عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4259 - 2013 / 10 / 29 - 08:50
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
خصائص العقل الفطري
للعقل الفطري صورة واحدة تحتمه كون الإنسان كائن طبيعي مثله مثل بقية الكائنات المخلوقة يكون وجوده الكائن فيه تابعا لطبيعة الشيء وطبعه المعطى سلفا له ضمن منزلة من منازل الكينونة على جهة الانطباع والانفعال والسلبية,مثلما يشهد على ذلك وجود الأشياء والعجماوات,ومن جهة أخرى فهو كائن مخصوص بخاصية (الإنسية) بمعنى أن الإنسان ليس كائنا ثابتا وإنما هو كائن صائر متمرد على طبيعته الأولى التي تفرض عليه أن يكون سلبيا بمعنى قبوله الواقع الطبيعي كما هو وكيف هو. وإن أراد أن يخرج من هذه السلبية الطبيعية عليه أن يستخدم ما أوتي من ملكة فطرية توصله للميزة التي تجعل منه كوجود وله ماهيتان الأولى عامة والثانية محدودة.
من المعلوم أن الكائن الإنسي يباين(الموجود الحيواني ) الذي هو من جملة الكيان الطبيعي من وجوه عدة.ولعل أحد أبرز وجوه هذه المباينة المتعددة صلة الفرد بالنوع.ذاك أن نسبة (الفرد)الواحد من الحيوان إلى نوعه نسبة(النسخة الشبيهة)أو(الصورة المثيلة)إلى النوع الطبيعي المعلوم.فليس بين(الدجاجات)فوارق تذكر إذ كل(فردياتها)متماثلة الواحدة منها تنوب مناب الأخرى وتغني عنها.
أما الفرد الإنساني,الذي هو(الفرد)على وجه التحقيق فيفترض فيه أن يكون(وحيد نوعه) مخالفا لأفراد بني جنسه.وهو أبدا يسعى إلى التخالف والتمايز عن أغياره ولا يرضى أن يكون لهم بدلا أو عوضا أو مثيلا.أكثر من هذا لا أحد من بني البشر يريد أن يكون ذاك(الإنسان العادي)إنسان غفل مأخوذا,والظاهر إذن أن الإنسان إنما يريد،أولا،أن يكون مخالفا لبقية أغياره ويحبذ، ثانيا، أن ينظر له بما هو(وحيد نوعه وفريد عالمه) ويطلب ثالثا أن يعترف به في خصوصيته وواحديته وفرادته تلك.
ليس سهلا أن يصل الإنسان إلى هذه الوحداوية والفرادة دون أن يكون له سبيل عملي يوصل لذلك ويسهل له الطريق وهو الذي لم يحتك بتجربة ولم يقم بما يسعف مراده من خضوع لمنطق لم يبتكره ولم يتعرف إليه بعد,ولكنه فعل ذلك بالتأكيد ليس الفعل هذا إلا ما هو ذاتي فيه فطري وأولي وأستدل بما يمكن أن يمهد له أن يختار بحرية ويجرب الأشياء الحولية لينتقي منها ما يعاضد ما وصل إليه ويرقي به إلى ما هو ضروري للإستمرار والمتابعة,فكان ذلك عقله الفطري الذي حتم أولا أن يرفض سلبيته بمعنى أن لا يكون خاضعا لطبيعته الكينونية.
إن أول خصيصة للعقل الفطري والتي ليست من ذاتيته التكوينية ولكن من ذاتيته العمل به أنه متمرد قابل لأن يتجاوز الطبيعة الكينونية له,ويقود الإنسان لإستكشاف إنسانيته المتفردة والواحدة الخاصة به,وهو بذلك يكون عقل حر غير جامد ولا مستسلم لعبودية الطبع الطبيعي,فالحرية قرينة الفعل ومناطه والفعل أساسا، فعل (تدبري عقلي)إنكار ونفي وسلب أي رفع لعبودية الطبيعة المماثلة عند كل المخلوقات وأقربها الحيوانية وبذلك تتحقق حريته الإنسية بخصيصة الفعل العقلي الفطري(التمرد).
