلطة. وليس صادقا أيضا القول بأن الطريق المؤدي للسلطة يمر، بالضرورة، بالديمقراطية البرجوازية. إن القول بمثل ذلك لا يكون سوى تجريدات خالية من الانسجام، وخطوط عريضة نظرية ليس لها من نتيجة سوى تقييد الطليعة، ووضع أيديها في السلاسل. إن القيام من خلال آلية الدولة "الديمقراطية" بالمعارضة التي تلعب دور الظل السياسي للبرجوازية معناه هنا التجسيد الكامل للاشتراكية-الديمقراطية. إن سياسة البروليتاريا يجب ألاّ تقاد من خلال ملخصات مدرسية، وإنما من خلال المجرى الحقيقي للصراع الطبقي. يجب أن لا نذهب للبرلمان وإنما يجب أن نعد الانتفاضة وننتزع السلطة من يد الخصم، فالبقية تأتي بعد ذلك. وقد ذهب لينين إلى حد إثارة الدعوة لعقد مؤتمر استثنائي للحزب يكون موضوعه الأساسي مقاطعة البرلمان المؤقت. وابتداء من هذا التاريخ أخذت مقالاته بالأخص تنمي هذه الفكرة: يجب أن لا نمر من خلال المؤتمر المؤقت وأن لا نضع أنفسنا قاطرة يجرها التوفيقيون. يجب النزول للشوارع وشن النضال من أجل السلطة.
--------------------------------------------------------------------------------
حول ثورة أكتوبر لم يكن من الضروري عقد مؤتمر استثنائي، إذ أن ضغط لينين أمن تحويل القوة الضرورية لليسار داخل اللجنة المركزية وكذلك بين فريقنا في البرلمان المؤقت حيث خرج البلاشفة منه يوم 10 أكتوبر. أما في بطرسبورغ فإن نزاع السوفيات مع الحكومة أخذ يجري حول إرسال الوحدات المرابطة في المدينة والموالية للبلاشفة إلى الجبهة. وفي 6 أكتوبر أنشأت اللجنة العسكرية الثورية كهيئة سوفياتية شرعية للانتفاضة. وهنا بدأ يمين الحزب يبذل قصارى جهده في كبح سير الحوادث، وبذلك كله دخل صراع الاتجاهات داخل الحزب وصراع الطبقات في البلاد المرحلة الحاسمة. وقد أوضحت رسالة حول الساعة الراهنة الممضاة من كامينيف وزينوفييف موقف اليمين على أكمل وجه. وأبانت دوافعه فقد كتبت هذه الرسالة يوم 11 أكتوبر أي قبل الثورة بأسبوعين، ووجهت إلى المنظمات الرئيسية في الحزب، ثائرة ثورة تامة ضد قرار اللجنة المركزية القاضي بالقيام بالثورة المسلحة، ومنبهة الحزب ضد إساءة تقدير قوى العدو، مستهينة استهانة كبيرة بقوى الثورة، منكرة حتى وجود نفسية قتالية لدى الجماهير (أسبوعين فقط قبل 25 أكتوبر). فهما يقولان: "نحن مقتنعون تماما بأن إعلان الثورة المسلحة في هذا الوقت ليس فقط لعبا بكيان حزبنا وإنما أيضا لعب بالثورة الروسية والعالمية". ولكن ماذا نفعل إذ لم نقرر الثورة وانتزاع السلطة؟ الرسالة تجيب على كل ذلك بوضوح قائلة: "إن الجيش والعمال يمثلون بأيدينا مسدس مصوبا نحو صدر البرجوازية نجبرها به على عقد الجمعية التأسيسية. وإذا أخذنا في الاعتبار أن حزبنا له أكبر حظ في انتخابات الجمعية التأسيسية وبأن نفوذ البلاشفة آخذ في الإزدياد، فإن تكتيكا صحيحا يجعلنا نفوز على اقل تقدير بثلثي مقاعد الجمعية التأسيسية". وبناء على ما جاء في هذه الرسالة، فإن الحزب يجب أن يلعب دور المعارضة "المؤثرة" في داخل الجمعية التأسيسية البرجوازية. وإلى هذا الحد فنحن أمام تصور اشتراكي-ديمقراطي مكشوف، خاصة إذا قرأنا في الرسالة الفقرة التالية: "إن مجالس السوفيات التي أصبحت عنصرا من عناصر حياتنا الدستورية لا يمكن أن تزول… إذ عليها ستعتمد الجمعية التأسيسية في عملها الثوري، ذلك أن النمط الدستوري الذي سنقوم عليه مؤسسات الدولة في المستقبل والنمط الذي يجمع بين الجمعية التأسيسية ومجالس السوفيات". وهذه النظرية القائلة بازدواج السلطة داخل الدولة، والتي تريد أن تجمع بين الجمعية التأسيسية ومجالس السوفيات ليست ظاهرة فريدة وإنما هي طابع مميز للخط العام لليمينيين أينما كانوا، ولذا وجدنا آدلر هلفيردينج الألماني-النمساوي، بعد عام ونصف أو عامين يعتنقانها في ألمانيا، وهو رجل قاوم أيضا استيلاء البروليتاريا على السلطة دون أن يخامره الشك لحظة بأنه يرتكب سرقة لحقوق التأليف. رسالة حول الساعة الراهنة تلاحظ أننا أصبحنا نملك أغلبية الشعب في روسيا ولكنها لا تأخذ في الحسبان إلاّ الأغلبية البرلمانية المحنطة: "في روسيا نملك تأييد أغلبية العمال وجزءا مهما من الجنود، وما عدا ذلك فمشكوك فيه، نحن مقتنعون مثلا بأنه لو جرت انتخابات الجمعية التأسيسية لصوت الفلاحون في أغلبيتهم مع الاشتراكيين الثوريين. ونعتقد أن هذا ليس محض صدفة". إن طرح المسألة على هذا النحو يحمل في طيه خطأ جذريا، ألا يمكن إدراك أن الفلاحين لهم مصالح ثورية قوية، ورغبة جامحة لتلبيتها وأنهم لا يستطيعون أن يكون لهم موقف سياسي مستقل. إذ أنهم بالإجمال إما أن ينتموا إلى جانب البرجوازية، بإعطاء أصواتهم إلى الاشتراكيين الثوريين أو يقفوا بنشاط إلى جانب البروليتاريا. وعلى سياستنا يعتمد اختيارهم أحد الطريقين. فإذا ذهبنا نحن إلى البرلمان المؤقت لنلعب دور المعارضة داخل الجمعية التأسيسية فإننا نضعهم بذلك تلقائيا أمام وضع لا بد عليهم فيه أن يبحثوا عن تلبية رغباتهم ومصالحهم بواسطة الجمعية التأسيسية، وعن طريق الأغلبية لا المعارضة بينما يكون الأمر بالعكس لو استولت البروليتاريا على السلطة إذ أن هذا الاستيلاء سيخلق في الحال إطارا ثوريا لنضال الفلاحين ضد كبار الملاك وضد الموظفين. ولهذا فإني أقول مستعملا التعبير الجاري: بأن الرسالة تحتوي في آن واحد على سوء تقدير، ومبالغة لقوة الفلاحين. سوء تقدير لإمكانياتهم الثورية (تحت قيادة البروليتاريا) ومبالغة في مدى استقلالهم السياسي. وهذا الخطأ المزدوج ينبع بدوره من سوء تقدير سير قوة البروليتاريا وحزبها. أي من تصور اشتراكي-ديموقراطي للبروليتاريا. وليس هنا شيء مفاجئ، إذ أن كل ألوان الانتهازية السياسية تعتمد كأساس لها -في نهاية التحليل- على تقييم غير عقلاني لقوى الثورة ولإمكانيات البروليتاريا. إن محرري الرسالة وهما يقاومان فكرة الاستيلاء على السلطة لاذا إلى إرهاب الحزب باحتمالات الحرب الثورية: "إن جماهير الجنود تدعمنا لا من أجل شعار الحرب وإنما من أجل شعار السلم… وإذا استلمنا السلطة وحدنا فإننا سنصل في يوم ما -إذا أخذنا الوضعية الدولية في الاعتبار- إلى ضرورة شن حرب ثورية، وإذاك تبتعد عنا جماهير الجنود. وإذا كان من المؤكد أن النخبة الشابة من هؤلاء ستبقى معنا فإن جماهيرها ستغادر صفوفنا". إن هذا الاستدلال على غاية من الأهمية، ذلك أننا نجد فيه بعد ذلك الأسباب الأساسية للنضال في سبيل عقد صلح بريست لي توفسكي، ولكن الصدف جعلت منه في هذا الوقت أداة ضد الاستيلاء على السلطة، من الواضح أن الموقف الذي اتخذ في هذه الرسالة سهل فقط لمحرريها ومناصريهم قبول صلح بريست، ولكن أن نعيد هنا ما كنا ذكرناه آنفا، وهو أن ما يميز عبقرية لينين السياسية ليس هو التسليم المؤقت في بريست إذا ما نظر إليه على انفراد، وإنما تبرز عبقريته من خلال الحلف الذي ألفه بين أكتوبر وبريست. وهذا ما يجب عدم تناسيه. تناضل الطبقة العاملة وتنمو في ظل الوعي على أن خصمها أقوى منها، وهذا أمر نلحظه دائما في الحياة. فالخصم يملك الثروة والسلطة وكل وسائل الضغط الأيديولوجي والاضطهاد، والتعود على هذه الفكرة أي على تفوق قوة الخصم تشكل عاملا بناء في حياة وعمل حزب ثوري ما زال في طور التحضير والاعداد، وإذا حدث أن الحزب ترك نفسه بأعمال غير حذرة أو غير ناضجة، فإنه فجأة يجد نفسه أمام قوة عدوة حاضرة تترقب. ولكن يأتي يوم تصبح فيه عادة اعتبار تفوق الخصم في القوة، العائق الرئيسي في تحقيق النصر، لأن ضعف البرجوازية اليوم يختفي بشكل أو بآخر في ظل قوتها بالأمس. "أنكم تسيئون تقدير قوة العدو!" إن هذا الشعار يمثل نقطة التقاء أولئك الذين يعادون قيام الثورة المسلحة. وقد كتب اليمينيون في هذا الصدد قبل النصر بأسبوعين قائلين: "يجب على كل الذين يرفضون ببساطة البحث في أمر الثورة المسلحة أن يزنوا ببرودة الاحتمالات. ونحن نعتقد أن من واجبنا أن نقول أنه من أضر الأشياء أن يساء تقدير قوة الخصم، كما انه من أضر الأشياء أيضا المبالغة في تقدير قوتنا. إن قوة العدو أكبر بكثير مما قد يبدو. إن بطرسبورغ هي التي تقرر نتيجة الصراع. وفي هذه المدينة كدس خصوم حزب البروليتاريا قوة ذات اعتبار: خمسة آلاف من أبناء النبلاء المسلحين جيدا والمنظمين بإحكام يريدون ويحسنون القتال بشراسة. بالإضافة إلى الأركان العامة، وفرق الصدام، والقوزاق، وقسم لا بأس به من الحامية، وجزء كبير من المدفعية يطوق بطرسبورغ على