سعدي عبد اللطيف
الحوار المتمدن-العدد: 4255 - 2013 / 10 / 24 - 11:10
المحور:
الادب والفن
"مأتم الأم الكبيرة"
غابريل غارسيا ماركيز
ترجمة سعدي عبد اللطيف *
أورد لكل المتشككين في العالم, الرواية الواقعية عن الأم الكبيرة, ملكة ماكوندو المطلقة, التي عاشت اثنين وتسعين عاما, ثم ماتت في يوم ثلاثاء من ايلول الماضي, بجو من التقديس بحيث ان البابا حضر بذاته مراسيم الجنازة.
والأمة التي هزها الحديث من الاعماق, قد استعادت توازنها الان. وأخذ عازفو القرب في سان جاتنتو, ومهربو البضائع في كواجيرا ومزارعو الرز في سينو, والعاهرات في كوكامايال, والساحرات في سيرب, وعمال مزارع الموز في اراكاتاكا, اخذ هؤلاء بطي المضارب ثم انصرفوا للراحة بعد السهر المرهق, وعاد اليهم الان صفاؤهم, وبسط سيطرتهم من جديد على الممتلكات التي اغتصبت منهم من قبل, رئيس الجمهورية والوزراء ومن مثل الاطراف الشعبية والقوى الخارقة للطيبيعةِ في اعظم مأتم دونته حوليات التاريخ. أما الحبر الاعظم فقد صعد بعد هذا الحدث الى السماء جسدا وروحا. ويستحيل اليوم التجوال في ماكوندو, لان الجمهور الذي جاء لحضور الدفن قد خلف وراءه أطنانا هائلة من القناني الفارغة وأعقاب السكائر والعظام المقضومة والعلب والأسمال والغائط.
وحان الوقت الان لأن نسند مقعدا على الباب الامامي, ونبدأ بايراد تفاصيل هذا الاضطراب القومي منذ البداية, قبل ان تتاح الفرصة للمؤرخين عمل ذلك.
فقبل اربعة عشر اسبوعا, وبعد ليال لانهاية لها من الكمادات ولصقات الخردل واستخراج الدم بواسطة العلقات, اضافة الى الوهن الذي نتج عن هذيان الحمى الذي يصاحب حشرجات الموت, امرت الأم الكبيرة بنقلها الى الكرسي الهزاز, كي تستطيع البوح باخر امنياتها. وهذا هو الشئ الوحيد الذي يجب القيام به قبل ان تلفظ انفاسها الأخيرة. فقد سبق ان افضت الأم الكبيرة بما في دواخل روحها, ولم يعد أمامها الان الا تسوية امورها الدنيوية امام تسعة من الاقارب الذين تحلقوا حول سريرها. اما الاب انطوني الذي شارف المائة عام فقد ابقي في الغرفة يهذي مع نفسه, كي لا يضطروا في اللحظة الاخيرة الى حمله الى الاعلى عقب انزاله الى الطابق السفلي, خاصة انهم لاقوا الامرين منه, اذ احتاج الى عشرة رجال لحمله.
أما نيكانور اكبر الورثة عمرا, وهو عملاق فظ, يلبس الكاكي وحذاء طويلا, ويحمل مسدسا من نوع كاليبر 38 ذي مشط طويل موضوع في قرابه تحت القميص فقد ذهب يبحث عن كاتب العدل كي تتخذ الوصية طابعا قانونيا. ومنذ الاسبوع الماضي عم الشلل, في انتظار تلك اللحظة, القصر الضخم المكون من طابقين والذي تنبعث من غرفه المظلمة روائح الاوريغانو ودبس السكر, حيث حشرت فيها صناديق واشياء يعلوها الغبار, ترجع الى فترة تمتد زهاء اربعة أجيال. وفي الردهة الرئيسية الطويلة, التي كانت تتدلى من كلابات جدرانها فيما مضى الخنازير الموضبة, وحيث كانت تذبح الأيائل في ايام الأحاد من اب النعسان, كان عمال السخرة ينامون على ادوات الحقل واكياس الملح منتظرين الأوامر كي يسرجوا البغال والانطلاق لنشر الأخبار المشؤومة في ارجاء المزرعة الضخمة. وجلس ما تبقى من العائلة في حجرة الجلوس. وواظبت النساء برغم قواهن الخائرة بسبب اجراءات الارث وقلة النوم, على اقامة مراسيم حداد صارمة, يمكن اعتبارها تتويجا لما تراكم من أيام حداد سابقة لايمكن عدها. لقد أحاط صلابة النظام الأمومي ثروة الأم الكبيرة واسمها بسياج مقدس, فلا يحق للخال الا الزواج من بنات اخته او اخيه, وابناء العمومة الا من عماتهم او خالاتهم, اما الاخوة فيحق لهم الزواج من اخوات زوجات اخوتهم, وهكذا تكونت شبكة معقدة يسري في عروقها دم واحد مما جعل التناسل يدور في حلقة مفرغة. لكن ماجدولينا وحدها استطاعت الافلات من تلك الدوامة. اذ دفعها الرعب من حالات الهلوسة الى الضغط على الاب انطوني ايزابيل من اجل ختنها ثم حلقت رأسها وتخلت بذلك عن متع ومباهج الدنيا لتعتكف في دير يعود الى البعثة التبشيرية التي تعمل في المنطقة.
ولكن ذكور العائلة, وقد اعتادوا على تلقيح من تقع عيونهم عليها, سواء اكانت مربية, أو امرأة جاءت حديثا لتستوطن في اراظيهم وحتى عابرة السبيل, فقد خلفوا نسلا لا شرعيا برمته اشتهر بين اوساط الخدم الذين كانوا ينادونهم بأسماء لاتحمل لقب العائلة, لكنهم تميزوا فيما بينهم كأبناء بالمعمودية, أو كمستخدمين عند الأم الكبيرة, أو كمفضلين أو محميين عندها.
