حميد حبيب المالكي
الحوار المتمدن-العدد: 4249 - 2013 / 10 / 18 - 08:12
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كثيرة هي التعريفات التي تناولت مفهوم الحضارة وأكثر هي الأراء والنقاشات والتأملات حول الحضارة,وما هي,وكيف نشأت,وعناصرها وغيره من الأمور المتعلقة بالحضارة وحقيقة أكثرها معمقة ومعقدة ويصعب فهمها ألا على المختصين لذلك سنحاول تناول هذا الموضوع بشيء من البساطة,التلازم الشرطي بين الحضارة والمدينة,فالحضارة هي نتاج فكري وثقافي وفني ومعماري وعلمي وهي الى حد ما عابرة للزمان بمعنى أن الشعب الذي ينتج حضارة ما فأن هذه الحضارة تنتقل للسلف وبذلك فهي ترتبط بمفهوم الأمة لا الشعب بسبب هذه الجزئية,والحضارة لها جانبان اولهما معنوي يتمثل بالنتاج والأرث الثقافي والفكري والعلمي الذي تنتجه الحضارة والثاني مادي يتمثل بالشواخص والمنشئات والمباني والمشيدات والتي تمثل الجانب المعماري والفني لتلك الحضارة.
والحضارة كمصطلح عربي يختلف من ناحية أصل أشتقاق الكلمة عنه في اللغات الأجنبية خصوصا اللاتينية والأنكليزية ففي اللغة العربية مصطلح حضارة مشتق من الفعل حضر وترتبط بالأستقرار والأستيطان وهي بذلك معاكسة للبداوة التي تعني حياة التنقل والترحال,أي أن أصل نشوءها مجتمعي مهني فهي ترتبط بالمجتمعات التي تعيش في المدن والقرى لا الصحراء والقفار وترتبط بالمجتمعات الزراعية والتجارية والصناعية لا المجتمعات الرعوية وذلك له تفسيره:فالمجتمعات الرعوية لا تحتاج الى تنظيم كبير أو أدارة وسلطة معقدة ومتطورة فالأمور فيها تدار بسلاسة وبساطة كبيرة كونهم يعتمدون روتين حياتي يعتمد الرعي الذي لايحتاج الى مجهودات ذهنية أو بدنية كبيرة فهم يعتمدون على عطاء الصحراء الضئيل كما أنهم يسعون وراء الماء والكلأ أي غير مستقرين فلا يكونون تجمعات كبيرة وهذا أيضا يرتبط بعدم أمكانية الصحراء لتوفير المعيشة لأعداد كبيرة من الناس لذلك تكون تجمعات بشرية قليلة الأعداد على مساحات مقفرة شاسعة يحكمها شيخ ولا تحتاج لسلطة سياسية متطورة أو معقدة لأدارتها,لكن عندما أستوطن الأنسان وكون تجمعات بشرية كبيرة في رقعة صغيرة برزت الحاجة لوجود قوانين وسلطة سياسية لتدير شؤونهم كون المجتمع أصبح معقدا أكثر,فالزراعة قد كانت سببا في التحضر وفي نشوء تجمعات بشرية كبيرة فكما أسلفنا فأن عطاء الصحراء شحيح لا يكفي الا القليل من الناس لذلك تكون كثافة الناس فيها قليلة جدا وتكون التجمعات عبارة عن جماعات قليلة العدد متناثرة ومتباعدة أما الزراعة فيمكنها أن توفر الغذاء والعمل لأعداد أكبر بكثير لذلك ترتفع الكثافة السكانية في المناطق الزراعية أكبر بكثير من المناطق الرعوية فأستوطن الأنسان وأنشأ قرى مستقرة ومن ثم نشأت علاقات ما بين القرى فتكونت التجارة وأنشأت لذلك المدن التجارية وأخيرا ظهرت المدن الصناعية التي توفر العمل لأعداد كبيرة جدا من البشر على رقعة أرض صغيرة.
أن أستقرار البشر وأستيطانهم وتكوينهم تجمعات سكانية كبيرة ومعقدة أوجد الحاجة لوجود سلطة لأدارة شؤونهم وفض النزاعات وحفظ الأمن والحقوق كما يمكنها أن تنشأ المشاريع الكبيرة التي تخدم الصالح العام كحفر الأنهار وأقامة السدود ودرء مخاطر الفيضانات حيث أن اولى الحضارات على وجه الأرض نشأت على ضفاف الأنهار أولا لأن ضفاف الأنهار مكنت البشر من الزراعة على الدوام دون الأعتماد على سقوط الأمطار ولأنها أيضا أوجدت الحاجة لسلطة تشق القنوات وتكري الأنهار وتنشأ السدود,لذلك برزت الحاجة لوجود السلطة التي تدير كل ذلك فوجدت السلطة السياسية المعقدة والمتطور أكثر من سلطة رب الأسرة وشيخ العشيرة.