شكل مروحة. زد على ذلك أن خصومنا يحاولون تقريبا بنجاح عن طريق اللجنة المركزية التنفيذية أن يستقدموا جيوشا من الجبهة." (حول الساعة الراهنة). من الواضح أن الأمر خلال حرب أهلية لا يرجع إلى تعداد الكتائب وإنما إلى تقييم درجة الوعي، ولذلك فإنه من غير الممكن على الإطلاق الوصول إلى دقة كاملة. فلينين نفسه قدر أن العدو يملك قوى هامة في بطرسبورغ واقترح أن تبدأ الثورة أولا من موسكو حيث يمكن فيها -حسب رأيه- تجنب إراقة الدماء. ومثل هذه الأخطاء الجزئية في التقدير لا يمكن تجنبها حتى في أكثر الظروف مؤاتاة. ويكون التعقل أكثر عندما تقع مواجهة أسوأ الاحتمالات. ولكن الذي يهمنا في هذه المناسبة هو ظاهرة المبالغة في تقدير قوى العدو، والتشويه التام لكل النسب، في حين أن العدو لا يملك في الحقيقة أي قوة مسلحة. وهذه المشكلة كما أظهرت التجربة الألمانية لها أهمية بالغة. ولما كان شعار الثورة بشكل رئيسي، إذا لم نقل استثنائي، وسيلة تحريض بالنسبة لقادة الحزب الشيوعي الألماني، فإنهم لم يفكروا في القوات المسلحة التي يملكها العدو (الراشويهر، الفرق الفاشية، الشرطة) وبدا لهم أن المد الثوري المتصاعد دون انقطاع سوف يحل وحده المشكلة العسكرية. ولكنهم عندما وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام المشكلة فإن هؤلاء الرفاق أنفسهم الذين اعتبروا، بشكل أو بآخر، قوة العدو غير موجودة، سقطوا في أول وهلة في الطرف الآخر، فأخذوا يوافقون في ثقة على كل الأرقام التي تعطى لهم حول القوات المسلحة البرجوازية، ويضيفونها إلى الراشويهروالشرطة، ثم يدورون الرقم ليصلوا به إلى (النصف مليون وأكثر) وهكذا يجدون أمامهم جمهورا كثيفا مسلحا حتى الأسنان كفيلا بأن يشل جهودهم بدون منازع. كانت قوى الثورة المضادة الألمانية ذات اعتبار أكثر لأنها كانت أكثر تنظيما وإعدادا من قوات الكورنيلوفيين عندنا أو أنصاف الكورنيلوفيين. ولكن القوات العاملة للثورة الألمانية أيضا كانت تختلف عن القوات الثورية عندنا. فالبروليتاريا كانت تمثل الأغلبية الساحقة من سكان ألمانيا، بينما كانت الأمور عندنا تتوقف على بطرسبورغ وموسكو، أو هكذا على الأقل في المرحلة الأولى. أما في ألمانيا فإن الثورة كان يمكن أن يكون لها منذ البدء مراكز بروليتارية عديدة. ولو أن قادة الحزب الشيوعي الألماني فكروا في ذلك، لظهرت لهم قوات العدو المسلحة أقل وطأة مما لو نظر إليها من خلال تقييمها الإحصائي المفرط في الانتفاخ. وعلى أية حال فإنه يجب الكف كليا عن التقديرات الجزافية التي وقعت، ولا زالت مستمرة، بعد فشل أكتوبر ألمانيا بغرض تبرير السياسة التي قادت إلى هذا الفشل. وتجربتنا في روسيا، بهذه المناسبة، لها أهمية خاصة: فقبل أسبوعين من انتصارنا الذي لم يرق فيه دم في بطرسبورغ، وهو الانتصار الذي كان يمكن أن نحققه قبل تاريخ وقوعه بأسبوعين، رأى بعض ساسة حزبنا المجربين أعدادا من القوى العدوة تتجه ضدنا، الجونكر Junkers الذين يريدون ويحسنون القتال، وحدات الصدام، القوزاق، جزء معتبر من الحامية، المدفعية التي تشكل مروحة حول بطرسبورغ، قوات مجلوبة من الجبهة، في حين لم يكن في الواقع شيء من ذلك، على الإطلاق. لنفترض الآن للحظة، ماذا كانت ستؤول إليه الثورة لو أن خصوم الانتفاضة كانت لهم اليد العليا على الحزب وعلى اللجنة المركزية. ولو لم يستنجد لينين بالحزب على اللجنة المركزية. ولو كان مستعدا له على الدوام وقام به بنجاح؟ بكل تأكيد، كانت ستقدم قربانا على مذبح خراب، وليست كل الأحزاب لها أمثال لينين عندما تواجه نفس المواقف. ولنتصور أيضا الطريقة التي كان سيكتب بها التاريخ لو أن الاتجاه الذي تنكب عن الدخول في المعركة انتصر داخل اللجنة المركزية. إن المؤرخين الرسميين ما كانوا ليترددون لحظة في عرض الوضع بصورة تبرهن على أن الانتفاضة كانت جنونا حقيقيا في أكتوبر 1917، ولكانوا قدموا إلى القراء إحصائيات خيالية حول عدد الجونكر، والقوز اق ووحدات الصدام، والمدفعية "المشكلة على شكل مروحة"، والجيوش الآتية من الجبهة. إن هذه القوات التي لم توضع على المحك في الانتفاضة ربما كانت تبدو مخيفة جدا أكثر مما كانت في الواقع، وهذا هو الدرس الذي يجب أن يرسخ في وعي كل ثوري. إن ضغط لينين وإلحاحه الذي لا يكل على اللجنة المركزية كان مدفوعا بالخوف من أن يفوت الأوان. لكن اليمينيين كانوا يردون: ترهات! إن نفوذنا يزداد يوما بعد يوم. فمن على صواب؟ وماذا تعنون بفوات الأوان إذا؟ سنتناول بالتحليل هذه القضية التي يصطدم فيها التقييم البلشفي الإيجابي الاستراتيجي للطرق والأساليب الثورية مع التقييم الاشتراكي-الديموقراطي المنشفي المشبع قدرية في أنقى صوره. فماذا إذا يعني فوات الأوان؟ من الأمور البديهية أن أنسب وقت للثورة هو ذلك الوقت الذي تكون فيه نسبة القوى مائلة لمصلحتنا. ونحن حينما نتحدث عن نسبة القوى فإنما نقصد تلك التي تقع في ميدان الوعي وما يتبعه من نقاوة في الروح المعنوية لدى الأطراف المتنازعة والمعبر عنه بالبناء الفوقي السياسي، إذ في ظل أساس اقتصادي واحد، وتحت اختلافات طبقية بعينها، وهو الأساس الذي يعتبر ثابتا إلى حد ما خلال الفترة الثورية، تتغير نسبة القوى تبعا للحالة النفسية للجماهير البروليتارية، ودوبان أوهامها وتكدس خبراتها السياسية، بالإضافة إلى انهيار ثقة الفئات والطبقات الوسطية بالسلطة الحكومية، وضعف ثقة هذه الأخيرة في نفسها. وخلال زمن الثورة تتم كل هذه العمليات بصورة جديدة. وإذاك يتركز كل فن التكتيك في إدراك الظرف الذي تجتمع فيه هذه الشروط ليصبح أكثر مؤاتاة لنا. وكان عصيان كرنيلوف قد هيأ لنا تماما هذه الشروط. فالجماهير التي فقدت ثقتها في أحزاب الأغلبية السوفيتية ورأت بعينها خطر الثورة المضادة، اعتبرت أن الوقت قد حان لإيجاد مخرج للوضع عن طريق البلاشفة. وما كان بالإمكان أن تدوم لمدة طويلة كراهية السلطة الحكومية ولا ثقة الجماهير العفوية المزدحمة حول البلاشفة، التي تطالب بإلحاح، أنه يجب حل الأزمة، بصورة أو بأخرى، الآن أو إلى الأبد، كما قال لينين. وجوابا على هذا يرد اليمينيون بقولهم: "إنه لخطأ تاريخي كبير أن تطرح مسألة استيلاء حزب البروليتاريا على السلطة بهذه الطريقة: الآن أو إلى الأبد، ذلك أن حزب البروليتاريا في نمو مطرد وبرنامجه يتضح أكثر يوما بعد يوم لجماهير تتسع أعدادها شيئا فشيئا… ولن يقطع تقدم نجاحاته إلاّ المبادرة الآن بالثورة في الظروف الراهنة… إننا نحذر من هذه السياسة المشؤومة" (حول الساعة الراهنة). إن هذا التفاؤل القدري الذي تبديه الرسالة يحتاج إلى دراسة يقظة لأنه ليس خاصة وطنية، ولا فردية على الإطلاق. فلم يمض وقت طويل حتى رأيناه في ألمانيا في العام الماضي وهو في جوهره ليس سوى الميوعة والعجز عن الفعل المتخفي وراء قدرية توقعية، ولكنه أيضا يقتنع لصالح تخمينات مخدرة، ونحن نصبح -كما تقول الرسالة- ذوي تأثير أكثر فأكثر، وقوتنا تتزايد مع الزمن! يا له من خطأ فادح! إنها تتجاهل أن قوة حزب ثوري ما تنمو إلى حدود معينة تصبح بعدها معرضة للهبوط، إذ أمام جمود الحزب تتبدد آمال الجماهير وتختفي لتحل محلها الخيبة، وفي هذا الوقت يبدأ العدو الذي أخذ يستفيق من كبوته بالاستفادة من تلك الخيبة. وهذا ما حصل بالضبط في ألمانيا في أكتوبر 1923. ولم نكن نحن في روسيا بعيدين عنه جدا في خريف 1917. وكان يكفي أن نتأخر أسابيع أخرى لكي يقع، ولذلك أصاب لينين حين قال: "الآن أو إلى الأبد!". إلاّ أن خصوم الانتفاضة يجيـبون قائلين، وفي هذا حجتهم الأقوى والأخيرة: "إن القضية الحاسمة تكمن فيما يلي: هل الوضع النفسي لعمال وجنود العاصمة بلغ حقا درجة أصبحوا فيها لا يرون سبيلا للنجاة إلاّ في قتال الشوارع، ويريدونه بأي ثمن؟ إن هذه النفسية لا وجود لها… ولن توجد، ولا تكون مضمونة بين صفوف الجماهير الفقيرة بين سكان العاصمة إلاّ إذا أخذ هؤلاء المبادرة في الثورة، وجروا ورائهم المنظمات الأكثر أهمية والأكثر اعتبارا (نقابة السكك الحديدية ومراكز البريد والبرق الخ…) وهي المنظمات التي لا زال نفوذ حزبنا فيها ضعيفا. وما زالت هذه الوضعية النفسية مفقودة حتى في المصانع والثكنات فإنه يكون من الخداع أن نبني عليها مخططاتنا. (حول الساعة الراهنة). هذه السطور التي كتبت يوم 11 أكتوبر لها أهمية استثنائية في الوقت الراهن خاصة إذا تذكرنا بأن الرفاق الألمان الذين قادوا الحزب أيضا تعللوا عند توضيح انسحاب العام الماضي الذي تم دون قتال، بأن الجماهير لم تكن راغبة فيه. ولكن الذي يجب فهمه جيدا: أن الانتفاضة المنتصرة هي التي تكون بشكل عام مضمونة أكثر، وذلك عندما تكون الجماهير قد أخذت كفايتها من التجربة، بحيث لا ترتمي دون روية في القتال، وتنتظر، وتطلب قيادة مقاتلة حاسمة وذاتية. ففي أكتوبر 1917 بعد تجربتي أبريل ويوليوز وبعد عصيان كورنيلوف، فهمت الجماهير العمالية، أو على الأقل النخبة منها، فهما جيدا أن المسألة لا تتعلق باحتجاج عفوي وجزئي، أو باستكشافات، وإنما تتعلق بالانتفاضة الحاسمة من أجل الاستيلاء على السلطة. وإذاك تكثـفت حالتها النفسية، وأصبحت نقدية ومتروية أكثر. إن الانتقال من العفوية الوثوقية الملأى بالأوهام إلى الوعي الأكثر نقدية يولد بصورة حتمية أزمة ثورية. وهذه الأزمة المتنامية لا يمكن تجاوزها فعليا إلاّ بسياسة خاصة بالحزب، أي أن يكون قبل كل شيء له الإرادة والكفاءة الحقيقيتان لقيادة إنتفاضة البروليتاريا. وبالعكس من ذلك عندما يكون حزب ما قد قاد لفترة طويلة تحريضا ثوريا، ونزع شيئا فشيئا البروليتاريا من تأثير العناصر والأحزاب التوفيقية، ثم حدث في يوم ما أن رفعته ثقة الجماهير إلى قمة الأحداث، فبدأ يتردد ويتلكأ، يراوغ ويشل من نشاط الجماهير، ويثير فيها الغرور وقلة التنظيم، فإنه حتما يضيع الثورة إلاّ أنه يضمن مقابلها تعلة نقص نشاط الجماهير. وإلى هذا الطريق أرادت رسالة حول الساعة الراهنة أن تقود منظمتنا. ولكن من حسن الحظ أن حزبنا بقيادة لينين قضى بحسم على هذه النفسية في الأوساط القائدة، وبفضل ذلك وحده حقق الانتفاضة بنجاح. ******* والآن بعد أن كشفنا عن جوهر القضايا السياسية المرتبطة بالتحضير لثورة أكتوبر، وبعد أن حاولنا تسليط الأضواء على المعنى العميق للخلافات بالرأي داخل الحزب، بقي علينا أن نفحص في إيجاز الظروف الهامة للصراع الذي دار داخل الحزب في الأسابيع الأخيرة الحاسمة. اتخذت اللجنة المركزية قرارا بقيام الانتفاضة المسلحة يوم 10 أكتوبر، وفي يوم 11 منه وجهت رسالة الساعة الراهنة إلى منظمات الحزب. وفي يوم 18 منه أي قبل أسبوع من الثورة نشر كامينيف رسالة النوفايا جيزن تقول: "ليس فقط زينوفييف وأنا، بل مجموعة أخرى من الرفاق ترى أن المبادرة بالانتفاضة المسلحة في الوقت الراهن وأمام السنية الحالية للقوى، وباستقلال عن مؤتمر مجالس السوفيات وقبل أيام من استدعائه، ستكون عملا غير مقبول ومشؤوما على البروليتاريا وعلى الثورة" (نوفيا جيزن، 8 أكتوبر 1917). وفي يوم 25 أكتوبر تم الاستيلاء على السلطة وتشكلت الحكومة السوفياتية في بطرسبورغ. وفي 14 نونبر قدم كثير من المناضلين الكبار استقالتهم من اللجنة المركزية وفي مجلس مفوضي الشعب (أي الحكومة) مطالبين بتكوين حكومة ائتلافية من الأحزاب الموجودة داخل مجالس السوفيات "وإلاّ - كتبوا قائلين- التسليم لحكومة بلشفية محضة تفرض نفسها بواسطة الإرهاب السياسي". وفي وثيقة أخرى مكتوبة في ذلك الوقت أيضا نجد "نحن لا نستطيع تحمل مسؤولية هذه السياسة المشؤومة التي تطبقها اللجنة المركزية ضد إرادة جزء كبير من البروليتاريا والجنود الذين يريدون في أقرب وقت ممكن كف إراقة الدماء بين مختلف الفئات الديمقراطية، ولهذا السبب نقدم استقالتنا من عضوية اللجنة المركزية ليكون لنا الحق في قول رأينا بكل صدق لجماهير العمال والجنود وحثهم على تأيـيد شعارنا "لتحيا حكومة مؤلفة من الأحزاب السياسية! الاتفاق حالا على هذا الأساس!" (إنتفاضة أكتوبر، أرشيف ثورة 1917). وهكذا فإن أولئك الذين قاوموا الإنتفاضة المسلحة وعارضوا بتسلم السلطة باعتبارها مغامرة، جاؤوا بعد انتصار الانتفاضة يريدون إرجاع السلطة إلى الأحزاب التي انتزعتها البروليتاريا من يدها، بأي حق يرجع الحزب البلشفي السلطة - إذ أن الأمر هنا يتعلق بإرجاع السلطة- إلى المناشفة والاشتراكيين الثوريين؟ إن أعضاء المعارضة يجيبون: "إننا نعتقد أن تكوين مثل تلك الحكومة ضروري لتفادي سفك الدماء الذي يمكن أن يقع، ولتجنب المجاعة التي تهدد البلاد، واتقاء لسحق الثورة من انتصار خالدين، ولتأمين استدعاء الجمعية التأسيسية في الموعد المقرر، ولتطبيق برنامج السلام الذي أقره مؤتمر مجالس سوفيات عموم روسيا". وبعبارة أخرى، فإنه يجب إيجاد باب سوفياتي ينفذ على طريق البرلمانية البرجوازية، وإذا كانت الثورة قد رفضت أن تمر عبر البرلمان المؤقت، وحقرت مجراها بواسطة إنتفاضة أكتوبر، فإن المهمة - حسب رأي المعارضة- التي يجب القيام بها هي انقاد الثورة من الديكتاتورية وتقنينها في نظام بورجوازي عن طريق اللقاء مع المناشفة والاشتراكيين الثوريين، وبالطبع فليس هناك إشكال في الاتفاق على شروط معينة. وغداة 5 نونبر ظهرت أيضا رسالة يبرز فيها نفس الاتجاه تقول: لا أستطيع باسم الانضباط الحزبي، السكوت عندما يكون الماركسيون خلافا للمعقول، ورفضا لما تفرضه الأوضاع لا يريدون أن يفهموا الظروف العملية التي تملي علينا الاتفاق مع الأحزاب السياسية… لا أستطيع باسم الانضباط أن امنح نفسي لعبادة الشخصية، أو أن استتبع من مشاركة سابقة لهذا أو ذاك من الأشخاص في الوزارة اتفاقا سياسيا مع كل الأحزاب الاشتراكية، ذلك الاتفاق الذي يدعم مطالبنا الأساسية، وأن أي تأخير فيه سوف يجلب إراقة الدماء… (الجريدة العمالية، نونبر 1917). إن كاتب هذه الرسالة هو لوزوفسكي Losovsky يخلص في النهاية إلى المطالبة بضرورة النضال من أجل عقد مؤتمر للحزب ليقرر "ما إذا كان الحزب البلشفي ما يزال حزبا ماركسيا للطبقة العاملة أو أنه سيلتزم طريقا أخرى لا علاقة لها بالماركسية الثورية". كانت تبدو الحالة شبه ميؤوس منها. فلم تكن فقط البرجوازية، ولا ملاك الأرض الكبار، ولا "الديمقراطية الثورية" التي كانت تضم عدة منظمات (اللجنة التنفيذية لعمال السكك الحديدية في عموم روسيا، لجنة الجيش، الموظفون الخ…) وإنما أيضا مناضلون ذوو تأثير من حزبنا، أعضاء في اللجنة المركزية وفي مجلس مفوضي الشعب. كل هؤلاء يدينون علنا محاولة الحزب البقاء في السلطة وتطبيق برنامجه. إن أية نظرة سطحية للحالة إذاك تظهر أن الوضع ميؤوس منه، ذلك أن الموافقة على مطالب المعارضة كانت تعني القضاء على ثورة أكتوبر. ولم يبق من عمل سوى المضي إلى الأمام والإعتماد على الإرادة الثورية للجماهير. وفي 7 أكتوبر نشرت البرافدا تصريحا لا غموض فيه صادرا عن اللجنة المركزية ومحررا من قبل لينين يستمد روحه من الحماس الثوري، ويضمر صيغا واضحة بسيطة لا جدال فيها متجها بنظره إلى جماهير الحزب. وهو تصريح أزال كل الشكوك حول السياسة المقبلة للحزب وللجنة المركزية، يقول هذا التصريح: "العار لكل الرجال الذين ينقصهم الإيمان. العار لكل المترددين، العار لكل المتشككين، العار لكل أولئك الذين سمحوا بأن تخيفهم البرجوازية، أو صخبها المباشر وغير المباشر! ليس هناك ظل للتردد بين جماهير العمال والجنود من سكان بطرسبورغ أو موسكو أو غيرهما . إن حزبنا كالرجل الواحد سيحرس السلطة السوفياتية وسيسهر على مصالح كل الشغيلة خاصة منهم العمال والفلاحون الفقراء" (برافدا 20 نونبر 1917). ورغم أن الحزب قد تجاوز أحد أزمة إلا أن الصراع الداخلي لم ينقطع بعد. فقد استمر في السير على نفس الخط ولكن أهميته السياسية أخذت تنقص شيئا فشيئا. ونجد شاهدا مهما جدا على ذلك التقرير الذي كتبه أوريسكي لجلسة لجنة حزبنا في بطرسبورغ في 12 ديسمبر حول موضوع استدعاء الجمعية التأسيسية ففيه يقول أن اختلاف وجهات النظر في حزبنا ليس جديدا، وهو يتبع نفس الخط الذي سارت فيه قضية الإنتفاضة والآن يعتبر بعض الرفاق الجمعية التأسيسية تتويجا للثورة فهم يفكرون كما يفكر البرجوازيون الصغار ويطلبون أن لا نقع في عدم الكياسة الخ… ولا يريدون أن يراقب البلاشفة الأعضاء في الجمعية التأسيسية دعوتها، ونسبة القوى فيها الخ… فهم يقدرون الأشياء من خلال نظرة شكلية ولا يفهمون أن معطيات تلك المراقبة تسمح لنا برؤية ما يجري حول الجمعية التأسيسية، وبالتالي تتيح لنا تحديد موقفنا من هذه نفسها… إننا نناضل الآن في سبيل مصالح البروليتاريا وفقراء الفلاحين في حين أن بعض الرفاق يتصور أننا نصنع ثورة برجوازية سوف تنتهي بالجمعية التأسيسية". وقد كان حل الجمعية التأسيسية علامة انتهاء مرحلة في تاريخ روسيا وفي تاريخ حزبنا، وبعد أن تم تجاوز الصعوبات الداخلية، لم يستطع حزب البروليتاريا فقط أخذ السلطة وإنما أيضا الاحتفاظ بها.