لقد اثار اقتراب موت الأم الكبيرة التي الفت طاعة الاخرين بها ومبايعتها الولاء, لم يكن اكثر ارتفاعا من صوت مزمار يصدح في غرفة مغلقة, ومع ذلك فأن صداه كانت ترجمة اقصى الزوايا في المزرعة الكبيرة. اذ لم يبق هناك احد غير مهتم بقضية موتها. فعلى امتداد هذا القرن , كانت الأم الكبيرة مركز الثقل في حياة ماكوندو, كما كان الامر مع اخوتها وابائها واجدادها فيما مضى, والذين طال أمد سيطرتهم اكثر من قرنين. فبعد ان تأسست المدينة على ايديهم, اطلق عليها لقب العائلة. أما أصل هذه الملكية وحدودها او كم تساوي فعلا, فلم يكن يعرف احد ذلك, لكن الجميع كانوا بعتقدون بان الأم الكبيرة ما تزال تستحوذ على المياه, وتوجه كما تريد أوقات هطول المطر او الجفاف, ويهيمن نفوذها على طرقات المقاطعة وأعمدة التلغراف, والسنوات الكبيسة وحتى موجات القيظ, اضافة الى حوزتها الحق الوراثي على الحياة والملكية. وفي الشرفة عندما كانت تجلس في اوقات الظهيرة الباردة, وحين كان يترنح كرسيها العتيق تحت وطأة وزنها وسلطانها, كانت تبدو حقا غنية وقوية بلا حدود, بل اعظم النساء قوة ورفعة في العالم.
وبأستثناء افراد القبيلة, والأم الكبيرة ذاتها, لم يخطر على بال احد الظن, على الأقل بدوافع الهاجس من رؤية الأب انطوني ايزابيل في شيخوخته, بأن الام الكبيرة عرضة للموت. فهي ذاتها كانت تعتقد انها ستعيش اكثر من مائة عام, كما فعلت جدتها من امها والتي تحدت اثناء حرب 1885دورية تابعة للكولونيل أوريليانو بوينديا تمترست في مطبخ المزرعة. وفي نيسان هذا العام فحسب, ادركت الأم الكبيرة حقا ان الله لن يمنحها بركة تصفية جموع الفيدراليين الماسونيين بنفسها في مناوشة مفتوحة.
في الأسبوع الاول من الوجع, حافظ الطبيب على معالجتها بلصقات الخردبل والجوارب الصوفية. وكان هذا الطبيب بالوراثة والذي تخرج من جامعة مونبلييه, يكن عداء شرسا ينبع من اعتقاد فلسفي لأي تقدم يحرزه العلم الذي يمارسه, مما جاء منسجما مع ميزة تحلت بها الأم الكبيرة طوال حياتها الا وهي منع دخول اي طبيب اخر الى ماكوندو. فيما مضى, كان الطبيب يتجول في المدينة على ظهر حصان, ويزور المرضى والمصابين بداء الكابة عندما يحل الغسق. ولقد منحته الطبيعة امتيازا بأن يكون ابا للعديد من الاطفال الذين كان يعالج امهاتهم. لكن التهاب المفاصل اقعده الفراش, وانتهى بأن اخذ يعاينهم دون الحاجة الى تجشم عناء الحضور , وذلك عن طريق تخمين مابهم من داء, او بعث الرسل اليهم, وكذلك عن طريق التعليمات الشفهية . وعندما كانت الام الكبيرة تدعوه, كان يعبر الساحة العامة مرتديا بيجامته ومستندا على عكازتين ثم يجلس في حجرة الأم المريضة. ولكن عندما ادرك فقط ان الام الكبيرة تحتضر, أمر باحضار صندوق فيه جرار من الخزف الصيني مكتوب عليها باللغة اللاتينية.
بعدئذ بدأ يلطخ المريضة من الداخل والخارج بكل انواع المراهم الأكاديمية والمنبهات القوية والتحاميل النادرة, ثم انتقل الى مرحلة استخدام سمك العلجوم (1) ومدررات الكلى حتى جاء صباح يوم كان عليه ان يواجه مأزقا : اما تركها تنزف على يد الحجام, او ان يختنها الأب انطوني ايزابيل.
أرسل نيكانور في طلب القس الذي حمله افضل رجاله من بيت الابرشية الى حجرة نوم الأم الكبيرة. واجلس على كرسي هزاز مصنوع من الصفصاف لاينفك عن الصرير, كان موضوعا تحت الظل (2) المتعفنة المخصصة للمناسبات العظيمة.
اول بلاغ سمعه سكان ماكوندو في فجر ايلول الدافئ جاء من الناقوس الصغير لقربان الموت. وعندما اشرقت الشمس, غدت الساحة الصغيرة المقابلة لبيت الأم الكبيرة تشبه سوق القرية.
لنعود الى ذكرى من عصر غابر. فقد اعتادت الام الكبيرة حتى عندما بلغت السبعين من العمر الاحتفال بعيد ميلادها بكرنفالات مديدة وصاخبة, وهذه ماتزال طرية في الذهن. حينئذ كانت قنينة ضخمة جدا من شراب الروم توضع في مكان تبلغه ايدي الناس بيسر, ثم تنحر الماشية في الساحة العامة, وتجلس فرقة موسيقية على احدى الطاولات تعزف ثلاثة ايام متواصلة. وتحت اشجار اللوز المغبرة, حيث عسكرت في الاسبوع الاول من هذا القرن, قوات الكولونيل اوريليانو بوينديا, كانت تنصب الاكشاك لبيع عصير الموز وأقراص الرغيف والسجق واللحم المفروم المقلى وفطائر اللحم والنقانق والخبز المصنوع من اليكة(3) والكعك الصغير وخبز الذرة ومعجنات الفطائر واللونجانيراس والكروش وجوز الهند والنوغة (4) والشراب الحار المسكر, كذلك انواع الكعك المنقوع بالخمر, والحلويات الرخيصة بأنواعها من الكوكو, والترانكيت, والنكناك وقتال الديكة وبطاقات اليانصيب. وفي هرج الجماهير المنفعلة, تباع وشاحات وصور نقش عليها وجه الام الكبيرة.