لم تتمكن المجتمعات الرعوية الصحراوية من اللحاق بالمجتمعات الأكثر تقدما الزراعية والتجارية والصناعية لكنها كانت مصدر أزعاج من عدة نواح,فقد كانت مصدر خطر حيث تغير القبائل البدوية بأستمرار على المدن التي تقع على أطراف الصحراء وأعمق حتى طمعا في الغنائم, فكانت القبائل المغولية تغير على أطراف الأمبراطورية الصينية التي أنشأت سور الصين العظيم لتصد تلك الغزوات ,وكذلك قبائل الجزيرة العربية على سهل العراق وقبائل الطوارق على مدن وممالك طرفي الصحراء الكبرى الشمالي والجنوبي,كما كانت الصحراء مصدرا لهجرات سكانية من أقدم الأزمنة كهجرات القبائل الأرامية الى العراق وبلاد الشام وبعدها في العصر الأسلامي هجرة القبائل العربية اليهما أيضا وهجرة قبائل شمر وعنزة في العصر الحديث,غير ذلك كانت الصحراء مركزا لأفكار متشددة متعصبة متطرفة ولم تستطع أنتاج أفكار معتدلة ولو تتبعنا نشأة الفرق والدعوات الأسلامية المتشددة لوجدناها قد أنطلقت من الصحراء وهذا طبعا يرتبط بتأثير البيئة على تكوين الفرد النفسي والأجتماعي فقساوة الصحراء وقساوة العيش فيها والأنغلاق على الذات وعدم الأتصال بمجتمعات بشرية أخرى والأحتكاك بها كل ذلك يترك أثره في فكر الفرد الذي نشأ هناك فكانت الحركات التي تنطلق من الصحراء حركات دموية فعرف أبن الصحراء بالشجاعة كما عرف بالكرم وهذان يفرضهما العيش في بيئة قاسية كبيئة الصحراء والأنتماء القوي للعائلة أو القبيلة والتعاضد بين أفرادها لأعتماد واحدها على الأخر لكن نجد أخلاق المدينة تختلف أختلافا كبيرا وهذا أيضا بسبب البيئة المحيطة فلا تحتاج أن تكون شجاعا ولا أن تدفع الغزو ولا أن تغزو فهناك سلطة تقوم بكل ذلك ولا تحتاج للكرم والتعاضد حيث النفعية والمصلحة الشخصية جزء من أخلاق المدينة فكل فرد يجد عمله ولقمة عيشه بيسر كبير كما أن الأتصال بأفراد أكثر ومدن وقرى أخرى وحتى حضارات أخرى يترك أثره فيكون الفكر أقل تشددا وأكثر أنفتاحا على الأخر وأقل دموية وأكثر تقبلا للأخر لكثرة الأختلاط.
كذلك في مجال البناء والتشييد فنجد المدن تزخر بها أولا لأنها أماكن أستيطان وأستقرار وثانيا لوجود مستوى معيشي جيد وثالثا لتجمع أعداد كبيرة من الناس على مساحة صغيرة أما الصحارى فلا يحتاج من يعيش فيها لبناء البيوت الثابتة فهم في حالة ترحال دائم وعدد كل عائلة تترحل معا قليل كما أن الصحارى لا تناسب لتشييد البيوت لكون أغلبها أراضي رملية وثانيا لعدم توفر مادة البناء كالطين أو الصخر في كثير من الاحيان وهذا ما جعل الشق الثاني من الحضارة المتمثل بالمباني والأثار والفنون والمنحوتات والتصاميم تتطور في المدن بموازاة الجانب الأول المعنوي المتمثل بالجانب الثقافي الفكري,أن الأرتباط بين الحضارة والمدينة لا يعتمد على الأفراد الحضر أنفسهم لصفات تكوينية فيهم وأنما لكونهم أستوطنوا المدن والعكس يصح على البدو وسكان الصحارى,لذلك فأن معظم القبائل البدوية التي تركت الصحراء وأنتقلت للمجتمعات الزراعية والصناعية والتجارية فأنها قدمت عطاءا لا يقل عن الأفراد الأصليين ممكن كان يسكن فيها والأمثلة على ذلك كثيرة لعل من أبرزها الأكديون الذين هاجروا من الجزيرة العربية وساكنوا السومريين في جنوب العراق ثم أقاموا بعد ذلك حضارة فاقت حضارة السومريين رقياً,وكذلك العرب الذين أستوطنوا العراق وبلاد الشام ومصر بعد الفتح الأسلامي.
أما في اللغات اللتينية والأنكليزية فأن مصطلح حضارة مشتق من مدني ومدنية أي من المدينة وبهذا فهو لا يبتعد من ناحية المراد به عن أصل أشتقاقه في اللغة العربية,فبمحصلة الأمور فأن الحضارة سواء في اللغة العربية أو اللغات الأجنبية مصطلحا ومفهوماً ترتبط بالمدينة والمدنية.
#حميد_حبيب_المالكي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