وهذا الفعل حتى يكون ذو جدوى لابد أن يتوسل إليه بطريقين العمل الذي يحقق الهوية الجنسية والنوعية والصراع على البقاء في الجنس والنوع,وكلاهما لا يتم التعامل معهما إلا من خلال الفهم والتذكر والعلم المتواصل لكيفية التنفيذ والتواصل بهما,والحق أن العمل هو الفعل الإنكاري بامتياز,فهو الذي يجعل من الكائن الإنسي كائن نفي وجدل أي كائنا لا يظل على ما هو,على حاله على الدوام وإنما ما يفتأ يصير ما ليس هو.غير أن هذا العمل وإن كان يحرر صاحبه فإن الأصل فيه استعباده.
ذاك أن أصل العمل والحركة البينية داخل المحيط الحيوي الطبيعي هو الخوف من الموت والجبن عن المخاطرة بالحياة ومواجهة المجهول المتربص خلف الغيب واللا علم فالإنسان لا يشتغل إلا تحت طائلة التهديد بالإفناء.ولذلك كله لزم رفض أسباب الاستعباد,أي الخوف من الموت والجبن عن المخاطرة بالحياة وما يلحق بها من الخوف من عالم أخر منافس ومهدد له،ولذلك ركب هذه المخاطرة ووجب عليه أن يفحص ما وراءها سعيا للغلبة في الصراع الوجودي.فالمخاطرة بالحياة من هذه الجهة هي وعي عقلي أولي فطري لتجاوز الطبيعة التكوينية للإنسان .
إنّ ربط المعرفة العقلية بالعمل يتضمّن انقلاباً في نظرية المعرفة،فبدلاً من النظر في الأصول البعيدة للحقيقة،كما كانت تفعل الفلسفات المجرّدة،فإنّ الفلسفات العملية حوّلت النظر إلى النتائج والغايات العملية،وجعلت قيمة الحقيقة بما تؤدّيه من نتائج عملية ونفعية هذا الانقلاب الذي أحدثه المذهب العملي كان الإمام علي عليه السلام قد طرحه كأحد المسلّمات التي لابدّ منها لحياة أفضل.
المعرفة القائمة على التصوّرات فقط لا قيمة لها،بل يصنّفها في عداد المعارف الوضعية التي لا يترتّب عليها أدنى منفعة،في حين أنّ المعرفة التي تظهر في أعمال تنفع البشر وتؤدّي لهم خدمات مفيدة هي التي يقول بها ويضعها في مستوى المعارف الرفيعة،فصفة الحقيقة فيه ليست ملازمة للفكرة كفكرة،وإنّما هي تكتسبها بما تحقّقه من عمل نافع،والواقع ينطق بذلك،إذ ما قيمة قوانين نيوتن مثلاً لو لم تقدّم خدمات عملية على أرض الواقع بتفسيرها حركة الأجسام،هذا الربط عبّر عنه الإمام عليه السلام بقوله((فإنّ خير القول ما نفع،واعلم أنّه لا خير في علم لا ينفع وأوضع العلم ما وقف على اللسان،وارفعه ما ظهر في الجوارح والأركان)) .
العمل المحكوم بما هو ثابت وجوهري يودي إلى الصوابية والهدوء والاستكانة الانفعالية المستوية المتزنة غير المضطربة لأنها من عين المصدر,والعكس إذا إنساق العمل بموجب المحفزات الحسية المنبعثة من القوى النابعة من النفس الحيوانية واستحكمت عله بانفعالاتها أنزلته للدرجة الحيوانية,فالنفس تستضيء من العقل والعقل جوهر بسيط مدرك للأشياء على الحقيقة، والنفس فوق الزمان والمكان،لأنها فوق الطبيعة.وإن هذه الروحانيات لا يدركها العقل الإنساني وهو يعيش في طينيته ويسعى وراء عالم مادي بمنطقه وحججه،وإنما يصل إلى شيء من علمها بالحدس والكشف والتعلم (السمع والبصر)،ثم ليتوصل إلى المعرفة الكلية التي فيها نجاة النفس من أن تكون وقودا معه ومع البدن لنار جهنم.
الإنسان أول شيء هو رغبة في ضمان البقاء،وهو رغبة حرة،والحرية عنده هي الضرورة التي لا تمنعها الحيثيات الخارجية من الحركة.ذلك أن الإنسان من جهة جسده،له حركة حيوية ينتجها نظام فسيولوجي ،وتتمظهر في مستوى حركة القوة الحيوانية التي تمثل من جهة كونها (فعل)قوى متفاعلة وفاعلة وصانعة للفعل،رغبة تتطور وفق الانفعالات و الإرادة ومن جهة أخرى مجموعة من(ردود الأفعال)للأجزاء الداخلية للجسد التي تحركها المؤثرات الخارجية،أي أن المعرفة والأفكار ليست إلا حركات عقلية نفسية مبعثها وتسببها حركات خارجية حولية تظهر في شكل أحاسيس وتخيلات وذكريات وألام.وعلى أساس هذه التجربة المعقلنة لحركات الجسم و العقل ينطلق الوعي بالوجود.