وجرت العادة ان تبدأ المهرجانات قبل يومين من عيد ميلادها, حيث تنتهي فيه على فرقعة الألعاب النارية واقامة حفل عائلي راقص في بيت الأم الكبيرة. ويتم اختيار الضيوف بعناية فائقة, ثم يبدأ اعضاء العائلة الشرعيون, والذين عبرو عن سماحة في انفسهم, بدعةتهم النسل اللاشرعي لحضور الحفل, بالرقص على انغام البيانولا والتي زودت بانغام جرى وضعها حديثا . اما الام الكبيرة فتقوم بالاشراف على الحفلة الكبيرة, وهي جالسة خلف القاعة في كرسي مريح ذي وسادات من الكتان وتصدر التعليمات بيدها اليمنى التي تزينها الخواتم على امتداد الاصابع. وأثناء تلك الليلة, يجري ترتيب حفلات الزواج للسنة القادمة. اما احيانا بعد اخذ موافقة العشاق ولكن دائما تقريبا بعد اخذ مشورة ماتستوحيه الام الكبيرة. وعند انتهاء حفلات الابتهاج, تطل الام الكبيرة من الشرفة المزخرفة بالتيجان المرصعة بالجواهر والفوانيس اليابانية ثم تنثر قطع النقود على الجماهير.
اما هذا التقليد فقد ولى, لأن نكبات الحداد تتالت على هذه العائلة, واتعدم الاستقرار السياسي في السنوات القليلة الماضية. ان الاجيال الجديدة لم يتح لها الا السماع عن تلك الاحتفالات المجيدة, لكنهم لم يروا ابدا الأم الكبيرة في المهرجانات الجماهيرية, يهوى لها بالمراوح موظفو السلطة المدنية, متمتعين بذلك بامتياز يبعدهم عن الركوع حتى في ذروة السمو, لئلا يتلفوا حواشي التنورة التي صممت في هولندا, واثوابها القطنية المنشاة.
وفي ساعات التخريف, يتذكر الشيوخ ايام الشباب, فتنبسط في ذاكرتهم المائتا حصير التي فرشت من مدخل القصر حتى المذبح الرئيسي, تكريما لماريا ديل روزرايو كاستنيدا مونتيرو التي حضرت مأتم أبيها. وعلى الشارع الذي تكسوه الحصر, رجعت ماريا ادراجها وقد اكتسى وجهها وقارا متوقدا, ثم حانت منها التفاتة الى الأم الكبيرة التي كانت في ميعة الصبا اذ لم تتجاوز العشرين من العمر. ولا ينتمي هذا المشهد الأخاذ الى ماضي العائلة, بل الى ماضي الأمة برمتها من بعد, وبغموض دوما, وبشكل يصعب رؤيته بوضوح, كانت الأم الكبيرة تجلس في الشرفة, تضايق انفاسها رائحة الجيرانيوم في اوقات الظهيرة القائظة, اما سطوتها فقد كانت تتلاشى في اسطورتها ذاتها, اذ كانت تمارس سلطتها عبر نيكانور. وكان الوعد المفهوم ضمنا مايزال موجودا, وقد صاغه التقليد, ويقضي بأنه عندما تقرر الأم الكبيرة وصيتها نهائيا, يعلن الورثة عن اقامة ثلاث ليل من اللهو الصاخب العلني. لكن في الوقت ذاته كان الجميع يعلم انها قد صممت على عدم الافضاء برغباتها الأخيرة الا قبل ساعات قليلة من موتها, ولم يفكر احد بشكل جدي بامكانية ان الأم الكبيرة عرضة للموت. اما في هذا الصباح وعندما دوي ناقوس قربان الموت , اصبح سكان ماكوندو مقتنعين تماما ان الأم الكبيرة ليست عرضة للموت فقط, بل انها تحتضر.
لقد حانت ساعة المنية. وحين يراها المرء في السرير الكتاني مثقلة بالصبر(5) حتى اذنيها, تحت المضلة المغبرة المصنوعة من القماش الشرقي, لايكتشف الا بعد جهد توفر اي حياة في النفس الخافت للثديين الضخمين: فالأم الكبيرة كانت ترفض حتى عندما بلغت الخمسين من العمر, اشد المتحمسين لطلب الزواج منها, ولقد وهبتها الطبيعة من العافية ماأهلها لأن تقوم بنفسها ببارضاع جميع الاطفال المتحدرين من نسلها, لكنها تموت الان عذراء بلا اطفال. وفي ختام مراسيم مسح جسدها المسجى بالزيت المقدس, طلب القس أنطوني ايزابيل عون الاخرين كي يضعوا الزيت على راحتي كفيها التي ابقتهما مضمومتين منذ بدء الام الاحتضار. لكن الخدمة التي تطوع للقيام بها الأقارب لم تكن ذات جدوى. وفي النزاع الذي جرى لاول مرة خلال اشبوع, كانت المرأة المحتضرة تضغط على صدرها بالكف المرصعة بالجواهر والحلي الثمينة, وتثبت نظرة غائمة على الاقارب صارخة: " ابتعدوا عني ياقطاع الطرق". وحينما رأت القس انطوني ايزابيل بردائه الكهنوتي, والقندلفت مع ادوات القربان المقدس, تمتعت بقناعة هادئة: "اني اموت". ثم نزعت الخاتم المرصع بالماسة العظيمة وسلمته الى المترهبنة ماجدولينا, باعتبارها اصغر الورثة سنا. ولكن ماجدولينا وضعت حدا لهذا التقليد, حينما تبرعت بارصها الى الكنيسة.
في الفجر, طلبت الأم الكبيرة ان يتركوها لوحدها مع نيكانور لتفدم له التعليمات النهائية. ولفترة دامت نصف ساعة, وهي تسيطر تماما على قدراتها العقلية, اخذت تطرح عليه أسئلة تتعلق بأمور الملكية. ثم اعطت تعليمات محددة حول كيفية دفن جسدها, وأخيرا أولت اهتماما الى مايلي:" ابق عينيك مفتوحتين" كانت تقول " وخبئ اي شيء ذا قيمة وراء قفل ومفتاح, اذ يقدم العديد من الناس للسهر على الجثة بعد موتي, ولكنهم يبيتون امر سرقة ماتقع عليه يدهم". وبعد دقيقة, عندما اصبحت وحيدة مع القس أدلت باعتراف مسهب صادق ثم تجاذبت أطراف الحديث مع الاقارب. وبعدئذ طلبت ان يجلسوها في كرسيها الهزاز كي تبوح باخر رغباتها.