--------------------------------------------------------------------------------
انتفاضة أكتوبر و"الشرعية" السوفيتية. في سبتمبر ويوم انعقاد المؤتمر الديمقراطي، كتب لينين يطالب بالقيام بالانتفاضة حالا: :لكي ننظر إلى الانتفاضة كماركسيين، أي ننظر إليها كفن يجب علينا في نفس الوقت دون إضاعة لحظة واحدة، أن ننظم أركان عامة لكتائب الانتفاضة، ونوزع قوانا بحيث تحتل الفصائل المخلصة أهم النقاط، وتطوق مسرح الاكسندرا، وتحتل قلعة بيتر وبول وتعتقل الأركان العامة والحكومة، وتبعث إلى الطلبة -الضباط وإلى "الكتيبة المتوحشة" فرقا مستعدة للتضحية إلى آخر رجل من رجالها في سبيل أن لا تترك العدو يدخل إلى أجزاء المدينة الرئيسية. يجب علينا أن نحرك كتائب العمال المسلحة وندعوهم إلى المعركة المقدسة واحتلال البرق والهاتف المركزي في آن واحد. وهنالك نقيم أركاننا العامة ونربطها تليفونيا مع كل المصانع ومع كل الفرق ومع كل النقاط التي يجري فيها الصراع المسلح الخ… إن هذا كله ليس سوى شيء تقريبي، ولكنني هنا أريد البرهنة على أننا في الوقت الراهن لا يمكن أن نبقى مخلصين للماركسية وللثورة دون أن نعتبر الانتفاضة فنا". إن هذه الطريقة في مواجهة الأشياء تفترض إعدادا للانتفاضة والقيام لها بواسطة الحزب، وتحت قيادته ثم بعد ذلك يتوج الانتصار بموافقة مؤتمر مجالس السوفيات. ولكن اللجنة المركزية لم توافق على هذه الطريقة. كان من رأيها أن الانتفاضة يجب أن تأخذ مجراها في الطريق السوفيتي وتكون مربوطة بمؤتمر مجالس السوفيات. أن هذا الخلاف يتطلب إيضاحا خاصا لأنه لا يدخل بالطبع في نطاق الخلافات المبدئية وإنما له صبغة فنية محضة، ومع ذلك فإن له أهمية كبيرة في المجال التطبيقي. سبق أن ذكرنا كيف قيم لينين فوات أوان الانتفاضة، ولعلمه بوجود ترددات في قمة الحزب، ولأن التحريض كان يربط ربطا صوريا بين الانتفاضة وبين انعقاد المؤتمر الثاني لمجالس السوفيات، ظهر له أن في ذلك تأخيرا لا يمكن قبوله وأنه مساومة مع الميوعة والمائعين وضياعا للوقت وهو جريمة حقيقية. ولذلك أخذ يتناول الفكرة ويدحضها أكثر من مرة ابتداء من آخر شتنبر، فكتب في 29 منه قائلا: "يوجد في اللجنة المركزية، ولدى بعض قادة الحزب، ميل، واتجاه، نحو انتظار مؤتمر مجالس السوفيات، وضد أخذ السلطة في الحال، ضد الانتفاض حالا، يجب مقاومة هذا الميل أو الاتجاه". ثم كتب في أول أكتوبر قائلا: "التأخر جريمة، وانتظار انعقاد مؤتمر مجالس السوفيات ليس سوى شكلية صبيانية عبثية بل خيانة للثورة". أما وجهة نظره حول مؤتمر بطرسبورغ المحدد عقده يوم 8 أكتوبر، فيقول "يجب النضال ضد الأوهام الدستورية والآمال المنعقدة على مجالس السوفيات، يجب عدم الانصياع إلى النيات التي تريد انتظار هذا المؤتمر بالضبط". ثم يضيف قائلا: "إن التاريخ لا يرحم تلكؤ الثوريين الذين في إمكانهم أن ينتصروا (ولا بد أن ينتصروا بالتأكيد) اليوم، ثم يخاطرون بذلك الانتصار بانتظار غد". تكتسي هذه الرسائل التي ضرب كل مقطع فيها على سندان الثورة، أهمية فائقة في معرفة طبيعة لينين وفي تقييمه لأهمية الوقت. فكل الروح التي تخيم على هذه الرسائل إدانة للموقف القدري الانتظاري الديمقراطي الاشتراكي المنشفي إزاء الثورة، لأن هذا الموقف يعتبرها كالفيلم الذي ليس له نهاية. وإذا كان الوقت بصورة عامة عاملا مهما في السياسة، فإن زمن الثورة والحرب أكثر أهمية من ذلك مائة مرة. وليس بصحيح أن ما يمكن فعله اليوم ممكن غدا. فاليوم يمكن أن تثور وتقلب العدو وتنتزع منه السلطة، أما غدا فربما يكون من غير الممكن، وربما يقع التساؤل: إن أخذ السلطة يعني تغير لمجرى التاريخ أيكون من الممكن أن يرتبط مصير حدث كهذا بمدى أربعة وعشرين ساعة؟ الجواب نعم، بكل تأكيد، ذلك أن الأمر عندما يتعلق بالانتفاضة المسلحة فإن الأحداث لا تقاس بمعيار السياسة وإنما بمعيار الحرب. أن تترك بعض أسابيع تمضي أو بعض أيام وفي أحيان أخرى يوم يساوي في بعض الظروف إلغاء الثورة إلى الإستسلام. فبدون ضغط لينين ونقده وقلقه الثوري ما كان بإمكان الحزب - وهذا شيء حقيقي- أن يمشي في الخط الذي سار فيه في اللحظة الحاسمة، إذ كانت المقاومة في الأوساط القيادية العليا قوية جدا. ففي الحرب الأهلية كما في الحرب بشكل عام، تلعب الأركان العامة دورا هاما. من الواضح أن إعداد الإنتفاضة تحت ستار التحضير للمؤتمر الثاني لمجالس السوفيات، وفي ظل شعار الدفاع عنه قدم لنا خدمات جليلة.كما أننا رفضنا نحن مجلس سوفيات بطرسبورغ أوامر كرنسكي القاضية بإرسال ثلثي الحامية إلى الجبهة جعلنا نصبح عمليا في حالة عصيان مسلح. إلاّ أن لينين الذي كان خارج بطرسبورغ لم يقدر هذا الأمر حق قدره، وحسب ما أذكر لم يتكلم عنه في رسائله، ومع ذلك فإن مصير إنتفاضة 25 أكتوبر تقرر ثلاث أرباعها على الأقلية عندما رفض إرسال حامية بطرسبورغ وشكلنا اللجنة العسكرية الثورية (7 أكتوبر) وعينا مفوضين في كل الوحدات والمؤسسات العسكرية، فعزلنا بذلك تماما ليس فقط الأركان العامة لمنطقة بطرسبورغ العسكرية، وإنما أيضا الحكومة. وبالإجمال فقد أصبحنا أمام انتفاضة مسلحة (إلاّ أنها من غير دم) لكتائب بطرسبورغ ضد الحكومة المؤقتة بقيادة اللجنة العسكرية الثورية وتحت شعار الإعداد للدفاع عن المؤتمر الثاني لمجالس السوفيات الذي يجب أن تحل مشكلة السلطة. وإذا كان لينين قد نصح ببدء الانتفاضة في موسكو، حيث كان يعتقد أنها مضمونة النجاح هناك دون إراقة دماء، فلأن بعده جعله لا يستطيع أن يقدر التحول الجذري الذي حصل، ليس فقط في الوضع التنظيمي، إذ أن كل السلم العسكري بعد الثورة "السلمية" لامية العاصمة قد تغير في حوالي منتصف أكتوبر. فمنذ ذلك الوقت، وبأوامر من اللجنة العسكرية الثورية أصبحت الكتائب ترفض الخروج من المدينة. وبذلك أصبح لدينا في العاصمة انتفاضة منتصرة شبه مقنعة (بواسطة الأسمال الأخيرة للديمقراطية البرجوازية). ولم تكن انتفاضة 25 أكتوبر سوى عمل تكميلي ولذلك كانت غير موجعة، وعلى عكس ذلك سارت الأمور في موسكو، فبينما كانت سلطة مجلس مفوضي الشعب قد أقامت أعمالها في بطرسبورغ، طال الصراع في موسكو وكان أكثر دموية. ومن البديهي أن الإنتفاضة لو بدأت في موسكو قبل بطرسبورغ لأخذت وقتا أكثر وكان نجاحها موضع شك، بالإضافة إلى أي فشل تمنى به في موسكو كان يعكس آثارا خطيرة على بطرسبورغ، ومع ذلك فإنه من المؤكد أنه حتى في ظل مخطط لينين كان النجاح ممكنا ولكن الطريقة الذي سارت فيه الحوادث كان أكثر اقتصادا وفائدة وأعطى نصرا أكثر اكتمالا. لقد كان بإمكاننا أن نقرن إلى حد ما تسلم السلطة مع انعقاد المؤتمر الثاني لمجالس السوفيات لسبب وحيد هو أن الإنتفاضة المسلحة وشبه "الشرعية" - على الأقل في بطرسبورغ- كان ثلاثة أرباعها، إن لم نقل تسعة أعشارها، قد أصبح شيئا واقعا وشرعيا بالنظر إلى أن ازدواجية السلطة كانت في تلك الظروف أمرا "عاديا"، إذ حدث أكثر من مرة أن راقب مجلس سوفيات بطرسبورغ أعمال الحكومة وعدل من قراراتها حتى على عهد التوفيقيين. ولما أصبح لنا نحن البلاشفة الأغلبية فيه زدنا استمرارية تلك الازدواجية وعمقناها. وأخذنا على عاتقنا مراقبة ومراجعة الأمر الصادر في الحكومة المؤقتة والقاضي بإرسال الحامية إلى الجبهة، وبذلك غطينا - استنادا إلى تقاليد وأساليب ازدواجية السلطة- تمرد حامية بطرسبورغ. وأكثر من ذلك، فإننا حين جعلنا في تحريضنا بين قضية السلطة وقضية انعقاد المؤتمر الثاني لمجالس السوفيات، كنا ننمي ونعمق تقاليد الازدواجية تلك، ونحضر الإطار السوفياتي للانتفاضة في جميع أنحاء روسيا. وتبنينا شعار النضال من أجل المؤتمر الثاني لمجلس السوفيات لم نكن نمني الجماهير بأوهام دستورية وإنما كنا نكسب ونجمع إلى جانب قضيتنا قوى الجيش الثوري، ونجحنا في نفس الوقت أكثر مما كنا نأمل في جر أعدائنا التوفيقيين إلى فخ الشرعية السوفياتية. صحيح أن المراوغة في السياسة دائما ذات عواقب خطيرة، وخاصة، زمن الثورة، إذ من الصعب خداع العدو، بالإضافة إلى أن ذلك قد يؤدي إلى خطر توجيه الجماهير التي تتبعك نحو وجهة خاطئة، إلاّ أو "مراوغتنا" نجحت تماما لأنها ليست اختراعا مصطنعا من خبير استراتيجي ذكي يريد إنهاء الحرب الأهلية، وإنما لأنها آتية طبيعية من تحلل النظام التوفيقي ومن تناقضاته الفاضحة. كانت الحكومة المؤقتة تريد التخلص من الحامية، والجنود يرفضون الذهاب إلى الجبهة، فأعطينا نحن لهذا الشعور الطبيعي تعبيرا سياسيا، وهدفا ثوريا، وغطاء "شرعيا" وبهذا ضمنا الاجتماع داخل الحامية، وربطناها ربطا متينا لعمال بطرسبورغ، في حين كان أعداؤنا على العكس من ذلك. ففي وضعهم اليائس والمضطرب كانوا يميلون إلى التمسك بالشرعية السوفياتية كثمن ناجز. ولما كانوا يريدون الوقوع في الخطأ مكناهم منه. فجرى