من الناحية التاريخية فإنه ولد حرا طليقا فإن حريته الموهوبة عاطلة بسبب مطابقتها لذات الوجود الطبيعي ومستحكمة به ومستجيبة له على نحو دائم ثابت وهي من ثمة في حكم(الطبع)أشبه ما تكون بالقيد القهري الذي يبحث عن مبرر لوجوده.يضاف إلى ذلك كان التاريخ البشري بأكمله أي في مجمل حركة الوجود الإنسي في العالم الطبيعي،عبارة عن سعي الإنسان التدريجي إلى نفي عبوديته للطبيعة أي عبارة عن سلسلة تحولات متتالية سائرة إلى تحقيقه وعيه غير أن هذه المرام ليس أمرا سهلا متيسرا وإنما مسار شاق طويل.في البدء كان العقل الفطري طريقا.يجسد بفعل قوة إرادته إرادة الإنسان بما هي إرادة عاقلة لا حيوانية ولا طبيعية.
أما الخصيصة الثانية فيه أنه يتلائم مع كل شيء فطري مع المعرفة الفطرية ومع النظام الفطري ومع نزوعه للبحث عن ما هو خارج الفطرية إلا أن مجاله الحيوي في داخل هذا الوصف ولذلك يوصف العقل الفطري بأنه تسليمي إستسلامي ومن هنا جاءت السلبية التي تحدثنا عنها في الفقرة السابقة,هذه السلبية مع خصيصة الحرية الطبيعية في ذاتية العقل الفكري جعلته يعيش الصراع الداخلي بين مؤديات التكوين وواجبات الكيف الخلقي,فصار بذلك ذا طبيعة متصارعة غير مستقر وغير قابل للجمود الحركي والمعيشي اليومي.
هنا نقل الإنسان صراعه الداخلي بين ما ذكرنا إلى محيطه الخارجي أما تنفيسا عن محتدم الصراع الداخلي أو لجعل الصراع خارج حدوده الذاتية ليقلل من الخسارة الداخلية ومع هذا فإن نقل الصراع حتمي بالتأكيد لأن كل الإرادات الإنسانية تعيش نفس حالة الصراع إلا ما أستثنى نفسه لعلة أو لنقص في إنسانيته,بذلك أشتد الصراع وأمتد من كونه داخلي ذاتي ليتحول في مراحل عليا إلى صراع وجودي كوني كما شهدنا مثلا في قصة قابيل وهابيل أنتهاء بالحروب العالمية.
هذا الصراع حتمي وطبيعي وملائم للطبيعة الإنسانية صحيح أن العقل يرفض أجزاء كثيرة منه ولكن بالتأكيد قد ساهم في صنع بعض أحداثه إستنادا إلى طبيعة الحرية أولا وخاصية التسليم ثانيا وما ينشأ عن محاولة التوفيق بين المتضادين العقليين من أثر فعلي سلوكي يقوده العقل للإنتصار للحرية الواعية الموهوبة والتي قرنها الله تعالى كخالق مع النظام العملي للعقل وأراد بها أن يكون الإنسان قادرا من خلال الحرية والعقل أن يستكشف النظام القيمي الشمولي بنفسه دون أن تتدخل إرادة الخالق في عملية الأختيار{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } البلد10.
إن صفة الصراع الذاتي في العقل هي الخصيصة الثالثة للعقل الفطري الذي يجد فيه مبرر للوجود الشيئي ويمنحه شرعية العمل, وبدون ذلك يصبح العقل الفطري كبرنامج ذو ذاكرة محدودة ومعدة سابقا لا يمكنه أن يخرج عن حدود ما في ذاكرة البرنامج من مخزونات ولا يعد صالحا لأن يساهم مع التجربة الحسية في صنع العقل المصنوع بل لا يمكنه أصلا أن يدرك أبعاد التجربة ويعي دورها في صنع المعرفة المكتسبة وبذلك تكون التجربة عنده شيء مستغرب وغير قابل لهضم حتى يستولد معرفة جديدة.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