وكان نيكانور قد هيأ أربعا وعشرين ورقة كتبت بخط واضح تماما, وتضم هذه الاوراق نقريرا دقيقا بالممتلكات. وبنفس هادئ وبحضور الطبيب والقس أنطوني ايزابيل كشاهدين, أخذت الأم الكبيرة تملي على كاتب العدل قائمة بالممتلكات, والتي تعتبر المصدر السامي والفريد للعظمة والنفوذ اللذين تمتعت بهما. وبعد التداول, وضعت الممتلكات في في اطارها الحقيقي, وتم تحديد الأراضي المملوكة حقا بثلاث مقاطعات تم الحصول عليها اثر مرسوم ملكي صدر عند تأسيس المستعمرة, وبمرور الزمن, اضافة الى الزيجات المعقدة المربحة, اخذت هذه الاراضي تتراكم لتقع اخيرا في قبضة الأم الكبيرة. وفي تلك الاراضي البكر, التي لاتحدها تخوم ثابتة, ةحيث تشتمل على خمس مناطق لم تزرع فيها حبة ثمح واحدة على حساب المالك, تعيش مائة وخمسون عائلة كمزارعين مستأجرين. وعن طريق جمع ايجارات الاراضي كل سنة عشية عيد ميلادها, كانت الأم الكبيرة تمارس الفعل الوحيد لسلطتها التي منعت من انتقال الاراضي الى الدولة, فبعد جلوسها في الشرفة الخلفية لمنزلها, تقوم الأم الكبيرة شخصيا بتسلم ثمن حق البقاء في اراضيها, كما فعل لأكثر من قرن فيما مضى أجدادها حينما كانوا يستلمون الايجار من اجداد المزارعين. وعندما تنتهي عملية جمع الايجار التي تستمر ثلاثة أيام, يكتظ الفناء بالخنازير والديكة الرومية والدجاج واعشار الغلة والثمار الاولى للأراضي, حيث تودع هذه في الفناء على اعتبارها هدايا. والحق, فان ذلك هو الحصاد الوحيد الذي تجمعه العائلة من الأراضي قدر مساحتها بمائة ألف هكتار. لكن الظروف التاريخية فرضت نمو وازدهار المدن الست التي تكون الان مقاطعة ماكوندو في نطاق تلك الحدود, ولم تستثنى من ذلك حاضرة الاقليم, بحيث انه لم يعد هناك شخص يسكن في بيت له فيه اي حقوق للتملك غير التي تخص البيت ذاته, لان الاراضي تعود الى الأم الكبيرة, وعنها تدفع للأم الايجارات, كما الزمت الحكومة بدفع نسبة معينة من النقود, مقابل حق استخدام المواطنين في شق الشوارع.
وفي ضواحي المستوطنات, كانت حيوانات لم يقم بأحصائها أحد او ايلائها ادنى اهتمام, تتجول ووشم على هيئة قفل يسم ارجلها الخلفية, وغدا من المألوف رؤيتها في اصقاع بعيدة, ليس لانها كثيرة العدد, بل لانعدام أمر تسيير شؤونها. وكانت هذه الحيوانات المبعثرة تتيه صيفا والعطش يقتلها لكنها كانت تعتبر اكثر الدعائم الصلبة للأسطورة التي تحيط بالأم الكبيرة. ولاسباب لم يزعج أحد نفسه لتفسيرها, قاموا بمرور الزمن , وبالتحديد منذ الحرب الاهلية الاخيرة, باخلاء اسطبلات العائلة لتحل محلها مكابس لتعليب سكر القصب ومصلحة الالبان وطاحونة الرز.
والى جانب ماذكر, ألمحت الأم الكبيرة في وصيتها الى وجود ثلاثة صناديق ملأى بالعملات الذهبية, كانت قد دفنت في مكان ما في البيت, ولم يعثر عليها لحد الان رغم عمليات التنقيب المتكررة والمضنية. وسيحتفظ الورثة بخريطة تداولتها الايدي من جيل الى جيل, تسهل من مهمة العثور على الكنز المدفون, اضافة الى حق الاستمرار في استغلال الأرض المؤجرة واستلام ضريبة الأعشار والثمار الأولى وكل انواع الهبات الاستثنائية.
ثلاث ساعات انقضت حتى استطاعت الأم الكبيرة من اكمال تعدلد ثروتها الدنيوية. وفي الغرفة الخانقة, كان صوت المرأة المحتضرة يضفي هالة من الجلال على اي شيئ تسميه. وعندما وضعت توقيعها المرتجف, وفعل الشهود الشيئ ذاته, هز ارتجاف خفي قلوب الحشود التي بدأت تتقاطر لتقف امام البيت في ظل اشجار اللوز المغبرة في الساحة العامة.
ولم يعد انذاك ينقص اي شيء سوى قائمة مفصلة بالممتلكات اللامادية. وبعد ان بذلت جهدا فائقا- كما فعل اجدادها قبل موتهم ليؤكدوا هيمنة نسلهم من بعدهم- رفعت الأم الكبيرة نفسها على ردفيها الضخمتين, وبصوت مخلص طاغ, أملت, وهي تضيع في ذكرياتها, قائمة بالأملاك الخفية على كاتب العدل: ثروات جوف الارض, والمياه الأقليمية, وألوان العلم , والسيادة القومية, والأحزاب التقليدية, وحقوق الانسان, والحقوق المدنية, وقيادة الأمة, وحق أستئناف الدعوى, وجلسات البرلمان, ورسائل التوصية, والسجلات التاريخية, والانتخابات الحرة, ومكات الجمال, والخطب الغامضة, والتظاهرات الضخمة, والسيدات الشهيرات, والنبلاء الوسيمون والعسكر ذوو الطاعة العمياء, والكاردينال العزيز, والمحكمة العليا, وتهريب البضائع, والسيدات الليبراليات, ومشكلة اللحوم, والحفاظ على سلامة اللغة, وطرح النموذج الأمثل, والصحافة الحرة لكن الملتزمة, والأنظمة الديمقراطية في امريكا الجنوبية, والرأي العام, والعبر التي قدمتها الديمقراطية, والأخلاق المسيحية, والنقص في العملة الاجنبية, وحق اللجوء السياسي, والخطر الشيوعي, ودفة الدولة, وارتفاع مستوى المعيشة, والتقاليد الجمهورية, والطبقات المعدمة, وبيانات التأييد السياسي.