بيننا وبينهم صراع من أجل الشرعية السوفياتية، وقد كانت مواقف الطبقات والفئات المختلفة من مجالس السوفيات كما يلي: البرجوازية لا تزال متشبثة بروما الإمبراطورية. الجماهير ترى في مجالس السوفيات مصدر السلطة، إذ منها تخرج كيرينسكي وتسيريتللي وكوبيليف. ونحن ارتبطنا بها ارتباطا حميما بطرحنا شعار كل السلطة للسوفيات. أما التوفيقيون فكانوا على عكسنا إلاّ أنهم يريدون إضعاف دورها إلى النهاية. ولكن لأنهم لا يستطيعون قطع صلتهم بها لجأوا إلى إقامة جسر بينها وبين البرلمانية فدعوا إلى المؤتمر الديمقراطي، وخلقوا البرلمان المؤقت الذي شاركت فيه مجالس السوفيات. وكانوا بذلك يريدون القبض على الثورة من خلال طعم لتقنيتها في مجرى البرلمانية البرجوازية. إلاّ أننا نحن أيضا كانت لنا مصلحة في استعمال تلك الشرعية. واستطعنا في نهاية المؤتمر الديمقراطي أن ننتزع منه الموافقة على دعوة المؤتمر الثاني لمجالس السوفيات فأوقعهم ذلك في بلبلة كبرى. إذ أنهم من جهة يستطيعون معارضة دعوته دون أن يقطعوا الحبل الذي يشدهم إلى الشرعية السوفياتية. ومن جهة أخرى لا ينتظرون من هذا المؤتمر بطبيعة تركيبه أي خير. وقد زاد في بلبلتهم تلك دعايتنا الملحاحة لهذا المؤتمر، ومناشدتنا إلى مساندته وحمايته ضد هجمات الثورة المضادة. وهكذا فإذا كانوا قد أمسكوا بنا من خلال الشرعية السوفياتية عن طريق البرلمان المؤقت المنبثق من مجالس السوفيات فإننا بدورنا قبضنا عليهم من خلال تلك الشرعية نفسها عن طريق المؤتمر الثاني لمجالس السوفيات. أن ننظم انتفاضة مسلحة تحت شعار أخذ السلطة من قبل الحزب فهذا شيء وأن نعد ثم نحقق انتفاضة تحت شعار الدعوة لضرورة الدفاع عن حق مؤتمر مجلس السوفيات فهذا شيء آخر. ونحن إذا ربطنا زمنيا بين أخذ السلطة والمؤتمر الثاني لمجالس السوفيات فإنه لم يكن لدينا أي أمل ساذج بأن هذا المؤتمر سيستطيع بنفسه حل قضية السلطة. فقد كنا بعيدين تماما عن مثل هذه العبادة للشكل السوفياتي. فنحن وجهنا نشاطنا للعمل الضروري في الميادين السياسية والتنظيمية والعسكرية للاستيلاء على السلطة. ولم تكن إشارتنا إلى أن المؤتمر المقبل هو الذي سيقرر قضية السلطة سوى غطاء شرعي لعملنا. فكنا ونحن نهاجم على طول الخط، نبدو وكأننا ندافع. في حين كانت الحكومة المؤقتة لو أرادت الدفاع عن نفسها جديا لوجب عليها أن تحظر عقد مؤتمر مجالس السوفيات. ولكن قيامها بمثل هذا العمل يعطي مرة أخرى لخصومها مبررا أقوى للانتفاض، بل أكثر من ذلك فنحن لم نضع الحكومة المؤقتة في موقف سياسي محرج فقط وإنما أيضا حذرناها. لقد كان أعضاء الحكومة يعتقدون جديا، بأن ما نريده إنما هو البرلمانية السوفياتية، وأن ما نريده من مؤتمر مجالس السوفيات هو قرارات حول السلطة كتلك القرارات التي اتخذها كل من مجلسي سوفيات بطرسبورغ وموسكو في الماضي. وبعد ذلك تحيلها الحكومة إلى البرلمان المؤقت ثم إلى الجمعية التأسيسية المقبلة، وتقدم لنا انحناءة حبية ثم تضعنا في موقف مضحك. ذلك هو تفكير البرجوازيين الصغار الأكثر معقولية. ولدينا على ذلك دليل لا جدال فيه في شهادة كرنسكي. ففي مذكراته يحكي عن مناقشة وقعت بينه وبين دان Dan ليلة 24-25 أكتوبر حول موضوع الانتفاضة التي كانت تسير على أشدها. يقول: "صرح لي دان أول ما صرح بأنه أكثر اطلاع مني وأني أبالغ في الحوادث تحت تأثير اتصالات الأركان العامة الرجعية بي. ثم أكد لي بأن قرار أغلبية السوفيات، الذي لن يكون مستحبا "بالنسبة لذات الحكومة" سوف يساهم دون جدال في أحداث تحول في أذهان الجماهير لصالح الحكومة. وأن مفعوله منذ الآن يمكن الإحساس به، وأن تأثير الدعاية البلشفية سوف "ينزل بسرعة". "ومن جهة أخرى - حسب رأيه- فإن البلاشفة في محادثاتهم مع الأغلبية السوفياتية أعلنوا أنهم مستعدون "لأن يكونوا تحت إرادة أغلبية السوفيات" ومستعدون لأن يأخذوا "ابتداء من غد كل الإجراءات الكفيلة بخنق الانتفاضة "التي انفجرت عكس رغبتهم وبدون قرار منه". ثم أضاف دان بأن البلاشفة "ابتداء من غد" (غدا إلى الأبد!) سوف يصرفون أركانهم العامة العسكرية. ويستنتج من ذلك أن كل الإجراءات التي اتخذتها الانتفاضة لن يكون لها مردود سوى "دفع الجماهير إلى اليأس" وأنني "بخلقي" هذا لا أفعل سوى "منع ممثلي الأغلبية السوفياتية من النجاح في محادثاتهم مع البلاشفة للقضاء على الإنتفاضة". "وفي هذا الوقت الذي كان يجري فيه معي دان هذه المكالمة كانت الفرقة المسلحة للحرس الأحمر تحتل المباني الحكومية واحدة اثر الأخرى. وبعد قليل من مغادرة دان ورفاقه قصر الشتاء، وقع إيقاف وزير الديانات كارتشيف Cartachev فوق المليونايا واقتيد يدا وسمونللي حيث رجع دان ليواصل محادثاته مع البلاشفة. يجب أن نعترف بأن البلاشفة كانوا في ذلك الحين يعملون بطاقة كبيرة وبمهارة تامة. ففي حين كانت الانتفاضة على أشدها في المدينة و"الحرس الأحمر" يقوم بالعملياتفيجميع أنحاء المدينة كان بعض الزعماء البلاشفة المعينين خصوصا لهذه المهمة يجهدون أنفسهم بنجاح في المساومة مع ممثلي "الديمقراطية الثورية". وقضى هؤلاء المخادعون الليلة كلها يناقشون بدون نهاية الصيغ التي يجب - حسب قولهم- أن تتخذ كقاعدة للمصالحة وتجميد الانتفاضة. وبواسطة هذا الأسلوب من "المحادثات" كسب البلاشفة وقتا ثمينا جدا بالنسبة لهم وبقيت القوات المقاتلة التابعة للاشتراكيين الثوريين والمناشفة بلا تحرك في الوقت المناسب وهذا ما يجب إيضاحه!" (أ. كرنسكي من بعيد). إن ما يجب إيضاحه حقا، هو أن التوفيقيين - كما رأينا- تركوا أنفسهم يقعون تماما في فخ الشرعية السوفياتية. أما ما يقوله كرنسكي من أن بعض البلاشفة كانوا معينين لمهمة إيقاع المناشفة والاشتراكيين الثوريين في وهم التجميد المقبل للانتفاضة، فهو غير صحيح. ذلك أن البلاشفة الذين اشتركوا في المحادثات كانوا يريدون فعلا تجميد الانتفاضة وتكوين حكومة اشتراكية تستند إلى اتفاق بين الأحزاب. هذه المحادثات أدت موضوعيا بعض الخدمة للانتفاضة بتغذية أوهام العدو بأوهام أولئك البلاشفة، وما كان لها أن تؤدي هذه الخدمة لولا أن الحزب رغما عن نصائحهم وإنذاراتهم قاد وأكمل الانتفاضة بطاقة لا تمل. إن نجاح هذه المناورة العريضة التي استعملت كغطاء كان يستلزم توفر ظروف استثنائية عديدة، منها الكبير ومنها الصغير. ولكن الذي يجب توفره قبل كل شيء هو وجود جيش لا يريد القتال، ذلك أن تطور الثورة وخاصة في الفترة الأولى بما فيه فبراير وأكتوبر كان يأخذ وجها آخر لو أنه لم يكن لدينا زمن الثورة جيش فلاحي، منهزم ومتذمر، يتكون من ملايين عديدة من البشر. إن توفر تلك الظروف وحده هو الذي أعطانا مع حامية بطرسبورغ الإمكانية الناجعة لتحقيق التجربة التي قضت مسبقا بانتصار أكتوبر. وليس هناك مجال لتعميم التجربة التي وقع فيها الجمع بين انتفاضة هادئة تكاد تكون غير منظورة وبين الدفاع عن الشرعية السوفياتية ضد الكورنيلوفيس وصياغتها في قانون عام. بل على العكس من ذلك يمكن التأكيد بأن هذه التجربة لا يمكن تكرارها في أي مكان بهذه الصورة. إلاّ أنه من الضروري دراستها باهتمام لأن دراستها توسع في أفق كل ثوري وتكشف له اختلاف الأساليب والوسائل المتغيرة التي يقع تطبيقها في النشاط العملي. ولكن بشرط أن يتم تحديد هدف واضح، وتقييم صاف للوضعية، وتتوفر الإرادة للقيام بالنضال حتى النهاية. أما في موسكو فإن الانتفاضة تمت جملة واحدة مما جعلها تمتد وقتا طويلا وتتسبب في سقوط عدد من الضحايا. وسبب ذلك أن الحامية هنالك لم تتلق إعدادا ثوريا كالذي حصل لحامية بطرسبورغ (أرسلت أفواج إلى الجبهة)، بالإضافة إلى نقص الحزم عند القيادة. فقد حدث مرات عديدة أن توقفت العمليات الحربية بهدف إجراء مفاوضات لتستأنف. وإذا كان تردد القيادة إلى الحد الذي يشعر به الجنود، على العموم مضرا في السياسة، فإنه يصبح خطرا قاتلا في الإنتفاضة. إذ أن الطبقة الحاكمة في هذا الوقت رغم كونها تكون قد فقدت ثقتها بنفسها، إلاّ أنه لا يزال بيدها جهاز الحكم، وإذا كان للطبقة الثائرة مهمة الاستيلاء على جهاز الدولة فإنه يتحتم عليها بأن يكون لها ثقة في قواتها الذاتية. وما دام الحزب قد جر الشغالين إلى طريق الانتفاضة فيجب عليه أن يستخلص كل النتائج المترتبة على ذلك. ففي الحرب لا يمكن تحمل الترددات. كما أن الإبطاء والمواربة رغم كونهما يرجعان جزئيا إلى فقدان القياديين الثقة بأنفسهم، خلال ساعات فقط إلاّ أنهما يسلبان المنتقضين جزءا من ثباتهم، في حين أن تلك الثقة وذلك الثبات هما اللذان يقرران نسبة القوى، وبالتالي تتجه الانتفاضة. فمن هذه الزاوية يجب دراسة العمليات العسكرية في موسكو خطوة في حال اقترانها بالقيادة السياسية. وسوف يكون من المهم جدا الإشارة إلى بعض النقاط التي تجري فيها الحرب الأهلية في ظروف خاصة (عندما تختلط بالعامل القومي)، إن دراسة من هذا القبيل تمكننا من إغناء معرفتنا بآلية الحرب الأهلية [4]. كانت الحرب الأهلية في الأقاليم تقررها دائما نتيجتها في بطرسبورغ رغم كونها كانت تأخذ مدى طويلا في موسكو. لأن ثورة فبراير أضرت اضرارا بالغا بجهاز الدولة القديم. والحكومة المؤقتة التي ورثت هذا الجهاز كانت عاجزة عن تجديده أو تقويته، فكان يسير في أثناء فترة فبراير-أكتوبر بقوة الروتين البيروقراطي فقط. وإذا اعتادت الأقاليم أن تنضم إلى بطرسبورغ: كما فعلت ذلك فبراير فقد جددنه في أكتوبر. والامتياز الكبير الذي كان لدينا هو أننا كنا نعد لقلب نظام لم يكن له بعض الوقت ليأخذ شكله النهائي. كما أن عم استقرار جهاز الدولة إلى حد بعيد، وفقدانه ثقته بنفسه سهل لنا بحد ذاته عملنا في الإبقاء على ثبات الجماهير الثورية وثبات الحزب نفسه. وقد حدث في ألمانيا والنمسا وضع مشابه في 9 نوفمبر 1918. إلا أن الاشتراكية الديمقراطية قامت بسد ثغرات جهاز الدولة، وساعدت على إبقاء النظام البرجوازي الجمهوري، ورغم أن هذا النظام لا يمكن القول أنه نموذج للاستقرار، إلاّ أنه مع ذلك له من العمر الآن ست سنوات. أمّا في البلدان الرأسمالية الأخرى فلم تكن لها مزية التقارب الزمني بين الثورة البرجوازية والثورة البروليتارية إذ أنجزت ثورتها البرجوازية، بالتأكيد، لا يزال في إنكلترا بعض البقايا الإقطاعية إلاّ أنه لا يمكن الكلام عن ثورة برجوازية مستقلة. وبمجرد أن تأخذ البروليتاريا الإنكليزية الحكم سوف تسدد ضربة أولى إلى الملكية لتنظف البلاد منها ومن اللوردات. إن الثورة البروليتارية في الغرب لها مصلحة في وجود دولة برجوازية استكملت شكلها. إلاّ أن ذلك لا يعني أن لها مصلحة في دولة مستقرة. إذ أن إمكانية الثورة تتطلب انحلالا كافيا للدولة الرأسمالية. وإذا كانت ثورة أكتوبر عندنا نضالا ضد جهاز الدولة لم يكن له الوقت الكافي ليأخذ شكله النهائي بعد فبراير فإن الانتفاضة في البلدان الأخرى سيكون أمامها جهاز دولة في حالة تفسخ تدريجي. وكما أشرنا في المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية، فإن القاعدة العامة هي أن نتوقع مقاومة أكبر من البرجوازية في البلدان الرأسمالية القديمة مما حدث عندنا. وسيكون من الصعب على البروليتاريا أن تنتصر في هذه البلدان، ولكنها إذا انتصرت واستولت على السلطة فستتمكن من الوصول إلى وضع أشد وأكثر استقرارا مما كان عندنا بعد أكتوبر. فعندنا لم تكبر الحرب الأهلية إلاّ بعد استيلاء البروليتاريا على السلطة في أهم المراكز المدنية والصناعية. ولم تستغرق السنوات الثلاث الأولى من عمر السلطة السوفياتية إلاّ بعد ذلك الحين. هناك عدة أسباب تدعو إلى الانعقاد بأن البروليتاريا في أوروبا الوسطى والغربية سيكون من الأشق عليها الاستيلاء على السلطة، إلاّ أنها في مقابل ذلك ستكون مطلقة اليدين بعد أخذها أكثر مما كنا نحن. وبالطبع فإن هذه التصورات للظروف مشروطة بعدة أمور، لأن نتيجة الحوادث راجعة لحد بعيد إلى الترتيب الذي ستحدث فيه الثورة في مختلف البلدان الأوروبية، وإلى إمكانية التدخل العسكري، ومدى القوة الاقتصادية والعسكرية للاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت. وعلى أية حال فإن الشيء المحتمل هو أن يصادف استيلاء البروليتاريا في أمريكا وأوروبا على السلطة مقاومة أكثر جدية واحتداما وتنظيما من قبل الطبقات الحاكمة مما كان عندنا، ولذلك يجب علينا أن نعتبر الانتفاضة المسلحة والحرب الأهلية فنا.
--------------------------------------------------------------------------------
السوفيات والحرب في الثورة البروليتارية نبعت مجالس السوفيات لمندوبي العمال عندنا سنة 1905 وسنة 1917 من الحركة الثورية نفسها باعتبارها شكلا تنظيميا لها في درجة معينة من مستوى النضال. ولكن الأحزاب الأوروبية الفتية التي اعتبرت مجالس السوفيات "كعقيدة" أو "كمبدأ" تتعرض لخطر فكرة فتيشية تعتبر أن السوفيات عامل من عوامل الثورة الذي له استقلاله الذاتي الخاص. إلا أن الحقيقة غير ذلك، فرغم الفائدة الكبرى التي تمثلها السوفيات باعتبارها منظمة نضال من أجل السلطة إلاّ أنه من الممكن تماما أن تنمو الانتفاضة وتتطور على أساس تنظيمي آخر (لجان المصانع- نقابات) وبالتالي لا تظهر السوفيات باعتبارها أداة سلطة إلاّ أثناء الانتفاضة أو بعد انتصارها. ومن المفيد جدا بهذا الصدد معرفة النضال الذي شنه لينين بعد أيام يوليوز ضد الفتسيشية السوفياتية، فقد أصبحت مجالس السوفيات التي يسطر على الأغلبية فيها الاشتراكيون الثوريون والمناشفة في شهر يوليوز منظمات تدفع الجنود علنا إلى الهجوم كما تقوم باضطهاد البلاشفة، ولذلك وجب على الحركة الثورية لجماهير العمال أن تبحث وتجد طرقا أخرى وقد اقترح لينين لجان المصانع لتكون منظمات للنضال من أجل السلطة وكان من المحتمل جدا أن تسير الحركة الثورية في هذا السبيل لو لم يحدث عصيان كورنيلوف الذي أجبر مجالس السوفيات التوفيقية على الدفاع عن نفسها. وأتاح بذلك مرة أخرى للبلاشفة أن يعطوها نفسا ثوريا يربطها بالجماهير ربطا حميما. إن هذه القضية كما أبانتها تجربة ألمانيا لها أهمية أممية بالغة. ففي هذا البلد تكونت مجالس السوفيات عدة مرات على اعتبار أنها أدوات للانتفاضة، وعلى اعتبار أنها أدوات سلطة لا تملك السلطة. فكانت النتيجة أن حركة الجماهير البروليتارية والنصف البروليتارية سنة 1924، بدأت تلتف حول لجان المصانع التي كانت في الجوهر تقوم بنفس الدور الذي قامت به مجالس السوفيات عندنا في الفترة السابقة للنضال المباشر من أجل السلطة. ومع ذلك طرح بعض الرفاق في غشت وسبتمبر البدء حالا في ألمانيا بإنشاء مجالس سوفياتية إلاّ أنّ اقتراحهم هذا رفض بعد نقاش طويل وحاد. وكان الرفض صائبا، ذلك أنه ما دامت لجان المصانع قد أصبحت عمليا نقاط تجمع للجماهير الثورية فإن مجالس السوفياتية في فترة الإعداد ستلعب دورا موازيا للجان المصانع وبالتالي سوف تكون شكلا خاليا من كل محتوى. ولا يكون لها من مفعول سوى شغل الأذهان عن المهام المادية للانتفاضة (الجيش، الشرطة، الفرق المئوية Centuries السكك الحديدية الخ…) وتوجيهها نحو أشكال تنظيمية ذات استقلال ذاتي، ومن جهة أخرى فإن إنشاء مجالس سوفياتية قبل الانتفاضة سوف تكون كإعلان للحرب لم يتبع بإجراءات عملية. وإذا كانت الحكومة قد أجبرت على التسامح مع لجان المصانع لأنها لفت حولها جماهير كبيرة، فإنها سوف تضرب المجالس السوفياتية الأولى على اعتبار أنها أدوات رسمية تسعى للاستيلاء على السلطة. وسوف يضطر الحزب الشيوعي للدفاع عن تلك المجالس بوصفها منظمات لا أكثر ولا أقل. وهكذا سوف لا يكون للصراع الحاسم هدف اتخاذ أو الدفاع عن موقف مادي وسوف يجري في وقت لم نختره نحن، وأن تكون الإنتفاضة قد أخذت مجراها بحكم الضرورة من حركة الجماهير وانفجرت بسبب شكل تنظيمي هو مجالس السوفيات في وقت اختاره العدو من العالمية أن العمل التحضيري للانتفاضة كان بإمكانه أن يرتبط بنجاح مع الشكل التنظيمي للجان المصانع التي أخذت الوقت الكافي لتصبح المنظمات الجماهيرية النامية، وتترك أيدي الحزب طليقة في تحديد تاريخ الإنتفاضة. لا ريب أنه خلال مرحلة من المراحل لابد أن تظهر مجالس السوفيات، إلاّ أنه من المشكوك فيه، ضمن الظروف التي سنأتي على ذكرها أن تظهر زمن احتدام الصراع كأدوات مباشرة للانتفاضة. إذ يترتب على ذلك أن توجد في الوقت الحرج ازدواجية في القيادة الثورية، وكما يقول المثل الإنكليزي: لا تستبدل فرسك عندما تعبر النهر. ومن الممكن بعد حصول النصر في المدن الرئيسية أن تبدأ مجالس السوفيات بالظهور في جميع أنحاء البلاد. ومهما يكن من أمر فإن الإنتفاضة المنتصرة سوف تثير حتما مسألة تكوين مجالس السوفيات باعتبارها أداة للسلطة. يجب أن لا ننسى أن مجالس السوفيات عندنا قد ولدت أثناء المرحلة "الديمقراطية" للثورة، وأخذت صفة شرعية ما، ثم ورثناها واستعملناها. ولن يكون الأمر كذلك في الثورة البروليتارية في الغرب. فهنا في أغلب الحالات سوف تتكون مجالس السوفيات تحت دعوة الأحزاب الشيوعية لتصبح بالتالي أدوات مباشرة للانتفاضة البروليتارية، وليس من المستحيل طبعا أن يصبح اختلال الدولة البرجوازية قويا قبل أن تستولي البروليتاريا على السلطة، الأمر الذي يسمح بتكوين مجالس سوفياتية تكون أدوات معلنة للتحضير للانتفاضة. ولكن هناك حظا قليلا لكي يصبح ذلك هو القاعدة. إن الحالة الأكثر حدوثا هي تلك التي لا تنشأ فيها مجالس السوفيات إلاّ في آخر يوم لكي تصبح أدوات مباشرة للجماهير المستعدة للانتفاضة، ومع ذلك فهناك حالة أخيرة ممكنة وهي تلك التي تنشأ فيها مجالس السوفيات بعد اللحظة الحرجة للإنتفاضة أو حتى بعد انتصارها كأدوات للسلطة