ولم تستطع المضي في ذلك, فالجهد الذي بذلته في التعداد قطع عنها اخر نفس لها. فبينما كانت الأم الكبيرة غارقة في فوضى الصيغ التجديدية, والتي كونت لفترة تمتد قرنين التبرير الأخلاقي لسلطة العائلة, تجشأت في النهاية بصوت عال ولفظت النفس الأخير.
ظهر ذاك اليوم, رأى سكان أحدى العواصم النائية المكفهرة صورة امرأة في العشرين من عمرها تحتل الصفحة الأولى للطبعات الاضافية للصحف. وظن الجميع ان هذه ملكة جديدة للجمال. هكذا عاشت الأم الكبيرة من جديد لحظات خاطفة من الشباب عبر صورتها المنشورة والتي شغلت مساحة اربعة أعمدة بعد ان اجريت لها الرتوش اللازمة. وبدت الفتاة في الصورة بشعر غزير, مثبت الى الأعلى بمشط عاجي, ويتربع على ياقة ثوبها تاج.
اما الصورة فقد التقطها مصور جوال زار ماكوندو مرة في بداية القرن, ثم احتفظ بها في ارشيف الجريدة عدة سنوات في قسم الاشخاص المجهولين, ثم قدر بعدئذ لهذه الصورة ان تنغرز في ذاكرة اجيال المستقبل. ولم يمض وقت طويل حتى اخذت تعلق مع زخارف باهتة في سيارات النقل القديمة ومصاعد الوزارات والصالات الموحشة لاحتساء الشاي, وبدأ الناس يتهامسون بتبجيل واحترام عن شخصيتها التاريخية وكيف كانت تعيش في منطقة شديدة الحرارة موبؤة بالملاريا, هذه المنطقة التي لم يتعرف أحد في ارجاء البلاد على اسمها الا قبل ساعات قليلة – اي قبل ان تضفي الكلمة المطبوعة عليها هالة مقدسة – وظل المارة رذاذ ناعم يتخلله الشك والغموض. وقرعت أجراس جميع الكنائس تنعي المرحومة. حتى ان رئيس الجمهورية, عندما كان في طريقه لحضور تظاهرة عسكرية ينفذها الخريجون الجدد من الكلية العسكرية, باغتته هذه الأخبار, فاقترح على وزير الحربية عبر ملاحظة كتبها بخط يده على ظهر البرقية ان يختتم كلمته بالوقوف دقيقة صمت واحدة حدادا على الأم الكبيرة.
لقد هز نبأ موتها أركان النظام الاجتماعي. فرئيس الجمهورية ذاتها, الذي ترعرعت قبل فترة قصيرة جدا في داخله المشاعر الحضرية والذي تغلغلت في داخله عبر مصفاة للترشيح, توصل الى ان يستوعب وهو في سيارته مشهدا خاطفا, لكنه موجع الى حد ما, ألا وهو ان المدينة قد سادها ذعر صامت. فالمقاهي الرخيصة فقط قد فتحت ابوابها, أما كاتدرائية العاصمة فقد دب النشاط فيها لاعداد مراسيم المأتم الذي يستغرق تشعة أيام. وتركت مضاءة مصابيح البرلمان الوطني, والذي ينام تحت ظلال أعمدته الأغريقية والتماثيل الخرساء للرؤساء الراحلين, الشحاذون وهم متدثرون بالصحف القديمة. دخل رئيس الجمهورية مكتبه, منفعلا لرؤية العاصمة في ثوب الحداد, وكان الوزراء بنتظرونه مرتدين اشارات العزاء ويقفون بوجوه شاحبة وصارمة اكثر من المألوف.
ان أحداث تلك الليلة وما سيليها سينظر اليها على انها درس تاريخي, ليس فقط بما تتحلى به من روح مسيحية ألهمت أسمى الشخصيات في السلطة المدنية, بل لنكران الذات الذي تجلى في تسوية المشاكل التي تعصف بين المصالح المتباينة والقضاة المتخاصمين, ليصبوا جهودهم في الوصول الى الهدف المشترك وهو دفن جثمان المرأة الشهيرة. فقد بسطت الأم الكبيرة ولعدة سنين نفوذ السلام الاجتماعي والانسجام السياسي في امبراطوريتها, بفضل الصناديق الثلاثة التي حشرت فيها البطاقات الانتخابية المزورة, والتي تشكل جزءا هاما من ممتلكاتها الخفية. اذ لم تقصر حق التصويت على الرجال الذين يقدمون الخدمات لها, والمزارعين المستأجرين, كبارا وصغارا, اضافة الى من تكفل الحماية لهم, بل تمتع بحق التصويت حتى الذين رحلوا الى عالم الاموات منذ قرون. لقد كانت الأم الكبيرة تمارس مبدأ أولوية القوة التقليدية على السلطة الانتقالية وهيمنة طبقة واحدة على عامة الشعب, وسمو الحكمة المقدسة على المبادرة الانسانية. وفي فترات السلام, كانت ارادتها الطاغية هي التي تحسم امور الحرب, والرتب الكنسية, والوظائف الطفيلية, وتقوم بالسهر على رخاء شركائها الثانويين, حتى لو ادى ذلك الى اللجوء الى المناورات السرية والانتخابات المزيفة. وفي أيام الاضطرابات كانت ألأم الكبيرة تساهم في تزويد أنصارها بالسلاح سرا, ولكنها تقدم المعونات أيضا الى ضحاياها في العلن. وهذا الحماس الوطني ضمن للأم الكبيرة أسمى الألقاب والأوسمة.
ولم يجد رئيس الجمهورية أية ضرورة للاستماع الى اراء مستشاريه كي يستوعب حجم خطورة المسؤولية الملقاة على عاتقه. بعد الغسق وعند اجتيازه المسافة الممتدة بين قاعة الاستقبال والفناء الصغير المبلط حيث كان النواب ينتظرونه. توجد حديقة داخلية من شجر السرو الداكن, حيث شنق راهب برتغالي نفسه تخلصا من عذاب الحب, وذلك في الايام الاخيرة للاستعمار, فان رئيس الجمهورية لم يستطع قمع ارتعاشة خفيفة سرت في اجزاء جسمه كله لم يعرف مصدرها, رغم انه كان يسمع جلبة شلة الموظفين الذين تطرز صدورهم الميداليات العديدة. لكن في تلك الليلة, كانت لارتعاشته قوة الهاجس. وبعد ان بزغ امامه وعي كامل بمصيره التاريخي, اصدر مرسوما يقضي باعلان حداد وطني يستمر تسعة ايام, ومنح بموجبه الى الأم الكبيرة ألقابا من فئة لاتمنح الالبطلة استشهدت في ميدان المعركة من اجل ارض الأباء. وكما عبر عنه في الخطاب الدراماتيكي الذي القاه في ذلك الصباح على المواطنين من خلال شبكة الاذاعة والتلفزيون فان زعيم الامة كان واثقا ان مراسيم المأتم ستغدو مثلا جديدا يحنذي به العالم.
مع ذلك اصطدم مثل هذا الهدف النبيل مع عقبات جدية معينة. فالهيكل القضائي في البلاد الذي وضع لبناته الأسلاف البعيدون للأم الكبيرة لم يكن مهيئا لأحداث كالتي وقعت. لذلك انهمك فقهاء القانون الحكماء, والكيميائيون الذين يحملون شهادات بالتشريعات!! يبحثون في التفسيرات والمقاييس المنطقية للعثور على صيغة تتيح لرئيس الجمهورية حضور المأتم. أما الطبقة العليا من السياسيين ورجال الدين والممولين فقد قضوا أياما بكاملها في حالة استنفار. وفيما كانت مؤهلات الأم الكبيرة تسمو لتبليغ درجة لم يسبق لها مثيل, من على منبر الكونغرس الذي نخره قرن من القوانين التجديدية, ووسط اللوحات الزيتية التي تمثل الابطال القوميين, والتماثيل النصفية للمفكرين الاغريق, ملأت الفقاقيع جسدها المسجى في قيظ أيلول الجاف. ولأول مرة بدأ الناس يتحدثون عنها, ويتخيلونها من دون كرسي هزاز, او لصوق الخردل, أو فترات القيلولة عند الظهيرة, وعبر الأسطورة التي تحيط بها, أخذوا يرونها دائمة الشباب وطاهرة ونقية.
كلمات وكلمات وكلمات, كانت تتخم بها الساعات المتطاولة حتى السأم, والتي سمع دويها في أرجاء الجمهورية, أما الناطقون بأسم الكلمة المطبوعة فقد أضفوا عليها هالة من الجلال. وعندما اجتمع اكبر المشرعين, دفع الاحساس بالواقع احدهم الى ان يقاطع ذلك الهراء الهراء الهراء التاريخي وذكرهم ان جثمان الأم الكبيرة ينتظر القرار في درجة حرارة 140 في الظل. ولم تطرف عين في مواجهة انفجار الفطرة السليمة على الجو النقي للقانون المدون. فصدرت الاوامر بتحنيط الجثة, وهم منكبون على طرح الصيغ, والتوفيق بين وجهات النظر, واجراء التعديلات الدستورية مما يتيح لرئيس الجمهورية حضور مراسم الدفن.
لقد قيل الكثير, بحيث ان مجريات النقاش عبرت الحدود, وتخطت المحيطات, وحومت كنذير على غرف قصر الحبر الأعظم في كاسل كاندولفو. وبعد شفائه من الخدر الذي ألم به في أيام اب الملبدة, كان الحبر الأعظم يقف عند النافذة, ويراقب البحيرة حيث كان الغطاسون يبحثون عن رأس مقطوع لفتاة شابة. ففي الأسابيع الأخيرة, لم يكن يشغل صحف المساء غير هذا الحديث, لذلك لم يستطع الحبر الأعظم الا الاهتمام بلغز حدث على مسافة قليلة من قصره الصيفي. لكن مساء ذلك اليوم, أجريت عملية استعاضة مباغتة, اذ غيرت الصحف صور الضحايا المحتملين, كي تحل محلها امرأة في العشرين من عمرها, في اطار مجلل بالسواد: ((الأم الكبيرة)) صاح الحبر الأعظم مستغربا, اذ تعرف في الحال على الصورة الفوتوغرافية الحائلة التي عرضت عليه قبل عدة سنين عند تسنمه تاج القديس بطرس. أما طلاب كلية الكاردينالات الذين يسكنون في شقق خاصة فقد هتفوا ايضا وبصوت واحد: (الأم الكبيرة)) ولثالث مرة في عشرين قرنا تعم الامبراطورية المسيحية اللامتناهية الاطراف ساعة من الفوضى, والكدر والهياج, استمرت حتى اللحظة التي نقل فيها الحبر الأعظم الى سيارته الليموزين السوداء الطويلة, كي تشق طريقها الى المأتم النائي والضخم للأم الكبيرة.