الجديدة. يجب علينا أن نضع أمامنا جيدا كل هذه الاحتمالات لكي لا نقع في القدسية التنظيمية Fetichisme d’organisation ونحول السوفيات في شكل مرن حسي للنضال إلى "مبدأ" تنظيمي مفروض من الخارج على الحركة يعيق تطورها المنتظم. أخيرا وقعت التصريح في جرائدنا لأننا لا نعرف الباب الذي ستأتي منه الثورة البروليتارية في بريطانيا: من الحزب الشيوعي أو من النقابات، من غير الممكن اتخاذ قرار بشأن أحدهما. إن طرح المسألة بهذه الصورة خاطئ وخطير لأنه يحجب عن الأنظار الدرس الرئيسي للسنوات الأخيرة، ذلك أنه إذا لم تكن هناك ثورة منتصرة في أعقاب الحرب فإن ذلك راجع إلى عدم وجود حزب وهذه الملاحظة تنطبق على أوروبا كلها ويمكننا أن نتأكد من صحتها إذا تتبعنا الحركة الثورية خطوة خطوة في مختلف البلدان. ففي ألمانيا كان من الواضح أن الثورة كان في إمكانها أن تنتصر سنة 1918 و1919، لو أن الجماهير اقتيدت كما يجب من قبل الحزب. كما أظهر مثال فنلنده سنة 1917 بأن الحركة الثورية تطورت في ظروف مؤاتية للغاية تحت الغطاء والمساعدة العسكرية المباشرة لروسيا السوفياتية، ولكن أغلبية قيادة الحزب الفنلندي كانت اشتراكية ديموقراطية فأفشلت الثورة. وهذا الدرس لا يبدو أقل وضوحا في التجربة الهنغارية. فهذا البلد لم يغتصب فيه الشيوعيون المتحالفون مع يسار الاشتراكية الديموقراطية السلطة وإنما استلموها استلاما من أيدي البرجوازية المذعورة. إن الثورة الهنغارية الظافرة بدون قتال وجدت نفسها منذ البداية محرومة من قيادة مقاتلة. فالحزب الشيوعي اندمج مع الحزب الديموقراطي-الاشتراكي وأظهر بذلك أنه هو نفسه ليس شيوعيا حقيقيا. وبناء على ذلك لم يستطع رغم النفسية المقاتلة للبروليتاريين الهنغار أن يحافظوا على السلطة التي حصل عليها بسهولة. إن الثورة البروليتارية لا يمكن أن تنتصر بدون حزب، ذلك أهم درس لقنته لنا السنوات الأخيرة. إن النقابات الإنكليزية يمكن أن تكون - وهذا صحيح- عمدة قوية للثورة البروليتارية، وبإمكانها في ظل شروط معينة وخلال فترة خاصة أن تحل محل مجالس السوفيات العمالية ولكنها لا يمكن أن تكون كذلك من غير الحزب الشيوعي أو إذا كانت ضده. إنما لا تستطيع أن تلعب هذا الدور إلاّ إذا أصبح نفوذ الحزب الشيوعي فيها غالبا. إن هذا الدرس المتعلق بأهمية الحزب في الثورة البروليتارية دفعنا ثمنه غاليا جدا ليبقى حاضرا في أذهاننا بتمامه. في الثورة البرجوازية يلعب الوعي والإعداد والأسلوب دورا أقل أهمية مما تلعبه هذه الأمور الآن أو مدعوة للعبة في الثورة البروليتارية. صحيح أن القوة المحركة في الثورة البرجوازية كانت أيضا الجماهير ولكنها كانت أقل وعيا وتنظيما مما هي الآن. وقد كانت القيادة في أيدي مختلق أقسام البرجوازية التي كانت تملك الثورة والتعليم والتنظيم (البلديات - الجماعات - الصحافة الخ..) ولما كانت الملكية البيروقراطية تدافع عن نفسها بوسائل عشوائية وحسب ما تسمح به الظروف، فإن البرجوازية تبقى مترصدة لتختار الوقت المناسب- مستغلة الحركة الجماهيرية الشعبية- لتلقي بكل ثقلها الاجتماعي في كفة الميزان وتستولي على الحكم. وأمّا في الثورة البروليتارية، فإن البروليتاريا ليست فقط القوة الرئيسية المقاتلة و إنما أيضا ممثلة في طليعتها القوة القائدة. إن الحزب البروليتاري وحده الذي يستطيع في الثورة البروليتارية أن يلعب الدور الذي لعبته قوة البرجوازية بتعليمها وببلدياتها وبجامعاتها في الثورة البرجوازية. وسيكبر دور الحزب بقدر نمو الوعي الطبقي عند العدو. فالبرجوازية في السنوات الأخيرة من سيطرتها أقامت مدرسة ذات مستوى أرفع بما لا يقاس مما كان لدى الملكية البيروقراطية. وإذا كانت البرلمانية بالنسبة للبروليتاريا مدرسة إلى حد ما لإعداد الثورة فهي بالنسبة للبرجوازية وعلى نطاق أوسع مدرسة للاستراتيجية المضادة للثورة. ويكفي أن نعلم أن البرجوازية بواسطة البرلمانية أخرجت الاشتراكية-الديموقراطية التي هي اليوم أقوى ملجأ للملكية الفردية. إن عهد الثورة الاجتماعية في أوروبا كما أبانت التجارب الأولى سيكون ليس فقط عهد قتال لا هوادة فيه، إنما سيكون أكثر ثباتا بكثير مما كان عندنا سنة 1917. ولذلك كله يجب علينا أن نتناول بالدرس أكثر مما نفعل الآن مسائل الحرب الأهلية، وخاصة منها الانتفاضة. نحن نردد وراء لينين كلمات ماركس "الانتفاضة فن" ولكي يبقى هذا الترديد كلاما أجوف إذا لم ندرس العناصر الأساسية لفن الحرب الأهلية على ضوء التجربة الواسعة التي تجمعت لدينا في هذه السنوات الأخيرة، يجب أن نقول صراحة بأن عدم مبالاتنا تجاه مسائل الانتفاضة المسلحة تشهد على مدى القوة الكبيرة التي تحتفظ بها التقاليد الاشتراكية-الديموقراطية داخل صفوفنا. إن الحزب الذي ينظر نظرة سطحية إلى مسائل الحرب الأهلية تحت الأمل بأن الأمور ستسوى من نفسها في الوقت الضروري سوف يكابد على التأكيد هزيمة منكرة. يجب أن تدرس جماعيا وأن تهضم تجربة المعارك البروليتارية ابتداء من سنة 1917. ******** وإن تاريخ كتل حزبنا سنة 1917 الذي مررنا على ذكره يمثل جزءا أساسيا من تجربة الحرب الأهلية وله أهمية مباشرة في سياسة الأممية الشيوعية، وقد قلنا ونعيد القول: بأن دراسة خلافات وجهات نظرنا لا يمكن ويجب أن لا تعتبر بأي حال من الأحوال موجهة ضد أولئك الرفاق الذين أتبعوا سياسة خاطئة. ومن جهة أخرى يكون من غير المقبول أن يشطب من تاريخ الحزب فصل من أهم فصوله لسبب وحيد هو أن كل أعضاء الحزب لم يسيروا جميعا متساوين جنبا لجنب مع الثورة البروليتارية. إن الحزب يستطيع، ويجب، أن يعرف كل ماضيه ليقيمه كما يجب، ويضع كل شيء في نصابه. إن تقاليد حزب ثوري ما لا ترسى من خلال التكتمات وإنما من خلال الوضوح النقدي. إن التاريخ قد أعطى حزبنا مزايا ثورية لا مثيل لها، فقد أعطاه تقاليد نضالية بطولية ضد القيصرية، وعادات وأساليب ثورية استمدها من ظروف العمل السري وصياغة نظريته للتجربة الثورية الإنسانية بكاملها، ونضالا ضد المنشفية وضد التيار النارودنيكي، وضد التوفيقية، وتجربة ثورة 1905، وصياغة تجربتها نظريا خلال سني الثورة المضادة. وكشفا لمشاكل الحركة العمالية العالمية من خلال دروس 1905. وهذا في مجموعه هو الذي أعطى حزبنا صلابة نادرة ووضوحا عاليا، ومستوى ثوريا رفيعا ليس له مثيل، ومع ذلك ففي هذا الحزب الذي أعد جيدا، أو بالأحرى في أوساطه القائدة تشكل في اللحظات الحاسمة فريق من البلاشفة القدامى الثوريين وذوي التجربة يعارض معارضة شديدة الانتفاضة البروليتارية ويتخذ مواقف اشتراكية-ديموقراطية تجاه القضايا الجوهرية، طوال الفترة الحرجة التي مرتبها الثورة ابتداء من 1917 إلى فبراير 1918. ولم يحم الحزب والثورة من نتائج تلك الوضعية سوى نفوذ لينين الاستثنائي داخل الحزب. والأمر الذي يجب أن لا ينسى إذا كنا نريد أن تتعلم الأحزاب الشيوعية في البلدان الأخرى شيئا من مدرستنا هو أن قضية انتقاء الأشخاص القياديين لها في أحزاب أوروبا الغربية أهمية استثنائية وهو ما توضحه بالذات تجربة الفشل الذريع الذي حصل في ألمانيا، أكتوبر 1923، بالإضافة إلى تجارب أخرى. وهذا الانتقاء يجب أن يتم وفق مبدأ النشاط الثوري… وقد كان لنا في ألمانيا مناسبات كافية برهنت على قيمة قادة الحزب في أوقات النضال المباشر، وبدون هذا البرهان تبقى جميع المقاييس غير أكيدة. وفي السنوات الأخيرة كانت فرنسا أقل البلدان مسرحا للاضطرابات الثورية حتى المحدد منها. ومع ذلك فإن بعض الانفجارات الخفيفة حدثت عندما قررت اللجنة القيادية للحزب وقيادة النقابات مواجهة بعض القضايا الخطيرة والهامة (مثال ذلك: الاجتماع الدموي يوم 11 يناير 1924). إن دراسة مثل هذه الحادثة دراسة دقيقة تمدنا بمعطيات ذات أهمية لتقييم القيمة الحقيقية لقيادة الحزب ولمسلك زعمائه ومختلف أجهزته. إن عدم الأخذ بهذا المقياس بانتقاء الرجال معناه السير حتما نحو الهزيمة، إذ بدون قيادة ذكية حازمة وشجاعة للحزب لا يمكن كسب النصر للثورة البروليتارية. إن كل الأحزاب حتى أكثرها ثورية تضع لنفسها لا محالة محافظتها التنظيمية Conservatisme d’organisation وإلاّ فقدت استقرارها، وإلاّ أن الفرق بين تلك الأحزاب هو فرق في الدرجة فقط. وفي الحزب الثوري يجب أن يقترن مقدار (Dose) المحافظة الضرورية مع التخلص التام من الروتين، ومع مرونة التوجيه، والشجاعة الفعالة. ويقع التأكيد الأفضل من هذه الخصال في المنعطفات التاريخية. وقد رأينا فيما سبق لينين يقول بأن الأحزاب في أغلب الأوقات حتى أكثرها ثورية، عندما يحدث تغيير مفاجئ في الوضعية وبالتالي في المهام تستمر في اتباع خطها القديم وبذلك تنقلب إلى كابح للتطور الثوري. والمحافظة في حزب ما كما هي مبادراته الثورية، تجد تعبيرها الأكثر كثافة في أجهزته القيادية. إن الأحزاب الشيوعية الأوروبية ما زال عليها أن تحشر بمنعطفاتها الأكثر مفاجأة وهو الوقت الذي تنتقل فيه من العمل الإعدادي إلى أخذ السلطة، فهذا المنعطف يتطلب خصالا أكثر، ويفرض مسؤوليات أكبر باعتبار الأكثر خطورة. أن ترك الأوان يفوت معناه بالنسبة للحزب أكبر نكبة يمكن أن تصيبه. إذا نظرنا إلى تجارب المعارك في أوروبا في السنوات الأخيرة وخاصة في ألمانيا ومن خلال تجربتنا نحن، فإننا نلاحظ نوعين من القادة الذين يميلون إلى جر الحزب للوراء في الوقت الذي يجب أن يحقق فيه أكبر قفزة إلى الأمام. فأحد ذلك النوعين لا يرى بشكل رئيسي إلا الصعوبات والعوائق، ولذلك تكون نتيجة تقديره للأمور هي الهروب من العمل. والماركسية لدى هذا النوع تصبح أسلوبا صالحا للبرهنة على استحالة العمل الثوري. والمناشفة الروس يمثلون العينية الأكثر تجسيدا لهذا النوع من القادة. إلاّ أنه لا ينحصر فيهم ويظهر في الأوقات الحرجة في الأحزاب الأكثر ثورية وبين المناضلين الذين يحتلون أكبر المراكز رفعة. أما ممثلو النوع الآخر فهم أولئك المحرضون السطحيون الذين لا يرون العراقيل إلاّ حين تصطدم بها جباههم. وإذا أرادوا تجنبها لجأوا عادة إلى الشعوذة اللفظية. أمّا تفاؤلهم المتطرف تجاه كل القضايا فينقلب دائما إلى ضعف وإلى تشاؤم عندما تحين لحظة الحسم. أمّا بالنسبة للنوع الأول الثوري الركيك، القانع، فإن مصاعب الاستيلاء على السلطة تصبح في عينيه تجمعا وتكاثرا لكل المشاكل التي اعتاد أن يراها في طريقه، في حين أن النوع الثاني المتفائل السطحي تبرز أمامه مصاعب العمل الثوري دائما فجأة. وهذان النوعان يختلف سلوكهما أثناء فترة الإعداد، فيبدو الأول كأنه عنصر تثبيط لا يمكن الاعتماد عليه من وجهة نظر ثورية، في حين يظهر الثاني على عكس الأول كأنه ثوري شديد الشكيمة إلاّ أنهما في اللحظات الحاسمة يسيران جنبا إلى جنب واليد في اليد ليعارضا الانتفاضة، مع العلم أن كل العمل التحضيري ليس له من قيمة إذا لم يجعل الحزب، وخاصة، هيأته القيادية قادرة على تحديد وقت الإنتفاضة وقيادتها، إذ أن مهمة الحزب الشيوعي هي الاستيلاء على السلطة بفرض إعادة تشكيل المجتمع. وفي المدة الأخيرة جرى الحديث مرات عديدة قولا وكتابة عن ضرورة بلشفة الأممية الشيوعية باعتبارها مهمة عاجلة لا محيد عنها، خاصة وان تلك الضرورة بدت للعيان قاهرة بعد الدروس المريرة التي حدثت في بلغاريا وألمانيا في السنة الماضية. إن البلشفية ليست نظرية (أي ليست فقط نظرية) وإنما هي نظام Systeme تثقيف للثوريين من أجل تثقيف الثورة البروليتارية. وما معنى بلشفة الأحزاب الشيوعية إذا لم يكن تثقيفها وانتقاء القياديين من بين صفوفها، بحيث لا تولي الادبار حين تحين ثورتها الأكتوبرية؟ .
--------------------------------------------------------------------------------
كلمتان حول هذا الكتاب إن المرحلة الأولى من الثورة "الديمقراطية" تبدأ من ثورة فبراير - وتنتهي بأزمة أبريل- وحل تلك الأزمة يوم 6 ماي بواسطة تكوين حكومة ائتلافية اشترك فيها المناشفة والنارودنيكيون. ومؤلف هذا الكتاب لم يشترك في أحداث هذه المرحلة الأولى إذ لم يحضر إلى بطرسبورغ إلاّ يوم 5 ماي عشية تكوين الحكومة الائتلافية. وقد شرحت المرحلة الأولى من الثورة وأوضحت آفاقها في مقالات كتبت في أمريكا، وأعتقد أن جوهر مضمونها يتفق مع التحليل الذي أعطاه لينين في رسائله من بعيد. ومنذ أول يوم لوصولي إلى بطرسبورغ اشتغلت باتفاق تام مع اللجنة المركزية للبلاشفة، ومن البديهي أني كنت مؤيدا تماما لنظرية لينين حول استيلاء البروليتاريا على السلطة. وفيما يخص الفلاحين لم يكن لي أدنى ظل للخلاف بيني وبينهم. وفي هذا الوقت، كان قد أتم المرحلة الأولى من نضاله ضد البلاشفة اليمينيين الذين كانوا يرفعون شعار "الديكتاتورية الديموقراطية للعمال والفلاحين". وإلى حين اشتراكي الشكلي في الحزب، ساهمت في سلسلة من القرارات والوثائق التي تحمل طابع الحزب. والسبب الوحيد الذي أجل اشتراكي فيه ثلاثة أشهر هو رغبتي في الإسراع بإنجاز اندماج البلاشفة مع أحسن عناصر منظمة interrhyonistes وبشكل عام مع الثوريين الأمميين. وقد باشرت هذا العمل بالاتفاق التام مع لينين. وقد لفت تحليل هذا الكتاب انتباهي حول جملة وردت في إحدى مقالاتي التي دعوت فيها للاندماج في ذلك الحين وهي الجملة التي أشرت فيها من الناحية التنظيمية إلى "التفكير الحلقي الضيق" للبلاشفة، الأمر الذي دعا مباشرة بعض المفكرين العميقين مثل سورين Sorine إلى ربط هذه الجملة بالخلافات التي دارت حول البند الأول من النظام الداخلي، وأني لا أرى ضرورة لإثارة نقاش حول ذلك الآن، بعد أن اعترفت كلاميا وعمليا بأخطائي في الناحية التنظيمية. والقارئ الخالي من الغرض سوف يجد تفسيرا أكثر بساطة ومباشرة من ذلك التعبير المذكور ضمن شروط ذلك الحين. فقد كان العمال الانترايونيون ما زالوا يحتفظون بحذر شديد إزاء السياسة التنظيمية للجنة بطرسبورغ. وهذا ما أجبت به على ذلك بمقالي: "من العقلية الحلقية التي هي إرث من الماضي، لا زالت موجودة، ولكن لكي تضعف يجب على الانترايونيون أن ينهوا وجودهم المستقل بمعزل عن الآخرين". ثم إن "عرضي" الذي كان جدليا محضا في المؤتمر الأول لمجالس السوفيات والداعي إلى تأليف حكومة تتركب من "دزينة" من أمثال بيتشي خانوف Pietchekanov قد فسر، وأظن من سوخانوف Soukhanov على أنه من جهة إظهار لميل شخصي نحو بيتشي خانوف، ومن جهة أخرى تكتيك مختلف عن تكتيك لينين. ولعمري أن هذا لتفسير عبثي Absurde. ذلك أن حزبنا عندما طالب بأن تأخذ مجالس التي كان يقودها المناشفة والاشتراكيون الثوريون، السلطة "طلب" في الوقت نفسه أن تتكون حكومة من أشخاص أمثال بيتشي خانوف، ومع ذلك فليس هناك في نهاية التحليل من فرق جوهري بين هذا الأخير وتشيرنوف ودان. فكلهم صالح لأن يسهل نقل السلطة من البرجوازية إلى البروليتاريا. وربما يعرف بيتشي خانوف الأخطاء أكثر ويعطي انطباعا بأنه رجل عملي أكثر من سيريتللي أو تشيرنوف. إن "دزينة" من أمثال بيتشي خانوف تعني حكومة تتكون من ممثلين عاديين للديمقراطية البرجوازية الصغيرة محل حكومة ائتلافية. وعندما رفعت جماهير بطرسبورغ التي كان يقودها حزبنا شعار "تسقط حكومة وزراء العشر الرأسماليين!" طلبت في الوقت نفسه أن يحتل المناشفة والنارودنيكيون مراكزهم، "انزلوا الكاديت وخذوا السلطة أيها الديمقراطيون البرجوازيون، ضعوا في الحكومة أثنى عشر بيتشي خانوفا ونحن نعدكم أننا سنخرجكم من مراكزكم بأكثر ما يمكن من "السلام" عندما تدق الساعة، وهي لن تتأخر عن الدق". وهكذا لا يمكن الكلام هنا عن وجود خط سياسي خاص، إذ أنه خط رسمه لينين أكثر من مرة.
#ليون_تروتسكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصناعة المؤممة والإدارة العمالية
-
ملاحظات حول جريدة - ثورة
-
مقدمة أول طبعة افريكانية من البيان الشيوعي
-
حول الفاشية
-
الطبقة و الحزب و القيادة
-
الصناعة المؤممة و الإدارة العمالية
-
ثلاثة مفاهيم للثورة
-
لكسمبرج و الأممية الرابعة
-
الثورة الدائمة فصل 10: ما هي الثورة الدائمة؟ المسلمات الأساس
...
-
الثورة المغدورة - ملحق الاشتراكية في بلد واحد
-
الثورة المغدورة - الفصل الحادي عشر - الى اين يتجه الاتحاد ال
...
-
الثورة المغدورة - الفصل العاشر- الاتحاد السوفياتي في مراة ال
...
-
الثورة المغدورة - الفصل العاشر - الاتحاد السوفياتي في مراة ا
...
-
الثورة المغدورة - الفصل التاسع - ما هو الاتحاد السوفياتي؟
-
الثورة المغدورة - الفصل الثامن -السياسة الخارجية و الجيش
-
الثورة المغدورة - نقد التجربة الستالينية - الفصل السابع: الا
...
-
الثورة المغدورة - الفصل السادس - تنامي اللامساواة و التضادات
...
-
الطبقة والحزب والقيادة
-
الثورة المغدورة - الفصل الخامس - الترميدور السوفياتي
-
الثورة المغدورة - الفصل الرابع - النضال لاجل مردود العمل
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
مقدمة في -المخطوطات الرياضية- لكارل ماركس
/ حسين علوان حسين
-
العصبوية والوسطية والأممية الرابعة
/ ليون تروتسكي
-
تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)*
/ رشيد غويلب
-
مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق
...
/ علي أسعد وطفة
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين
/ عبدالرحيم قروي
-
علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري
...
/ علي أسعد وطفة
-
إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك
...
/ دلير زنكنة
-
عاشت غرّة ماي
/ جوزيف ستالين
-
ثلاثة مفاهيم للثورة
/ ليون تروتسكي
-
النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج
/ محمد عادل زكى
المزيد.....
|