تناءت الى الوراء بساتين الخوخ المتلألئة, وتلاشت الفيا ابيا انتيكا, والتي تضم أغنى نجوم السينما, الذين لوحتهم اشعة الشمس في الحدائق, دون ان تتناهى الى اسماعهم حتى الان انباء هذا الهياج. عبرت السيارة القمة الخدرانة التي تتربع الجبل حيث قلعة القديس انجيلو تطل على التايبر. وعند الغسق, امتزجت الجلجلة المدوية لأجراس كنيسة القديس بيتر باسيليكا, بالرنين الأجش لماكوندو. وفي الخيمة الخانقة التي نصبت عبر القصب المتشابك والمستنقعات الصامتة التي تؤشر الحدود بين الامبراطورية الرومانية والمزارع الواسعة للأم الكبيرة, سمع صخب القرود التي اضطربت الليل كله لمرأى مرور الحشود. وفي رحلة الليل, تم ملء الزورق الطويل بأكداس من اليكة, وسيقان الموز الخضراء وأقفاص الدجاج اضافة الى الرجال والنساء الذين هجروا حرفة العمر ليجربوا حظهم في بيع البضائع في مأتم الأم الكبيرة. تلك الليلة , عانى قداسته ولأول مرة في تاريخ الكنيسة من حمى الأرق ولسع البعوض. وما ان أطل الفجر الرائع على اراضي العجوز العظيمة, ورأى قداسته أول الامر تفاحة البلسم والأغوانا(6) حتى أمحت من ذاكرته متاعب الرحلة, ولكأنها تعويض عن التضحية التي بذلها من أجل المأتم.
أيقظت نيكانور ثلاث طرقات على الباب معلنة قرب وصول قداسته. وكان شبح الموت مسلطا على البيت. فالشخصيات والطوائف, وقد توقفت عن اعمالها في ارجاء العالم, اذ ألهمتها الخطب المتعاقبة واللجوجة, والمناظرات الحامية التي قمعت, والتي كان بالامكان رغم ذلك سماعها عبر الرموز التقليدية, تقاطرت فجأة فازدحم حضورها في المداخل والممرات المكتظة, والعليات(7) الخانقة, لكن من وصل متأخرا فقد تسلق الجدران الواطئة المحيطة بالكنيسة والأوتاد الخشبية المستدقة, والمواقع البارزة والأشياء المصنوعة من الاخشاب والمتاريس حيث تمكنوا من تكييف اجسامهم وفقا لذلك بأفضل قدر ممكن. وتمدد في القاعة الرئيسية الجسد المحنط , بانتظار القرارات الهامة التي تضمنتها كومة برقيات مرتعشة. أما الاقارب, فبعد ان أوهنهم النحيب, جلسوا للسهر على الجثة منتشين من تبادل الاشراف عليها.
ولم يكن امام الجنس البشري الا اطالة أمد انتظاره عدة جلدية وابريق من الماء الصافي وارجوحة من النباتات الشائكة, أيام. وفي قاعة مجلس المدينة, التي يوجد فيها اربعة كراسي اخذ الحبر الأعظم وقد ضايقه الارق والعرق, بتسلية نفسه بقراءة المذكرات والاوامر الادارية في ساعات الليالي الطويلة الخانقة. أما اثناء النهار فقد كان يوزع الحلوى الايطالية على الاطفال الذين يقتربون من النافذة ليتطلعوا اليه. وكان الحبر الأعظم يتناول الطعام تحت شجرة الخبازى مع القس انطوني ايزابيل احيانا, ومع نيكانور أحيانا اخرى. هكذا امضى ايامه في الاسابيع والشهور التي لا نهاية لها, والتي يطيل من مرارتها الانتظار والقيظ, الى ان ظهر الأب باسترانا مع الطبال ثم وقفا في وسط الساحة العامة ليقرأ الأب البيان الذي بين ان الفوضى قد دبت في النظام العام, اعقبه بعد ذلك قرع على الطبل, وان رئيس الجمهورية, راتات راتات راتات, لانه يتمع بامتيازات استثنائية في السلطة, وتكرر القرع راتات راتات راتات فقد خول حضور مأتم الأم الكبيرة راتات راتات راتات.
لقد حل اليوم العظيم. ففي الشوارع التي ازدحمت بالسيارات وبالباعة المتجولين الذين يبيعون اللحم المقلي, وبأكشاك اليانصيب وبالرجال الذين تلتف الأفاعي حول أعناقهم, ويعرضون البلسم للبيع مؤكدين انه يشفي من التهابات الجلد ويضمن الحياة الأزلية, وفي الساحة العامة الصغيرة المرقشة, حيث نصبت الحشود الخيام وفرشت حصران النوم, كانت فرقة للحماية تعمل بنشاط لفتح الطريق امام موكب السلطة, وكان من ينتظر اللحظة المهيبة هم: النساء اللواتي ينظفن الملابس في سان جورج, وصيادو اللألئ في كابو ديلا فيلا, وصيادو سيناجا, وصيادو الروبيان في تاساجيرا, وسحرة موجاجانا, وعمال مناجم الملح في مانور, وعازفو الأكورديون في فاليديوبار, والفرسان الأنيقون في ايابيل, والموسيقيون الرعاع في سان بيلايو, ومربو الديكة في لاكيوفا, وشعراء الارتجال من ساباناس دوبوليفار, والغندورات من ديبولو, ومهرة التجديف في ماجدالينا, والمحامون المشبوهون في مونبوكس, اضافة الى من جاء ذكره في بداية هذا العرض التاريخي للأحداث, وغيرهم كثيرون. لقد جاء الى المأتم حتى المحاربون القدماء الذين كانوا في معسكر الكولونيل أوريليانو بوينديا, يتقدمهم دوق مارلبورو بخيلاء حاملا على كتفيه الفرو ومخالب وأسنان نمر , فقد طغى الحدث على الحقد الذي يكنونه مائة عام على الأم الكبيرة ونسلها, فجاؤوا الى المأتم كي يطالبوا رئيس الجمهورية بدفع تقاعد الجنود الذين بقوا في انتظاره اكثر من ستين عاما.
قبل الحادية عشرة بقليل, كانت قوة خاصة مشهورة بشراستها, ترتدي جاكيتات مرقطة وخوذا مزركشة تدفع الى الوراء الحشود الهائجة التي كانت تتصبب عرقا تحت الشمس, ثم اخذت هذه القوة الخاصة تطلق هديرا هائلا بهتاف الانتصار. ومن زاوية مكتب التلغراف, ظهر بشموخ, ووقار رئيس الجمهورية والوزراء ووفود البرلمان والمحكمة العليا ومجلس الدولة والاحزاب التقليدية والاكليروس(8) وممثلوا المصارف والتجارة والصناعة, مرتدين بدلات المناسبات والقبعات العالية. وسار رئيس الجمهورية المريض العجوز بصلعته وبدانته في الموكب, مارا من امام عيون الجماهير المدهوشة, والتي رأته فيما سبق يتقلد مراسيم السلطة دون ان تعرف من يكون. اما الان فبامكانه ان يعرض للجماهير تقريرا دقيقا عن سر وجوده. وبين الاساقفة الذين أعيتهم الواجبات الكهنوتية, ورجال الجيش ذوي الصدور القوية المدرعة بالميداليات, كان زعيم الأمة يعبر عن العنفوان الواضح الذي وصلت اليه السلطة.
أما في الصف التالي, وبموكب جليل, كانت ملكات الجمال في الحاضر والمستقبل, يمشين مرتديات شارات الحداد. ولأول مرة, نزعن عن انفسهن أية أبهة دنيوية, وكانت ملكة جمال الكون في الطليعة تعقبها ملكات فول الصويا والشجر الأخضر, وطعام اليكة, والجوافة, وجوز الهند, واللوبياء وشريط بيوض الأغوانا, الذي يمتد طوله الى 255 ميلا, وأخريات كثيرات, لم يذكروا في هذا التقرير حتى لايغدو مطولا حتى السأم.
وفي التابوت المكسي بالأرجوان, كانت الأم معزولة عن عالم الواقع, بثماني شدادات نحاسية, تستغرق في أبدية تفوح برائحة الفور مالديهايد(9), بحيث لن تتمكن من الاحساس بعظم جلالها. ففي تلك الفترة الرائعة, التي امتدت ثمان واربعين ساعة, تم استخدام جميع مظاهر الأبهة التي كانت تحلم بها الأم الكبيرة حين تجلس في شرفة بيتها اثناء الأرق الذي يسببه القيظ. ففي هذا المأتم أعلن كل رموز العصر عن الاجلال لذكراها, بحيث ان الحبر الأعظم ذاته, والذي كانت الأم الكبيرة تتخيله أثناء هذيانها طافيا على حدائق الفاتيكان في عربة متألقة, تمكن من الحاق الهزيمة بالقيظ الخانق مستخدما مروحة يدوية ذات طيات, وهكذا كرم مقامه الرفيع بحضوره أعظم مأتم في العالم.
واذا كان العامة مبهوري الأنفاس باستعراض القوة التي يرون, فأنهم لم يتبينوا مصدر الجلبة التي كانت تدور على سقف البيت, حينما فرضت المصالحة على نبلاء المدينة المتخاصمين, وتوصلوا الى ان يرفع أعلاهم شأنا النعش على اكتافهم, ولم ير أحد الظل المتربص للصقور التي تتبعت الموكب الجنائزي عبر شوارع ماكوندو الصغيرة التي استحمت بالعرق الغزير, ولم يلاحظوا ان النبلاء قد تركوا ارتالا هائلة من النفايات في الشوارع عند مرورهم. ولم ينتبه أحد ان اقارب الأم الكبيرة على مختلف انواعهم, قد اوصدوا الأبواب حالما خرج النعش, وشرعوا ينزعون الابواب ويخلعون مسامير الألواح ونبشوا حتى الاساس كي يقتسموا البيت. لكن شيئا واحدا لم يفت أحدا في خضم الهرج الا وهو ان الحشود أطلقت تنهيدة مدوية من الارتياح لانتهاء اربعة عشر يوما مليئة بالابتهالات وبالمشاعر الجامحة والقصائد الحماسية, وكذلك عندما ختم على قاعدة القبر بالرصاص. اذ ان بعض الحاضرين امتلكوا من الوعي مايكفي لأن يدركوا انهم يشهدون ولادة عصر جديد. وبمقدور الحبر الأعظم الان ان يصعد الى السماء جسدا وروحا, فقد انجز رسالته على الارض, ويستطيع رئيس الجمهورية الان الجلوس براحة, وتسيير دفة الامور وفق بصيرته الصائبة. أما ملكات الجمال فبأمكانهن الان الزواج والعيش بسعادة, وكذلك ان يحبلن ويلدن العديد من الاطفال. وأينما يريد العامة, فانهم يقدرون على نصب خيامهم في ممتلكات الأم الكبيرة التي لاحد لها, لان الوحيد الذي كان يعترض ذلك, ويمتلك من الجبروت مايكفي لمجابهتهم, يتعفن الان تحت الضريح. ولم يتبق شيء غير اسناد كرسي عند البوابة وسرد هذه القصة بوصفها درسا ومثالا للأجيال الاتية, كي لايظل هناك اي انسان تساوره الشكوك في العالم لم يسمع بقصة الأم الكبيرة. اذ غدا يصادف الاربعاء, وسيأتي عمال التنظيفات ليزيلوا نفايات مأتمها من الارض مرة والى الأبد.
1985
الهوامش:
(1) سمك العلجوم: سمك بحري ضخم الرأس عريض الفم.
(2) ظلة: غطاء من الاغصان يوضع فوق سرير او عرش او فوق شخص ذي منزلة رفيعة.
(3) اليكة: نبات من الفصيلة الزنبقية.
(4) النوغة: حلوى بيضاء معجونة بالفستق.
(5) الصبر: نبات يستخرج من بعض انواعه عصارة مرة وتستعمل في الطب.
(6) عظاية امريكية استوائية ضخمة اكلة للأعشاب,
(7) العليات، جمع العلية وهي موضع يقع تحت سطح المنزل مباشرة.
(8) الاكليروس: رجال الدين المسيحيون.
(9) الفورمالديهايد: غاز عديم اللون نافذ الرائحة.
* سعدي عبد اللطيف: اديب عراقي مقيم في المملكة المتحدة واستاذ سابق للادب الانكليزي في العراق والجزائر. ترجم ونشر عشرات النصوص الفلسفية والشعرية والوثائق السياسية الى جانب ما له من دراسات ومحاولات في النقد الادبي المعاصر والفن.
#سعدي_عبد_اللطيف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